Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

ما هي الطريقة التطبيقية أو التكنيكية (إذا جاز القول) في مطالعة الكتاب؟ إننا بهذا السؤال نقترب من اتصالنا العملي بالكتاب أكثر من ذي قبل:

أولاً: المبدأ الأول هو محاولة معرفة الموضوعات أو الخطوط الكبرى في الكتاب (Themes)

إن القراءة مفيدة دائماً، ولكن ينبغي أن نتوغل في الكتاب لنبلغ إلى الروح وراء الحرف، إلى الروح القدس الذي ألهم كاتب السفر. لقد رأينا أن في الكتاب سر تدبير الله الذي هو المسيح، وأن كل شيء فيه ينتهي إلى المسيح عبر سياحة كبرى في التاريخ والزمن.

 فعلى هذه الطريقة المؤدية إلى المسيح يضع الكتاب أنصاباً (Jalons) هي موضوعات الكتاب أو خطوطه الكبيرة. في كل سفر، وفي كل إصحاح، وفي أعداد كبيرة، يظهر لنا الكتاب خطوطاً وتيارات يجب أن نتبينها ونفهمها لندرك المعنى الديناميكي لحوادث الكتاب. إن قصة حلم يعقوب، مثلاً، التي أشرنا إليها أعلاه، قصة ظريفة بحد ذاتها، ولكنها لا تقف عند حد ذاتها، بل ترسم الميلاد والتجسد، إذ أن كل شيء مرتب من الله. ففي حلم يعقوب، إذاً، نتبين فكرة أو خط التجسد في الكتاب ويتسع فهمنا للحادث ويعمق. وهكذا فإن الكتاب كله تتخلله تيارات، كالبحيرات التي تجري فيها تيارات عميقة، وأنهار أحياناً، لا تُرى من فوق سطح الماء. فعلينا إذاً أن نعتاد النظر إلى تيارات الكتاب عند قراءته، بل أن نلتمس فيه التيارات. تلك التي توافقنا في ذلك الوقت حسب وضعنا النفسي. وهكذا يصبح الكتاب كتاباً شخصياً. بهذا المعنى يوجد “كتب” مقدسة بعدد القراء، لأن كل قارئ يشاهد في المرآة الوحيدة التي هي كلمة الله، صورة حياته هو ومصيره وطريقه نحو الله. فالشيخ الروحاني، مثلاً، يقرأ الكتاب على ضوء الروح عينه الذي في الكتاب، فيرى فيه ما لا يراه غيره. والمتوحّد الذي يصلي صلاة اسم يسوع في سلام (1) يكتشف حقائق تتعلق بحياة الصلاة. إنه يرى ما يراه غيره من الفئة نفسها. ففي الآية الرابعة من المزمور 38 مثلاً: استعر قلبي في داخلي”، يرى نار الروح القدس التي تلهب ولا تحرق كالعليقة غير المحترقة على جبل سيناء، وهي المكان الذي أعلن فيه الله “اسمه” لأول مرة: صلاة اسم يسوع. (ونلاحظ هنا أن لا بد من خبرة سابقة لفهم هذه الآية). إذاً هناك تيارات كبرى في الكتاب، وهناك تيارات مطابقة لوضعنا واختباراتنا. إن القديس يوحنا كاسيان يصف طرية قراءة الآباء وفهمهم للكتاب المقدس (2). إنهم يتغذون من المزامير لدرجة أنهم يتلونها كأنهم هم مؤلفوها، كأنها صلاة شخصية أو كأنها وُضعت خصيصاً من أجلهم “والآن تمت فينا هذه الأقوال”. إن الروحاني يجسد الحقيقة. القلب والمخاخ يتشربانها. الروحانيون لا يفهمون بالعقل بل بالخبرة الحياتية، ويحوزون المعنى قبل الحرف، فتصبح الأقوال الإلهية ذكريات لمعاركهم وانتصاراتهم أو ضعفاتهم أو لاضطراماتهم وتعزياتهم. هذه الأقوال بمثابة مرآة صافية يلمسون حقيقتها في فهم عميق. إنها غير موجهة لذاكرتهم، بل يلدونها من أعماق قلوبهم. فيصير الكتاب مثل قصة حياتهم. على هذا الشرط تدخل الكلمة من الأذن إلى القلب وإلا نبقى “كالأفعى الصماء التي تسدّ أذنيها، التي لا تصغي إلى صوت الحواة، ولا تأبه لرقية يعدها راقٍ حكيم” على حد قول المزمور57: 7، “إن سمعتم اليوم صوته فلا تقسوا قلوبكم…” (مز8:94).

