روما والقسطنطينية قبيل الانشقاق العظيم

الانشقاق العظيم
936 – 1054

نفوذ الألمان في روما: وعني أوثون الأول الملك الألماني (936-973) بشؤون دولته فأدار دفة الحكم بحذق ومهارة وأخضع رجال الإقطاع فيها وكبح جماح الصقالبة وصد هجمات المجر. وقام في السنة 962 على رأس جيش ألماني إلى إيطالية فدخل روما وأكره أسقفها يوحنا الثاني عشر على تتويجه امبراطوراً فأسس الأمبراطورية الرومانية المقدسة التي دامت حتى السنة 1806.

وأدى تدخل أوثون في شؤون روما إلى تطاحن في داخلها دام أربعين سنة بين عمال الألمان -الجرمان- وبين أسرة كرسنتيوس صديقة الروم ومن شد أزرها من الأشراف الرومان. وشغل الشرق الروم عن إيطاليا وشؤونها فتوطد نفوذ الألمان في روما وتسربت إليها آراؤهم في الإصلاح والعقيدة.

تدعيم سلطة البابا: وطالب المؤمنون في الغرب بإصلاح الكنيسة وعلا صوتهم في مقاطعة لورين فأوجبوا انضباط الاكليروس وترفعهم عن السيمونية وعن الزواج واستعانوا بالسلطات المدنية الألمانية فرحبت بطلبهم ورأت في إصلاح الاكليروس أداة فعالة لتوسيع سلطانها وفرض احترامها. فصممت هذه السلطات على الاحتفاظ بروما وتدعيم سلطة أسقفها للوصول إلى الانضباط المنشود. وطالب رهبان كلوني في فرنسا برفع مستوى الرهبان والرهبانية فلم يلقوا من السلطات المحلية إلا التثبيط والاحباط فلجأوا إلى أسقف روما ووضعوا مقدرات رهبانيتهم بين يديه. فأجمع المصلحون على تدعيم سلطة البابا والمطالبة بحقوقه وصلاحياته.

مشكلة الانبثاق: وكانت كنيسة روما قد قالت بانبثاق الروح القدس من الآب كما علّم الآباء الأطهار في نيقية والقسطنطينية.

{ويقول الأسقف كاليستوس (وير): “مع أن بعض البابوات وقعوا في الهرطقة، فإن كرسي رومية قد تميّز طيلة القرون الثمانية الأولى من تاريخ الكنيسة بنقاوة الإيمان. لقد تزعزعت بطريركيات أخرى نتيجة الخلافات العقائدية الكبرى، لكن رومية، معظم الأحيان، ظلت راسخة. وكان يشعر جميع الذين حشروا في حلبة الصراع ضد الهراطقة أنه بإمكانهم الرجوع إلى البابا. ومع أن كل أسقف أقيم من الله معلم للإيمان وليس فقط أسقف رومية، كان يلجأ هؤلاء إلى رومية بصورة خاصة لأن كرسي رومية كان في القرون الأولى من حياة الكنيسة قد حافظ بأمانة على الحقيقية في تعاليمه”…. (الشبكة)}

فلما سيطر الألمان على روما نقلوا إليها القول بالانبثاق من (الآب “والابن”) فأثروا بذلك مشكلة الفيليوكيه Filioque. هو لفظ لاتيني معناه “ومن الابن”. وتفصيل ذلك أن النزاع بين الاسبانيين الكاثوليكيين والقوط الغربيين الآريوسيين جعل الكاثوليكيين في أسبانية يصرون على القول بالانبثاق من الآب والابن وعلى إدخال ذلك في دستور الإيمان الأثناسيوسي الذي أُقر في اسبانية في السنة 633. فلما تقبلوا الدستور النيقاوي بعد ذلك بقليل استمسكوا بالعبارة “ومن الابن” وأضافوها إلى هذا الدستور. ويقول بعض العلماء أنهم أدخلوا هذه العبارة في مجمع توليدو الأول سنة 400 ولكنه قول ضعيف. ثم تسرب هذا القول من اسبانية إلى بلاط كارلوس الكبير فلقي في شخص هذا الزعيم مدافعاً مخلصاً عنه. من هنا في الأرجح قبوله في مجمع فرانكفورت سنة 794 وانتقاد البطريرك تراسيوس القسطنطيني لقوله “بواسطة الابن” per Filium. وحاول كارلوس إقناع روما بالقول “ومن الابن” ولكنه لم يفلح. وفي السنة 808 كتب توما الأول بطريرك أورشليم إلى لاون الثالث بابا روما يلفت نظره إلى المشادة التي نشأت بين رهبان القديس سابا والرهبان الافرنج على جبل الزيتون حول القول بالانبثاق من الآب والابن. فكتب لاون بدوره إلى كارلوس الكبير ممول رهبان الافرنج على جبل الزيتون يقترح نبذ العبارة “ومن الابن” لأن القول بها يشكل في حد ذاته خروجاً على الدستور الذي يقول به جمهور المؤمنين. وأمر لاون الثالث بنقش دستور الإيمان على لوحات الفضة لتعليقها في كنيسة القديس بطرس فإذا به يتفق كل الاتفاق ودستور نيقية-قسطنطينية ويخلو من العبارة “ومن الابن”. ثم شاع القول بالفيليوكه في القرن في القرن التاسع في جميع كنائس ألمانيا ولورين ومعظم كنائس فرنسا أما كنيسة باريس فإنها ثابرت على القول النيقاوي قرنين آخرين.

