الايغومانوس (12) مؤسس دير بتسير سكاي
إن الجهادات التقشفية التي مارسها أبونا القديس ثيوذوسيوس داخل الكهف، سرعان ما أدت إلى الإنتصار الساحق على الأرواح الشريرة.
ويوم تجاوزت أمه ذاتها، وتخطّت ألمها، وصارت راهبة، إتقدت في نفسه نار العشق الإلهي، وإنصبّ على ممارسة رياضات روحية عظيمة.
ويستطيع المرء أن يرى داخل الكهف ثلاث شمعات ملتهبة، تبدّد بالصلاة والصوم ظلمات الشياطين الحالكة. وهذه الشمعات هي: أنطونيوس البار، ثيوذوسيوس المغبوط، ونيكون العظيم، كانوا داخل الكهف يبتهلون إلى الله، وكان الله معهم طبقاً للقول الكريم: “لأنه حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (متى 20:18).
وقد إنتقل نيكون المغبوط بعد فترة من الزمن مع تلامذة له بلغاريين إلى دير القديس مينا. أمّا أبونا البار ثيوذوسيوس فقد رسم كاهناً بمشيئة الله ورغبة البار أنطونيوس. وكان أنطونيوس ككاهن بخدمة القداس الإلهي يومياً بما اتصف به من تواضع.
وإنك لتميزّ فيه وداعته الطبيعية، وصفاء ذهنه وعدم تشتته أو اضطرابه، وبساطة قلبه. وقد كانت نفسه عامرة بحكمة روحية. وكان يكنُّ لجميع الإخوة بلا إستثناء حباً عميقاً، وقد جمعهم حوله البار أنطونيوس.
ثم أسند البار أنطونيوس الإيغومانوسية (رئاسة الدير) إلى البار برلام وإنسحب هو إلى تلٍّ هادئ حيث فتح كهفاً أقام فيه مستأنفاً حياته التقشفية.
وقام الكاهن البار ثيوذوسيوس والإيغومانوس برلام، اللذان بقيا في الكهف الأول، بتشييد كنيسة صغيرة فوق الكهف على إسم نياح السيدة والدة الإله الفائقة القداسة، لكي يجتمع فيها الإخوة لأداء خدم العبادة.
وكان ضيق المكان داخل الكهف، فضلاً عن جهود الرياضة النسكية تسبّب للرهبان الإخوة مضايقات ومشقات كبيرة، لا يعلم مداها إلا الله، ولا يمكن أن يصفها لسان بشر. وكانوا يعيشون على القليل من الماء والخبز المصنوع من القصفة أو الأبريزة وهو جنس نبات من النجيليات. أمّا الطعام المطهي فما كانوا يذوقونه إلا في يومي السبت والأحد، وهذا ليس دائماً. لأنهم في بعض الأوقات كانوا لا يملكون ما يطبخونه. فكانوا يكتفون بالخضروات المسلوقة.
وكان الرهبان إلى جانب أعمالهم يصنعون بعض السلال ويبيعونها ويشترون بثمنها قمحاً. فإذا جن الليل عمد كل راهب إلى حصته من القمح فطحنه. ثم يجمعون الطحين ليعجنوه ويخبزوه. وبعدها ينتقلون الى الكنيسة ليصلّوا معاً صلاة السحر.
وبعد الصلاة كانوا ينطلقون إلى متابعة أعمالهم اليدوية المخصّصة للبيع. أمّا ما كان يبقى لهم من فراغ يسير فكانوا يقضونه في العمل في الحديقة.
بعد ذلك كانوا يتلون في الكنيسة صلوات الساعات. ويقومون بخدمة القداس الإلهي. ثم يأكلون قليلاً من الخبز ويستأنفون عملهم من جديد طوال النهار حتى موعد صلاة المساء وصلاة النوم.
وعلى هذا المنوال كانوا يتابعون كدَّهم وجهادهم مكرّسين ذاتهم لمحبة الله.
أما البار ثيوذوسيوس، وقد أمسى كاهناً. فإنه كان يذهل الجميع بصومه وشجاعته وعمله اليدوي بالإضافة إلى ما كان يتحلّى به من تواضع وطاعة. وكان شديد الرغبة في أن يخدم الجميع. ومن مآثره أنه كان ينقل الماء أو الحطب من الحرج. وفي بعض المرّات كان يجمع القمح الذي كان على إخوته الرهبان أن يطحنوه، فيطحنه هو بنفسه، بينما يكون الجميع نيام. وهو يعمل ذلك وفي الوقت عينه يصلّي طوال الليل.
حدث مرة أن هبطت على المنطقة جحافل من البرغش فكان يخرج ليلاً من الكهف ليروّض نفسه، فيترك نصف بدنه عارياً لكي يتعرّض للسع البرغش. وفي الوقت عينه كانت يداه تجدلان السلال وشفتاه ترنمان مزامير داوود. وكان جسده يلطخ بالدم. ومع ذلك فإنه كان يبقى ثابتاً بلا حراك حتى بزوغ الفجر.
وفي الصلاة السحرية كان أسبق الحاضرين وآخر من يغادر الكنيسة، وما كان ينتقل من مكان أثناء الصلاة أو يشت فكره.
وقد أحبه الإخوة واتخذوه لهم أباً. وكانوا شديدي الإعجاب به، لما كان يظهر في سلوكه من تواضع وطاعة.
في ذلك الحين دعا الحاكم إيزيا سلافو المغبوط برلام ايغومانوس الأخوية الرهبانية ليتولى رئاسة دير القديس العظيم في الشهداء ديميتريوس. فقام الإخوة وذهبوا إلى البار أنطونيوس وطلبوا إليه بالإجتماع أن يعيّن البار ثيوذوسيوس بدلاً منه رئيساً للدير فتتحسن بهذا الحياة الرهبانية وتمسي وصايا الله أكثر وضوحاً.
فوافقهم البار أنطونيوس. وهكذا تم إختيار القديس ثيوذوسيوس إيغومانوس (رئيساً للدير) يرئس الإخوة العشرين.
إن أبانا البار ثيوذوسيوس العجيب وقد أصبح رئيساً للدير لم يتخلّ عن خلقه المتواضع. وكان يذكر دائماً قول الرب “من أراد أن يكون فيكم أوَّلاً فليكن لكم عبداً” (متى28:20). وكان يُذلُّ نفسه وقد صار أصغر الجميع وخادمهم. فبدا في كلِّ أمر نموذجاً في الأعمال الصالحة، وأول من يُقبل إلى العمل، والى الكنيسة وآخر من يغادرهما.
جلبت طلبات ثيوذوسيوس الصديق فيضاً من بركات الله فإزدهرت حياة الأخوية وتقدمت. وتحقّق بذلك قول صاحب المزامير أن “الصديق كالنخلة يزهر ومثل الأرز في لبنان ينمو” (مز12:92). وكالبذار الذي سقط في أرض خصبة، فأثمر مئة ضعف. هكذا كبرت أخوية الرهبان في وقت قصير حتى ضمَّت مئة أخ، كانوا جميعاً يتقدمون في حياتهم الفاضلة وفي الصلاة.
وكان الأب ثيوذوسيوس البار بالنسبة إلى هؤلاء الأخوية ملاكاً أرضياً ورجلاً سماوياً.
وبعد هذا النمو المطرد للأخوية لم يعد الكهف مكاناً مناسباً لحياة الصمت. والكنيسة الصغيرة المقامة فوقه لم تعد تتسع لإقامة عبادتهم الجماعية.
أمّا هو فلم يبدُ عليه أنه متضايق من هذا الجوّ الخانق. وكان يعزّي الإخوة يومياً ويعلّمهم أن لا يشغلوا أنفسهم بالأمور الأرضية مذكراً إياهم بأقوال الرب: “في بيت أبي منازل كثيرة” (يو2:14) و”اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذه كلها تزاد لكم” (متى33:6) .
وبينما كان يجابه تلك الحالة بهذه الأفكار أفاض الله عليه بسخاء ما كان في حاجة إليه. فقد أجال نظره إلى مكان غير بعيد عن الكهف فوجده موقعاً رائعاً وصالحاً لتشييد دير عليه. وإعتقد بصوابيّة هذه الفكرة وأمل أن يحقّقها وأظهر اهتماماً كبيراً للحصول عليه.
فأخذ الرهبان بركة البار أنطونيوس واتجهوا بطلبهم الى الحاكم إيزيا سلافوا، من أجل السماح لهم بقطعة الأرض هذه. فوافق على منحهم إياها. ولم يمض وقت طويل حتى شيّد عليها بمعونة الله كنيسة أخرى مبنيّة بالخشب. وقد كرّسوها لنياح السيدة والدة الإله الفائقة القداسة. كما شيّد هناك على الأرض عينها العديد من قلالي (13) الرهبان وانتقل الدير إلى هناك حول الكنيسة، وهكذا إستقرَّ الإخوة فيه.
إن هذا المكان بالذات قد باركه الله بنوع أخص. فما عتَّم أن صار ديراً مجيداً، هو المعروف بإسم دير بتسيرسكايا. هذا الإسم هو ما أطلق على الكهف حيث عاشت الأخوية في البدء. وقد ظل قائماً إلى اليوم.
وبعد أن اتخذت حياة الإخوة هذا الشكل الجديد، شرع أبونا البار ثيوذوسيوس يفكر في النظام الداخلي، الذي يجب أن يفرض على الدير التقيّد به. لقد شغله هذا الموضوع كثيراً، فلجأ إلى الصلاة والى التزوّد ببركات البار أنطونيوس. ولم يتأخر الله عن الإجابة. فقد دبّر الأمور ليعرف تيبيكون (14) ( النظام الداخلي ) لدير استوذيو.
فإن الراهب الورع ميخائيل، أحد رهبان دير استوذيو الذي قدم من بلاد اليونان مع المطران جاورجيوس، وكان في ذلك الوقت موجوداً عندهم، أخبره عن حياة الرهبان الأستوذيين المرضيّة لله. وهي الحياة التي مُنح نعمة الإستحقاق أن يعيشها هو أيضاً. فراقت هذه الأخبار الأب البار، وأعجبته كثيراً. فأرسل على الفور إلى إرسال أحد الإخوة إلى القسطنطينية. وقد أوصاه أن يقابل أفرام المغبوط الخصيّ الذي لا بد أنه عاد من الأماكن المقدسة، ليكلفه بمهمة ذات شأن.
كان على أفرام هذا أن يزور دير أستوذيو في القسطنطينية ليطلع بنفسه -على أكمل وجه- على كل ترتيب الدير وتيبيكونه، وأن ينقله له بدقة وبكل التفاصيل. فقد كان عليه أن يعرف كيف يرتلون، وكيف يقرأون، وكيف يعملون المطانيات (15) وكيف يقفون في الكنيسة، وكيف يجلسون حول المائدة، وما يأكلون في مختلف الأيام.
وقد نفّذ المغبوط أفرام أمر الأب البار. فقام بالإطلاع على النظام الداخلي للدير ونقله بنداً بنداً وعاد إلى الدير.
فما كان أبونا البار ثيوذوسيوس يتسلّم نص هذا التيبيكون حتى أمر بتلاوته فوراً على جميع الإخوة. ومن ذلك الحين أخذ دير بتسير سكايا يطبق نظام دير الرهبان الأستوذيين. ثم نقلته عنه الأديرة الأخرى في روسيا، كما كان ينفذه البار ثيوذوسيوس بدقة. وبعد أن كانت الأديرة الروسية حتى ذلك الحين لا تعرف النظام الديري في حد ذاته، اتجهت أنظارها الآن الى دير بتسير سكايا واعتبرته نموذجاً لها يُقتدى به في كل أمر.
المرشد المنير
لم يكفّ أبونا البار ثيوذوسيوس خلال رئاسته للدير عن التلألؤ بالنور بحياته الفاضلة.
وكان يستقبل المرشحين للرهبنة، سواء كانوا فقراء أم أغنياء، ببشاشة وودٍ عميق. فقد كان يعرف الضيق الذي يعانيه من يتوق إلى الحياة الرهبانية، إذا ما رفض قبوله فيها. فقد ذاق هو نفسه مثل هذا الضيق يوم إنطلق ليصير راهباً وأقفلت أديرة كياف أبوابها في وجهه.
