القسطنطينية وروما بعيد الانشقاق العظيم

 الانشقاق العظيم
1054-1098

رُقاد ميخائيل الأول: وتوفي قسطنطين التاسع بعد صدور السيميومة بخمسة أشهر أي في الحادي عشر من كانون الأول سنة 1055. فنودي بالعقب الوحيد الباقي من الأسرة المقدونية بثيودورة ابنة قسطنطين الثامن الصغرى. وكانت قد مضت معظم حياتها في الدير فنشأت تقية فظة بقدر ما كانت أختها زوية متيمةً بالحب. ورأى البطريرك ميخائيل أن تتزوج فتشرك معها في الحكم من كان أهلاً لذلك ولا سيما وأنها قد ناهزت السبعين. ورأى الخصيان حولها غير ذلك فحكمت ثيودورة وحدها. وفي صيف السنة 1057 أشرفت الفسيلفسة على الموت فاتخذت ميخائيل استراتيوتيكوس خليفة لها وتبنته قبل وفاتها. ودام حكم ميخائيل السادس سنة وعشرة أيام. واشتد في أثنائه النزاع بين العسكريين والخصيان. وتفجر الخصام يوم عيد الفصح في الثلاثين من آذار سنة 1058.

وكانت مؤامرة وتدخل البطريرك ميخائيل فأرسل وفداً من المطارنة يشيرون على ميخائيل السادس بالتنازل. فسأل الفسيلفس المطارنة ماذا تعطونني بدل المملكة فقالوا ملكوت السماوات. فرمى شعار الملك والتجأ إلى الدير وتوفي بعد ذلك بقليل. فوصل إلى عرش روما الجديدة زعيم العسكريين اسحق كومنينوس.

وكافأ اسحق البطريرك فمنحه حق انتقاء ايكونوموس كنيسة الحكمة الإلهية وسكيفوفيلاكسها. وكان ميخائيل الأول قد طلب ذلك إلى ثيودورة وميخائيل فلم يفلح. وظن البطريرك أنه سيتمكن من إرشاد الفسيلفس الجديد وتوجيهه. ولكن اسحق استثقل هذا الإرشاد فنشأ شيء من الكره بين الاثنين ما لبث أن تحول إلى عداء. فهدد البطريرك الفسيلفس واحتذى الحذاء الأرجواني مدعياً أن الاحتذاء بالأرجواني حق من حقوق السدة البطريركية. وكان الإقدام على الاحتذاء بالأرجواني في عرف الروم آنئذ أول دليل على التطلع إلى السلطة العليا. وفي الثامن من تشرين الثاني سنة 1058 حين كان البطريرك متوجهاً ليخدم القداس في دير الملائكة ألقى الفسيلفس القبض عليه ونفاه مع أولاد أخيه إلى جزيرة ايمبروس. فهاج الشعب فاستحضر الفسيلفس البطريرك وجمع مجمعاً وطلب محاكمته لأنه عطف على راهبين كانا يتعاطيان الشعوذة ولأنه كان يقرأ أشعار الشعراء وقت الخدمة ولأنه أيضاً ثار الفسيلفس السابق. والتزم البطريرك بالصمت وقام في النهاية وسامح الفسيلفس والقضاة ودعا للشعب ولأعدائه وسقط ميتاً وهو يقول: “السلام لجميعكم” مشيراً بيده اليمنى إشارة البركة. فأمر الفسيلفس بدفنه بحفاوة فائقة واشترك بنفسه في تشييع الجثمان. ورقي الكرسي المسكوني بعده قسطنطين الثالث ليخوذي (1059-1063).

روما تدعو إلى الوئام: (1057-1061) وأدى إقصاء ميخائيل الأول عن العمل في حقل السياسة إلى تقريب ارجيروس والإصغاء إليه فَفُتِحت كنائس اللاتين في القسطنطينية بعد إغلاقها وأرسل وفد إلى ألمانيا ليفاوض هنريكوس الثالث في أمر التعاون في إيطاليا الجنوبية ووضع حد لمطامع النورمنديين فيها. وكتب البابا فيكتوريوس الثاني (1055-1057) إلى الفسيلسة ثيودورة بألطف العبارات وأرقها راجياً تخفيض الضرائب عن الحجاج الغربيين الساعين إلى أورشليم بالتوبة وانسحاق النفس. وما كاد البابا اسطفانوس التاسع (1057-1058) يعلم بخلع ميخائيل الأول حتى بادر يتعاون مع الروم في السياسة ويوفد إلى القسطنطينية ديسيديريوس ليعالج الوضع الكنسي. وقام هذا الوفد من روما قاصداً القسطنطينية. ولدى وصوله إلى باري علم بوفاة البابا (كانون الثاني 1058) فعاد إلى روما.