ونقل بعض الاكليريكيين الألمان القول بالفيليوكيه إلى روما فقبله البابا فورموسوس (891-896) وأمر به في بلغارية فلفت بذلك نظر فوتيوس العظيم وأدى إلى احتجاجه كما سبق وأسلفنا. وداء التدخل الألماني في روما في النصف الثاني من القرن العاشر فجرّ وراءه قولاً واضحاً بالفيليوكيه.

اتصال واحتكاك: واختلف المؤمنون في أمر الانبثاق وتعارضت آراؤهم ولكنهم ظلوا أبناء كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية ولم تتفرق وحدتهم ولم تنتقض عقدتهم ثم استولى الروم على جزيرة كريت في السنة 961 وعلى قبرص في السنة 965 وعادوا إلى أنطاكية في السنة 969 ودخلت فلسطين في حوزة العزيز المتساهل المتسامح ولم يطل عهد الحاكم فخلت مياه المتوسط الشرقي من قرصنة المسلمين وتسهلت سبل الاتصال بالشرق فتوافد التجار الإيطاليون إلى الجزر والسواحل وأقاموا فيها. وبسط الفسالسة نفوذهم على البلقان وعظم أمرهم فهاجم الصقالبة والبلغاريون وتفتحت أمام الحجاج طرق برية قليلة النفقة خالية من عراقيل الحدود فتدافقوا زرافات زرافات وزاروا القسطنطينية للتبرك بذخائرها والاستراحة فيها قبل متابعة السفر إلى الأراضي المقدسة. وأنشأ الفسالسة في هذا العصر حرسهم الإفرنجي. فازداد عدد الغربيين المقيمين في القسطنطينية ومرافئ الأمبراطورية وجزرها وكثر عدد المتجولين في أراضيها من الدانوب في أقصى الشمال حتى مداخل طرابلس وحمص ودمشق. ولم تخل إيطاليا نفسها من من تجار الروم ورهبانهم وعمالهم ولا سيما جنوبها. وأشهر الروم فيها في هذا العصر القديس نيولوس ويوحنا فيلاغاثوس.

البطريرك افستاسيوس والبابا يوحنا التاسع عشر: ورافق هذا التطور في العلاقات بين فرعي الكنيسة الجامعة اهتمام شديد في الحج والحجاج في الأوساط الرهبانية في الغرب ولا سيما رهبانية كلوني. وكان الاهتمام في توطيد سلطة أسقف روما من أبرز النقاط في برنامج هذه الرهبانية. وهبّ أفرادها للتبشير به والدعاية له في كل مكان وزمان فأقضوا بذلك مضجع البطريرك المسكوني ولا سيما في الأبرشيات الخمس الإيطالية الخاضعة له.