إلاّ أنه لم يكن ليستعجل إذا ما أراد أن يسيم راهباً. فلا يتسرع في إلباسه جبة الراهب مباشرة. وكان يتركه لابساً ملابسه العادية فترة من الزمن، إلى أن يتعرّف جيداً على الحياة في الدير. وبعد أن يمتحنه في مختلف الخدمات والمهمات التي يكلفه بها، كان يلبسه الإسكيم الصغير. وإذا تجلّت في ما بعد نقاوة حياته رقَّاه عن جدارة بإلباسه الإسكيم الملائكي الكبير.
وما كان ليكفّ عن إسداء النصح لتلاميذه، ليسلكوا حياة التوبة.
وكان من عادات هذا القديس رئيس الدير أن يمر في الليل على قلالي الرهبان، ليرى بنفسه كيف يعيش كل راهب وكيف يعبد الله، فإذا رآه يصلّي مجَّد الله وتركه وهو مفعم بالسرور.
أمّا إذا لاحظ أن إثنين أو ثلاثة اجتمعوا في إحدى القلالي، بعد صلاة النوم، وقد أخذوا يتجاذبون الحديث، طرق الباب وابتعد حزيناً. فكان بهذه الطريقة يشعرهم بحضوره. وفي الصباح كان يستدعيهم ليظهر لهم ما إرتكبوه من خطأ. وكان يربيّهم ويرشدهم بأمثال ونماذج صالحة، لكي يعززوا إخلاصهم لله وتعلّقهم به. وهذا ما كان يرغب فيه كثيراً. وبهذا النهج كان الأخ الراهب ذو القلب المتواضع الشديد الحب لله يدرك خطأه فيقوم بالمطانية (السجود) ويطلب الصفح. أمّا من كان قلبه مظلماً بتأثير الشيطان ولا يميّز خطأه، معتبراً نفسه بريئاً، ويرى أن أقوال البار لا علاقة لها بحاله، فكان يبقيه لديه فترة أطول ينصحه فيها. ثم يطلقه بعد أن يعيّن له قصاصاً تأديبياً.
على هذا المنوال كان يعلّم الإخوة أن يجتهدوا في صلاتهم وأن لا يتحادثوا بعد صلاة النوم، وأن لا يتنقلوا من قلاية إلى أخرى. وأن يبقى كلٌّ منهم في قلايته ويصلّي. وكان يطلب منهم أيضاً أن يتلوا مزامير داوود إن إستطاعوا أثناء عملهم في النهار.
وكان ينصحهم قائلاً:
“أتوسّل إليكم أيها الإخوة. فلنتقدمنَّ في الصوم والصلاة، ولنهتمنَّ بخلاص نفوسنا. ولنرجعنَّ عن شرورنا، وعن السلوك في طريق الشرير: أعني هجر حياة الضلال، والسرقات، والنميمة، والكلام القبيح، وحب الخصام، والسكر، والنَّهم، والعداوة. أجل، لنبتعدنَّ يا إخوتي عن هذه جميعها، ولنعتبرنَّها رذائل رجسة. فلا نتركن نفوسنا تلطّخها هذه بالسَّواد. وعلينا أن نتبع طريق الرب، المؤدي بنا إلى وطننا السماوي.
ولنقتربن من الله بتنهدات ودموع، وبالتوبة والسهر (16) والطاعة، لكي ننتزع منه الرحمة. ولنكره هذه الدنيا الحاضرة، ذاكرين على الدوام قول الرب “إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لو26:14) وقوله “من وجد نفسه يضيعها ومن أضاع نفسه من أجلي يجدها” (متى39:10).
هكذا نحن أيضاً يا إخوتي. فلننكر أشياء هذه الدنيا نحن الذين رفضنا العالم. ولنكره الكذب الذي يجذبنا إلى أمور دنيئة. ولا نعودنّ إلى خطايانا الأولى ((كالكلب الذي عاد إلى قيئه” (2بط22:2) لأنه كما يقول الرب “ليس أحد يضَع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” (لوقا62:9).
كيف نهرب من العذاب الأبدي إن قضينا عمرنا بالتواني والكسل وبدون توبة ؟
لقد قطعنا عهداً، يا إخوتي، يوم صرنا رهباناً أن نتوب كل يوم عن خطايانا. وأن التوبة لهي مفتاح ملكوت السماوات. وبدونها لا يخطى به أحد. إنها الطريق المؤدية إلى الوطن. فلنسلكن هذه الطريق بخوف ولنرسّخن فيها خطواتنا. إن الأفعوان الشرير لا يقترب من هذه الطريق. وهي وإن بدت الآن “ضيّقة”، إلاّ أنها في ما بعد تسبب الفرح.
فلنسكن هذه الطريق قبل إقتراب الأيام الأخيرة لكي نجني الخيرات الآتية.
وعلينا أن نتحاشى الشرار ونتجنبهم، ولا نكون مثل أولائك الذين يصرّون على البقاء في خطاياهم ويعيشون بدون توبة”…
وإذ تخلّق بكل فضيلة كان يعلّم الإخوة بقدوته الصالحة. فكانوا يتقبلون بذار تعليمه تقبُّل الأرض الخصبة وكانوا يثمرون حسب قول الرب “بعض مئة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين” (متى8:13).
كنت تستطيع آنئذ أن تشاهد أناساً يحيون على الأرض كأنهم ملائكة، ودير بتسر سكايا كأنه سماء، كان يسطع في قبته كوكب عظيم، هو أبونا البار ثيوذوسيوس بأعماله الفاضلة.
وكثيراً ما كان يشع – بما في هذه الكلمة من معنى – نور حقيقي قد أكرمه الله به. حدث مرة أن إيغومانوس دير رئيس الملائكة ميخائيل كان عائداً ذات ليلة إلى ديره، وكان الظلام دامساً، فرأى فوق دير بتسير سكايا نوراً رائعاً على شكل البار ثيوذوسيوس. فاعترته دهشة لهذه المفاجئة، وأخذ يمجد الله قائلاً:
ما أعظم نعمتك يا رب. لأنك أبرزت لنا في أيامنا هذه كوكباً ساطعاً ينير دير بتسير سكايا بكامله.
وشاهد هذا النور كثيرون أيضاً. وأذاعوا خبره في كل مكان. وعلم الأمير وحاشيته بهذا النور الذي تنشره قداسة الأب البار.
حينذاك أخذ كثيرون يتوافدون إلى أبينا البار ثيوذوسيوس، ويعترفون أمامه بخطاياهم، ثم يعودون إلى أماكنهم، متزودون بفوائد روحية عظيمة. كما أنهم أقبلوا من ذلك الحين على تقديم مساعداتهم للدير لسد حاجاته ولبنائه. وبعضهم أوقف على الدير أملاكاً.
أمّا الأمير ايزيا سلاف المحب للمسيح – وهو خليفة أبيه ياروسلاف على عرش كياف – فقد كان يكن للقديس حباً عظيماً. فكان يدعوه كثيراً إلى قصره وكثيراً ما كان يقوم هو نفسه بزيارته في ديره. وكان يبتهج بأقواله المفعمة بالروحانية.
وقد وضع أبونا البار قوانين، كان من بينها عدم السماح لبواب الدير أن يفتح الباب لأي زائر للدير، وذلك من بعد طعام الغداء حتى صلاة المساء. وقد حدد هذا القانون ليتسنى للرهبان أن يستريحوا في الظهيرة بعد الكد السابق (من يقظة طوال الليل، وصلوات ليلية وسحرية الخ… ).
وذات يوم تحرك الأمير عند الظهيرة قاصداً الدير وكان معه ولده الصغير. وكان كل مرة يذهب فيها لمقابلة القديس يترك الحرية لكبار موظفيه للذهاب الى منازلهم. فما كاد يصل إلى الدير حتى نزل عن جواده لأنه لم يكن مسموحاً لأحد أن يدخل الدير بجواده. وطرق الباب الخارجي طالباً فتحه. فأجابه البواب قائلاً:
– لديّ أمر من أبينا الكبير أن لا أفتح الباب لأحد حتى ساعة صلاة المساء.
فقال له الأمير محب المسيح:
– إني أنا هو. فافتح لي الباب على الأقل. فلم يدرك البواب من كان الطارق وأجاب:
– قلت لك أن الأيغومانوس أمرني بأن لا أفتح الباب لأحد، ولو جاء الأمير نفسه. فتذرع بالصبر قليلاً حتى موعد صلاة المساء وعندها تدخل.
قال الأمير:
– لكني أنا هو الأمير. أفلا تفتح لي الباب ؟
فتقدم البواب إلى الباب وتحقق بنفسه إن كان هو الأمير. لكنه لم يفتح الباب وأسرع إلى رئيس الدير ليخبره بقدومه. فقام لإستقباله وإحتفى به بكل إكرام.
أمّا الأمير فقد بادره بالقول: “يا له من أمر صارم. هذا الأمر الذي جعل الخادم يقول إنه ولو حضر الأمير نفسه، لما وجب فتح الباب”.
فشرح له البار الأمر قائلاً: أبها السيد المبارك، لقد حددنا هذا لكي يستريح الإخوة الرهبان من عناء العبادة الليلية. وإن إخلاصك للسيّدة والدة الإله الفائقة القداسة وتعلقك بها لهو بنعمة الله مقبولة قبولاً حسناً.
وأن قدومك إلينا ليكشف عن تقدمك الروحي فيُفعِمنا بهجة وفرحاً.
وذهبا معاً إلى الكنيسة، فتلا البار دعاءً قصيراً، ثم جلسا وأخذا يتحادثان في شؤون روحية.
وابتهج الأمير محب المسيح بأقوال الأب البار التي كانت تتدفق من شفتيه كالشهد. فكان يتقبلها ويستزيدها وقلبه فرح بها ويغترف منها بغير شبع…
وعاد إلى قصره بعد أن إستفاد كثيراً من هذه الزيارة وهو يمجد الله.
وزاد حبه من ذلك اليوم لأبينا القديس وقد إعتبره معادلاً في الجدارة لآباء الكنيسة القدامى. وكان يستمع لكل مشورة يدلي بها.
سمو في التواضع والمحبة
كان الأمراء والزعماء يكنون للبار ثيوذوسيوس عميق الإحترام ويعاملونه بمزيد من الإكرام. إلاّ أن هذا ما كان ليدفعه إلى الغرور. فكان يحاول دائماً الإختفاء أكثر فأكثر بعيداً عن الظهور، مع أنه كان يشّع نوراً، وكان يعلّم تلاميذه جميعاً بتواضع. وقد زاد الآن من إذلال ذاته. وكان يعمل أعمالاً يدوية طوال النهار. مما جعله يعلّم لا بالأقوال وحسب بل بالأفعال أيضاً.
ومع أنه كان الإيغومانوس، كان يذهب مراراً عديدة إلى غرفة العجين ليشاطر الإخوة في عملهم. فكان يعجن ويخبز بنجاح كبير بفضل ما كان يتحلّى به من قوة البدن. وكان هذا العمل يفرحه. كما أنه كان في الوقت عينه يشدد من عزائم العجّانين ويفهمهم لكي لا يخوروا أمام عملهم المضني.
وذات يوم عند إقتراب عيد نياح السيدة والدة الإله الفائقة القداسة، لم يكن في المطبخ ماء فاتصل ثيوذوروس مدبّر الخزين بالبار وأخبره قائلاً: ليس لديَّ أحد ينقل إليَّ قليلاً من الماء.
فهبَّ البار فوراً وأخذ ينقل بنفسه الماء من الينبوع. فما أن رآه أحد الإخوة يتعب ويكد على هذا المنوال حتى أخبر الإخوة بما شاهده. فأسرعوا جميعاً وأخذوا ينقلون الماء برغبة ونشاط حتى فاض على أواني المطبخ.
وحدث مرة أن نقص الحطب المعد لنار الطبخ، فقال ثيوذوروس المشار إليه آنفاً للبار:
– “قل أيها الأب لأخ غير منهمك بأي عمل أن ينقل إليَّ ما أنا بحاجة إليه من الحطب”.