ونهج البابا نيقولاوس الثاني (1059-1061) نهجاً معادياً. فصالح النورمنديين في امالفيس سنة 1059 واعترف بسلطة زعيمهم غيسكار على ابولية وكلابرية والإمارات اللومباردية شرط أن يعترف هذا بدوره بسيادة الحبر الروماني على هذه المقاطعات جميعها. فأثار عمله هذا حنق الروم وأضرم غيظهم. فتعاون قسطنطين العاشر الفسيلفس مع الأمبراطورة الوصية الغربية فدفعا كاذولوس أسقف بارما للمطالبة بالسدة الرومانية. وخشي البابا الجديد الكسندروس الثاني (1061-1073) هذا التعاون بين البلاطين الشرقي والغربي فانتهز فرصة وصول الفسيلفس ميخائيل السابع إلى العرش (1071-1078) فأرسل وفداً إلى القسطنطينية في السنة 1072 برئاسة بطرس أسقف أناغني للتهنئة والتبريك ولمعالجة التباعد بين الكنيستين. وكان الرأي الغريغوري في سلطة أسقف روما قد بدأ يفعم الجو في روما فلم يرَ البطريرك المسكوني يوحنا الثامن (اكسيفيلينوس) مجالاً للتفاهم على هذا الأساس ورأى ميخائيل بسلوس كبير البلاط رأي البطريرك فما طل الاثنان وسوَّفا وأجّلا البحث في موضوع الاتحاد إلى أمد غير معين.

البابا غريغوريوس السابع: (1073-1085) وتوفي طغرل بل زعيم الأتراك السلاجقة في السنة 1062 فخلفه السلطان ألب أرسلان واستولى على آني الأرمنية في السنة 1064 وذبح ونفي. ثم قام إلى الرها فصدَّه عنها دوق أنطاكية في السنة 1065. وفي ربيع السنة 1067 هاجم ألب أرسلان الروم من الشرق والجنوب في آن واحد فدخل جيشه البونط وكيليكيا ووصلت طلائع جيشه إلى قيصرية كبادوكية فخربتها. واستولى رومانوس الرابع على عرش الروم (1068-1071) وقاد إلى الميدان كل رجل استطاع أن يجنده في أوربا وآسيا. وانتصر على السلاجقة في سوريا الشمالية عند منبج (1069) وحرر غلاطية. ثم عاد السلاجقة إلى الهجوم فقاوم رومانوس إلى الجبهة. ولدى وصوله إلى منزيكرت (ملاذكرد) على الفرات الأعلى وجد نفسه وجهاً لوجه أمام جيوش من السلاجقة. فكانت موقعة ملاذكرد الشهيرة في آب السنة 1071 وجرح رومانوس وسقط عن حصانه ووقع أسيراً.

وتولى ميخائي السابع عرش القسطنطينية (1071-1078) وترامى إليه أنّ النورمنديين يعدون العدة للتوسع في البلقان فكتب إلى غريغوريوس السابع بابا روما يطلب المعونة في ردع هؤلاء واعداً بالسعي لإعادة العلاقات بين الكنيستين إلى ما كانت عليه قبل الإنشقاق. وأرسل وفداً إلى روما للمفاوضة على هذا الأساس. فوافق البابا وأقنع غيسكار زرعيم النورمنديين بوجوب التعاون مع الروم وذهب إلى أبعد من هذا فأزوج هيلانة بنت غيسكار من قسطنطين ابن ميخائيل ووليّ عهده. وأعلن أن مستعد للقيام بنفسه إلى القسطنطينية على رأس خمسين ألفاً لصدّ الأتراك السلاجقة وجمع مجمع يحل جميع المشاكل المدنية. فخشي الروم حل هذه القضايا في جو عسكري وماطلوا وسوفوا طوال السنة 1074 ونشبت مشاكل في إيطاليا شغلت غريغرويوس أهمها مطامع غيسكار النورمندي نفسه.

وفي السنة 1076 شهر غريغرويوس رأيه في الباباوية والكنيسة بقرار رسمي عرف بالديكتاتوس Dictatus Papae. واستقل بهذا الرأي وانفرد به دون إخوته البطاركة الأربعة ودون عرضه على مجمع مسكوني فباعد بين الكنائس وانحرف عنها فزاد الشقاق اتساعاً. وتألف الديكتاتوس من سبعة وعشرين بنداً:

  1. إن الكنيسة الرومانية وحدها مقامة من الله.
  2. إن الحبر الروماني وحده يستحق لقب المسكوني.
  3. وهو وحده يستطيع عزل الأساقفة وحلهم.
  4. يتقدم نائبه سائر الأساقفة في المجمع ولو كان دونهم رتبة. وهو وحده يصدر أحكام العزل.
  5. يستطيع البابا عزل الغائبين.
  6. ولا تجوز السكنى تحت سقف واحد مع من يحرمه البابا.
  7. وهو وحده يسن شرائع جديدة مراعياً في ذلك الظروف. وهو وحده يضم الرعايا الجدد ويحول جماعة من الرهبان إلى رهبنة ويقسم الأبرشيات الغنية ويضم الأبرشيات الفقيرة.
  8. وهو وحده يلبس شارات الملك.
  9. وهو الرجل الوحيد الذي يقبل الأمراء رجله.
  10. وهو الوحيد الذي يجب ذكر اسمه في جميع الكنائس.
  11. واسمه فريد في العالم.
  12. وهو وحده يعزل الأباطرة.
  13. ويجوز له عند الضرورة أن ينقل أسقفاً من كرسي إلى آخر.
  14. ويجوز له عندما يشاء أن يشرطن أي اكليريكي من أية كنيسة.
  15. ومن يشرطنه البابا يحق له أن يدير شؤون كنيسة أخرى ولكن لا يجوز له أن يسام من أسقف آخر إلى رتبة أعلى.
  16. ولا يصبح مجمعاً من المجامع عاماً بدون أمره.
  17. ليس هناك أي نص قانوني خارج سلطته.
  18. حكمه لا يرفض. وهو وحده يقدر أن يرفض أحكام الجميع.
  19. لا يجوز لأحد أن يحاكمه.
  20. لا يجوز لأحد أن ينكر حكم الكرسي الرسولي.
  21. يحب رفع كل الاختلافات الهامة في كل كنيسة إليه.
  22. إن الكنيسة الرومانية لم تغلط أبداً. وهي بموجب شهادة الأسفار المقدسة لن تغلط البتة.
  23. إن الحبر الروماني متى كانت شرطونيته قانونية يصبح قديساً باستحقاقات القديس بطرس كما قال القديس اينوذيوس أسقف بافية وآباء آخرون وكما جاء في قرارات البابا سيماخوس السعيد الذكر.
  24. يستطيع الرعايا أن يشكوا ساداتهم بإذنه وأمره.
  25. يستطيع قطع الأساقفة والصفح عنهم بدون دعوة مجمع.
  26. من لا يوافق الكنيسة الرومانية لا يكون ابن الكنيسة الجامعة.
  27. يستطيع البابا أن يحرر رياعا الأشرار من يمين الولاء لهم.

وبينما كان السلاجقة يزدادون قوة وتقدماً في أراضي الروم كان كل قائد من قادة الروم العسكريين ينادي بنفسه فسيلفساً. وكان أهم هؤلاء القادة الطامعين نيقيفوروس بوتانياتس. وقبل هذا في صفوفه عدداً كبيراً من الأتراك السلاجقة. وكان ميخائيل السابع خوّاراً متردداً بعيداً عن الجيش لا يرغب في الحرب والقتال فتدخل الشعب في العاصمة لوضع حد لهذه الفوضى. واهتم رجال الدين للأمر نفسه فنادى اميليانوس بطريرك أنطاكية الذي كان آنئذ في العاصمة بنيقيفوروس فسيلفساً. ونزل ميخائيل السابع عن العرش ولبس ثوب الرهبنة وتوفي. وأكره نيقيفوروس الكنة النورمندية هيلانة على الإقامة في الدير (1078). فغضب لميخائيل السابع ولهيلانة كل من غيسكار النورمندي والبابا غريغوريوس اليسابع. وجغل غيسكار من أحد اليونانيين الموجودين في روما آنئذ ميخائيل سابعاً. ووافق غريغوريوس السابع على هذا الدجل والاحتيال وسوّغ لغيسكار الدفاع عن حقوق الفسيلفس الدجّال وحرم نيقيفوروس الثالث. وشغلت الروم مشاغل داخلية هامة فلم يعبأوا بهذا الحرم. ثم استقرت أمورهم وتولى الأريكة اليسكيوس كومنينوس (1081) فتسرع البابا وعاد فرشق اليكسيوس نفسه بحرم ثقيل وشاطر النورمنديين المسؤولية في هجوم على البلقان بدأ في السنة 1081. فغضب اليكسيوس لكرامته وكرامة الكنيسة وكان تقياً غيوراً فأمر بإقفال كنائس اللاتين مستثنياً كنائس حلفائه البنادقة وتعاون مع أمبراطور الغرب هنريكوس الرابع عدو غريغوريوس ولكنه لم يؤيد مرشح هنريكوس للكرسي الباباوي اقليمس الثالث. واستمرت المشادة بين القسطنطينية وروما حتى وفاة غريغوريوس السابع في السنة 1085. وتولى السدة الرومانية فيكتوريوس الثالث (1086-1087) فلم يخفّض من غُلواء غريغوريوس ولم ينتهِ عما كان فيه.

