إشارة الصليب

إشارة الصليب حركة استعملها المسيحيون منذ القديم، وهي تشكّل العلامة الخارجية لجميع أسرار الكنيسة المقدّسة، من دون استثناء.

أول شهادة مكتوبة عن رسم إشارة الصليب وصلتنا هي للعلاّمة الإفريقي ترتليانوس (155-225) الذي قال: “في جميع أعمالنا نحن المسيحيّين، حين ندخل ونخرج، حين نلبس الثياب…، أو نجلس الى المائدة، أو نستلقي على السرير…، نرسم إشارة الصليب على جباهنا”. ويتابع قوله مؤكداً بأن هذه العادة “لم تأمر بها الكتب المقدسة، لكن التقليد يعلّمها، والعادة تثبّتها، والإيمان يحفظها”. القديس باسيليوس الكبير (+379) كرّر الشيء ذاته، إذ تكلّم عن بعض “العقائد والتعاليم المحفوظة في الكنيسة” التي لم تُذكر في الكتاب المقدّس وإنّما “تقبلناها في سرّ مسلَّماً لنا من تقليد الرسل”، فوَضْعُ إشارة الصليب بأهمية “الإتجاه في الصلاة نحو المشارق”، و”كلمات الاستدعاء في إظهار خبز الشكر وكأس البركة”، والتغطيس الثلاثي الذي يجري في المعمودية…(أنظر كتابه: في الروح القدس، 27/66).

تتضمن إشارة الصليب العقيدتين الأساسيتين بالنسبة الى لاهوت الكنيسة الأرثوذكسية وجوهر إيمانها، أعني عقيدتي الثالوث القدوس والتجسّد الإلهي، وهي تُرسم على الشكل التالي: يضمّ المسيحي الأرثوذكسي أصابع يده اليمنى الثلاث (الإبهام والسبابة والوسطى) إحداها إلى الأخرى، ويضمّ الإصبعين الأخيرتين (الخِنصَر والبِنصَر) ملصقتين براحة اليد، وثم يرفع يده ويضعها أوّلا على جبينه، ثم ينقلها الى البطن فالكتفين من اليمين الى الشمال، من دون اي عودة الى البطن أو تقبيل لليد. ترمز الأصابع الثلاث المضمومة الى الاعتراف بالإله الواحد المثلث الأقانيم، وأما الخِنصَر والبِنصَر المضمومَين الى راحة اليد فيرمزان إلى تجسّد ابن الله الذي افتدى العالم بموته وقيامته ورفعه الى الألوهة، وبخاصة يرمزان الى اتحاد الطبيعتين الإلهية والإنسانية في المسيح.

يصلّب المسيحيون بمناسبات عدّة، كما أوحينا سابقا وأوصى الآباء عموما، ونلاحظ تاليا أنهم عند ذكر الثالوث القدّوس، أو أي لفظ يتعلّق معناه بالصلب أو السجود أو القيامة أو المجد… يرسمون إشارة الصليب يرافقها، في بعض الأحيان، إحناء للرأس، أو سجدة كبيرة أو صغيرة تسمّى “مطانية” (وهي لفظ يوناني يراد به التوبة)، إذ تُلامِسُ أصابعُهم الأرضَ ليدلّوا بذلك أنهم منها، ويطلبون الرحمة والخلاص في ما يؤكدون أنهم خاضعون لله في كلّ شيء.

