لقد كان المسيحيون على مرّ العصور يغتذون بحياة القديسين: الرسل، رؤساء الكهنة، رهبان الصحراء، الشهداء، والسوّاح. واليوم يواجه المسيحيون ضغوطاً متزايدة لنبذ العقيدة وقبول التوفيق الديني. لهذا علينا أن نولي عناية خاصة لحياة هؤلاء القديسين الذين اعترفوا بإيمانهم، ورفضوا تكييف أنفسهم مع روح هذا العالم. حياة القديس باسيل كينيشما، التي هي هدية من مستودع روسيا الغني، تقدم مثالاً ملهِماً.
تعود عظمة هذا القديس إلى تربيته التي كانت صارمة، حتى قياساً على روسيا القرن التاسع عشر. فقد أبقى والده الكاهن كلَّ تأثير عالمي خارج البيت، فلم يكن مسموحاً للأولاد بالتمشي خارج السياج الذي كان حدود عالمهم. لكن الصرامة الظاهرية لهذا المناخ الشبيه بالأديار، كانت مغمورة بجو من المحبة المسيحية. وكانت تُخرَق هذه العزلة الاجتماعية باستمرار لاستقبال الفقراء والسائحين. عدم وجود وقت للهو إضافة الى ممارسة الصلوات والجهاد الروحي أعدّا العقل للتركيز، فلم يكن لتأخّر الأولاد في البدء بالدراسة أيّ تأثير سلبي على تفكيرهم، بل هذا ما ساهم في تقدمهم الروحي الذي كان الهمّ الأساسي لأهلهم.
حتى بعد كل هذه الرعاية الروحية المركّزة، كان لا بد من العناية الإلهية لتوجيه الشاب بنجامين يرايوبرازنسكي – الأسقف باسيل مستقبلاً – بحسب مشيئة الله. كان قد تسجّل في جامعة انكليزية ليهيء نفسه لمهنة الكتابة، عندما ذهب خلال عطلة صيف الى الإبحار مع أصدقائه في نهر الفولغا. انقلب المركب، فصلّى بنجامين، خوفاً من خطر الغرق، قاطعاً وعداً بأنه، إذا ما نجا، فسيكرّس حياته للدفاع عن الإيمان. فكان الناجي الوحيد.
بدأ بنجامين الوعظ في الكنائس المحلية حين كان طالباً في الأكاديمية اللاهوتية في فورونيز. بدأ مهمّته التبشيرية حالاً بسبب إدراكه أن سامعيه كانوا ضعيفي المعرفة بإيمانهم. خلال وعظه، كان يتفحص المؤمنين. فاختار امرأة ذات إيمان قوي لتكون أداة استقطاب يتجمّع حولها المؤمنون. كان الكتاب المقدس يُقرأ ثم يُفسّر، أحياناً مع أمثلة يعطيها بنجامين بنفسه، وكانت الخدم الكنسية تُدرس أيضاً، إضافة الى ترنيم التراتيل المفضلة لدى المجتمعين.
لم يزدرِ مطلقاً بالأولاد. سنة 1918، أصدر البولشفيون مرسوماً يحرّمون فيه التعليم الديني للأولاد، لكن بنجامين كان يجمعهم في الكنيسة حيث يقوم هو نفسه بتعليمهم القوانين الإلهية ناموس الله.
كان والده يعتبر رسامته قبل سن الأربعين سابقة لأوانها. وقد أصبح بنجامين كاهناً في سن الخامسة والأربعين. وقد تكرّس للرهبنة Tonsured مباشرة بعد ذلك، وفي السنة التالية، 1921، سيم أسقفاً على كينيشما.
رغم مركزه، بقي الأسقف باسيل بسيطاً في علاقاته مع الناس. “عندما كان يزور حلقات الصلاة، كان خبر وصوله ينتشر بسرعة فيتهافت الناس لمقابلته… فمن يصل يجلس حيثما أمكن. كان فلاديكا (سيّدنا) يجلس على الأرض ويبدأ بإنشاد الأناشيد الدينية. كانت هناك الكثير من الخدم التي يقيمها مفعَمَةً بالمحبة والبساطة، فيبدو ترنيمه أو قراءته للإنجيل فيبدو كأنه آلة في يدي الله. لم يكن يبحث او يرغب بأي شيء من هذه الدنيا: لا ذهب ولا فضة أو أي مركز عالمي. رغب فقط أن يكون خادماً حقيقياً لله”.
إنّ غياب الطموحات و الاهتمام بالذات سمحا للروح القدس أن يفعل فيه، فكان حضوره مستمراً من خلال الخدم الإلهية التي يقيمها الأسقف. كان جماهير من الناس يحتشدون – كثير منهم عمال غير متعلمين – فيسيرون أميالاً عديدة لحضور السهرانيات حيث يقرأ فيها فلاديكا خدمة آلام السيّد. “كان الهدوء يخيّم خلال القراءات وكأن لا أحد في الكنيسة، كل كلمة تسمع حتى في أقصى الزوايا… كانت النعمة كبيرة خلال هذه الخدم حتى أن الناس لم يكونوا يشعرون بالضجر.” حتى غير المؤمنين كاليهود، كانوا يختبرون القوة المغيّرة التي في خدم الأسقف، التي كان يشعر بها الجميع تقريباً.