ثانياً: عدم التوقف على التفاصيل

في الكتاب تفاصيل ظريفة أو غريبة تلفت النظر وتستوقفنا كثيراً نحن المبتدئين، فنتساءل: لماذا هذا؟ ولماذا ذاك؟ هذه تجربة لأنها تمنعنا عن التوغل عميقاً في روح الكتاب. إنها ناتجة عن عدم انفتاحنا لمعنى الكتاب العميق، فنتأثر بالظاهر ولا ندرك الجوهر، فينطبق علينا قول المسيح حول العميان الذين “يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (متى24:23). فينبغي تجاوز الفضولية السطحية، طابع الإنسان الخارجي فينا الذي تهمه التفاصيل الغريبة. ينبغي عدم تجربة الله بالتفتيش عن الغرائب والعجائب بل إتباع الخط العميق الذي يقود للمسيح كمال الكتاب ومحوره أما الأمور الغريبة فتتضح لنا بعدئذ. لا كما نريدها بل كما هي على ضوء هذا الفهم العميق إذ علينا لأجل فهم الكتاب أن ندعه أولاً يحولنا. إننا نجرب الله عندما نقترب منه ونطلب منه بقلب مزدوج، غير مستسلم كلياً، شيئاً ما لإشباع مجد ذاتي أو فضولية تافهة.

ثالثاً: مواصلة القراءة

إنها طريقة بديعة أن نقرأ الكتاب بكامله مرة كل عام غير متوقفين عن القراءة، وأن نشير إلى المقاطع التي تستوقفنا، وأن نأخذ نوطة على حدة في نوع من التأمل الكتابي. هكذا نتجدد. نحن نهترئ ونحتاج إلى طعام وغذاء، فينبغي استعادة نضارة ذهننا إن بالتأمل أو بالقراءة أو بالعمل وإلا نفرغ ونشح فنصبح نحاساً يطن، وصنجاً يرن. لا بد لنا من هذا التجدد المطرد لأن الصمت إنما هو (وطن الأقوياء) وحسب.

رابعاً: قراءة آية أو آيتين يومياً إلى جانب القراءة المتواصلة المنتظمة

وذلك صباحاً على الأفضل ثم مضغها وهضمها كل النهار، إن الهضم ضروري للإغتذاء. يجب أن نجتر كالبقرة، بقرة مغارة الميلاد (3). البقرة حيوان متواضع صبور هادئ، يجتر ساعات وساعات ومن المفيد أيضاً أن نبصر الكلمات ونسمعها ونقولها بصوت عال، فبهذا تسجل الكلمات في الجسم والذهن معاً. وإذا اعتدنا على الاجترار اليومي نكتشف شيئاً فشيئاً آيات أجمل من غيرها، آيات نتبناها ونتعلق بها. مثلاً: “يا حارس ماذا من الليل؟ يا حارس ماذا من الليل؟” (إشعيا11:21) أو “نفسي اشتاقتك في الليل وروحي في داخلي ابتكر إليك” (اشعيا9:26). بهذه الطريقة نقيم داخل ذهننا ذاكرة خاصة: كلمة تذكر بكلمة، وآية تستدعي آية، فنخرج من ذواتنا هذه الآيات المتفرقة فتؤلف كلاً حياً. ونكتسب أيضاً عادة الصلاة القصيرة العفوية: كلمة واحدة أو آية نصرخها إلى الله من وقت لآخر أو في أوقات الضيق والتجربة، وهي ناتجة عن اجترار الكلمة وتجسيدها فينا. هكذا كان القديس انطونيوس الكبير يستعمل صلاة الآية الأولى من المزمور69 في حربه ضد الشيطان: “اللهم بادر إلى معونتي، يا رب أسرع إلى إغاثتي”. وهكذا صلاة اسم يسوع هي صلاة العشّار والأعمى في الكتاب: “اللهم اغفر لي أنا الخاطئ… يا ابن داود ارحمني”.


(1) “يا ربي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”.

(2) أنظر المحاضرة الثانية للأب اسحق صفحة 91 وما بعدها من المجلد الثاني من كتاب: Confe’rences – Sources Chre’tiennes No.54

(3) يجب أن نكون في تأملنا للكتاب تارة كالنسر وتارة كالأسد وتارة كالإنسان وتارة كالبقرة…

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى