بالتجسد يتحقق كل شيء. أو بالحري يحضر الله بالذات الذي هو كل شيء. بدل الرموز والرسوم، بدل الظل يأتي فيه الملء ولذا صار كل شيء جديداً. إن التجسد الإلهي يتمم ويحقق كل العهد القديم ولكنه في الوقت نفسه شيء جديد كل الجدة: إنها جدة الله الحي، جدة الحياة التي لا يقيسها قياس، حياة الله الذي يحل فينا. الإيمان والوعد، الناموس والوصايا، الانتظار والرجاء، الأعياد والاحتفالات والليتورجيا التذكارية، يحل محلها شخص الله، حضرة هي بحد ذاتها خلاص وحق وحياة. وفي المراحل السابقة رأينا أن كل شيء يهيئ مجيء المسيح ويرمز إليه ويفسر به ويقود إليه. ولكن حضور المسيح شيء آخر. “إن الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو 1: 57). إنها جدة كيانية جوهرية لا تقاس بما سبقها ولا تفهم من الخارج. “الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو 1: 18). إن مرحلة التجسد هي المرحلة الأخيرة التي تأتي إلينا بالله نفسه فيصير فيه كل شيء شخصياً. إن انتظار العالم للخلاص يتحقق في ورود الله بالذات، في شخصه. إنه العجيب الفريد، حضور المتسامي الفائق الوصف والإدراك، الملء الذي منه كلنا أخذنا، وغاية كل شيء. إنه ملء الزمان، فيه لا يتجسد الكلمة فحسب بل يعطى الروح القدس، لأن تدبير الله يستهدف ذاك الحضور السرّي الكامل: استمرار حضور جسد المسيح في العالم يحييه الروح القدس. هذا وإن مجرد تجسد الله هو خلاص للإنسان: “لقد صار الله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً” (أثناسيوس الكبير). إن تجسد الله يفتح للإنسان مجال التأله. وقد تم عجب التجسد الإلهي لأن الإنسان إنما خلق على (صورة الله). وبالمسيح، (صورة الله غير المنظور)، اتحد الله بالإنسان.
ويمكن أن نتبين في مرحلة التجسد الأفكار الرئيسية التالية:
1- حضور الله بين الناس:
بالتجسد يحضر الله. الله يحقق وعده بل كل شيء. الله بالنتيجة لا يعطي شيئاً وإنما يعطي ذاته. هو الوعد والبركة، أرض الميعاد والملكوت، ليس الملكوت شيئاً بل هو الله. ليس في امتلاك شيء بل في الاتحاد بالله، “توبوا فقد اقترب ملكوت السموات” (متى 4: 17). تلك هي البشارة العظمى. اقترب الملكوت بل أقبل وهو ذا بينكم (متى 12: 28)، إنه الحياة وينبوع الحياة، الخبز الحي والماء الحي، الطريق والحق، نور العالم.. وقد حل فينا.
وفي حضور الله نتبين الأفكار التالية:
أ- الإله – الإنسان:
إن الله إذ يحضر بين الناس لا يحضر مترفعاً متعالياً، بل كواحد منهم بالضبط. الإله التام ينحدر، ويشاء أن يصير إنساناً تاماً، متخذاً الطبيعة البشرية بكامل ضعفها (ما عدا الخطيئة)، المسيح يولد من مريم البتول، وبين أجداده قتلة وزناة (متى: كتاب ميلاد المسيح)، إن حقيقة المسيح كإنسان هي حقيقة كاملة، إن له إرادة بشرية مثلنا ومعرفة بشرية مثلنا إنه ينمو مثلنا ويتألم. وقد يتألم حقيقة، هو يعيش مثل الناس تماماً ويموت مثلهم، هو إله تام وإنسان تام.
ب- الكلمة:
والمسيح هو الكلمة يخبر عن الله، هو النبي الحقيقي الذي وحده يعلن الله، (والرسول) حقاً الذي يعرف الرب وجهاً لوجه، (تثنية 34: 10)، بل الآتي من حضن الآب، وصورة الله غير المنظور (كولوسي 1: 15) (1) “من رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9). إنه كلمة الله.
جـ- الابن
والمسيح هو الابن الذي “رأينا مجده كما لوحيد من الآب”، (يوحنا 1: 14)، الابن والوارث وإذ صار “ابن البشر” فقد بلغ تبني الله لنا فيه وبنوتنا لله معناهما الأقصى، وورثنا فيه كل شيء (رو 8، 16…). وابن يأتي ليعلن مجد “الآب السماوي”. “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” حين الظهور الإلهي (متى 3: 17) ويوم التجلي (17: 5).