تكمن عظمة فلاديكا الروحية في تقشفه. كان يعيش لدى أرملة تقية في غرفة الغسيل التي تقع في فناء بيتها الخلفي، حيث كان ينام على الأرض مستعملاً قطعة حطب كمخدّة. رغم ذلك، كان يومياً يأتي سيراً عبر المدينة وصولاً الى الكاتدرائية، إلاّ أنّه لم يقتنع من أحد بوجوب الانتقال الى مكان آخر. خلال سيره في الشوارع في الصباح الباكر أو في ساعة متقدّمة من الليل كان الأسقف يُصادف السارقين عدّة مرّات. وبما أنّه قد تخلّى طوعياً عن كل ما يملك، فقد كان يعطيهم أي شيء يكون لديه، فيفعل ذلك بحلم ومحبة.
أثمرت جهاداته التقشفيّة قوة شفائية في صلواته. “في إحدى المرات، قرعت فتاة باب فلاديكا، أدرك أنها كانت من طلاب صفوف التعليم المسيحي. كانت قد بكت طوال الطريق، وعندما رأت فلاديكا، أملها الأخير، ازداد بكاؤها. كيف لا تبكي ووالدها الذي تحبّه حبّاً جماً كان يموت؟ جمع فلاديكا أغراضه بسرعة وذهب معها الى أبيها وجده يكابد سكرات الموت. بدأ الأسقف بالصلاة. صلى طويلاً وبإلحاح، لمس الرجل المنازع واضعاً كل شيء في مشيئة الله، ثم غادر. خمد المرض بسرعة، ثم بدأ الرجل المريض يتعافى وسرعان ما عاد صحيحاً”.
حوادث عديدة جرَت، كانت تشهد على استبصاره تمييزه.
أكبر تحدّ في عمل القديس الرعائي كان قيادة رعيته بأمان عبر العواصف التي ضربت الحياة الداخلية للكنيسة الروسية. في أوائل القرن العشرين اصدرت الحكومة مرسوماً وبدأت بمصادرة الكنائس وزرع التعاليم التحررية Modernist Teachings، فقام الأسقف باسيل بإعطاء التعليمات لكهنته بعدم ترك رعاياهم بل بإقامة الصلوات في الهواء الطلق كما كان يفعل هو نفسه مجتذباً الآلاف عن طريق الخدم الملهَمة التي كان يُقيمها. أدت هذه المقاومة الى توقيفه لأول مرة سنة 1923، فنُفي الى زيرناسك بصحبة خمسة إكليريكيين آخرين، كان من بينهم ميتروبوليت قازان كيرللس الذي صار لاحقاً قائداً لكنيسة السراديب (كنيسة السراديب هي كنيسة نشأت تحت الحكم الشيوعي في روسيا والصين وكونها رفضت الانصياع للدولة تعرّضَت لاضطهادات كثيرة وقدّمَت شهداء بالآلاف).
بعد أن انتهت مدة نفيه، عاد الأسقف باسيل الى كينيشما في أيار 1925. إلا أن شعبيته الكبيرة أثارت السلطلت، وفي خلال سنة، أُجبر على مغادرة المدينة، فعزل نفسه في الريف مُكرّساً كل وقته للصلاة. بعد ستة أشهر، عاد الى كينيشما ليستأنف نشاطه الرعائي الرسولي في تنشئة أولاده الروحيين وإعادة النشاط الى حياة الكنيسة. لكن لم يستغرق الأمر أكثر من أشهر حتى أُجبر مرة أخرى على المغادرة. كان ذلك نموذجاً مألوفاً وَسَم حياة عدّة كهنة وأساقفة يتميّزون بالصلابة: التوقيف، السجن والنفي يتخلّله مدّة من الحرية.
رغم رغبتهم الشديدة في ذلك، إلاّ أن السلطات لم تجد مبرّرات كافية للحكم على فلاديكا لمدة طويلة، فلم يكن يتعاطى بالشؤون السياسية بل كل تركيزه كان على الروحيات. إلاّ أنّ ذلك تغيّر سنة 1927، عندما صدر اعتراف الميتروبوليت سيرجيوس الذي أجاز بشكل أساسي للحكومة أن تتدخل في شؤون الكنيسة الداخلية. لقد فتح ذلك الاعتراف الباب واسعاً لاضطهاد الأساقفة والكهنة والعلمانيين بشكل واسع. أُوقف الاسقف باسيل سنة 1928 ونُفي لثلاث سنوات الى قرية منعزلة في مقاطعة سفيردلوفسك. لكن انفصاله التام عن الأمور والممتلكات العالمية أعطاه مرونة رائعة، فكيفما كانت أوضاعه، كان باستطاعة فلاديكا أن يكون هو الرابح. عاش في المنفى كما لو أنه ناسك في الصحراء مستفيداً من هذه العزلة ليغوص في الحياة الروحية. كان سيسعد لو بقي هناك، لكن لم يُسمح له بذلك. انتهت مدة نفيه، فعُيِّن في مدينة أوريل. بعد سنتين أجبرته المخابرات على المغادرة فعاد الى كينيشما.