فبحث البطريرك المسكوني هذه القضية في الفسيلفس باسيليوس الثاني واتفق الكبيران على الكتابة إلى يوحنا التاسع عشر في هذا الموضوع. فعرض افستاثيوس في السنة 1024 حلاً على زميله الروماني قضى بالاعتراف بتقدم روما في الكرامة والاحترام وبعدم تدخلها في شؤون القسطنطينية الداخلية وسائر الأبرشيات الشرقية الداخلة في حوزة الأمبراطورية. والمقصود هنا بنوع خاص شؤون الأبرشيات الإيطالية الخمس. ولا يجوز القول في هذا العرض أكثر مما تقدم لأن النص اليوناني مفقود ولأنه لم يبقَ عنه سوى الترجمة اللاتينية كما رواها رادولف غلايير. فوافق يوحنا التاسع عشر. ولكن رئيس دير القديس بنينوس في ديجون اعترض باسم رهبانيته على (تمزيق سلطة) هامة الرسل وكتب بذلك كتاباً شديد اللهجة إلى يوحنا التاسع عشر. فتراجع هذا البابا عما اعترف به. فلم يُذكر اسمه في الذبتيخة القسطنطينية ولم يرد في سينوذيكون السنة 1025. ومن هنا قول المؤرخ الألماني المعاصر: “إنه في السنة 1028 خرجت الكنيسة الشرقية عن (طاعة) البابا”. وهو كلام مضلل. ينقصه شيء كثير من الضبط والتدقيق ويكذبه سير الحوادث بعد السنة 1024, وجل ما حدث أن الاكليريكيين الكبيرين عادا إلى ما كانا عليه من المقاطعة في الذبتيخة أما كنائس اللاتين فإنها ظلت مفتوحة في القسطنطينية وسواها من مدن الشرق وظل اللاتينيون أيضاً يتعبدون في كنائس الروم وكذلك تابع الدير اللاتيني أعماله في جبل آثوس. بيد أن ظروف الحال أصبحت قابلة الاشتعال سهلة الالتهاب. فجاءتها شرارة قوية من عالم السياسة.

أزمة سياسية في إيطاليا: وكان جنوب إيطاليا لا يزال في قبضة الروم. وكان هذا الجنوب يشمل امارتين لومبارديتين إمارة ساليرنون وإمارة كابوة وبنيفنتوم. وكان يدخل في هذا الجنوب أيضاً ثلاث مدن حرة عي غايته وامالفي ونابولي وولاية كالابرية اليونانية وولاية ابولية أو لانغوباردية. وكانت هذه يونانية في مدنها لومباردية لاتينية في ريفها. ولم تحاول كنيسة القسطنطينية التدخل في شؤون الكنائس الرومانية القائمة في الإمارتين وفي المدن الحرة. ولكنها لم ترضَ عن تطلع اللاتين في أولية إلى ما وراء الحدود إلى روما القريبة.

وفي السنة 1020 ثار ميلو Melo على الروم في أبولية واستعان بعدد من الفرسان النورمنديين المرتزقة. وقضى الروم على هذه الثورة المحلية ولكنهم تركوا النورمنديين يستقرون في أبولية ويستدعون إليها عدداً كبيراً من أصدقائهم وذويهم في شمال فرنسا. وفي السنة 1040 طمع النورمنديون في الحكم فأخذوا يدوخون جنوب إيطاليا بزعامة أسرة هوتفيل Hautevilles الشهيرة. وتدخلت ألمانيا في شؤون روما مرة أخرى في شخص أمبراطورها هنريكوس الثالث. فزار هذا الأمبراطور روما في السنة 1046 وخلع باباواتها الثلاثة دفعة واحدة وأجلس على سدتها اقليمس الثاني ثم دمامسوس. وفي السنة 1048 وبعد وفاة هذين الحبرين جاء بأسقف تول برونو اللوريني فأجلسه على العرش البطرسي باسم لاون التاسع (1049-1054). وشغلت هنريكوس مشاغل في ألمانيا فعاد إليها تاركاً أمور إيطاليا إلى لاون يديرها ويدبرها بحكمته.

روما تتحدى القسطنطينية: وزار الأمبراطور الألماني في أثناء وجوده في روما جنوب إيطاليا فقوى النورمنديين بأن اعترف بحقهم الشرعي في الأماكن التي كانوا قد سطوا عليها. وارتاح لاون بادئ ذي بدء إلى نشاط النورمنديين في جنوب إيطاليا لأن نشاطهم عزز سلطته الروحية وأفسح له المجال للصمود في وجه التوسع اليوناني ولا سيما في أبرشية اوترانتو التي كان قد أنشأها نيقيفوروس فوقاس في النصف الثاني من القرن العاشر. ولكنه لم يقدم على إلغاء الطقس البيزنطي. ثم اضطرب لاون عندما بدأ النورمنديون يدوخون المقاطعات اللومباردية ويقتربون من حدود روما. وكان هنريكوس لا يزال منهمكاً في أمور ألمانيا فتقرب لاون من الروم للقضاء على نفوذ النورمنديين ولكنه أراد أن يظل محتفظاً بما جناه من توسع النفوذ النورمندي فحاول الجمع بين نقيضين وأمسى تقربه من الروم استفزازاً لسلطاتهم الروحية فأخفق في ميدان السياسة ووقع في يد النورمنديين أسيراً (1053) ونفر زميله القسطنطيني فجرّ الكنيسة الجامعة إلى شقاق أليم.