اوربانوس واليكسيوس: وفي السنة 1088 رقي كرسي روما الرسولي اوربانوس الثاني (1088-1099). وكان سديد الرأي حسن التدبير تقياً محباً غيوراً فلوى العنان وردَّ الجماح وواصل وأحسن الصلة. وكان اليكسيوس مهذباً مثقفاً متضلعاً من الفلسفة واللاهوت شديد التمسك “بالعبادة الحسنة الأرثوذكسية” ولكنه كان دمث الأخلاق سلساً يؤثر السياسة على العنف. وكان قد نجح في صد النورمنديين عن مطامعهم في البلقان وأنزل في الثوار الماناونيين والبقشناغ الهزيمة تلو الهزيمة. وكان البطريرك المسكوني نيقولاوس الثالث النحوي (1084-1111) عالماً كبيراً وراهباً باراً وديعاً تقياً. فأوفد اوربانوس لدى وصوله إلى السدة الرومانية الكردينال الشماس روجِه والآب نيقولاوس إلى القسطنطينية حاملين رسالة إلى الفسيلفس ملؤها المحبة والرجاء بأن يصار إلى فتح ما أُغلق من كنائس اللاتين والسماح لهؤلاء بالتقديس على الفطير. فرضي الفسيلفس وأصدر خريسوبولوناً دعا فيه اوربانوس إلى القسطنطينية للاشتراك في مجمع يبحث قضية الفطير ويحلها. ووافق البابا وأجاب بالقبول وبدأ يعد العدة للقيام إلى القسطنطينية لحل المشاكل الراهنة.

واشتدت معارضة اقليمس الثالث وتفاقم شرها فاضطر اوربانوس أن يبقى في إيطاليا ليرقب تطور الحوادث عن كثب. ولكنه أرسل وفداً ثانياً إلى القسطنطينية في السنة 1089 ليمثله في المجمع المقترح. ولدى وصول هذا الوفد أعلن رئيسه رفع الحرم عن اليكسيوس فقابل الفسيلفس هذه البادرة الطيبة بالطلب إلى البطريرك نيقولاوس الثالث ومجمعه الدائم أن يذكروا اسم اوربانوس في ذبتيخة كنيسة الحكمة الإلهية. فأمسك البطريرك مشيراً إلى بعض الاختلافات القانونية القائمة بين الكنيستين. ولكن اليكسيوس أوجب الرضوخ ولا سيما بعد أن تبين له أن محفوظات البطريركية كانت خالية من أي قرار رسمي يفصل الكنيستين الشقيقتين. فوافق البطريرك ومجمعه على اقتراح الفسيلفس وطلبوا إلى أوربانوس أن يحضر بنفسه جلسات المجمع المنتظر أو أن يرسل من ينوب عنه لهذه الغاية وأن يبين اعترافه بالإيمان حسب العادة.

وكتب نيقولاوس الثالث إلى اوربانوس الثاني كتاباً نفى فيه أن يكون قد منع اللاتين في القسطنطينية عن ممارسة طقوسهم بحرية وأكد أن هذا الخبر مجرد افتراء. ثم أشار بلطف ولباقة إلى تأخر اوربانوس عن إعلامه بانتخابه وعن إرسال الاعتراف بالإيمان. ودعا اوربانوس أخاً لا أباً. وأكد المساواة بين البطاركة وأوجب العمل بمقررات مجمع ترولي المسكوني.

وكان اوربانوس سهل الأخلاق سلس الطباع ظريفاً كيّساً لبقاً فتعاضى عن بعض ما جاء في كتاب نيقولاوس ولاسيما اعتباره أخاً لا أباً. ولم يرسل اعترافاً بالإيمان كي لا يثير قضية الفيليوكِه. ولم يذكر اسمه في ذيبتيخة الحكمة الإلهية. ولكن المياه عادت إلى مجاريها إلى ما كانت عليه قبل السنة 1054 وحل الوفاق والوئام محل التراشق والتخاصم.

arArabic
انتقل إلى أعلى