فأجاب البار:
– ها إني بلا عمل. وسأذهب. وكان ذلك الوقت موعد تناول الطعام، فأمر الأب المغبوط الإخوة بالإنتقال إلى مائدة الطعام. أمّا هو فحمل الفرّاعة وأخذ يقطع الحطب. ولما إنتهى الإخوة من تناول الطعام رأوا رئيسهم يُعِدُ الحطب. فانتشق كل منهم فرّاعة وأخذوا يقطعون الحطب. وقد أعدّوا منه ما يكفي لأيام كثيرة.
وذات يوم عاد المغبوط نيكون إلى دير بتسير سكايا (وهو الذي سبق أن سام البار قبل مغادرته الكهف). ومع أن ثيوذوسيوس كان إيغومانوس (رئيساً للدير) قدم لنيكون الإكرام اللائق معتبراً إياه أباً له.
وكان نيكون المغبوط يحترف حرفة تجليد الكتب. وكثيراً ما كان أبونا البار ثيوذوسيوس يساعده في عمله فيصنع له الخيوط التي يحتاج إليها في التجليد.
لقد بلغ هذا الإنسان حامل الروح، من التواضع والبساطة، أنه – بما كان يبذل من جهود الطاعة – كان يقتدي بالمسيح الإله الحقيقي الذي “وضع نفسه إذ صار طائعاً حتى الموت موت الصليب” (فيليبي8:2).
وحتى ثيابه التي كان يرتديها كرئيس للدير كانت رخيصة وحقيرة. وكان يلبس على جسده من الداخل قميصاً نسج من صوف خشن كان يقرصه ويشوكه. كذلك قبعته (قلنسوته) كانت ضيّقة وطويلة تغطي رأسه بكامله بحيث لا يظهر منه شعرة واحدة. وكان بسبب ملابسه الحقيرة يتعرض للسخرية والهزء المثير. فكان يقابل ذلك بالإرتياح متأملاً قول الرب “طوبى لكم إذا عيَّروكم…” (متى11:5).وحدث مرة أن أمراً استدعى ذهاب البار إلى الأمير ايزيا سلاف محب المسيح. وكان آنئذ مقيماً في مكان بعيد عن المدينة، وقد تأخر عنده حتى المساء.
وفي عودته وضع الأمير تحت تصرفه عربة تقله إلى ديره وتجعل سفره في الليل مريحاً
وبينما كان في الطريق نظر الفتى الذي رافق العربة إلى الراكب فوجده ذا ملابس فقيرة. ولم يدر في خلده أنه ايغومانوس. فقال له:
“يا لابس الثوب الأسود. إنك تجلس طوال النهار كسولاً. بينما أنا أتعب وأكد على الدوام، وأريد الآن أن أنام في العربة. فما دمت مستريحاً هيا إجلس مكاني في قيادة الحصان.
فنهض البار بتواضع كبير وأخذ يقود الحصان ممجداً الله بفرح. وقد ساعد الفتى في الصعود إلى المركبة للنوم فيها.
لكنه بعد أن قطع شوطاً في القيادة دبَّ إليه النُّعاس. فما كان منه إلا مقاومته بالنزول من العربة والمشي إلى جانبها على قدميه. وكان إذا تعب عاد إليها.. وعند بزوغ الفجر كان أصحاب الرتب يشقون الطريق متجهين إلى مقر الأمير فكانوا إذا تبيّنوا من بعيد وجه الأب البار ترجَّلوا عن خيلهم وانحنوا أمامه.
فلما رأى الفتى الجميع ينحنون أمام البار إحتراماً تولاه ذعر عظيم وجلس على مقود العربة وهو يرتجف. وكلما كانا يتقدما في الطريق كانا يقابلان عدد أكبر من العظماء الذين كانوا ينحنون أمام البار. فزاد هذا من خوف الفتى. وما كاد يصلان الى الدير وينزلان من العربة حتى إنحنى جميع الإخوة أمام البار. فاضطرب الفتى وهلع وأخذ يفكر: ترى من يكون هذا الذي ينحني الجميع أمامه؟ حينئذ مسكه البار بيده وأرشده إلى المائدة وأمر بتقديم الطعام له. ثم نفحه ببعض المال وتركه يعود من حيث أتى.
لقد علمنا كل هذا من الفتى نفسه وقد كشفه للأخوة. أمَّا البار فلم يذكر عن هذا الحادث شيئاً.
وكان البار ينصح الإخوة يومياً أن لا يتكبروا لأي شيء. وكان يقول: “يجب على المريد أن يكون متواضعاً، وأن يظهر بصورة الأصغر أمام الجميع. ونموذج الراهب المتواضع هو ذاك الذي يطوي ساعديه على صدره وينحني عاملاً المطانية للآخرين، وهو السلوك الذي يليق بالمريد القيام به.
لقد كان يُنمي روح التواضع في نفوس الرهبان بصورة منظَّمة وينصحهم أن يطلبوا بركة الأكبر فيهم قبل شروعهم أيَّ عمل. وكان يقول: “من يزرع بالبركات فالبركات أيضاً يحصد” (2كو6:9) ثماراً طيبة. وكان الإخوة يعيشون هذه الحقائق في عملهم اليومي كما سنرى فيما بعد.
أمّا الزائرون الأتقياء الذين كانوا يتوافدون إبتغاء للفائدة الروحية فكان يدعوهم إلى المائدة ويقدم لهم إلى جانب التعليم الإلهي طعاماً، خبزاً و خمرة ومن أطعمة الدير. وكثيراً ما كان يقدم ذلك للأمير إيزيا سلاف نفسه.
وحدث مرة أن الأمير جلس إلى مائدة الدير فأخذ يتفكَّه قائلاً:
– في بيتي يا أبتي فيض من خيرات الدنيا. إلاّ أني لم أتذوق مرة من الأطعمة ما أتذوقه في طعامكم. وخدامي يعدّون لي مختلف الأطعمة الغالية. لكنها ليست في مستوى أطعمتكم. فإلى ما يعود نجاحكم هذا ؟ ألتمس منك أن تشرح لي يا أبتي ذلك.
– “أيها السيد الصالح. ما دمت تريد أن تعلم السبب، أكشفه لك. إن الإخوة هنا في هذا الدير، قبل أن يبدؤوا بالطهي، ينفذون القانون التالي: يأتي رئيس العاملين في المطبخ ويأخذ بركتي. ثم يركع ثلاث ركعات أمام المائدة المقدسة ويشعل شمعة من قنديل الهيكل لكي يشعل بها الفرن أو يضيء بها المطبخ.
أمّا العامل المساعد المولج بوضع الماء في الخلقيين الكبرى فإنه يطلب أوَّلاً بركة رئيسه قائلاً: بارك أيها الأب.
فيرد عليه قائلاً: فليباركْكَ الله أيها الأخ. وتجري هذه الأمور كلها على هذا المنوال. ولهذا طعامنا لذيذ. أمّا خدامك -على ما اعلم- فيقومون بعملهم بينما يتخاصمون ويضجّون ويشي أحدهم بالآخر. وكثيراً ما يعاملهم مراقبوهم بالضرب. وكل هذه الأمور تحدث إجمالاً بخطايا. وإنك لهذا السبب لا تجد في طعامكم لذَّة.
فقال الأمير إيزيا سلاف: “هذا صحيح يا أبتي كما ذكرت. وإذ علم البار مرة أن شيئاً ما قد تمَّ بدون بركة وبلا طاعة وصفه بأنه “حصة العدو”. فإن كان هذا الشيء طعاماً منع رعيته المباركة من تناوله. وأمر بإلقائه في أعماق النهر (17). أو بحرقه في الفرن. وإنك لتلمس هذا النهج في الحادث التالي:
كان يوم عيد العظيم في الشهداء ديميتريوس، وقد قام أبونا البار وبعض الإخوة بزيارة دير هذا القديس. وبينما كانوا هناك، قدموا له بعض المسيحيين الأتقياء عدداً الأرغفة الممتازة. حينئذ أمر البار خازن الأطعمة أن يقدم هذا الخبز على المائدة لمن بقي في الدير من الإخوة. غير أن الخازن لم يطع أمره. وقد فكر في نفسه قائلاً: “لأقدمنَّ هذا الخبز على المائدة غداً في طعام الإفطار حيث يكون جميع الإخوة موجودين. أما الآن فأقدم خبزاً من عندنا”. وهكذا كان.
وفي صباح اليوم التالي جلس الإخوة على المائدة ورأى البار تلك الأرغفة الممتازة. فاستدعى خازن الأغذية وقال له: أين وُجدت هذه الأرغفة ؟ فقال الخازن: لقد أحضرت أمس للدير. ولكن بما أن الإخوة كانوا قليلين رأيت أن أضعها اليوم بينما نكون كلنا موجودين.
فقال البار: لقد كان الأفضل أن لا تهتم باليوم التالي وان تعمل بما أمرتك به. فإن الرب، كما كان دائماً والآن أيضاً، يدبّر أمرنا ويسُدُّ حاجتنا ويزيد.
وأمر أحد الإخوة فوراً أن يجمع هذه الأرغفة ويضعها في سلال ويلقها في النهر. ثم حدد للخازن عقاباً تأديبياً لعدم طاعته. وقد إتخذ إجراءات مماثلة إزاء حالات عدم الطاعة ولما رأى أبونا البار ثيوذوسيوس أن الإهتمام بالغد والقلق لا يليقان إلاّ برهبان نكثوا عهودهم اتخذ قراراً بأن يعلّم الإخوة باجتهاد فضيلة اللآَّتملك لكي يتعلموا أن يغتنوا بالإيمان والرجاء ولا يتكلموا على مقتنياتهم.
وكان كثيراً ما يتفقد قلاليهم فإذا عثر على طعام أو أي شيء لا حاجة للراهب إليه رماه في النار معتبراً إياه “حصة العدو” وفعلاً من أفعال عدم الطاعة. وكان ينصحهم قائلاً: ينبغي علينا أيها الإخوة نحن الذين اعتنقتنا الطاعة الرهبانية ورفضنا أشياء هذا العالم، أن لا نعود ونجمعها في قلايتنا. فأي صلاة نقيّة نقدم لله، إذا كنا نجمع في قلايتنا أشياء كثيرة ؟ يقول الرب: “لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً” (21:6) و “يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون” ؟ (لو20:12). فلنكتفيَّن أيها الإخوة بالثوب المفروض وبالطعام المقدَّم على المائدة ولا ندع شيئاً من هذه في قلايتنا وبهذا ترتفع صلاتنا إلى الله حارة صادرة عن ذهن طاهر.
كان يسدي إلى الإخوة هذه النصائح ومثيلاتها متخلّفاً بفيض من التواضع وعيناه مغرورقتان بالدموع.
ولم يبدُّ تجاه أيَّ حالة ظالماً أو غاضباً أو حادّاً وإنَّما كان حلو التصرف، دمث الخلق، لطيفاً مع الجميع.
وكان يحدث أحياناً أن أحد الرهبان الكسالى تخور نفسه فيهجر الدير. فكان الحزن يستولي على قلب الأب البار ويرفع تضرعات حارة إلى الله مقرونة بسيل من الدموع طالباً إليه أن يعيد الخروف الذي ترك الحظيرة ومضى. فإذا عاد إستقبله متهللاً وجهه بالفرح، ونصحه بألاّ يخور أمام هجمات العدو الخبيثة ليترك له مجال الانتصار عليه. بل ينبغي أن يقهره بشجاعة وبأس. وكان يقول: إن أصحاب النفوس التي تسلك طريق الهرب والنكوص، فقدوا الرجولة وقد قهرتهم أهواؤُهم.
وكان في ديرنا هنا أخ ينقصه الصبر. فكان يهجر الدير بين وقت وآخر، ثم لا يلبث أن يعود إليه بعد قليل. وكان البار يستقبله فرحاً . وكان يقول للأخوة إنَّ هذا وإن إبتعد عن الدير مرات عديدة لكن الله لن يدعه يموت خارجه. وإنه في النهاية سيأخذه من هناك.
وذات يوم عاد الأخ من جديد بعد هجره الدير مرات، وأخذ يتوسل الى البار لكي يقبله. فلم يتأخر -وهو الأب الحنون- عن قبوله في عداد خراف رعيته. وجاء هذا الأخ بعد ذلك إلى البار ليقدم له المال الذي كسبه في العالم حيث كان يعمل في حرفة حياكة ملابس رجال الكهنوت. لكن الأب البار قال له:
– إن شئت أن تصير مريداً كاملاً فما عليك إلاّ أن تلقي هذا المال في النيران لأنه من جني المروق وعدم الطاعة…
فقام الراهب بدافع التوبة الصادقة وجمع الثروة الصغيرة التي إكتسبها في العالم وأحرقها في النار كما أمره الأب البار.
