إذا كان الحب حكراً على الناضجين لكونه من صميم خبرتهم، وشأناً خاصاً بالنخبويين دون سواهم، عندها، من البداهة القول أن اختبار الحب، ليس من نصيب الجميع، ولا يدركه الجميع، ولا يفهمه الجميع، ولا يعرفه الجميع، وذلك لأنه كما قلن، شأن يقتصر على الناضجين.
على قاعدة هذا الكلام، وعلى أساس هذه المقولة، نستنتج أن الحب هو لفئة دون الأخرى، وأن عيشه واختباره هو حكر على فئة دون الفئة الأخرى، وممكن لفئة، لكنه غريب عن الأخرى.
لكن إذا سلمنا أن الحب شأن الناضجين وحسب، فهذا يعني أن غير الناضجين غرباء عن الحب. وإذا قبلنا أن الحب هو من نصيب الناضجين، الذين لم نحدّد هويتهم، وانتماءهم، فكيف يحيا الذين لا يعرفون الحب؟ ألا يعني مثل هذا الاستنتاج، أنه لا قيمة للحب في حياة غير الناضجين؟
في الحقيقة أن موضوع الحب شائك ومعقّد، رغم أن الناس يستهلونه ويسترخصونه ويستعذبون الكلام عنه ويتمنون دائماً لو يكونون في عداد المحبوبين، دون أن ينتبهوا ولو قليلاً أنه من الواجب أيضاً أن يكونوا من المحبّين.
وجميعنا نتمسك بالمحبوبة، دون أن يخطر ببالنا أن ثمة ثمناً كبيراً لا بد من دفعه، إذ كيف تقدّر محبة الآخر لك، إذا كنت لا تبادله المحبة؟ أليست هذه خبرة الصغير والكبير من الناس؟ أليست المحبة نبع سرور وبهجة للجميع؟ فإذا كانت المحبة والحب، حسب عبارة هذه الأيام، جذابة، بهذا المقدار، عندها حريّ بنا أن نبادر إلى محبة الآخرين، بنفس المحبة التي نتلقّاه و تنعشنا. في الحقيقة ما أحوجنا جميعاً إلى إدراك مستلزمات الحب، وشروط الحب، كي يهنأ العيش وتحلو الحياة! إن هذا الكلام بداهة إيمان بكل تأكيد، وذلك لأن الله محبة. بيد أن البداهة شيء، والممارسة شيء آخر، سيما في هذا الزمان.
ويتردد في أوساط المثقفين (اريك فروم)أخأأ على سبيل المثال، كلام عن تفكّك مفهوم الحب المعاصر. وهذا لا يبدو غريب، فالحب في هذا الزمان تحوّل حقاً على الألسنة إلى سلعة للاستهلاك. المحبوبين، باتوا أدوات للشهوة في كثير من الأحيان. وفي هذا بعض دليل على انفساد الحب المعاصر الذي شرعنا نتلمسه على الشاشتين الصغيرة والكبيرة وبكثافة، لكونه يحظى بالدرجة القصوى من الاهتمام عند المراهقين المعاصرين. وهنا يبرز سؤال: إلام يُعزى انفساد الحب؟
يرى اريك فورم في معرض الرد على السؤال، أن انفساد الحب المعاصر قائم على ممارسة منحرفة تستوحى من بعض المنظومات السياسية – الاقتصادية المعاصرة، وعلى رأسها الرأسمالية (راجع/ فن الحب، إريك فروم، الفصل الثالث: الحب وتفككه في المجتمع الغربي المعاصر، ص: 62-77).
في ظل هكذا كلام، تبدو العلاقات الإنسانية العامة، مجرد اتصال بين كيانات معزولة ومرهقة إلى حد الإعياء (Exhaustion). وليس دأبها غير الكد والعمل، وذلك لدفع عجلة الإنتاج نحو الأمام، لا أكثر.
ونرى يوماً بعد يوم، كيف ينزلق الناس، شيئاً فشيئ، نحو رمال شهوة الشراء والتبضّع والاقتناء، عن وعي و غير وعي. والبقاء في المناخ الاستهلاكي، والذي هو واقع الحال، يدعو جميع الناس للانتباه إلى ضرورة التشدّد مع النفس، كي لا تنفلش وتضيع، لأن تفاقم النزعة الاستهلاكية، يؤدي، من حيث ندري ولا ندري، إلى ابتكار حاجات وهمية سيدفع الإنسان من روحه وجسده و حياته، من أجل اقتنائه والحصول عليها. إن عالمنا الحاضر يشدّنا دائماً إلى أسفل، ويرهقن، ويميتن، وفي هذا الانشداد، نذوق باستمرار، الاختناق والويلات والاستلاب والموت. ولولا يد الله لكان مصير الكثيرين إلى الهاوية.