العلاّمة ترتليانوس أوحى بهذا الترابط بقوله إن المسيحيين يذكرون الثالوث القدوس أثناء رسم الصليب “لأن الإيمان يُختم باسم الآب والابن والروح القدس”. وهذا يعيدنا إلى كتب العهد الجديد، حيث يصوّر الرسول بطرس، في رسالته الأولى، المسيحَ الذي افتدى العالم بدمه الكريم بأنه حملٌ ذبيحٌ “معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم” ( 1 : 19 و 20)، مما يعني أن الله المثلّث الأقانيم قد رأى، في أزليّته، أن ابن الله الوحيد سوف يأتي الى العالم بشراً ليتمم “تدبير الآب” بموته على الصليب من أجل خلاص الذين أخطأوا وابتعدوا عن محبّته. ولذلك نرسم إشارة الصليب في كلّ مرّة يُذكَر الله خصوصاً على شكل ثالوث. ويقترن رسم الإشارة، تالياً، بذكر ألفاظ مثل: “المجد” وغيرها…، ونعلم من خلال العهد الجديد ارتباط صلب المسيح بمجده، فالعبارتان (الصليب والمجد) مترادفتان، خصوصاً في كتابات يوحنا الإنجيلي، فإذا قال يوحنا مثلا: “الآن تمجَّد ابنُ الإنسان وتمجَّدَ اللهُ فيه. إن كان اللّه قد تَمَجَّدَ فيه، فإن الله سيمجده في ذاته، ويمجده سريعا” ( 13 : 31 و32)، فهو، بلا شك، يعني أن مجد المسيح الذي كان له عند الآب قبل العالم سيسطع بكامل بهائه إذا ما عُلِّق على الصليب (راجع: يوحنا 17: 5).

لهذه الإشارة قوة حياة تنبع من علاقتها بشخص المصلوب، ولذلك يجب أن نرسمها بفهم، بمعنى أن يرافق رسمَها إيمانٌ مطلق بما ترمز إليه أو ما يستدعيها “أي إيمان بكل عقائد كنيستنا الخلاصية، التي نعلنها برسم إشارة الصليب، إضافة إلى رجاء مطلق بمحبة الله غير الموصوفة ورحمته، وعزم لا يتزعزع على أن نصلب ذواتنا الخاطئة وأهواءنا، لكي يسعنا أن نقبل نعمة الله، ونحيا ضميريا حياة التجدد والتحوّل الداخليين”.

تعلّم الكنيسة الأرثوذكسية أن الإنسان كيان واحد، ولذا تطلب منه، في علاقته باللّه، أن يعمل هذا الكيان الواحد، أن يصلي بفمه وقلبه وذهنه، وأن يرسم إشارة الصليب على وجهه وأن يقف وينحني ويركع أمام الله ليرسم بالحقيقة اتصال قلبه ورغبته في الاتحاد به.

فلنرسم إشارة الصليب علامة حبنا للّه المثلث الأقانيم الذي أَحبَّنا أولا بابنه يسوع، ولنقلْ بها، رجاءنا بصدق مواعيده.

أقوال آبائية في الصليب:

للقديس أفرام السوري:

لقد نَصَبوا صليبه عياناً على تلة، ثم نزلوا فجلسوا عند أقدامه. فبهذا الرمز صوَّروه جالساً على عرشه بينما هم موطئٌ لقدميه، الجلجلة مرآة لكنيسته التي بناها على ذروة الحق. واليوم واضحٌ انه هو الذي ثبتَ البيعة على الجلجلة… لقد صُلبَ المسيح، يا للسر! بين لصين: واحد منهما كان يجدف عليه والآخر كان يعترف به. هوذا الشر قد تجلى: فشعب اليهود يهزأُون بالمسيح، واليوم سائر الشعوب يعترفون به. في الصمت سَخِرَ المسيح من اللص الكافر أما اللص المؤمن فأثنى عليه المسيح وجميع تلاميذه يُعظِّمونه. طوباك ايها المكان الذي تأهلتَ لأن يسقُط فيك عرق الابن. إن الابن بارك الأرض بعرقه ليبطل عرق آدم الذي حلّ في الأرض. طوبى للأرض التي طيّبها بعرقه والتي كانت مريضة فشفاها لأنه نضح عرقاً عليها. مَن رأى قط مريضاً يتعافى بعرق ليس بعرقه!

للقديس يوحنا الذهبي الفم:

اصنع هذه العلامة عندما تأكل وعندما تشرب وعندما تجلس، عند نومك وعند نهوضك، عندما تتكلّم وعندما تتنزه، وبوجيز العبارة ارسم إشارة الصليب عند كل عمل، لأن المسيح الذي صُلب هنا على هذه الارض هو في السماوات0 فإنه لو كان صُلِبَ وقُبِر واستمر في القبر لكنا نخجل منه، ولكن الواقع أن الذي صُلِبَ على الجلجلة قد صعد إلى السماوات.

بتصرف عن رسالة مطرانية حلب ونشرة رعيتي

arArabic
انتقل إلى أعلى