ومن ذلك الحين لم يعد يغادر الدير حتى وفاته. وقد قضى بقيَّة عمره في توبة صادقة. وهكذا تمت فيه نبوءة الأب البار.
وقد عرف الأب البار، بهذه المناهج، كيف يحفز الإخوة إلى اللاَّتملُّك وعدم الإقتناء ؛ وأن يعلّمهم في الوقت عينه الإيمان والرجاء، ويبث فيهم المحبة، بحيث لا ينفصل أحد الخراف عن القطيع.
وكان الأب البار يخصّ الفقراء بكثير من الحب والعطف. فإذا رأى متسولاً أو أحد الفقراء في ثياب رثة تبدو عليه علامات البؤس والشقاء كان يتألم لحاله ويحسن إليه وعيناه مبللتان بالدمع. وقد دفعه شعوره هذا إلى تشييد مأوى عام وكنيسة على إسم القديس استيفانوس أول الشهداء على مقربة من الدير ليجد فيه مأوى الفقراء والعميان والمقعدون والبرص…
وقد أمر أن يقوم الدير بسد حاجاتهم وأن يخصص الدير لهم عشر ثروته. كما انه كان كل سبت يرسل عربة محملة بالخبز إلى المعتقلين في السجون. ولم يكتف بالإحسان إلى الفقراء وحسب بل إمتد إحسانه إلى الذين ظلموا الدير أيضاً. وكان في هذا الصنيع يقتدي بإحسان الآب السماوي.
نذكر على سبيل المثال أنه قِيد إليه بعض اللصوص مقيّدين قبضوا عليهم في أحد أملاك الدير بينما كانوا يحاولون السرقة. فما أن رآهم مقيَّدين وعلامات الحزن والكآبة تبدو على وجوههم حتى اغرورقت عيناه وأمر بفك قيودهم وبتقديم الطعام لهم. ثم نصحهم طويلاً بتحاشي ارتكاب الشر والإعتداء على حقوق الغير. وبعد أن تفضَّل عليهم بسخاء من خيرات الدير أطلق سراحهم بسلام. فخرجوا من عنده وقلوبهم تلهج بالشكر لله والثناء على الأب البار على حسن صنيعهم وإحسانه الذي حظوا به. ومن ذلك الوقت كفُّوا عن الإعتداء على الناس وقنعوا بما يجنونه من عرق الجبين. بهذه الطيبة التي كان يعالج بها الأب البار أولئك المخطّطين لسلب ثروة الدير، كان يرسّخ في الإخوة روح اللاَّتملك، ويجهد كثيراً لكي يبثَّهُ فيهم.
حماية من العلي
كان البار يعتقد أن الرب ينقذ من أيدي اللصوص ما هو ضروري لعبيده. ولقد أثبت الرب صحة هذا الإعتقاد بما سنرى من تدخله العجيب في الحادث الذي نذكره في ما يلي:
ازداد عدد الإخوة، فاضطر أبونا البار ثيوذوسيوس إلى توسيع الدبر. وأخذ يبني بيديه مع سائر الإخوة قلالي للرهبان ويوسّع الحظيرة. في هذه الفترة كان الدير. معرَّضاً للنهب. ففي ليلة شديدة الحلكة هاجم بعض اللصوص الدير وقصدوا الكنيسة ظانين أنهم سيجدون في غرفها كنور الدير مخفية. ولم يتعرضوا لأيّ قلاّية، ولكنهم ما كادوا يقتربون من الكنيسة حتى سمعوا ترتيلاً. فخُيّل إليهم أن الرهبان يرنّمون فيها ترانيم صلاة النوم. فابتعدوا فوراً وقضوا فترة وجيزة في حرج مدغل. ثم اتجهوا إلى الكنيسة من جديد فسمعوا صوت الترتيل عينه وشاهدوا نوراً عجيباً فيها، وفي الوقت عينه شمّوا رائحة طيّبة. فقد كان المرتلون ملائكة، أمّا اللصوص فظنوا أن الرهبان يصلّون صلاة نصف الليل فابتعدوا مرة أخرى.
وقد تكرر هذا الحادث مراراً وكانوا يسمعون دائماً تلك الأصوات الملائكية. وحان موعد صلاة الفجر فهبّ خادم الكنيسة ينادي حسب العادة:
– بارك يا سيّد.
وبعد أن نال بركة الإيغومانس (رئيس الدير) أخذ يدق ناقوس الدير إيذآنا بموعد حلول موعد صلاة السحر.
فلما سمع اللصوص صوت الناقوس اختفوا في الحرج فترة وقالوا:
– ماذا نفعل الآن. يبدوا أننا رأينا في الكنيسة أشباحاً. فلندع الرهبان يدخلون الكنيسة ثم نغلق الأبواب عليهم ونقتلهم جميعاً، ونستولي على ثروتهم.
هذا ما أوعزه الشيطان لهم لا لأنه أراد أن يفقد الإخوة أموالهم بل لكي يبيد هذه الأخوية التي تجد فيها نفوس كثيرة خلاصها. ولكن العدوِّ الشرير لم ينجح في خطته. فقد قهرته صلوات البار ثيوذوسيوس.
انتظرت هذه العناصر الشريرة مدة طويلة إلى أن تمَّ تجمع تلك الرعية المختارة من الله في الكنيسة مع راعيها المغبوط ثيوذوسيوس، وما شرعت في تلاوة مزامير صلاة السحرية حتى انقضّ عليهم اللصوص كالوحوش الضارية إلاّ أنهم ما كادوا يقتربون من الكنيسة حتى شاهدوا أعجوبة رهيبة: فقد بدأت الكنيسة تنفصل بمن فيها عن الأرض، وقد إرتفعت في الهواء إلى علو لا تطالها فيه نيرانهم. أمّا الذين كانوا داخل الكنيسة فلم يشعروا بما حدث. ولكن اللصوص تولاّهم ذعر شديد امام هذه الأعجوبة، وولوا عائدين إلى بيوتهم وهم يرتجفون هلعاً. وقد تابوا من ذلك الحين. وعزموا على التخلّي عن الإعتداء على أي إنسان. وجاء زعيم اللصوص وثلاثة من رجاله إلى الدير واعترف للأب البار بما حدث. فلما سمع البار ذلك مجّد الله الذي خلّص هؤلاء اللصوص أيضاً من الموت الرهيب، وحافظ على مقتنيات الكنيسة. وبعد أن تزوّد اللصوص بكلمات البار الخلاصية شكروا الله ومجّدوه وحمدوا صنيع بارّه.
وقد تكررت هذه الأعجوبة مرة أخرى. فوضح للملأ أن الله يحمي كنيسة الدير. فقد حدث ما يلي: بينما كان أحد حاشية الأمير ايزيا سلاف يعبر السهل في أحد الليالي على مسافة تسعة كيلو مترات من الدير رآى من هناك كنيسة الدير مرتفعة في الفضاء إرتفاعاً عظيماً تحت السحب. فتولّته الدهشة من الورع والإعجاب وتحرك وأولاده صوب مكان الكنيسة، إذ أراد أن يتأكد عن كثب من هوية هذه الكنيسة. فلما إقترب من دير البار ثيوذوسيوس رأى ظاهرة أخرى وهي أن الكنيسة هبطت واستقرت داخل الدير في مكانها.
أمّا هو فلما فتح له البواب باب الدير، اتجه رأساً لمقابلة البار وأخبره بما شاهد. وكان يزوره من ذلك الحين بصورة مستمرة، ويبتهج بأقواله المستنيرة بنور الله. وكان يساعد الدير مالياً لتغطية مصاريف البناء وترميه وتجميل كنيسته التي يحرسها الله.
ولم يظهر الله رعايته وحمايته بطريقة عجيبة للكنيسة وحسب بل كان يعتني بصيانة الدير أيضاً. فقد حدث ذات يوم أن بعض اللصوص كان مقبوضاً عليهم وساقهم الجند مقيّدين إلى المدينة لكي يحاكموا فيها. وبينما كانوا في الطريق مرّوا بتدبير إلهي أمام أحد أملاك الدير. فما وقع نظر أحد اللصوص عليه ختى هزَّ رأسه وقال:
– لقد جئنا ذات ليلة إلى هذا الملِك لكي نسرق ما فيه ولكننا فشلنا. فإن هذه المنطرة (18) (الدير) قد إرتفعت في الفضاء الى علوا لم يمكننا الوصول إليه …
هكذا كان الله الحافظ الكلي الصلاح يقي ثروة الدير من أيدي اللصوص بصلوات الأب البار ثيوذوسيوس الذي توكل عليه تعالى ووضع عليه رجاءه.
وكان من عادته أن يمر كل ليلة في أنحاء الدير وهو يصلّي. فكان بصلواته يحصّن الدير وملحقاته. وهي له كالجدار المنيع.
إن هذا البار معلّم اللاّ تملّك كان يعتقد أن الرب نفسه يدبّر له ما يتطلبه تجميل الدير وتحسينه فضلاً عن حاجته الضرورية. وقد تلقى إستجابة لاعتقاده هذا من السيّدة أم الرب ذات القداسة الفائقة بتدخل لها عجيب نذكره فيما يلي:
إن البوغيار (19) ايزيا سلاف – الذي ورد إسمه آنفاً وكان إسمه في البدء سوديسلاف غيوديسلاف غيوئفيتش وقد سُميّ بعد المعمودية إكليمس – انطلق مرة مع الأمير الى الحرب فتعهَّد بما بلي:
– إن نجوت من الحرب وعدت إلى بيتي سالماً، أقدِّم للسيّدة والدة الإله ذات القداسة الفائقة قطعتين من النقود الذهبية، وأصنع أيضاً تاجاً لأيقونتها.
ونشبت الحرب وقُتل كثيرون من الجانبين المتقاتلين وأخيراً إستطاع الأمير ورجاله أن يهزم الأعداء ومن نجا منهم عاد إلى بيته منتصراً. أمّا هو فقد نسي وعده، ولهذا حدث له بعد أيام أن كان في بيته يستريح عند الظهيرة، فسمع في نومه صوتاً رهيباً يناديه باسمه:
– يا إكليمس !
فاستيقظ فوراً وجلس فوق سريره. فماذا رأى ؟ لقد ظهرت أمامه أيقونة السيّدة والدة الإله ذات القداسة الفائقة، وهي أيقونة دير البار ثيوذوسيوس. وكانت تحدثه قائلة:
– لماذا، يا إكليمس، لم تقدّم لي ما وعدت به ؟ إني لأنبهك بنوع خاص، عليك أن تهتم بتنفيذ وعدك.
فلما إنتهى الصوت اختفت معه الأيقونة. فهبّ اكليمس، وقد تملكه الرعب، وأخذ النقود الذهبية التي وعد بها وصنع الإكليل الذهبي أيضاً لتزيين الأيقونة وذهب إلى دير بتسير سكايا ليقدِّمها إلى الأب ثيوذوسيوس. فتسلمها منه بدون ان يعلم شيئاً عما حدث.
وبعد أيام قليلة قرر البوغيار نفسه بإلهام إلهي أن يُهدي الدير إنجيلاً. فقصد ذات يوم البار ثيوذوسيوس وقد أخفى الإنجيل تحت ملابسه. وبعد خدمة الصلاة أراد الجلوس ليتحدثا. ولم يذكر إكليمنس شيئاً عن الإنجيل لكن البار فاجأه قائلاً:
– يا أخي اكليمس أعطني أولاً الإنجيل المقدس الذي وعدت بتقديمه للسيدة والدة الإله ذات القداسة الفائقة وتغطيه الآن بملابسك. ولنجلس بعدها.
لما سمع البوغيار هذا الكلام أدهشته موهبة الاستشفاف التي للبار، لأنه لم يسبق له أن ذكر لأحد شيئاً عن هذا الإنجيل، وبادر إلى تسليمه إياه فوراً.
وقد ملأته محادثته الروحية مع البار فرحاً وسروراً. فلما عاد إلى بيته أخذ يعلن في كل مكان أن البار ثيوذوسيوس اللاّتملكي، الذي وكل أموره إلى الله، حتى قضية تجميل الكنيسة، لا يتحلى بأعماله المرضية لله وحسب بل بموهبة الإستبصار أيضاً التي تفوق الطبيعة.