د- الملكوت
ثم بالتجسد يأتي ملكوت الله، ملكوت شفاء ونعمة وقوة. “اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما، إن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون” (لو 7: 22). بشرى أشعياء العظيمة تتحقق، والتطويبات دستور هذا الملكوت: “طوبى للمساكين بالروح…” (متى 5). أما المسيح ابن داود فملك هذا الملكوت يوم الشعانين، (مر 11: 10)، ريثما يتبوأ عرشه الحقيقي على الصليب.
هـ- الراعي
كان الناس كخراف لا راعي لها، (متى 9: 36). وبمجيء المسيح جاء الراعي الصالح، الراعي الوحيد الذي يعرف خرافه “بأسمائها”، ويذهب أمامها، ويبذل نفسه من أجلها ليعطيها حياة أبدية (يو10)، لا شفيع ولا ملاك بل الرب نفسه. إن الله لا يخلص الإنسان من بعيد بل يتجسد الكلمة، يتسلم بذاته قضية خلاص الإنسان وقيادته.
و- الباب
والمسيح هو “الباب”، (يو 10: 9). كان البشر مغلقاً عليهم في مأساة السقوط، في سجن الخطيئة إلى الأبد. فكان المسيح باب الخلاص والحياة. المسيح النازل من السماء، هو وحده يفتح باب السماء (يو 3: 13، ومتى 3: 16). إن له مفاتيح الحياة والتاريخ (رؤيا 1: 18 و5: 5، 9). الذي يفتح ولا أحد يغلق ويغلق ولا أحد يفتح (رؤيا 3: 7). وترد هنا أيضاً فكرة “الباب الضيق” الذي سلكه المسيح وأوصانا بسلوكه من أجل الخلاص (متى 7: 13 و14): “إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل، ويخرج ويجد مرعى” (يو 10: 9). المسيح هو الباب والطريق: “لأن به لنا قدوم في روح واحد إلى الآب” (أفسس 2: 18)، “وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص” (أعمال 4: 12).
2- مصالحة الله مع الناس: الصليب
ولكن الناس قد رفضوا حضور الله ولم يؤمنوا به. “إلى خاصته جاء وخاصته ولم تقبله” (يو 1: 11). لقد جند عدو الله قواته الشريرة ضد المسيح فصار المسيح “هدفاً للمخالفة” (لو 3: 34) الله أتى أميناً لوعده، ولكن العالم لم يعرفه ولم يحتمل حضوره: “أصلبه، أصلبه” (متى 27: 23) إنها مرحلة الصليب. الله يذهب بأمانة حتى النهاية ويحب الناس (حتى المنتهى) (يو13: 1). بالصليب يبقى الله هو الغالب، له القول الفصل. الصليب هو الحل الأخير للمناقضة بين الله والناس، به يتمم الله من أجلنا، رغم كل شيء، مقصده الخلاصي الذي منذ الأزل، وبه يعلمنا أن طريق المصالحة هو الطاعة والمحبة.
ويمكن تبين الأفكار التالية في هذا المضمار:
أ- حمل الله
إن المسيح المرفوض من الناس، هو الحمل الذي تكلم عنه أشعياء النبي (أشعياء 53)، الوديع والمتواضع القلب (متى 11: 29)، الذي يساق إلى الذبح صامتاً (أشعياء 53: 7). هو الذي رمزت إليه ذبيحة اسحق، وهو الذبيحة التي تحل محل الذبائح الظلية في العهد القديم. هو الحمل الفصحي (1كو5: 7) الذي لا عيب فيه “حمل الله الرافع خطايا العالم” (يو 1: 29). الحمل الذي يعطينا جسده لنأكل ودمه لنشرب. هو أيضاً العبد الذي لم يأت ليصنع مشيئته بل مشيئة الآب الذي أرسله. في اللغة الآرامية لفظة واحدة تعني الحمل والعبد، (أشعياء 53 ويو 1: 29 ورؤيا) إن الإله المتجسد من أجل خلاص البشر هو إله مطيع فقير متضع منذ إخلائه ذاته (في 2: 7) وولادته في المذود حتى امتداده عارياً على الصليب. إن صليب المسيح، حمل الله والعبد الأمين المتألم، يبدأ مع انحداره من السماء ليبلغ أوجه على الخشبة. وفي هذا العمل الفدائي يقوم هو مقامنا بتضامنه معنا ونحن متضامنون معه.