موقف القسطنطينية: وكان قسطنطين التاسع مونوماخوس (1042-1055) فسيلفساً طائشاً خاملاً مستهتراً مسرفاً مبدداً إلى أن حل به فالج أقعده عن كل حركة. ولكنه كان صافي القلب بشوشاً بعيداً عن الحقد والتكبر بجذب القلوب بلطفه وخفة روحه. وكان رومانوس اسكليروس أخو خليلة هذا الفسيلفس يكره القائد الكبير جورج منياكيس. فاستدعى قسطنطين هذا القائد من إيطاليا وأبعده. فثار القائد ونادى به جنوده فسيلفساً. وشملت حركته جنوب إيطاليا فقاومه فيها ارجيروس ابن ميلو اللومباردي الكبير. وعند انتهاء أمر ميناكيس استدعى الفسيلفس هذا اللومباردي الصديق وشمله بعطفه وأولاه ثقته. وفي السنة 1051 عينه مجيستروساً ودوقاً على إيطاليا الجنوبية. فأثار بذلك سخط الأوساط المحافظة في القسطنطينية لأن ارجيروس كان لومبارديي العنصر لاتيني المذهب. وكان كيرولاريوس البطريرك في طليعة هؤلاء المحافظين الساخطين. ووافق ارجيروس المجيستروس لاون التاسع على سياسته في جنوب إيطاليا ودخل معه في حلف نجهل شروطه فزاد في وجس المحافظين في العاصمة وأقض مضجعهم.

البطريرك ميخائيل الأول: (1034-1058) وتحدر هذا البطريرك المسكوني كيرولاريوس من أسرة شريفة مثلت مراراً في مجلس الشيوخ. والتحق بسلك الإدارة المدنية وتدخل في السياسة. ولعله تزعم حركة الانقلاب في السنة 1040 التي استهدفت إنزال ميخائيل الرابع عن عرشه. ولعله طمع في هذا العرش آنئذ كما جاء في بعض المراجع الأولية. ويروى أيضاً أنه لدى إخفاقه في هذه الحركة طلب العزلة ثم قدم النذر عن إخلاص وتقوى ولبس الاسكيم. ولدى وصول قسطنطين التاسع إلى العرش عاد كيرولاريوس إلى الاهتمام بالبلاط وشؤونه فاستمال الفسيلفس وكسب ثقته وأصبح أشد الناس أثراً في نفسه. ثم عينه البطريرك اليكسيوس الاستودي بروتوسينكليوساً فأصبح هو البطريرك المنتظر. وتوفي البطريرك الكسيوس في العشرين من شهر شباط سنة 1043 فخلفه في السدة بعد شهر من الزمن كيرولاريوس باسم ميخائيل الأول.

وكان ميخائيل الأول إدارياً قديراً صارماً قاسياً ينقصه دهاء فوتيوس وتوقد ذهنه وكان عزيز الجانب لا يناله طالب ولا يطمع فيه طامع. ولم يكن ذاك العالم اللاهوتي المؤرخ الذي وجدته القسطنطينية في شخص فوتيوس. ولكنه شابه فوتيوس في اعتزازه باليونان وتعلقه بطقوسهم. وكان رفيع الأهواء بعيد الهمة فتبنى برنامج سلفه افستاثيوس وحاول قدر المستطاع تحقيقه فكان هو المقدم على بطاركة الشرق وزعيم الكنيسة الشرقية. فأوجب توحيد توحيد الطقوس والقوانين وتدخل في شؤون الكنائس الشرقية غير الأرثوذكسية محاولاً إنقاذها من الضلال وإرجاعها إلى حظيرة الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية وخص الكنيسة الأرمنية بعنايته. وكانت هذه الكنيسة انفصلت عن الكنيسة الجامعة بعد المجمع المسكوني الرابع -خلقيدونية- فقالت مع اليعاقبة بطبيعة واحدة وخالفت الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية فأكلت الدم وصامت السبت وبدأت الصوم في الأحد السبعيني الثالث قبل الصوم الكبير واستعملت الفطير في سر الافخارستيا. فبحث ميخائيل هذا الأمر مع الفسيلفس واستدعى كاثوليكوس الكنيسة الأرمنية آنئذ الكاثولكيوس بطرس إلى القسطنطينية للتفاهم والاتحاد. فجاء بطرس في السنة 1049 ولقي حفاوة كبيرة وإكراماً من السلطات الزمنية والروحية.

الكنائس اللاتينية في القسطنطينية: (1052) وبينما كان البطريرك المسكوني وحاشيته وأصدقاؤه وأعوانه بضطرمون بهذا الروح الوثاب وهذه الخلال الأرثوذكسية النقية كان بريد إيطاليا يحمل إلى العاصمة الشرقية بين آونة وأخرى أنباء التوسع اللاتيني في الأبرشيات الإيطالية الأرثوذكسية وضغط النورمنديين على الكنائس الأرثوذكسية التي كانت قد دخلت في حوزتهم. ومما زاد في الطين بلة أن أرجيروس ممثل الروم في إيطاليا كان يجادل البطريرك المسكوني في أمر الفطير ويدافع عن وجهة نظر اللاتين. فلما قاربت السنة 1052 نهايتها أوجب البطريرك المسكوني على جميع الكنائس اللاتينية في القسطنطينية ممارسة الأسرار والطقوس وبموجب التقليد اليوناني الأرثوذكسي. فامتنعت هذه الكنائس فأمر البطريرك بإغلاقها. وليس من العلم أن نقول مع بعض المؤرخين أن نيقيفوروس أحد رهبان البطريركية المسكونية أخذ القربان المحفوظ في كنيسة لاتينية ورمى به إلى الأرض وداسه زاعماً أنه غير مقدس. فهو قول ينفرد به هومبروتو وينقصه الشيء الكثير من العدالة والضبط.

رسالة لاون اخريدة: في ربيع السنة 1053 كتب لاون متروبوليت أخريدة ورئيس أساقفة بلغارية إلى السينكلوس يوحنا أسقف تراني في جنوب إيطاليا ونائب البطريرك المسكوني فيها يوجب تجنب البدع الغربية كاستعمال الفطير وصوم السبت وأكل الدم المخنوق وغير ذلك ويوضح وجوه الخطأ فيها. ثم يرجو إطلاع أساقفة الأفرنج على مضمون رسالته ويود لو أن البابا الجزيل الاحترام يحيط علماً بها أيضاً. وجاءت لهجة لاون قاسية عنيفة كقوله: “من يصوم السبت ويقدس على الفطير ليس يهودياً ولا وثنياً ولا مسيحياً وإنما هو شبيه بجلد النمر المرقط” فأثارت الكره والحقد والشقاق.

ووصلت رسالة لاون في أتعس الأوقات. فالنورمنديون كانوا قد فضوا على مقاومة ارجيروس في شباط السنة 1053 وكانوا قد أسروا البابا لاون التاسع في حزيران السنة نفسها وأجبروه على الإقامة في بنيفنتوم. وشاء سكرتير هذا البابا هومبرتو مورموتييه Humbert de Mourmoutiers كاردينال سيلفة كانديدة Silva Candida أن يتصل بسيده فأذن له النورمنديون بذلك. فرأى أن يذهب أولاً إلى أبولية ليتصل بارجيروس فمر بمدينة تراني واتصل بأسقفها. فأطلعه هذا على الرسالة التي وجهها إليه لاون أخريدة. فقرأها ونقلها إلى اللاتينية وتوجه إلى بنيفنتوم فأطلع سيده عليها. ويرى رجال الاختصاص أن هومبرتو أساء الترجمة وأنه كان يكره اليونانيين وكنيستهم فأهمل ودسَّ فجاءت ترجمته أشد عنفاً وأسوأ أثراً من الأصل اليوناني. ومن دسائسه أنه أضاف اسم البطريرك المسكوني إلى الرسالة فجعلها تصدر عنه وعن رئيس أساقفة بلغاريا. ومن هنا قول البطريرك المسكوني إلى بطريرك أنطاكية أنه لم يخاطب البابا ولم يكتب إلى أي أسقف في الغرب في موضوع الفطير وأن اللاتين “فضوليون قليلو التبصر يحبون الكذب”. وكان لاون التاسع لايزال يجهل اليونانية فاعتمد ترجمة هومبرتو واستشاط غيظاً وأمر بالرد عليها.

رد لاون التاسع: وأمر البابا بالرد على رسالة لاون أخريدة برسالتين توجه إحداهما إلى “الأسقفين” ميخائيل القسطنطينية ولاون أخريدة وتترك الثانية بدون عنوان وترد التهم الموجهة إلى الكنيسة اللاتينية.

وأعد هومبرتو هاتين الرسالتين فاستهل الأولى بالرغبة في السلام ولكنه ملأها بعبارات الصلف والترفع والاستمساك بالرئاسة. وهدد بامتيازات روما واعتبر “الأسقفين مخيائيل ولاون” أحمقين لأنهما تجاسرا فحكما على السدة الرسولية التي لا يستطيع أحد من المئتين أن يحاكمها. ولكي يؤيد هذه السلطة ذكر منحة قسطنطين إلى سيليفستروس ورأى فيها أمراً إليهاً مصدقاً من المجمع المسكوني الأول. ونصح إلى هذين “الأسقفين” أن يندم كل منهما على ما فعل وأن يرجع عن الطريق التي مشى فيها لئلا يصبح في الآخرة من جملة المسحوبين بذنب التنين الذي جرّ ثلث كواكب السماء. وضم هومبرتو إلى هذه الرسالة نسخة منحة قسطنطين “لكي لا يرتاب أحد في أن سيادة روما على الأرض لم تؤسس على الخرافات والخزعبلات وإنما صدرت عن قسطنطين نفسه الذي رأى أن خضوع صاحب السلطات السماوية للسلطات الأرضية غير لائق”!.

والواقع الذي لا مفرّ من الاعتراف به هو أن منحة قسطنطين هذه التي احتج هومبرتو ولاون بها هي وثيقة مزورة صنفت في القرن الثامن لتدعيم سلطة روما. وهو أمر يجمع عليه رجال الاختصاص من كاثوليكيين غربيين وبروتستانتيين وأرثوذكسيين.

توسط السنكلوس: ولمس الستراتيجوس ارجيروس درجة الإساءة التي شعر بها البابا لاون لدى إطلاعه على رسالة لاون أخريدة فاتصل بالسنكلوس يوحنا أسقف تراني وبحث تطورات الموقف معه فرأى الاثنان معاً أن المصلحتين السياسة والدينية تقضيان بتلافي الأمر وتدارك الخطر قبل وقوعه فقام يوحنا إلى القسطنطينية وأكد للبطريرك المسكوني أن البابا رجل نجيب فاضل عاقل وأن التعاون معه ضروري لمصلحة الروم في إيطاليا. وكان البطريرك شديد الثقة بالسنكلوس لا يشك في ولائه فكتب إلى زميله الروماني كتاباً رقيقاً أوضح فيه رغبته في الوئام والاتفاق ورجاه أن يذكر اسمه في ذبتخية روما مقابل ذكر البابا في ذبتيخة القسطنطينية. ولكنه حيا زميله الروماني أخاً لا أباً ووقع بصفته بطريركاً مسكونياً. وكتب الفسيلفس أيضاً كلاماً لطيفاً دعا به الحبر الروماني إلى التعاون المخلص في الحقل السياسي. وقد ضاع نص هاتين الرسالتين ولم يبقَ منهما سوى ما جاء عنهما في رد البابا وما أشار إليه البطريرك المسكوني في رسائله إلى بطرس الثالث بطريرك أنطاكية. وعاد هومبرتو فيما يظهر إلى الدس والإفساد فإنه جعل البطريرك المسكوني يقول بأنه يقابل ذكر اسمه في ذبتيخة روما بذكر اسم البابا في جميع كنائس العالم in toto orbe terrarum. ولعل البطريرك المسكوني استعمل اللفظ اليوناني “المسكوني” بمعناه البيزنطي أي في جميع كنائس الأمبراطورية فهال البابا هذا الكلام بلفظه اللاتيني وأضرم غيظه. وكان قد أضعفه المرض فوكل أمر الرد إلى هومبرتو وليته لم يفعل!..

arArabic
انتقل إلى أعلى