لا إعواز عند خائفيه
كلما زاد اتكال البار على الله في ظروف الحرمان والصعوبات الاقتصادية برزت أكثر فأكثر أمام هذا القديس اللاّتملكي يد الله صانعة المعجزات. وسنذكر على التوالي بعض هذه العجائب العديدة.
قصَّ الراهب الخادم الذي كان دائماً يعمل نهاراً وليلاً في نسخ الكتب في قلاية أبينا البار ثيوذوسيوس، بينما كان البار يرتل بصوت منخفض مزامير داوود وهو منهمك عادة بغزل الصوف، فقال إنه بينما كان يعمل ذات مساء جاء أناستاسي إيكونوموس (20) (مُدَبّر) الدير، وقال للأب البار إنه ليس لديه مال لشراء طعام الإفطار ولبقية الحاجات. فقال له الأب البار:
– نحن في المساء كما ترى، ولدينا وقت حتى الفجر. فاذهب الآن لكي تصلّي، واصبر قليلاً.
وخرج الايكومونوس. أما البار فإنه دخل إلى الجناح الداخلي في قلايته لكي يقوم بقانونه كعادته، أي بصلواته الفردية المعيَّنة. وبعد أن إنتهى من صلاته، استأنف عمله، وإذا بالإيكونوموس يعود من جديد ويزعجه بالقضية عينها.
فقال له البار: “ألم أقل لك أن تصلّي ؟ إهدأ وفي الصباح تذهب إلى المدينة، وتشتري بالدَين، ما نحتاج إليه، ثم نوفي الدَين في ما بعد، حين يرسل الله لنا مالاً. فإن الله صادق في وعده حين قال “لا تهتموا للغد. لأن الغد يهتمُّ بما لنفسه” (مت34:6). والله لن يحرمنا من نعمته.
بعد مغادرة الايكونوموس ظهر في قلاية البار شاب متلألئ بالنور في زي عسكري. وبعد أن إنحنى أمامه وضع على المائدة قطعة ذهبية من النقد، ثم إبتعد فوراً دون أن ينبس بكلمة. فنهض الأب البار ومسك بيده القطعة الذهبية ومجّد الله وعيناه مغرورقتان بالدمع.
وفي الصباح دعا البواب ليعلم منه هل دخل أحد الدير ليلاً. فأكد له البواب أن الباب ما زال مقفلاً منذ غروب الشمس ولم يطرقه أحد. بعد ذلك دعا الايكونوموس وقال له:
– كيف تقول يا أخي اناستالي أنه ليس لدينا مال ؟ خذ هذه القطعة الذهبية واذهب وابتع ما نحتاج اليه.
أما الايكومونوس فإنه لم يستطع أن يشعر ببركة الله. وقد ظن أنه لم يفتش جيداً عن المال في الصندوق، وما كان منه إلاّ الانحناء أمام البار عاملاً “المطانية” وطالباً الصفح.
فنصحه البار قائلاً:
يا أخي لا تيأسنَّ أبداً. وكن قويَّ الإيمان. عليك أن تضع كل ما يضايقك أمام الرب. لأنه – تبارك إسمه – يهتم بسد حاجاتنا. وعليك أن تُعدَّ اليوم بنوع أخص مائدة للأخوة سخية لأن هذا اليوم هو يوم افتقاد إلهي.
وإذا تعرضنا للفقر مرة أخرى فإن الله يعتني بنا، كما حدث فعلاً.
ذات يوم تقدم خازن المؤونة تيودور من الأب البار وأخبره قائلاً:
– ليس لدينا اليوم شيء نقدمه للأخوة على المائدة. فأجاب الأب البار:
– إذهب وصلّ إلى الله بإلحاح لكي يظهر اهتمامه. وفي حال نكون فيها غير مستحقين ستسلق لنا قمحاً تخلطه بالعسل وتقدمه للإخوة. ومع ذلك فإننا نضع رجائنا على الله. فهو الذي أرسل في البرية إلى الإسرائيليين غذاء سماوياً. ويستطيع أن يعمل لنا اليوم مثلما فعل آنئذ.
بعد ذهاب الخازن استغرق الأب البار في صلاة طويلة. فإذا بيوحنا كبير البوغيار عند الأمير ايزيا سلاف يرسل بإرشاد إلهي ثلاث عربات مشحونة بالأغذية، خبزاً وجبناً وسمكاً وخمراً وقمحاً وعسلاً… فلما رأى البار العربات مجَّد الله من أعماق قلبه وقال لثيوذوسيوس:
– أترى يا أخي كيف أن الله لا يدعنا. يكفي أن نتكل عليه ونضع رجاءنا فيه بكل إخلاص، فاذهب وأعدّ اليوم مائدة غنية للأخوة، لأنه يوم إفتقاد إلهي.
وعلى المائدة شعر البار وسائر الإخوة بالبهجة ومجّدوا الله بتهلّل روحي “لأنه لا إعواز لخائفي الله”. وبفضل صلوات البار لم يكف الله عن صنع عجائبه وعن إفاضة بركاته الغنية في الدير.
وجاء ذات يوم كاهن إلى الأب البار ثيوذوسيوس من مدينة كياف وطلب إليه أن يعطيه نبيذاً لإقامة خدمة القداس الإلهي. فأمر البار خادم الكنيسة أن يعطيه. لكن الخادم أخبرهم أن لديهم كمية قليلة من النبيذ تكاد تكفي لثلاثة أو أربعة قداديس فقط فأمره البار قائلاً: أعطه النبيذ كله. أمّا نحن فسيدبّر الله لنا ما نحتاج إليه”. فنفذ الخادم الأمر وسلَّم الكاهن النبيذ ولم يحتفظ منه إلاّ ما يكفي لخدمة القداس في اليوم التالي. وأخذ الكاهن النبيذ وعرضه أمام البار وكان كمية قليلة. فوبّخ البار خادم الكنيسة قائلاً:
– ألم نقل أن تعطيه النبيذ كله ؟… لا تقلقنَّ بشأن الغد. فإن الله لن يحرم كنيسة والدته من خدمة القداس الإلهي. وليس هذا فقط فإني أرى أن ما لدينا من برميل ستطفح كلها اليوم بالمزيد من النبيذ !
حينذاك سلّم خادم الكنيسة الكاهن كل النبيذ. وفي المساء بعد العشاء حلّت بركات الله وتحققت نبوءت البار. فإن سيّدة تقيّة وهي المدبرة في قصر الأمير بسيفولود مُحِبّ المسيح، أرسلت ثلاث عربات مشحونة ببراميل ملأى بالنبيذ. فلم يعرف خادم الكنيسة كيف يمجد الله وقد أدهشه في الوقت عينه البار بإستبصاره المسبَّق حين قال “أن ما لدينا من براميل ستطفح كلها اليوم بمزيد من النبيذ”.
وقد ذكر خادم الكنيسة عينه أعجوبة أخرى مماثلة تمَّت بصلوات الأب البار.
دنا عيد نياح السيدة ولم يكن لديهم زيت زيتون لإنارة قناديل الكنيسة. ففكر الخادم أن يلجأ إلى إستعمال الزيت النباتي. وسأل الأب البار. فتركه يعمل كما أراد. فماذا حدث ؟
ذهب الخادم ليأخذ زيتاً نباتياً من أحد الأواني ليستعمله فوجد فيه فأراً ميتاً. فأخبر الأب البار قائلاً:
سقط في الإناء فأر مغرق ومات. وقد حدث هذا بصورة غريبة برغم أني غطيت الإناء جيّداً.
فقال البار وهو يعلم أن الله سمح بحدوث ذلك لكي يعاقب عدم إيمان الخادم:
– يجب يا أخي أن نتكل على الله فنؤمن بأنه يستطيع أن يرسل لنا ما نحتاج إليه. فعلينا أن لا نتصرَّف كغير المؤمنين. إرم الآن ذلك الزيت وتوجَّه الى الرب بالصلاة بإلحاح. وهو يرسل لنا اليوم كمية كافية من زيت الزيتون.
فنفذ الخادم الأمر. أمّا البار فقد جعل من الصلاة شغله الشاغل، لا يفكر بشيء سواه.
وعند الغروب أحضر أحد الأغنياء للدير إناء كبيراً مليئاً بزيت الزيتون. فمجَّد الأب البار الله مرة أخرى لأنه أسرع إلى إستجابة تضرعه. وقد ملئت قناديل الكنيسة منه وفاضت منه كمية أخرى. وفي اليوم التالي كانت كنيسة سيّدتنا والدة الإله ذات القداسة الفائقة مشعشعة بالنور.
نضيف الأعجوبة التالية إلى العجائب التي كانت، بفضل صلوات الأب البار، تسد كل حاجة من حاجات الدير:
كان الأمير ايزيا سلاف محب المسيح يكنّ حباً مسيحياً صادقاً لأبينا البار ثيوذوسيوس. وكان يتردد عليه كثيراً ليغترف من كلماته الحلوة كالشهد ويفرح. وذات يوم طال الحديث بينهما حتى موعد صلاة الغروب وبعد ذلك
انهمر المطر بغزارة. هكذا شائت إرادة الله. فأمر الأب البار خازن الأغذية بإعداد طعام العشاء للأمير وحاشيته فسأله البار:
– “ألم يبقى منه شيء ؟”.
أجاب الخازن: “لا”.
– إذهب وفتش مرة أخرى لعلك تجد فيه شيئاً مهما كان قليلاً.
– صدقني أيها الأب إننا قد قلبنا الإناء رأساً على عقب.
وامتلأ الأب البار نعمة إلهية وقال له:
– إذهب وستجد باسم ربنا يسوع المسيح. وما كاد الخازن يعود حتى وجد الإناء مفعماً بشراب العسل. فأذهله العجب وأسرع عائداً إلى البار لكي يخبره بما جرى. فقال له:
– إلزم الصمت يا بني ولا تقل لأحد شيئاً. ورتب الآن المائدة للأمير، وضع أيضاً للأخوة شراب العسل. فما هو إلاّ بركة الله.
بعد ذلك وقف المطر وعاد الأمير إلى قصره. أمّا شراب العسل المبارك فقد بقي منه في الدير كميات وفيرة لمدة طويلة. وكان يُقدم منه للإخوة بسخاء.
وحدث أن فرَّان الدير أخبر البار أنه لم يعد لديهم طحين لكي يخبزوا فقال له البار:
– فتش لعلك تجد كمية – من الطحين تكفينا الى أن يدبر الله أمرنا.
فأصر الفرَّان قائلاً:
– أنا بنفسي قد رتّبت المخزن وكنّسته وكل ما وجدته فيه باقياً لم يتعّد ثلاث أو أربع قبضات من النخالة.
فأجاب البار قائلاً:
– صدقني يا بني أن الله قادر على منحنا من هذه الكمية الصغيرة من النخالة مقداراً كبيراً من الطحين. فقد صنع الله للأرملة مثل هذا أيام ايليا النبي فعاشت الأرملة وولدها على القليل من الدقيق حتى زال الوباء. والله موجود الآن أيضاً وهو قادر على أن يضاعف القليل بكثرة، فاذهب الآن وترقب إرسال الله إلينا بركته.
فذهب، وما كاد يصل إلى المخزن حتى وجد العنبر يطفح بالدقيق. فقد نجحت صلوات البار هذه المرة أيضاً، وصنعت معجزة. فدهش الفرّان أمام هذا الحادث العجيب وعاد إلى البار ثيوذوسيوس وأفضى إليه بما جرى. فنصحه قائلا:
– لا تكشف هذا الأمر لأحد. واذهب لتعجن وتخبز أرغفة لسد حاجة الإخوة . فإنه بفضل صلواتهم أرسل الله إلينا غنى مراحمه.
كان البار ثيوذوسيوس عميق الإيمان بالله، شديد الثقة بربنا يسوع المسيح. ولم يكن ليعتمد على أي شيء أرضي من أمور الدنيا، وإنما كان يوجّه على الدوام عقله وقلبه إلى الله منتظراً منه أن يدبر له أموره. وما كان ليقلق من أجل الغد. لذلك كان يتأمل قول الرب “أنظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماويّ يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها ؟… فلا تهتموا للغد…” (مت 26:6 و 34)
وكان يردد أدعيته من أجل الإخوة بإيمان وطيد قائلاً:
“أيها السيد القدوس، أنت الذي جمعتنا في هذا المكان إن كانت مشيئة رأفتك تريد أن نبقى هنا فكن لنا عوناً ومانح كل خير. لقد تأسس هذا الدير على إسم أمك ذات القداسة الفائقة وإجتمعنا هنا على إسمك. فاحمنا يا رب وصنَّا من هجمات الشرير واجعلنا مستحقين الحياة الأبدية. ضع خوفك على الدوام في قلوبنا لكي نرث هكذا الخيرات المعدَّة للصدّيقين”.
وإذ كان البار ثيوذوسيوس يعلّم الأخوة يومياً ويعزيهم وينصحهم، كان يثبتهم في فضيلة اللاتملك وفي سائر الفضائل بمزيد من الغيرة. وكان الرب يدعم أقواله ويؤيدها بالعجائب الكثيرة التي رافقتها.
الصراع مع الشياطين
كان البار يقضي الليالي مصلّياً على الدوام. وكان يعبّر بدموعه وبالعديد من السجدات عن إعترافه بفضل الله. ويشكره تعالى ويمجّده على كل إحساناته. وكثيراً ما كان الإخوة الذين خدموا في الكنيسة يعرفون ذلك. فقبل أن يدق الخادم الناقوس إيذاناً بالنهوض من النوم، كان يتجه بخطى هادئة إلى قلايته ليستمدَّ منه البركة. حتى إذا إقترب سمعه يصلّي بحرارة وشدة مع تقطع في الخفقان وتهدُّج وبكاء وسجود في ركعات يدق فيها رأسه بالأرض. فكان الخادم إذ ذاك يتراجع قليلاً ثم يمشي بخطى أشد وقعاً لكي يحسّ البار به.
وما يكاد البار أن يسمعه حتى يوقف صلاته ويتظاهر بالنوم. فيتقدم الخادم ويطرق الباب قائلاً بارك أيها الأب. أمّا هو فلا يجيب. فإذا كرّر الضرب على الباب للمرة الثالثة مقروناً بالطلب “بارك أيها الأب”، تظاهر البار بأنه صحا لفوره من النوم وأجاب: ليت ربنا يسوع المسيح يباركك يا بني.
بعد ذلك يكون أول الحاضرين في الكنيسة. وكان يقوم بهذه الصلاة كل ليلة بصورة منتظمة.
وفي مدة رئاسته للدير كان يمارس رياضات أخرى أيضاً ليس لصالحه وحسب بل من أجل الرعية التي أناطه الله بها. وهكذا لم يره الإخوة مرة واحدة يستلقي فيها على ظهره وينام. فإنه إن إنتهى من صلاة النوم وأراد أن يستريح جلس في أحد الأمكنة لفترة قصيرة. وبعد إستراحة سريعة كان ينهض ليبدأ بركعاته في إنتظار خدمة صلاة منتصف الليل.
ولم يره الإخوة مرة واحدة يستحم لكي يرضي جسده. وقد كان يكتفي بغسل يديه ووجهه. وعندما كان يفرض على الإخوة رياضات الإمساك مثالاً، إذ كان يكتفي بالخبز اليابس والماء والخضار المسلوق.
كذلك لم يدل مظهره على الضيق والحزن، ولم يبدُ على المائدة المشتركة عابساً مرة. فكان محياه فرحاً ينيره لطف الله.
وكان كل عام إبان الصوم الكبير يعتزل في كهف، صار في ما بعد مدفناً لجثمانه الكريم.
وكان يختلي في ذلك الكهف منفرداً يمارس أنواع الرياضات حتى أسبوع أحد الشعانين، ويوم الجمعة في صلاة المساء لعيد القديس لعازر كان يعود ويجلس على باب الكنيسة، ويوجّه نصائحه إلى الأخوة ويشجعهم ويعزّيهم لما بذلوا من جهد خلال الصوم. أمّا عن جهاده هو فإنه كان يقول أن رياضته لا تعدُّ شيئاً أمام جهادهم.
في أيام الرياضات هذه كثيراً ما كان البار ينطلق في الليل الحالك دون أن يشعر به أحد، قاصداً كهف آخر في مكان قصيّ وخفي، لكي يمارس تقشفه وحيداً يعرف الله وحده أمره. ومن هناك كان يعود في أحد الشعانين. ثم يؤوب يوم الجمعة إلى الدير لكي يُشعر الآخرين أنه قضى أيام الصوم كلها في ذلك المكان.
وكانت الأرواح الشريرة تضايقه وترهقه في الكهف حيث كان يمارس تقشفه. فكانت تذيقه أنواع الآلام، وتشكل له تخيّلات مرعبة بالإضافة إلى أنها كانت تجرحه كما حدث تماماً للقديس أنطونيوس الكبير.
غير أن الله الذي كان يسمح بهذه التجارب كان يقف إلى جانبه بصورة غير منظورة ويحميه ويهبه القدرة ويمنحه النصر. فكان البار غير هيَّب أمام هجمات جحافل رئيس الظلام. وظل ثابتاً يمارس رياضاته. وما كان ليترك الكهف ذليلاً خائفاً، فكان يجاهد هناك بشجاعة وبأس متسلحاً بالصلاة والصوم كجندي صالح للمسيح. وما كان ليبوء بالخذلان ويدب إليه الرعب إمّا الأعداء فكانوا يتراجعون. وانتهى الأمر أن هذه الأرواح الشريرة لم تعد تجرؤ على الإقتراب من الكهف. فكانت تحاربه من بعيد وتوسّوس له بأفكار شريرة.
ومما يذكر أنه بينما كان يتقشف في الكهف هاجمه جيش من الأبالسة. إذ ذاك كان جالساً بعد صلاة النوم ليستريح قليلاً. فبعضها كان يصرخ بشدة والبعض الآخر كان يمر على عربات ويضرب الصنوج، وآخرون كانوا يوقعون على الناي. وكان الكهف يهتز كله من شدة الصراخ والضجيج. أمّا هو فلم ترعبه هذه كلها. وكان سلاحه الصليب تحَصَّن وهبَّ من مقعده وأخذ يتلو المزامير. وبهذه الطريقة تلاشت تلك الأصوات الرهيبة وذلك الضجيج المرهق، وتوارت تلك المخيفات الشيطانية. فلما كان يجلس ليستريح قليلاً يعود ضجيج الشياطين. فكان ينهض في الحال ويتلوا المزامير فتختفي صرخات الأبالسة. وقد تكرر هذا الحادث مراراً ولم يكن في استطاعته أن يستريح قليلاً، وظل على هذه الحال يجاهد إلى أن انتصر بنعمة الله. وقد منح موهبة ضد الأبالسة فلم تعد تجرؤ على الإقتراب من الكهف…
لقد عرفنا معجزات كثيرة جرت على يد البار ضد الشياطين، ندّون بعضها في ما يلي:
اعتادت الشياطين، عند شروع فرن الدير في الخبز، على إحداث أمور مضرة. فكانت تنثر الطحين وتسقط العجين على الأرض وتسبب العديد من الخسائر…
فقام المسؤول عن الخبز وشرح ما يحدث للأب البار ثيوذوسيوس. فزار في تلك الليلة غرفة المعجن وأقفل عليه الباب وأخذ يصلّي حتى بزوغ الفجر. ومن ذلك الحين لم تعد الشياطين الى الظهور مرة أخرى في ذلك المكان.
وجاء الأخ خادم صيرة الدير وذكر للبار ما يلي:
لقد سكن في الحظيرة أبالسة يحدثون شغباً كبيراً يمنع الحيوانات من تناول طعامها بهدوء. وأضاف قائلاً أن الأخ الأكبر صلّى مرات عديدة ورش المكان بالماء المقدس دون جدوى.
فتسلح البار من جديد بالصلاة والصوم واتجه إلى الحظيرة. فوصلها في المساء. ودخل وأغلق الباب عليه وسهر طوال الليل مصلّياً. وكانت النتيجة أنه من ذلك الحين لم يظهر أبالسة في الحظيرة أو في المنطقة كلها ولم تعد تحدث أي شر.
وما كان البار ثيوذوسيوس ليطمئن إلى إنتصاراته الشخصية. فقد أراد أن يرى مثل هذا النصر عند إخوته الرهبان أيضاً لذلك كان إذا علم أن الأفكار الشريرة تهاجم بوحشية أحد الإخوة يستدعيه وينصحه بالتصدي بقوة وبأس لخيل الشيطان. ويحثه على عدم الخور والإنخذال أمام هجماته، وأن لا يهجر ميدان القتال، وأن يتسلح بالصوم والصلاة، والله يهبه النصر.
وكان البار يقص على الإخوة الحادث التالي، وقد جرى له في شبابه في صراعه مع الشياطين. قال:
– كنت ذات ليلة في قلايتي أرنم. فشاهدت أمامي كلباً أسود. وكان واقفاً بلا حراك فلم أقدر أن أقوم بالمطانيات (الركعات). ومضى وقت طويل قررت بعده أن أضربه، فلما تأهبت لذلك اختفى فتولاّني ذعر شديد حتى إني عزمت على الفرار من ذلك المكان، وكنت على وشك القيام به لو لم يساعدني الرب. وبعد أن صحوت من هول الرعب أقبلت على الصلاة بإلحاح وعلى القيام بالركعات. فزال عنّي الخوف تماماً. ومن ذلك الحين لم تعد ترجفني ظهورات الشياطين أمامي مهما كانت.
كان الأب البار يعزّز إخوته في الصراع ضد الأرواح الشريرة بهذه الأقوال وغيرها. وكان هؤلاء الإخوة يرجعون من عنده إلى قلاليهم فرحين وهم يمجدون الله ويشكرونه على نصائح رئيسهم ومعلّمهم النُّخبة.
وقد قصَّ الأخ ايلاريون للمغبوط نسطور ما يلي:
لقد عانيت الكثير في قلايتي من الشياطين. فذات ليلة ما كدت أن أستلقي على فراشي حتى ظهرت أمامي فرقة أبالسة بكاملها. وهاجمتني، فشدتني من شعري وجرتني وأخذت تصفعني. وبعضهم رفع الجدار، وكانوا يهددوني قائلين: سنهدمه عليك لكي نقتلك.
وتكررت هذه الحال في الليالي التالية. فلم أحتمل أثر ولجأت إلى البار ثيوذوسيوس وقلت له: إني أفكر في الانتقال إلى قلاية أخرى. لكنه لم يوافقني على رأيي وقال لي:
– لا يا أخي. لا تبتعد عن القلاية. فإنك إن نأيت عنها جعلت الأبالسة يفرحون في حسابك، إذا ما رأت انها أجبرتك على الفرار. فتؤذيك أكثر لأنها بذلك تتسلط عليك. فاثبت في مكانك متدرعاً بالصلاة المتزايدة. وإذا ما رأى الله صبرك وهبك الغلبة والظفر، وبعدها لن تجرؤ هذه الأرواح الشريرة على الإقتراب منك.
فقلت له: “يا أبتي، أتوسل إليك فإنه لمن المحال أن أبقى في قلايتي لأن العديد من الأبالسة موجودون فيها.
حينذاك رسم عليّ الأب البار إشارة الصليب وقال لي:
– عد يا بني إلى قلايتك. فإنك من الآن لن تراهم ولن يؤذونك”.
وصدقته وركعت أمامه ركعة الطاعة وخرجت. ولم يظهر في قلايتي من ذلك الحين أي أثر للأبالسة كثيري الحيل لأن صلوات الأب البار ثيوذوسيوس قد طردتهم منها.
موبّخ المروق
أظهر أبونا البار ثيوذوسيوس شجاعة وبأساً في مواجهة الأعداء المنظورين والأعداء غير النضورين على السواء. وقد إعتاد على الخروج ليلاً من الدير خفية لمقابلة اليهود. وكان يجادلهم بشجاعة ويفند مواقفهم بشأن شخص المسيح. وكان يوبخهم ونفسه يسودها استياء شريف، ويتهمهم بخيانة الناموس وقتل الإله. وكانت أمنيته الكبرى أن يعترف بإيمانه بالمسيح، ولو واجه الموت أيضاً على يد أولئك الذين أماتوا الرب يسوع. وبذلك يقتدي به أيَّما إقتداء.
