الكنيسة الأرثوذكسية شعب الله

لعبارة “شعب الله” مدلول خاصّ في تعليم الكنيسة الارثوذكسية وسلوكها. وذلك انها تعتبر أن جميع الذين آمنوا بالرب يسوع ونالوا المعمودية، هم جماعته، شعبه. وفي حين لا تفرّق الارثوذكسية، في هذا التحديد، بين الإكليروس (الكهنة) والعلمانيّين (فجميعهم أعضاء في شعب الله الواحد)، نراها تميّز بين الكهنوت الملوكي الذي هو خاصيّة الجماعة كلها، وبين الكهنوت الأسراري الذي هو موهبة خاصة لا ينالها، بالضرورة، جميع المؤمنين، وإنما بعض أعضاء هذه “الذريّة المقدسة”.

هذا المفهوم امتاز به العهد الجديد الذي جعل مبدأ الانتماء الى الله وكنيسته يتجاوز المبدأ العرقيّ الذي اختير بموجبه الشعب العبري يقول بولس الرسول: “فإنكم جميعا، وقد اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح. فليس هناك يهودي ولا يوناني، وليس هناك عبد وحرّ، وليس هناك ذكر وأنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع” (غلاطية 3: 27-28)؛ ويقول في رسالته الى كنيسة رومية: “فإني لا أريد، ايها الإخوة، أن تجهلوا هذا السرّ… إن قساوة القلب التي أصابت قسماً من اسرائيل ستبقى الى أن يدخل الوثنيّون بكاملهم، وهكذا ينال الخلاص اسرائيل (اي الكنيسة) بأجمعه… فلا رجعة في هبات الله ودعوته” (11: 25-29).

في المسيح يسوع بات الجميع “أبناء الله، وأعطي الكل أن يكونوا فاعلين وخدّاماً في الجماعة. ففي الكنيسة، ليس مَنْ يملك نفسه، وذلك أن الكل “للمسيح، والمسيح لله” (1 كورنثوس 3: 23)، وليس تاليا مِنْ متفرج يشوّه الموهبة التي وزّعها الروح على الكلّ، وهو خروج على الجماعة التي تلتقي السيد بالطاعة كلما ناداها.

شعب الله، شعب مواهبي (1 كورنثوس 12 :7، 23-27؛ أفسس 11-12)، وروح الله فيه يوزّع على الكل ما يفيد الكل. وتنوّع المواهب لا يقسم عطيّة الروح الواحد ولا يجزئ الكنيسة. وذلك أن وحدتها (الكنيسة) الحقيقية تأتي من التسليم الكامل للروح الواحد الذي يسكن فيها. وهذه الموهبة الموزّعة هي التي تجعل كل واحد في الكنيسة قيمة بحد نفسه، وتاليا تجعله يعي ارتباطه برأس الجسد اي المسيح، وتالياً بالأخ الآخر أيا كانت موهبته. اذ لا أحد يمكنه أن يقول للآخر “لا حاجة لي اليك”. وهذا يعني أن ليس من موهبة، او موهبتين، يمكنها أن تحقق الكنيسة، وإنما جماعية المواهب التي يغدقها الروح الإلهي على الجماعة. وتاليا أن كل موهبة أعطي من نالها ملء النعمة (يوحنا 1: 16). فليس من أحد، في الكنيسة، بلا موهبة، وإنما هناك من يفعّل موهبته وهناك من يحدّها من دون أن تخبو فيه.

ولا يخفى على مُطّلع أن مكانة العوام (او ما يسمّى اليوم بالعلمانيّين)، في اللاهوت الارثوذكسي، ترجع، اولا وأساسا، الى مركزهم في العبادة. فإنه لا يمكن أن تقام أبداً خدمة القداس الإلهي (او اي من الأسرار المقدسة الأخرى) في غيابهم. وهذا ما نلاحظه في الترتيب الليتورجي منذ أقدم العصور. فالقدّيس يوستينوس الشهيد (+ 165) يصف اجتماع المسيحيّين في القداس الإلهي، بدقة، ويلفت الى دور شعب الله كله، بقوله: “في اليوم المدعوّ يوم الشمس (الأحد)، يُقام اجتماع في مكان واحد لجميع الساكنين في المدن والأرياف. وتُقرأ ما اتّسع الوقت مذكّرات الرسل وكتب الأنبياء. وعندما ينتهي القارئ يلقي الإمام عظة ويحثّ على السير في ضوء تلك التعاليم الحسنة. ثم نقف جميعنا، ونرفع الصلوات، ومتى ختمنا صلاتنا، كما أسلفنا، يُقدَّم خبز وخمر وماء، فيصلّي الإمام ثم يشكر، ما استطاع، ويجيب الشعب قائلا: آمين” (الدفاع الاول:  67، 3-7). وهذا المركز ظاهر منذ القديم، بخاصة في انتخاب الإكليريكيّين وفي إدارة الكنائس (حيث العلمانيّون يقومون بدور هامّ)، وآثاره باقية الى اليوم في عادة تعبير الشعب عن رأيه في رسامة الأساقفة والكهنة والشمامسة (حيث يطلب الأسقف خادم السرّ من جميع المؤمنين أن يقولوا ثلاث مرّات: “مستحق”)، للدلالة على مشاركتهم في هذا الاختيار ورضاهم عن الأخ المنتخَب.

شعب الله هو “حافظ الارثوذكسية”، هذا ما أكده بطاركة الشرق الارثوذكسيّين، في العام 1848 . وهذا ما يدلّنا على أحد أهم ميزات الكنيسة الارثوذكسية، وهو أن أحداً لا يمكنه، وحده، أن يختزل حقيقة الله في التاريخ والمدى، إنما تنبسط الحقيقة في جماعة الطاهرين ويحفظها الروح فيهم وينقلها من جيل الى جيل. وهذا، في مفهوم الارثوذكسية، هو معنى “الخلافة الرسوليّة”. يقول المطران جورج (خضر) في مقالة بعنوان “بطرس”، نشرت في “رعيتي” في 29/7/1997: “عندما أراد اوريجانيس المعلّم الاسكندري العظيم أن يعرف عما “يبقى” من بطرس قال إن كل أسقف خليفة له وإن كل مؤمن خليفة له، بمعنى أن كلّ من كان له إيمان بطرس هو أيقونة بطرس كائناً ما كان مقامه. الكنيسة هي في استمرار مع نفسها. هناك كراسٍ للتلاميذ الاثني عشر، والأسقف ليس خليفة لمن سبقه ولكنه جالس على الكرسي الواحد. إن الاستمرارية هي استمرارية الإيمان واستقامة الرأي، ولكنها ليست خلافة تاريخية. هذه لا يمكن إثباتها في كل أبرشية من الأبرشيات. البقاء بقاء الجماعة الارثوذكسية ومواصلتها”.

شعب الله هم جماعة المجتمعين بالطاعة والحب والمتقوّين بالملازمة والزُملة. هذا هو سرّ الكنيسة وعنوان وحدتها واستمراريّة استقامتها.

عن نشرة رعيتي 2000/27

arArabic
انتقل إلى أعلى