حقد الآريوسيين ومجمع أنطاكية

التآمر على أسقف أنطاكية: لم يتمكن المجمع المسكوني من استئصال بذور الشقاق فإنه عندما عاد بعض الأساقفة المجتمعين إلى أبرشياتهم وزال جو أكثرية الأعضاء شعروا بشيء من الحرية فعادوا إلى الكلام عن المساواة في الجوهر وأوّلوا نص الإيمان النيقاوي. وجرؤ ثيودوتوس أسقف اللاذقية على مثل هذه الأقاويل أكثر من غيره وعلم قسطنطين بذلك فكتب إلى ثيودوتوس في خريف 325 يبين له سوء العاقبة. ويحضه على الاستمساك بالإيمان الطاهر ليحظى بالمكافأة في الحياة الأبدية. وحرّر رئيس كنيسة أنطاكية أفستاثيوس الورع إلى أفسابيوس أسقف قيصرية فلسطين يؤنبه على التبديل بعقيدة نيقية. فغضب أفسابيوس وكتب إلى خليفة الرسولين يتهمه بالسلبنة، أي بالقول بما قال به سابيليوس الذي جحد بالثالوث الأقدس فقال بأن الله أقنوم واحد وذلك لتمسك أفستاثيوس بالمساواة في الجوهر.

وكان افسابيوس اسقف نيقوميذية مقبول الشفاعة في بلاط نيقوميذية. فإن صوزومينس المؤرخ يقول أن قسطندية أخت قسطنطين أوصت أخاها وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي كان قد أصبح معلم ذمتها وأن هذا الكاهن قدم افسابيوس إلى قسطنطين. وكانت هيلانة أن قسطنطين من بنات دريبانوم في بيثينية. وكانت بلدة دريبانوم قد أصبحت مثوى لوقيانوس الشهيد وكان قبره قد أصبح مزاراً فيها وكانت هيلانة شديدة العناية بهذا المزار. وكان أفسابيوس أسقف نيقوميذية أحد تلامذة هذا الشهيد وشاركه في التلمذة ثيويغينس أسقف نيقية. فلما أمر قسطنطين بإبعادهما إلى غالية لتمسكهما بآراء آريوس شفعت هيلانة لهما عند ابنها فقبل شفاعتها وأعادهما إلى مراكزهما في السنة 328.

وما أن عاد افسابيوس إلى أبرشية نيقوميذية وتسلّم مقاليد أمورها حتى استأنف نشاطه وخرج يسعى لتعليم مبادئه. وتحاشى الطعن المباشر في دستور نيقية ولم يتلفظ بشيء من عبارات آريوس ولكنه ذكَّر المؤمنين بسابيليوس وهرطقته وتخوف من الوقوع فيها وأشار بلطف زائد إلى وجه التشابه بين عقيدة نيقية والقول بالمساواة في الجوهر وبين قول سابيليوس بأن الله أقنوم واحد لا ثلاثة.

وكان افستاثيوس أسقف أنطاكية عالماً لاهوتياً كبيراً درس في أنطاكية فأصبح واحداً من مصابيحها النيرة. ثم صار أسقفاً لحلب فجاهد في سبيل الإيمان في إبان الاضطهاد العظيم. وجلس على كرسي أنطاكية في أوائل 325 فقاوم الآريوسية وكتب ضدها. وظهرت عظمة جهاده في المجمع النيقاوي فترأس جلساته. وأصبح في نظر الآريوسيين أول أعدائهم وأشدهم خطراً. فرأى افسابيوس أن يبدأ بتحطيم هذه الشخصية. فزار أنطاكية في سنة 330 بحجة رؤية كنيستها الجديدة المذهبة، ورافقه في الزيارة شريكه في الآريوسية والمنفى ثيوغينس أسقف نيقية. فرحب بهما أفستاثيوس وزار معهما جميع الكنائس والأماكن الأثرية في أنطاكية. ولم يدر بمكرهما فانتهزا فرصة وجودهما في أنطاكية للاجتماع بزعماء الآريوسية فيها وتدبير المكيدة على خليفة الرسولين. ثم غادرا أنطاكية إلى أورشليم واجتمعا بافسابيوس أسقف قيصرية وباتروفيلوس أسقف بيسان وآيتيوس أسقف اللد. ولا بد أنهم اتصلوا بثيودوتوس أسقف اللاذقية. وقر قرارهم على اجتماع أسقفي في أنطاكية للحط من قدر افستاثيوس وتنزيله من على الكرسي. وتوافدوا على أنطاكية واجتمعوا. فاتهم كيروس أسقف حلب رئيسه بالسبلنة واتهمه غيره بالفجور وكانوا قد تآمروا في ذلك مع امرأة كان قد فجر بها رجل يدعى افستاثيوس الحداد. وحل بهذه الامرأة مرض وبيل واشتدت وطأته عليها فكشفت سر المؤامرة ولكن بعد فوات الفرصة. ومما قاله هؤلاء المتآمرون عن هذا الحبر الجليل أنه انقبض عن هيلانة لدى مرورها بأنطاكية لأنها أكرمت لوقيانوس الشهيد. واتخذوا قراراً بخلعه ورفعوه إلى قسطنطين فنفاه إلى تريانوبوليس في طبقة القسوس والشمامسة. ثم أمر بنقله إلى فيلبي. وبقي فيها حتى انطلقت نفسه الزكية إلى الرب ورقد في سنة 337.

وتحلى افستاثيوس بالدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية فصنف كتاباً في قمع الآريوسية ودبج رسالات في تفسير الأيام الستة والمزامير والنفس ولم يبقَ من مصنفاته سوى رسالته في عرّافة عين دور وفيها يفند رأي اوريجانس ويدحض طريقته الرمزية. وأُعجب الآباء بتوقد خاطره وسلاسة انشائه. وجاء في الدرر النفيسة لغبطة البطريرط اغناطيوس افرام عن ابن كيفا أن أفستاثيوس وضع ليتورجية مطوّلة.

arArabic
انتقل إلى أعلى