إن أبانا الشجاع كان يشتهي أن يعاني لكونه معترفاً بالحق. ويتجلّى هذا في الحادث التالي:
بعد أن قضى سنين طويلة كإيغومانوس (رئيساً للدير) حدث بوسوسة الشيطان اضطراب وخصام بين الإخوة الثلاثة أمراء روسيا، فقد أعلن الأمير تسير نيغوف آسفياتو سلاف والأمير بريجيا سلاف افسيفولد الحرب ضد أمير كياف محب المسيح ايزيا سلاف أخيهما الأكبر. وقد تمكنا من الإستيلاء على كياف وطرد أخيهما منهما.
وقد أقام الأميران حفلة غداء رسمية وكان ثيوذوسيوس بين المدعوين إليا. لكن البار رفض قبول الدعوة لعلمه أن إيزيا سلاف قد طُرد من كييف ظلماً، وردَّ بشجاعة على الرسول قائلاً:
– لا أرى من اللائق أن أذهب إلى مائدة ايزابيل لأذوق طعاماً تفوح منه رائحة الدم والقتل.
وتفّوه بأقوال أخرى وانتهى إلى القول:
أرجو منك أن تنقل إلى سيّديك كل ما قلته لك.
وقد بلّغ الأميران ما قاله البار لكنهما لم يغضبا منه. فقد كانا يدركان أنه على حق. ومع ذلك لم يصيحا إلى نصائحه. ولم يكفّا عن الاعتداء على أخيهما ومطاردته حتى أبعداه عن حدود إمارته. واستولى الأمير اسفياتو سلاف على منطقة كياف. أمّا أخوه الأمير افسيفولد سلاف فقد تولى الإمارة في بيريغيا سلاف، بما أنه الشقيق الأصغر.
وشرع الأب البار ثيوذوسيوس آنئذ في التنديد بأسفيا توسلاف بلا هوادة، وهو مفعم بالروح القدس. وكان ينتقده بشدة للظلم الذي أرتكبه باحتلاله العرش بصورة غير شرعية وطرده لأخيه الأكبر بدل أن يقوم بما يتوجب عليه نحوه من احترام، كاحترام الابن لأبيه. وكان يبلِّغ الأمير هذه الاتهامات برسائل أو بواسطة شخصيات من أصحاب الرتب كانوا يزورون الدير.
وأخيراً وجّه إلى الأمير رسالة مطوَّلة وبّخه فيها بشدة بالغة ومما قال فيها: “إن دم أخيك يصرخ إلى الله كما فعل دم هابيل ضد قايين”. وقد عدد في الرسالة الكثير من القتلة القدامى الذين كرهوا إخوتهم وأذاقوهم محنة الطرد وقارن الأمير بهم بلهجة محرقة.
فما كاد الأمير يقرأ هذه الرسالة حتى استشاط غيظاً. وألقى في الرسالة إلى الأرض وداسها بقدميه وهاج كالأسد الهائج وأخذ يزأر ضد البار مصمماً على زجّه في السجن.
وأخذ الإخوة في الدير ونفوسهم يعصرها الألم والحزن يتوسلون إليه أن يوقف حملة الاتهام ضد الأمير التي دأب عليها. كذلك أنبأه فريق من العظماء عن سخط الأمير وأشاروا عليه أن لا يتعرّض له فيما بعد. وقالوا له إنه على أهبة اعتقالك وسجنك.
فلما سمع البار عن الاعتقال تحمس وغمر الفرح فؤاده وصرخ قائلاً:
هذا هو يا إخوتي السبب الذي يعطيني المزيد من السرور. فلا شيء يستطيع أن يمنحني من الغبطة في هذه الحياة ما يمنحني إياه تحمل الاضطهادات من أجل الحقيقة.
فهل في هذا الأمر ما يجعلني أخسر ثروتي ؟ أو أني سأنفصل عن أولادي ووطني ؟ إننا يوم جئنا إلى العالم لم نحمل شيئاً من هذا كله. فلقد ولدنا عريانين، وعلينا أن نترك هذه الحياة عريانين. واني لمستعدٌ ليس للسجن وحسب بل للموت أيضاً.
لقد كان البار يرغب بصدق في الاعتقال، فزاد من شنّ هجمات إنتقاده للأمير كاره أخيه. واشتد غضب الأمير – وهذا أمر طبيعي في مثل هذه الحال – إلاّ أنه لم يكن ليجرؤ على مسّه والقبض عليه. لأنه كان يعرفه عادلاً وباراً. فضلاً عن أن هذا الأمير نفسه – على ما ذكره الراهب بولس الذي صار فيما بعد رئيساً لأحد الأديرة في منطقة إمارة اسفياتو سلاف – كان يغار من أخيه لوجود هذا الكوكب الساطع في إمارته.
وتشارك الإخوة والعظماء فيما بعد في الضغط على الأب البار ثيوذوسيوس ليعدّل من سياسته تجاه الأمير، فاستجاب لهم. ورأى أن الأمير لا يفيد البتة من التوبيخ. فعزم على انتهاج طريقة حسنة لعله بها يدفعه إلى التعقل ويقنعه باٌبتعاد عن إيذاء أخيه، ويصلح ما أفسدته الإساءة.
وعرف الأمير اسفياتو سلاف بعد أيام قليلة بهذا التغيير الذي طرأ على سياسة البار، فشعر بفرح عميق. فقد كان يشتهي من زمن أن يبتهج بكلمات البار الملهمة. وشجعه هذا على طلب السماح له بزيارة للدير. فلما بلغته موافقة البار تحرك ركبه ومعه عدد من رجال حاشية البوغيار واتجهوا إلى الدير. وخرج البار والإخوة منم الكنيسة واستقبلوهم بحفاوة بالغة. وقد انحنوا جميعاً أمام الأمير الانحناءة التقليدية. أمّا الأمير فقد صافح البار وقال له:
– أنا أيها الأب لم أجرؤ على زيارتك. فقد ظننت أنك لن تسمح لي بالدخول لأنك كنت غاضباً عليّ.
فأجاب البار:
– وما هو غضبنا يا مولاي أمام سلطانك ؟ نحن ملزمون بالمراقبة، والتنويه بكل ما هو ضروري لخلاص النفس أمّا انتم واجبكم أن تستمعوا لنا. وبعد أن تُلي دعاء قصير في الكنيسة استقبل البار الأمير وأجرى معه محادثة، وقد نبر على المحبة التي ينبغي على الإخوة التخلّق بها.
أمّا الأمير فقد ذكر للبار أن هناك الكثير من المخالفات التي ارتكبها أخوه الأكبر وليس من السهل أن يتصالح معه. وغادر الأمير الدير بعد محادثة طويلة مفيدة شاكراً الله الذي جعله جديراً بمحادثة هذا الرجل العظيم. ومن ذلك الحين دأب الأمير على زيارة الأب البار بين وقت وآخر. وكانت كلماته تغذيه روحياً ووتبهجه أكثر من العسل والشهد.
وكان ثيوذوسيوس بدوره يزور هذا الأمير القدير ويذكره بضرورة الخوف من الله وبمحبة أخيه.
وبينما كان في إحدى زياراته له رأى ذات يوم عند دخوله القصر جمعاً من الموسيقيين. وكانت الألحان متعددة، النغمات المتوافقة، تصدحُها آلات موسيقية وترية ونفخية فتطرب الأمير. فجلس البار إلى جانبه عابساً وقد أخفض عينه، لكنه ما لبث أن اقترب من الأمير وقال له:
– هل ستكون هذه في الحياة الأخرى ؟ إن هذه الملاحظة جعلت الأمير يتأثر حتى طفر الدمع من عينيه. فأمر بإيقاف العزف فوراً. ومن ذلك الحين كان يأمر بإيقاف العزف على آلات الطرب في كل مرة كان البار يزوره فيها.
وعندما كان يعلم بعزم البار على القدوم إليه كان يخرج إلى باب القصر ليستقبله وعلامات البشر والفرح تبدوان عليه.
وذات يوم طغى الابتهاج عليه فاستقبل البار بالكلمات التالية:
– يا أبتي أعترف لك بكل صدق أنه لو جائني أحد وقال لي أن أباك قام من القبر وعاد حيّاً لما أحسست بالفرح الذي يسببه لي قدومك. ولما عانيت من الورع الذي يحدثه لي شخصك البار.
فردّ عليه البار قائلاً:
إن كنت حقاً تحس بهذا القدر من الورع إزائي فانصع لمشيئتي وأعد لأخيك العرش الذي أورثه له أبوك.
أمام هذا الموقف أصيب الأمير بالضياع. وارتج عليه فلم ينبس ببنت شفة. ولم يعلم بما يجيب. فإن الشيطان كان قد صب في قلبه الحقد على أخيه صباً فلم يعد ليطيق أن يسمع مجرد اسمه !
لم يَنسَ البار الأمير ايزيا سلاف محب المسيح. وكان يصلّي من أجله على الدوام نهاراً وليلاً. وقد أمر الكهنة أن يذكروه في الأدعية وأن يمتنعوا في الوقت عينه على ذكر الأمير اسفياتو سلاف غير الشرعي. لكنه عاد – بعد إلحاح الإخوة – فسمح بذكره في الأدعية بعد ذكر الأمير شقيقه الأكبر.
يجب أن نذكر هنا أن القديس نيكون الذي نعرفه، وهو الذي سام ثيوذوسيوس راهباً غادر دير بتسير سكايا ومعه راهبان أثناء محنة الخلاف بين الأمراء. وقد قصد جزيرة إتموتو كانسك (21)، حيث أسس ديراً برغم أن البار ثيوذوسيوس كان يتوسل إليه بإلحاح أن يبقى بالقرب منه. فقد كان يرغب في أن لا يفارقه مدى الحياة. إلاّ أن الله كان يريد غير ذلك.
وهكذا ظل ثيوذوسيوس يخوض غمار الجهادات وحده بدون مؤازرة حبيبه نيكون.
الكنيسة الكبرى
رأى الأب البار ثيوذوسيوس، المتجمّل بالعديد من الفضائل أن الدير بات ضيّقاً بالنسبة إلى الرهبان فأخذ يفكّر فيما يجب عمله. وكان يضرع إلى الله بإلحاح طالباً أن يرشده إلى مكان رحب يقيم عليه كنيسة تبنى بالحجارة على اسم السيدة والدة الإله الفائقة القداسة. وقد استجاب الله لصلواته وكشف له بطريقة عجيبة المكان والكنيسة التي ستقام عليه.
وكان أحد المسيحيين الأتقياء من خائفي الله يمشي في ليلة حالكة في المرتفعات المحازية لدير بتسير بتسير سكايا. فأنعم الله عليه برؤية شاهد فيها بروز نور عجيب فوق الدير، كالنور الذي رآه الآيغومانوس صفرونيوس ورأى في وسطه البار ثيوذوسيوس، واقفاً أمام الكنيسة وباسطاً يديه صوب السماء وهو يصلّي بثبات وإلحاح.
وفيما كان مبهوراً من هذه الرؤيا شاهد بعد قليل شعلة ضخمة طارت من الكنيسة واتخذت شكل قوس وحطّت على حد التلال. وهو التل الذي بنيت عليه الكنيسة بعد حين. وظلّت هذه الشعلة قائمة هناك حتى غاب الرجل وراء الجبل، وكان طرفها على قمة الكنيسة والطرف الآخر على التل. ولم يلبث الرجل أن أفضى الى البار بما شاهد.
وحدث أعجوبة مماثلة أظهرها الله لسكان المنطقة المجاورة. فقد فوجئوا ذات ليلة بسماع ترانيم روحية صادرة عن أفواه لا تُحصى. فهبّوا من نومهم وصعدوا إلى أعلى مكان لعلّهم يرون مصدر هذه الأصوات. فإذا بهم يشاهدون دير بتسير سكايا وقد لاح لهم مجلّلاً بنور ساطع، وبدت الكنيسة أمامهم وجمع من الرهبان يخرجون منها ويذهبون إلى الموقع الجديد. وبعضهم كان يحمل أيقونة السيّدة والدة الإله ذات القداسة الفائقة، وآخرون كانوا يمسكون بأيديهم الشموع المضيئة ويرتلون سائرين، يتقدّمهم زعيمهم الآيغومانوس ثيوذوسيوس. وما أن وصلوا إلى المكان حتى رفعوا إلى الله صلواتهم وتراتيلهم. ثم عادوا من جديد إلى الكنيسة وهم ينشدون…
لم يشهد هذه الرؤيا واحد أو إثنان بل عدد كبير. وتبيَّن فيما بعد ان الذين كانوا يرتَّلون هم ملائكة، ولم يكونوا رهباناً. ذلك لأن رهبان الدير لم يعرفوا عن هذا الحادث العجيب شيئاً.