هذا هو واقعنا الراهن يعمل فينا عن وعي وعن غير وعي، وذلك لزيادة عزلتنا وغربتنا وهلاكنا.
الحياة الحاضرة تنتزعنا من جذورنا وتاريخنا وحاضرن، بالتسلية والمرح أول، وتداعبنا بالتلهّي وقتل الوقت ثاني، وذلك من خلال علب الليل وحفلات الرقص والغناء والمخدرات والدخان والسياسية والسلطة والمال والمجد والشهوة والزعامة والتحزبات والانكماش العائلي والعصبيات واقتناء السيارات الفخمة والأزياء والعطور وتزيين الجسد، دون الانتباه والحذر من مشاكله وفلسفته وزينته وجماله من تربتنا وجذورنا وترمي بنا في غياهب المجهول إذا كنا في التراخي والكسل. وإذا استطاع المرء أن ينجو من إحدى هذه الشراك، فإنه سيعلق بالأخرى، هذا إذا لم يكن قد استعبد لأكثر من أمر فسقط في غير شبكة وفخ.
الحياة الحاضرة قائمة على الاستهلاك، والاستهلاك كثيراً ما يخفي وراءه خوف من المستقبل، وخوف من المجهول. بالاستهلاك، يحاول الإنسان أن يلتهم الكون الذي سيطوينا لا محالة، فنحن تراب، وإلى التراب نعود رغم الجهود والمنجزات العظيمة التي ندأب بشق النفس، على تخليد أنفسنا بها.
وفي غمرة التأملات في هذه الحياة، يلتمع في الذهن سؤال كبير: ما هي هواجس الناس في هذه الأيام؟ ماذا يريدون؟ ماذا يمقتون؟
تبدو هذه الأسئلة ومثيلاته، على غاية من الأهمية، وذلك لأنها تكشف شكل الممارسات البشرية، وبعضاً من أفكار الناس. والناس في هذا الزمان يحبون القنية و الامتلاك. إنهم يتطلّعون إلى تشييد البيوت الفخمة و القصور المنيفة، ويريدون المال والسيارات الكبيرة الحسنة الطلاء والمزوّدة بأحدث تكنولوجيا الكماليات. الناس يحبون المجد والسلطة والشهادات الجامعية على أنواعها. وذلك ليعلقوها على جدران بيوتهم تعبيراً عن رقيّهم وعلمهم. وكثيرون منهم، يتعطرون كي يزداد بهاؤهم، ويتجلى حضورهم، وتستطع اشراقتهم، وتتألق طلّتهم في عيون الناس وعقول الناس، وأفكار الناس. وهم في هذا ومع الأسف مخدوعون لأنهم من خلال وهم العظمة ينشدون سعادة تستقر فوق الغيوم وليست مبنية على صخر، لا سيما وأن الأمجاد الحقيقية، والمنجزات الحقيقية، لا يؤتى بها من خارج، بل هي من الداخل دائماً. السعادة الحقيقية هي من القلب السعيد.
إلاّ أني أكون مقصراً جداً إن حصرت هواجس الناس بحدود ما ذكرت، فهناك هاجس آخر، عند الناس، لا يمكن تجاهله، ونسيانه، وإلا كنّا من الجاهلين والمخدوعين رغم ربوات العيوب التي نرزح تحتها.
الناس يريدون -اليوم- أن يكونوا على قدر كبير من الاكتفاء الجنسي. قواهم تتداعى عندما تتململ فيهم الغرائز. وهذا الهدف تبنّاه الإعلام المعاصر خدمة لمصالحة من جهة، وتجاوباً مع أفكار الناس، من جهة ثانية.
الجنس لا ينجو من بطشه ووطأته إلا من في نفوسهم جذوة التقوى وحب الحياة السامية. لقد طغى الهاجس الجنسي إلى حد يمكن معه القول أن أفكار الناس تجنسنت، وممارساتهم تجنسنت، ولباسهم تجنسن، الأمر الذي –في الواقع- بات يملي على الشباب والشابات تطلعاتهم وهواجسهم وأفكارهم. الجنس يشحن الذاكرة بالخيالات والصور على نحو يصبح معه من الصعب محو التوافه والسخافات والصور الشهوانية المغروسة في تربة الذاكرة على مر الأيام.
وليس من السهل في الواقع أن يمحو المرء صورة شهوانية علقت في ثنايا ذاكرته. وبالتالي ستبقى ذكرياتنا تجرحنا. سيبقى مخزون ذاكرتنا عاملاً سلبياً في حياتنا إن نحن تمادينا في التقاعس، وعزمنا على الكسل. وهذا يعرفه جيداً الذين يرزحون تحت ذكريات ماضيهم، وتحت أفكار تنخر كيانهم وعظامهم، وتقض سكينتهم. من هنا فالحكمة هي في الإقلاع عن الشهوات، لا بل التصدي لها. فالإنسان بحاجة أن يعرف ما هو بحاجة إليه حقاً. وبالتالي فإن التأمل في الحياة هو الذي يملي علينا لزوم التشدّد والرصانة، وإلا بئس المصير.