ب- رئيس الكهنة
والمسيح ليس الذبيحة وحسب، ولكنه أيضاً الكاهن الذي يقدم الذبيحة، “المقرِّب والمقرَّب” إنه “كاهن على رتبة ملكيصادق” (مز 109: 4 وعبر 5: 6 و 6: 20)، رئيس الكهنة الأوحد، الأزلي والقدوس، الذي قرب ذبيحة نفسه مرة واحدة عن الجميع (عبر 7: 26-28)، مبطلاً كهنوت هارون واللاويين. إنه الكاهن وسيط العهد الجديد الذي يحل محل عهد موسى (عبر 9: 15 و12: 24)، الوسيط الوحيد الذي، وهو ابن الله الحقيقي، الأعظم من الملائكة (عبر1: 1-13) صار “مجرباً في كل شيء مثلنا بلا خطيئة” (عبر 4″ 15) فصالح في نفسه الله مع الناس (كو 1: 20) وبذبيحته “دان الخطيئة” (رو 8: 3) مفتدياً إيانا من لعنة الناموس (غلا 3: 13)، ودخل أمامنا إلى قدس الأقداس، مجتازاً السماوات (عبر 6: 19 و 4: 14).
ج- الملك الحقيقي
المسيح المذبوح هو أيضاً، الملك الحقيقي المكلل بالشوك على الصليب (يو18: 37) الذي لا يتسلط على الناس بالقوة “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو18: 36)، بل يبذل النفس وميثاق الدم. هذه قوة الله، ضعفه الأقوى من الناس (1كو 1: 25)، وهذه هي عظمته الحقيقية، المحبة “والمحبة المصلوبة”. من خلال الصليب، عرش الرب وموطئ قدميه، يشع مجد الله، فإن نور التجلي الإلهي يقترن دائماً بالصليب ويلازمه (لو 9: 31 أنظر لو 9: 23-31). والصليب هو الذي يقود إلى القيامة فيعرف حقاً ملكوت الله.
و- المسيح “الحياة”
المسيح القائم من الأموات هو المسيح “الحياة”. بالقيامة نبلغ إلى كامل إعلان الله الحي. إن الله هو “الإله الحي” وهذا أفضل أسمائه. في القيامة تتجمع وتتلخص كل أسماء الرب. إنه رئيس الحياة (رؤ 3: 15) وينبوع الحياة (مز 36: 10) وخبز الحياة (يو 6: 47) ونور الحياة (يو 8: 12). في القيامة يتجلى سر الله وعطيته السخية الكبرى. إن الإنسان المخلوق يتوق إلى الحياة “ملتمساً إياها دون ملل”. في “قيامة الحياة” (يو 5: 29) يصبح الإنسان أخيراً حاضراً شفافاً أمام الله الحي نور لا يشوبه ظل ولا مساء، فتحصل المصالحة التامة الكلية مع الله. الله منذ البدء هو “إله الأحياء” يدعونا إلى الحياة الأبدية، وقد أعطانا إياها نهائياً بقيامته المقدسة ظافراً بالموت إلى الأبد.
3- مجيء الروح القدس:
لقد جاء ابن الله إلى العالم وتمم قصد الآب في العالم. وبمجيء الروح القدس تمكث حقيقة الله الكاملة وحياته مع الناس. إن الرب يسوع عند موته (أسلم الروح) (يو 30:19) إذ أخذ الموعد من الآب، وفي يوم العنصرة أفاضه على الخليقة (أعمال 33:2) ليخلق به الخليقة الجديدة، التي هي الكنيسة. إن إعطاء الروح القدس هو المرحلة الأخيرة من مجيء الله الكامل إلى الناس وسكناه بينهم وإعطائه حياته لهم نهائياً.
أ- روح الله
عند درسنا الثالوث القدوس نجد صعوبة في فهم أقنوم الروح القدس مع أنه الأقرب إلينا إذا جاز القول. ما هو الروح القدس ؟ إنه ألفة الله نفسها مع الناس (L’intimite’ de Dieu). إن روح الإنسان يؤلف وحدة الإنسان العميقة عبر مختلف مظاهر حياته. فمن الطبيعي أن يكون روح الله إلزاماً تلك الألفة القصوى التي تتصل بأكثر عمق بألفة الإنسان. إن المرء الذي يقتبل روح الله إنما يفتح جذور حياته لمجيء الله إليه. فبالروح القدس حياتنا وحياة الله تتحدان. ولكن لماذا لم يأت روح الله قبل الآن على العالم ؟
ب- روح المسيح
إن الإنسان منذ ابتعاده عن الله بالسقوط والموت، كان يشعر أنه بعيد عن وجه الله. كان روحه مشوشاً مبللاً، ولم يكن يستطيع أن يتصور الله. والله نفسه كان بعيداً عن الإنسان. فمعنى التجسد الإلهي هو مصالحة الناس مع الله حتى يستطيع الإنسان اقتبال روح الله. وموت المسيح على الصليب كان عطية حياة الله نفسها، لكي يأتي روح الله إلى العالم. وهذا الروح يشهد تلك العطية العظمى (يشهد للآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها) (بطرس 11:1) إنه روح المسيح. لأن المسيح هو الذي أعلن لنا بالروح أن الله إنما هو بذل وإعطاء منذ الأزل. لقد أعطى الله الحياة للكون بالخلق أولاً ولكن هذا لم يكن كافياً. ثم أعطى ذاته إذ صار إنساناً مثل الناس صانعاً لهم العجائب وأعمال الرحمة.
ولكن هذا أيضاً لم يكن كافياً، فأراد أن يعطي أكثر من ذلك: أن يعطي روحه، ألفته القصوى، فأعطاها في ذبيحة حب. ولذا يقول: (إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي). إن البقاء في المسيح هو البقاء في روحه. فنحن أيضاً لا يكفينا القول بأننا مسيحيون وفي المسيح كوننا من وقت لآخر نصنع أعمال رحمة ونعلن الإيمان ونتحمس له. بل علينا أن نقيم في روحه ونقبله فينا وكأنه يدفعنا إلى إعطاء ذواتنا على الدوام أكثر فأكثر إلى أن يقوم هذا الملكوت بين الناس. ينبغي أن نفهم إذاً أن ملكوت المسيح ليس ملكوتاً خارجياً، ليس ملكوتاً حسب العالم. إن الروح هو ملكوت المسيح أي ذلك التحول الداخلي في كل منا حتى نستطيع اقتبال بعضنا بعضاً والعيش معاً راذلين أنانيتنا ومتممين إرادة المسيح.
ج- الروح القدس كتعزية وفرح
إن حياة المسيحي في العالم حياة حسب الروح. وحضور الروح فينا هو تعزية. ماذا يعني هذا؟ يعني أن المعزي يعطينا في قلب المحن بالضبط فرح ظفر المسيح على العالم والإيمان الثابت القادر أن يغلب العالم. بالروح القدس نعرف ونحس أننا لسنا وحدنا فيما بعد. ونحن نكون بالروح القدس بقدر ما نشعر أننا دائماً متحدون مع الله ومع الآخرين. إن فرح الروح ليس فرحاً حسب العالم: إنه لا يقصي الألم والمحن. ولكننا به ندرك منذ الآن معنى كل ما يجري لنا من أجل محبة المسيح. إن كل ما نقدمه أو نقبله من أجل الله هو لمجد المسيح وخير الناس. وهذا هو مجد المسيح: الفرح الروحي والحياة الأبدية للناس.
4- الكنيسة
قلنا أن المسيح عند موته على الصليب أفاض الروح ليخلق به الخليقة الجديدة. هذه الخليقة الجديدة والبشرية الجديدة هي الكنيسة (أفسس 15:2 وغلا 15:6). من جنب المخلص القاطر دماً وماء على الصليب خرجت الكنيسة كمن آدم جديد (يو34:19- 35). وفي يوم الخمسين عمدت بالروح القدس الذي يحييها ويسكن فيها. مع ظهور الكنيسة يبدأ زمان معرفة الله المعرفة الحقيقية العميقة حتى يمتلئ الناس (إلى كل ملء الله) (أفسس 19:3). إنها الأزمنة الأخيرة قبل إقبال انقضاء الدهر.
على ضوء ذلك نتبين الأفكار التالية:
أ- امتداد جسد المسيح
إن انسكاب الروح القدس بعد إتمام المسيح عملية الفداء (يو30:19 وأعمال 33:2) يحقق ويكمل كل شيء. المسيح يرسله (ليعلمنا كل شيء) (يو26:14) و(يمكث معنا إلى الأبد) (يو 16:14). فالكنيسة هي جسد المسيح وروحه. هي (ملء المسيح) (أفسس 23:1 وكو 24:1). بها الروح القدس المنسكب عليها، يحضر جسد المسيح ويمتد امتداده الكلي، شاملاً وموحداً الجميع. هو رأسها يؤمن وحدتها وهي جسده (أفسس 22:1 وكو 19:2). الكنيسة بمثابة ظهور المسيح ومكانه ( Epiphaine centrale ). تقتني حياته وتعطيها، إنها (عروس الختن) الخصبة (أفسس 25:5 ويو 29:3) و (أمنا جميعاً) (غلا 26:4). في الكنيسة حياة المسيح عينها تستمر.
ب- شعب الله الجديد
الكنيسة هي شعب الله الجديد. (سأكون لهم الهما وهم يكونون لي شعباً) (2كو 16:6)، الشعب الذي كفر الرب عن خطاياه (عبر 7:2) وقدسه بدمه (عبر12:13)، جاعلاً إياه أمة مقدسة، شعب اقتناء (1بطرس 9:2)، (رعية الله) (أعمال28:20 و1بطرس 2:5) لقد اختار الرب يسوع قطيعاً صغيراً وهيأه نواة للكنيسة الجديدة: (اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم معمدين إياهم…) (متى19:28). الكنيسة الجديدة لا تقتصر على أمة دون غيرها بل تجمع (أبناء الله المتفرقين إلى واحد) (يو51:11)، ليكون للجميع (نصيب مع القديسين) (أعمال18:26). هذا هو السر المكتوم منذ الدهور (كو 26:1 و27) أن يشترك جميع الناس في مجد الله. شعب الله هو جسد المسيح.
ج- شركة القديسين
شعب الله المؤمنين به مرتبطون ومتحدون في (شركة القديسين). إنه الرباط الذي يجعلهم بالروح القدس أعضاء جسد واحد وأغصان كرمة واحدة: المسيح (أفسس 3:4 وفي 1:2 و 1كو31:12 ويو5:15). الجماعة الكنيسة تأتلف أولاً حول البشارة، حول الكلمة (أفسس 6:3)، وتولد بالمعمودية، ولكنها تتحد وتقوم أخيراً حول الحمل في سر الشكر. باشتراكنا بالخبز الواحد، بشركة جسد المسيح نصير نحن الكثيرين خبزاً واحداً وجسداً واحداً (1كو 16:10- 17). إن سر اتحادنا بالمسيح في الإفخارستيا هو نفسه سر وحدة الجماعة الكنيسة المتحدة بالمسيح. ثم أن أعضاء الجسد الواحد يكملون نواقص بعضهم البعض بواسطة الصلاة المتبادلة (رو30:15 وكو 12:4 و1يو 16:5) ومواهب الروح المختلفة (لأجل تكميل القديسين.. لبنيان جسد المسيح إلى أن ننتهي. إلى قامة ملء المسيح) (أفسس 12:4 و13). إن شركة القديسين في الروح والمحبة هي بالنتيجة حياة الثالوث القدس (يو26:17). الكنيسة (بيت الله) (أفسس 19:2) وهي (مليئة بالثالوث القدوس) (أوريجنس). إنها لا تعدنا فقط لحياة الثالوث القدوس بل توحدنا وتشركنا منذ الآن بحياة الله (2بطرس 14:1).
ولكن يجب الانتباه هنا إلى واجباتنا العملية في الكنيسة، لأننا عملياً كثيراً ما نرفض المسيح كلما راعينا في أنفسنا ما يقاوم فينا صالح الكنيسة العام ووحدتها وخدمتها، كلما قاومنا تجديد حياتنا واقتصر إيماننا على التحجر والعادات أو الوسواس كلما ابتعدنا عن روح الإنجيل الذي هو روح بذل وطلب وعطاء. المسيح تألم كإنسان ونحن عندما لا نريد أن نتألم من أجله ومن أجل كنيسته نرفضه ثانية ونرفض حياته التي أعطانا إياها. فلا بد من اعتناقنا للكنيسة ليتم قصد الله فينا ومن أجل العالم.
د- كهنوت ملوكي
الكنيسة متجهة إلى العالم تكمل فيه عمل المسيح حتى يؤمن العالم أن الآب أرسله (يو21:17).تشترك في كهنوته الملوكي (1بطرس 9:2 ورؤ 10:5) وتمده بخدمة الكلمة (متى19:28 ويو22:20 و23) وشهادة التقديس (رو1:13) وشهادة الصليب (كو 24:1). إنها في العالم (وساطة سرية) (Sacramentelle) ما دامت جسد المسيح الكاهن وهيكل الروح القدس. الآن هو زمان صبر الله (2بطر 9:3)، فالكنيسة تنمو (وتتألف) في التاريخ لتضم إليها المحتارين. إنها مركز الكون، فيها يتم مصيره. الاضطهادات ستستمر (يو18:15 ورؤ1:13- 7) والهفوات أيضاً في قلب الكنيسة (عبر 7:3) ولكن الرب قد غلب العالم (يو 33:16). العالم يشيخ ويفسد باطراد، أما الكنيسة فتتجدد على الدوام بتقديمها العبادة الجديدة، الحقيقة عبادة الروح (غلا 6:4 ورو1:12) سائرة نحو (المدينة) المعدة (عبر33:11) أورشليم العلوية (رؤ 12:3).
5- انقضاء الدهر
الكنيسة منذ البدء متجهة إلى الآخرة، إلى المجيء الثاني. (إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء)، (أعمال 11:1). الكنيسة تنتظر مجيء الختن (2بطر 12:3 وعبر14:13). وهي تعيش في العالم الحاضر (تيطس 12:2) ومن أجل خلاصه ولكنها في الوقت نفسه ليست من هذا العالم، تتطلع إلى الدهر الآتي. ذلك لأن (الأيام الأخيرة) قد أتت (أعمال 17:2 و1كو11:10) وأتى (يوم الرب). ولذا تعيش الكنيسة منذ الآن في ملء الزمن (غلا 4:4). فالذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه والذين يشترون كأنهم لا يملكون (1كو 30:7- 31) (اليوم يوم خلاص) (2كو 1:6) وليست (نهاية) العالم في الحقيقة سوى خلاصه. إن زمن الكنيسة زمن مقدس ينفتح لأبدية الله. وبتقبله حياة الله يتخذ التاريخ معناه..
هذا ونورد الأفكار التالية في هذا المضمار:
أ- جمع كل شيء في المسيح
إن تدبير ملء الأزمنة يؤول إلى (جمع كل شيء في المسيح) (أفسس 10:1). ولذا يسمى المسيح أيضاً في الكتاب (بكر كل خليقة) و (البداءة) (كو 15:1- 16) و (رأس الخليقة) الذي جاء لا لينقض بل ليكمل (متى 17:5). إن كل ما قبله منذ البدء لا يفقد سبب وجوده بل يتخذ فيه كامل معناه. إنه (بكر من الأموات لكي يكون متقدماً في كل شيء) (كو 18:1). لقد (دخل مرة واحدة إلى الأقداس) فوجد للخليقة فداء أبدياً (عبر 12:9). صعد بالطبيعة البشرية وجلس بمجد عن يمين الآب (رو 34:8 وأفسس 20:1). فظهرت سيادته على الخليقة منذ الآن.. ولكننا لا نزال في زمان صبر الله، ولا تزال الخليقة (تئن وتتمخض معاً) (رو 22:8) إلى أن يأتي اليوم الذي تنجلي فيه كلياً أمام الملا سيادة الرب ويصير الله الكل في الكل.
ب- مجيء المسيح وملكه
إن مجيء المسيح في اليوم الأخير سوف يكون بمجد عظيم ظاهراً واضحاً للجميع (متى 30:24). بل مجرد ظهوره وظهور نوره الأزلي سيكون دينونة للمشككين. غير أن رؤيته تستلزم أولاً تحول طبيعة الإنسان: (لا نرقد كلنا ولكن نتغير) (كو51:15) (يزرع جسم حيواني ويقام جسماً روحانياً) (1كو44:15). إن القيامة تشمل الجميع دون استثناء (1تس 16:4- 17 ويو 28:5). حينئذ تبطل كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة (1كو25:15)، ويقضي الديان وينتقم للمظلومين على الأرض (رؤ 10:6) {عند اعتلان رب المجد سوف لا يستطيع المرء إلا أن يحبه، وحينئذ هذه المحبة المحرقة تصير ألماً في المرذولين وفرحاً وابتهاجاً في المخلصين (القديس اسحق السرياني).} وتباد اللعنة إلى الأبد. ويكون عهد قداسة وبر (رؤ27:21) ويقصي كل حزن وصراخ ووجع (رؤ4:21). ويظهر المخلصون مع المسيح في المجد (كو 4:3) ويصيرون مثله (1يو 2:3) وتكون السماوات الجديدة والأرض الجديدة (2 بطر 13:3) أورشليم العلوية (رؤ28:21 و10..). ومتى أخضع كل شيء للمسيح يخضع للآب الذي أخضع له الكل (1كو25:15- 28) ويسلم الملك للآب (1كو24:15). (كل شيء لنا وأما نحن فللمسيح والمسيح لله) (1كو 23:3).
ج- الليتورجيا الأبدية
(هللوليا فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء لنفرح ونتهلل ونعطه المجد) (رؤ6:19 و7). كل شيء ينتهي إلى ليتورجيا أبدية. إلى اتحاد في المحبة (لمدح مجد) الرب (أفسس 6:1 و12 و14) وإعطائه المجد والكرامة والشكر إلى أبد الآبدين (رؤ 8:4- 11 و 13:5- 14). وذلك حول (الجالس على العرش والخروف)، الخروف (القائم وكأنه مذبوح) (رؤ 6:5). إنها ذبيحة الشكر الأبدية حول الخروف الحي، (الغالب) (5:5). أما الهيكل فهو الله والخروف، والنور والسراج أيضاً الله والخروف (رؤ22:21 و23). إنها الترنيمة الجديدة التي تقابل ترنيمة موسى وتتوج جميع ترنيمات العهد القديم وتسابيحه وتملأ الدهور (رؤ 5:9 و3:14). إنها وليمة الملكوت الأبدية (1كو26:11 ورؤ 20:3 ومتى 11:8 و11:22- 14 وأشعياء6:25) في (عرس الخروف) (رؤ7:19 و9:21 و17:22). أما الكنيسة (العروس) فنداؤها في الروح ومع الروح (رؤ17:22) (تعال) قد تحقق إلى الأبد.
إن هذا العرض السريع الذي عرضنا فيه الكتاب المقدس في مختلف مراحله وتياراته، لا يدعي أنه عرض شامل كامل. ثم إن الطرق التي يمكن بها تقسيم مراحل الكتاب وتبويبها لا شك تتنوع، فكل من يطالع الكتاب حقاً يستطيع أن يتبين فيه ويرتب تفصيل مراحله وموضوعاته (بين كبيرة وصغيرة) بطريقته هو، التي قد تختلف في تفاصيلها (لا في جوهرها) عن طريقة غيره.
ولكن الأمر المهم والغاية التي رمينا إليها في هذه الصفحات هما بيان روحانية الكتاب الحية والعميقة في وحدته المترابطة (العضوية) إذا جاز القول، والمراد من الله. فإذا كنا قد نجحنا في ذلك إلى حد ما، أو على الأقل إذا كنا قد نجحنا في إيجاد الرغبة عند القارئ في الدخول بنفسه إلى عالم الكتاب والتوغل فيه، وسبر غوره الذي لا قرار له، بغية التعرف على كنوزه والتغذي منها حسب حاجة روحه، نكون قد تقاضينا بدل أتعابنا أضعافاً، ونحن على كل حال شاكرين لله.
إن الكتاب المقدس، إلى جانب الروحانية الليتورجية وروحانية الآباء اللتين يحييهما الروح الواحد الذي يحيي روحانية الكتاب، كما رأينا في توطئة هذه الصفحات، إنما هو ينبوع من ينابيع الروح لا يستغنى عنه في الحياة الروحية ولا يقوم مقامه شيء على الأرض. هو كتاب الله يعطينا فيه كلمته وحياته وملكوته.
فالرب نسأل أن لا نهمل عطية عظيمة كهذه، حتى يكون له السبح والملك والمجد إلى أبد الآبدين آمين.
(1) بحسب الكتاب، فالمصدر هو (1 كو 1-15)، ولكنه خطأ مطبعي ولذلك تم التصحيح… (الشبكة)
(2) الخاتمة هي صفحة مستقلة بعد هذا الفصل، ولكن رأينا أن ندمجها مع الفصل ووننوه لهذا الأمر… (الشبكة)