فما كان منهم جميعاً إلاّ توجيه الشكر لله بفم واحد. لأنه تبارك إسمه، بفضل أدعية البار، بارك ذلك الموقع وأفاض عليه النِعم…
أما البار ثيوذوسيوس فقد رددَّ قول يعقوب رئيس الآباء: “حقاً ان الرب في هذا المكان، وأنا لم أعلم… ما أرهب هذا المكان. ما هذا إلاّ بيت الله. وهذا باب السماء” (تكوين16:28 – 17).
وبينما كان البار يصلي في ديره من أجل تشييد الكنيسة الجديدة تلَّقى الإجابة على طلبه مباشرة، بعد أن كان أمراً لا رجاء في ترقّبه: فقد جاء البار أنطونيوس لكي يساعده وتبعه بناؤون أتوا من القسطنطينية. وقد نقلهم الله إلى هناك بآيات باهرة لكي يبنوا هيكله الذي أراهم إياه من قبل في رؤيا. (22)
وظهر أيضاً عند الشروع في العمل تدخّل الله وفيض بركته، بينما كان جمع من الرجال يفتشون في أرجاء المنطقة المعينة، على الموقع الملائم. فقد تصادف أن الأمير اسفياتوسلاف كان ماراً من هناك. فلما علم بما جرى أهداهم بطيبة خاطر قطعة أرض في أملاكه. وكانت هذه أنسب مكان لإقامة الكنيسة عليها كما دلّت على ذلك إشارات إلهية في ما بعد: فإنه بفضل صلوات البار أنطونيوس، وصلوات البار ثيوذوسيوس أيضا، هبط من السماء على دفعات متوالية، على ذلك الحقل، ندى وجفاف ونار. وبهذا تجلّى تفضيل الله لهذا المكان. (23)
وتأثّر البار ثيوذوسيوس أمام هذا الفيض من بركات الله التي لا يمكن وصفها فقام ووضع الحجر الأساسي للبناء. وقُدِّمت هذه الكنيسة لملكة السماء:
لأنها ستكون أشبه بالسماء في جلالها وروعتها.
ومما يجدر ذكره أن الأمير التَّقيّ اسفياتو سلاف نفسه شرع بحفر الأساسات وقدَّم أيضاً للمشروع مائة قطعة مالية ذهبية وضعها في يد البار ثيوذوسيوس.
وكان البار ثيوذوسيوس يكّد يومياً ويعمل بجد ونشاط مع إخوته في تشييد الكنيسة المقدّسة ولم يكف في الوقت عينه ان يجعل ذاته يوماّ فيوماً هيكلاً للروح القدس. فكان يزداد تجملاً بالفضائل، وظل على الدوام أبا اليتامى، وحامي الأرامل، ومغيث المظلومين. ومن رآه وهو يعمل، ما كان يرى في مظهره ما يدّل على أنه هو الإيغومانوس. فإن ملابسه وشكله الخارجي كله يشير الى أنه أحد رؤساء العمال.
كانت أرملة بائسة تطلب مساعدته فرأته بين البنائين. فقالت له:
– ايه، قل لي يا لابس الثوب الأسود هل رئيسكم موجود في الدير ؟
فرد عليها البار:
– لماذا تريدين مقابلة هذا الرجل. انه إنسان خاطئ.
فقالت المرأة:
– لا أعرف، إن كان خاطئاً أم لا. لكن ما أعرفه عنه أنه أنقذ الكثير من المتضايقين والبؤساء والذين عضهم الشقاء. وأريد أن يساعدني أنا التي ظلمها القاضي.
فاهتم ثيوذوسيوس بالإطلاع على قضيّتها بالتفصيل. وأحسّ نحوها بشعور المشاركة في الألم فقال لها:
– عودي الآن إلى بيتك. وأنا سأقول كل شيء للإيغومانس وهو سيفرج كربتك ويحررك من ضيقك.
وقدّ تحدث فعلاً مع القاضي بشأن هذه الأرملة الفقيرة. وطلب إليه ان يعيدوا إليها ما أخذوه منا ظلماً. وتمّ ذلك وخلصت من محنتها.
بمثل هذه الأعمال الخيّرية المؤهلّة للسماء كان البار يجاهد للإسراع في تشييد الكنيسة التي ستكون شبيهة بالسماء. إلاّ أنه لم ينل الإستحقاق أن يعيش حتى إكمال بنائها. فقد وافته المنيّة قبل ذلك. ولكنه بعد موته كان وهو عند ربه يعزّز بصلواته هذا العمل. وقد أكمله استيفانوس المغبوط خلفه في رئاسة الدير.
(12) الايغومانوس = رئيس الدير. هو الأب الروحي المتقدم بين الرهبان ويرشدهم ويتولى إدارة الدير من الوجهتين الروحية والمادية. وقد ظهرت هذه الوظيفة من عهد القديس باخوميوس مؤسس الرهبنة الديرية (المترجم).
(13) القلاية ج. قلالي: كلمة يونانية تعني الغرفة التي يسكنها الراهب في الدير (المترجم)
(14) التيبيكون: هو النظام الداخلي للدير وقد جرت العادة أن يكون لكل دير نظامه. ولكن هناك تيبيكونات قديمة لأديرة عظيمة نقلت الأديرة الأخرى عنها نظمها الداخلية. وأهم هذه التيبيكونات المعروفة هي: 1) التيبيكون الأورشليمي وهو الذي وضعه القديس سابا لديره سنة 661. (وهذا الدير ما زال قائماً حتى اليوم في فلسطين). 2) تيبيكون دير استوذيو في القسطنطينية وقد وضعه القديس ثيوذوروس الاستوذيتي سنة 789 م. وقد طبق نظامه في كل الأديرة اليونانية في إيطاليا وصقلية. كما أُدخل أيضاً إلى أديرة روسيا في القرن الحادي عشر. 3) تيبيكون القسطنطينية وهو منقول عن تيبيكون دير القديس سابا مع بعض التعديل. 4) تيبيكون الأمبراطور البيزنطي يوحنا تزيمسكي الذي وضعه لجبل آثوس… إلخ… (المترجم).
(15) المطانية: كلمة يونانية metanoia تعني التوبة وقد أُطلقت اصطلاحاً على احناء الركبتين والركوع أمام أيقونات القديسين، للدلالة على انسحاق الشخص ورغبته الحقيقية في التوبة.
وهناك سر التوبة وهذا السر الذي فيه يمنح الله بواسطة الكاهن غفران الخطايا التي ارتكبها التائب من بعد المعمودية المعترف بخطاياه والعازم بإخلاص على عدم الرجوع إليها.
والمطانيات التي يقصدها الكاتب هنا هي احناء الركب وهي التعبير عن الانسحاق والتوبة كما قلنا. ولإحناء الركب = الركوع أصل في الإنجيل (لوقا 22: 41) وقد دخلت إلى الكنيسة من عهد الرسل للتعبير عن التواضع والانسحاق أمام الله (أعمال 7: 10 و9: 40 و20: 36) (المترجم).
(16) السهر بالصلاة طوال الليل وهو ما اصطلح عليه بلغتنا الطقسية بـ “الأغربنية” وما زال هذا المصطلح مستعملاً في أوساطنا الأرثوذكسية العربية. يماثله أيضاً “السهرانية”. ويرجع أصل “الأغربنية” إلى العهد الرسولي. فإن ربنا يسوع المسيح إلهنا قال لتلاميذه: “اسهروا وصلوا” (مرقس 13: 33) وقال أيضاً: “اسهروا وتضرعوا في كل حين، لكي تحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون، وتقفوا قدام ابن الإنسان” (لوقا 21: 36). وكان المسيحيون القدامى في ليالي الأعياد الكبرى السيدية وأعياد القديسين يمارسون صلاة الأغربنية في الكنيسة طوال الليل. وبعضهم كانوا يفترشون صحن الكنيسة وينامون فيها. وقد تبنّت الرهبنة من عهد باكر عادة السهر للصلاة. واعتبر الآباء القديسون الصحو والسهر علامات الحياة الروحية المتقدمة. قال القديس غريغوريوس السينائي: إن الراهب لا يتقدم البتة بدون الصوم، الإمساك والسهر، والصبر والشجاعةـ والصمت والهدوء، والصلاة والحزن، والتواضع (فيلوكاليا 4 ص 77: 13 النص اليوناني) لأنها تولد بعضها بعضاً وتتآزر (المترجم).
(17) يقصد به نهر دنيبر وهو من أكبر أنهار أوروبا وكان دير بتسر سكايا مقاماً على ضفته اليمنى العالية.
(18) المنطرة أو المنذرة هي صيرة الغنم وهي كلمة يونانية ما زالت مستعملة في بلا دنا بمعنى مكان الحراسة ومنها نحت اللفظ “ناطور” وقد إستعملت هذه الكلمة مجازاً في القرن الرابع الميلادي لتعني الدير الجماعي للرهبان. ومنها نحت الاصطلاح “أرشمندريت” أي رئيس المنظرة (رئيس الدير) (المترجم).
(19) البوغيار: لقب يطلق على مرافق الأمير في روسيا من أصحاب المشورة. وكان له إمتيازات كثيرة منها راتبة الضخم والأملاك الواسعة. وظل هذا اللفظ مستعملاً في لغة الكنيسة الروسية بمعنى صاحب المقام الرفيع، أو العظيم. وانتقل اللقب من روسيا إلى مولد وفلاخيا (في رومانيا) [دولة مستقلة حالياً تُدعى مولدوفا.. (الشبكة)]. وفي كتب التاريخ في القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر استعمل البيزنطيون هذا اللقب وأطلقوه على كبار أصحاب القلم (المترجم).
(20) الإيكونوموس كلمة يونانية مركبة معناها المتولي إدارة البيت ومعناها اصطلاحاً المدير. واستعملت الكلمة في الأديرة القديمة فأطلقت على المسؤول عن شؤون الدير الاقتصادية وثروته وأملاكه. ثم أُدخل هذا اللقب إلى الإكليرو، ويمنحه الأسقف عادةً لكاهن متزوج (المترجم).
(21) لقد كان نشاط البار نيكون في جزيرة اتموتورو كانسك عجيباً. فإنه هدى سكان المنطقة إلى المسيحية وذلك بتأسيس دير خارج المدينة، وبحكمته وقداسته وصنعه العديد من المعجزات. وكانت المسيحية لم تصل بعد إلى هناك. وقد التف الجميع حوله. ويذكر نيكون في تاريخ سلسله من الحوادث الهامة جرت أثناء نشاطه في اتموتورو كانسك…
(22) إن مصدر هذه الحوادث كتاب “روايات عن الكنيسة المقدسة” ألّفه نسطور. ويدور الكلام فيه عن تدخل عجيب للسيّدة والدة الإله، جرى في القسطنطينية في كنيسة أفلاخرنس، وعلى أثر ذلك قام أربعة مهندسي بناء معروفين واتجهوا إلى كياف، وهم يحملون إرشادات واضحة عن العمل الذي سينفذونه.
(23) بينما كان البار أنطونيوس يصلي ويطلب إرشاده إلى المكان المناسب وجدوا في اليوم الأول هذا المكان مُغطى بالندى، بينما كانت المنطقة حوله يسودها الجفاف. وفي اليوم التالي جرى عكس ذلك. وفي اليوم الثالث قام البار أنطونيوس بقيام المكان وباركه. ثم تلا صلاة خاصة، فنزلت ناراً من السماء وأحرقت الشجر والأعشاب التي كانت فيه. بعد هذا لن نلقى البار أنطونيوس في بقية الرواية. ونذكر هنا أنه بعد أن أقام دعاء عند الشروع في البناء رقد في الرب سنة 1073 للميلاد.