وعليه، فإني، بعد هذا الاسترسال، أريد أن أقول، أن الناس باتو، وبفعل الاهتراء المستشري في عقولهم و ممارساتهم، غير قادرين على الحب. فمن يدرّب نفسه على الشهوات، يتعذر عليه أن يعرف الحب، وأن يدرك مستلزمات الحب، وذلك لأن الحب غريب عمن لا يكون مبذول ومعطاء حتى المنتهى.
الناس اليوم –وكما أسلفنا- يكثرون من الكلام عن الحب الذي أخفقوا فيه وما يزالون، وربما كل ما بوسعهم أن يعملوه، في سبيل استرداد حبهم المفقود، وذلك للتكفير عن ذنوبهم وعيوبهم ونواقصهم، هو أن ينعموا في زواجهم بمقايضة عادلة (fair exchange). الناس –ومن خلال الزواج بالذات- يمنّون النفس بالتعويض، وربما لا يوفقون. وفي العادة، لا يأتي زواجهم بمقياس أحلامهم. تأملوا –معي إذا سمحتم- في السطور التالية علّنا ندرك كيف ينظر الناس اليوم إلى الزواج والحب: منذ بداية التحضير لمباهج الزفاف و أفراحه الدنيوية، وحتى لحظة خروج العروس من بيت والديها للقاء عريسه، كم وكم من أصوات وأهازيج وقهقهات وابتسامات وتمتمات وأقاويل وهمسات وأخبار وأحداث تسمع وتشاهد هنا وهناك! كم وكم من زمامير تصم الآذان. كم وكم من رصاص يُطلق فيرعب أزيره الأبدان. كم وكم من عطور تسد الأنوف نشتمّها بينما تتهادى رائحتها وراء الناس المتنقلين يمين ويساراً! كم وكم من لباس فاقع يضج أمامنا ليمزق سكينتنا ويهتك راحة عيوننا ويدك بيتنا الداخلي! ناهيك عن وقوف العروس أمام الكاميرا في زهو وغرور لتبرز لباسها وشعره، ورموشه، وأظافره، وبشرته، وكل تبرّجه، وكل ذلك لتجعلك ترى فيها غاية الأماني، وسر الوجود.
والناس ينظرون دون أن يرتو، وكأن العروس هي حقيقة سر الاحتفال وسر الوجود. في العروس يرى الناس ما يدغدغ أعماقهم، بينما هم أمام عيون الناس صامتون ومبتسمون وداعون بالسعادة والتوفيق.
في الحقيقة تبدو العروس في كل هذ، وسط معمعة يتعذر فهمه، ويصعب احتواء ضجيجها. فإذا كنت ضعيف البصيرة، فإنك ستحمل مع كل هبّة ريح، ومع كل الزغاريد والبهارج والضجيج. أما إذا كنت ذا قلب يقظ، فإن أفراح الدنيا لن تتعبك ولن تأتي عليك.
وفضلاً عما ذكر، فإن مباهج الزواج المذكور، قابلة للتعليب في أشرطة الفيديو وحافظات الصور (albums). أول، بالفيديو يستطيع من يشاء، أن يسترجع أفراحه وذكريات زفافه، وهذا كله يتم بكبسة زر، بعدها يعود المرء إلى ماضيه مهما فصلته عنه الأيام. في الحقيقة كأني بالفيديو يقول للناس: انظروا يا ناس كيف أني أستطيع أن احتفظ بسعادتكم فأجعلها رهن رغبتكم تراقبونها وتسترجعونها متى شئتم. أنا قادر بكبسة أصبعكم أن أهز الرتابة التي فيها حياتكم وحالتكم. يكفي أن تتأملوا في ماضيكم، كي تكونوا من السعداء. أنا قادر أن أحتفظ بالفتوة أيضاً. إذ استطيع أن أبقى الشاب شاباً. والشيخ ضاحك، والصبية في ذروة نضارته، وذروة ربيعها. أنا قادر أن أغلب جبروت الزمن، وأن أحول دون انسلال الشيخوخة إلى حياتكم. لا بل أكثر من ذلك، أستطيع أن أجعل الشيخ، وإلى الأبد، في شيخوخته لا يلتهمها الموت (1). لكن في هذا يكمن كل الخداع وكل الوهم، لأن مراقبة الفيديو، ولو بعد حين، لا تعفينا من التقدم في السن، ولا تمحو وتمنع التجاعيد والترهل والمرض أن تصيبنا.