كانت تلك المرة الأخيرة. في أواسط الثلاثينات شُنّت حملة اظطهاد عنيفة هدفها محو الأرثوذكسية من الوجود. كان من الصعب جداً على الأسقف باسيل أن يتّصل بأولاده الروحيين قبل توقيفه. أمضى حكمه لخمس سنوات في معتقل قرب ريبنسك حيث عمل السجناء في بناء قناة. لكن معذبيه لم يشفوا غليلهم من السيطرة على جسده إذ كانوا يريدون نفسه. استُدعي فلاديكا للاستجواب:
– “كيف تنظر الى الحكومة السوفياتية؟”
– “أعتبرها سلطة مدنية” أجاب الأسقف. “إني أعترف بها، لكن تدخلها في شؤون الكنيسة والفوضى التي أحدثتها لم يكن لهما مثيل في تاريخ العالم مما لا أُوافق عليه.”
طلب منه المستجوبون الانضمام إلى اعتراف الميتروبوليت سرجيوس. وعندما رفض فلاديكا “انقضّ عليه المحققون الجاحدون الحاقدون وبدؤوا بضربه مستعملين الطرف المعدنية لأحزمة عسكرية. لم يُغيّر ذلك من اعترافه الأرثوذكسي النقي بالمسيح. لم يرد أن يُفسد اعترافه بالمسيح بمحاولته إرضاء العالم”.
سنة 1942 كتب أسقف باروسلاف الى الاسقف باسيل سائلاً إياه أن يقبل يتولّي إحدى الأبرشيات. أيضاً، كان هذا يعني الموافقة على اعتراف الميتروبوليت سرجيوس. “أنا لا أعتبر سرجيوس أرثوذكسياً”، أجاب القديس. “وأطلب منك أن لا تعرض عليّ أية أبرشية مستقبلاً، إني طاعن في السن ومنهك بسبب المنافي”. أيضاً بعد ثلاثة أشهر تم توقيفه. ونُفي لخمسة سنين أخرى الى غابات مقاطعة كراسنويارسك في سيبيريا. هنا انتهت الدورة.
تدهورت صحة فلاديكا في ذلك الوقت. لقد أصبح في شلل نصفي وبحاجة الى أن يلقى العناية من أحدهم. جرت محاولة أخرى لتطويعه من أجل إعتراف الميتروبوليت سرجيوس عن طريق استغلال ضعفه الجسدي.
“أقِرْ بمجمع سرجيوس” قيل له، “وسوف نُحرِّرك عاجلاً. سنرسلك بالطائرة الى موسكو حيث ستلقى العناية الطبية مما سيًبعد الخطر عن حياتك”. إلاّ أن فلاديكا رفض. “إذن إبقى حيث أنت، لن نُطلق سراحك”. عبارات خالية من اللياقة كان من الممكن أن تكون مأخوذة من قصص الشهداء في الكنيسة الأولى.
كتب فلاديكا سنة 1945 مُعايدأ أحد أولاده الروحيين بعيد الفصح: “…يا بني لا تضطرب، لا يحدث شيء إلاّ بحسب مشيئة الله. لقد وصلتُ الى نهاية العمر، سبعون سنة. قليلاً بعد من السنين لا تشكّل لي أي فرق. شيء واحد أكيد وهو أنه لن يكون بمقدوري تحمل خمس سنوات إضافية تحت هذه الظروف… لقد حصلتُ على الدواء الأثمن يوم الخميس العظيم. أُقدّم الشكر للخالق على كلّ الأفراح والتعزيات. يكاد السعال يخنقني. لا أستطيع التنفس. أكون طريح الفراش معظم الوقت، رغم أن كثرة الراحة ليست جيّدة… وداعاً يا بني. لقد أنهكتني الكتابة. لا تكتئب. كن معافى. اتّكل كليّاً على الله. إحنِ رأسك وقل: “لتكن مشيئتك”. صَلِّ. لدي إيمان بصلاة ولد. إنّها تساعدني باستمرار. فتّش عن راحتك أو تعزيتك في الصلاة أتمنى لك الصحة، وحياة عديدة سعيدة. مع محبتي، الأسقف باسيل كينيشما.
حاشية: سلامي الى الأولاد مع أحرّ تمنياتي. أنحني أمامك سائلاً منك الغفران”.
توفي الأسقف بعد بضعة أشهر، في 29 تموز 1945. وتعيد له الكنيسة في نفس اليوم. أما في الكنائس التي حافظت على التقويم القديم فتعيد له في 11 آب.
أيها القديس الشهيد في رؤساء الكهنة باسيل تشفع لدى الله من أجلنا.
ملاحظة من الكاتب: إننا محظوظون هناك في الغرب ليكون لدينا، ليس فقط هذه السيرة الرائعة، بل أيضاً بقايا القديس حيث وضعت في مائدة كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في واشنطن D.C. حين كُرِّست في 10 أيلول 1988.