وقد يجدد الفيديو حنين النفس إلى لحظات السعادة العابرة، فيعيدنا إلى الفتوة والشباب عبر اختزان الذكريات في الصورة والصوت، إلا أن هذا يبقى مجرد تعويض لا طائل تحته، لا سيما إذا كان حاضرنا بعيداً عن السعادة الحقيقية. وهنا نسأل: ماذا يحصل بعد الزواج حتى تكون الذكريات المختزنة في الفيديو غريبة عن واقعنا وحاضرنا؟
إن أول ما يصيب حياتنا بعد إتمام مراسيم الزواج، يبدأ بانسلال الضجر إلى قلوبنا وبيوتنا تدريجي، فيخبو كل بهاء مزعوم، وينطفئ بريق شهر العسل، وتفقد التهاني بهاءها ورونقه، وتزول الشكليات وتبرد الحرارة النارية التي يقابل بها الناس العروسين الجديدين، وذلك لأن العروسين يدخلان البيت الزوجي، ليبدأ كل منهما معركته مع ذاته ومع الآخر، على غير صعيد.
وفي الحقيقة لا نعرف كيف تكون عليه النهاية. لكن تكاد النتيجة أن تكون محسومة ومعروفة إذا كانت النفوس والعقول راسخة على الأنا وحب الذات وضيق الأفق وعوامل خارجية وداخلية أخرى تسهم في تأجيج نيران الخلاف و ترفع من وتيرة التصادم بين الزوجين. أما إذا عمد الإنسان إلى المحبة المتبادلة، والاحترام المتبادل، فإن البركات تفيض على البيت، والسعادة تنسكب، فيتحول البيت إلى جنة في دنيا الواقع.
باختصار، يفتش الناس عن السعادة على هواهم وضمن مقاييسهم، وقد لا يجدونه، لأن السعادة ليست دائما في ما سعي الناس إليه. وكثيراً ما نظن أن السعادة في اقتناء دار كبير، وفي رصيد كبير، وفي سيارة فخمة، وفي لباس وعطور وغير ذلك. ومع الأسف ليست السعادة في هذه. ترى أين هي مكانة الحب في الزواج؟ أليس السؤال وجيهاً؟ أليس للحب دور في السعادة المذكورة؟
الحب ليس الزواج، وقد لا يكون بين الحب والزواج أية صلة. الحب ليس هو الجنس، وقد يكون الجنس في غياب الحب. وكما وقد يكون الحب في غياب الجنس. إن الإصرار على كون الحب بيولوجياً في طابعه، من شأنه أن يجعل الحب أمراً مادياً. لكن الجنس نفسه، ليس أمراً بيولوجياً بحت، وربما أكثره غير بيولوجي. من هنا فالجنس، وكما يبيّن علم النفس المعاصر، هو عملية بالغة التعقيد يدخل في تكوينها وتشكّلها ومستوى النظر إليها العامل النفسي و الجسد والثقافي والتربوي وغيره… بهذا المعنى يرى بردياييف أن معنى الزوجية Syzygy ليس في استمرار النوع، بل في ارتقاء الإنسان نحو الكمال والخلود وتحقيق الذات، وذلك في إطار الأسرة و الحياة المشتركة؟ وجاء بعده بيتر فليتشر وقال أمراً مشابهاً: “إن رغبتنا في الحب، هي رغبتنا في أن يُعترف بن، لا من أجل ما نفعل، بل من أجل ما نحن عليه، ومن أجل ما هو دفين فينا”. في الواقع ربما في الحب كثير من العاطفة، ولكن الحب ليس هو العاطفة. وربما يقوم الحب في الإعجاب، إلا أن الحب لا يتوقف عند حدود الإعجاب، وإلا فيزول بزواله. إذاً ما هو الحب؟ الحب هو أن يرى المرء حقيقته وذاته في شخص الآخر، ومن خلال الآخر الذي يرتبط به ويخلص له ويرغب في انعتاقه وحريته أيضاً. الآخر مرآتنا وحاجتنا. وبالحب نتوكأ عليه ويتوكأ علينا لما فيه خير الاثنين معاً.
و الحب يدعونا إلى الالتزام بالآخر في حسناته وسيئاته. ومثل هذا الحب يدعون، إلى قبول الآخر في فرادته، في مواهبه وعيوبه، في لمعانه وفي نواقصه. الحب لا يثمر إلا إذا قبلنا أن الحب والمحبوب بحاجة إلى قبول متبادل هادئ وبسيط. من هذا ندرك أن نمو الحب يحتاج إلى تكافؤ وتضحية، لا إلى فوقية واستعلاء.
وفضلاً عن ذلك ليس الحب امتلاك وهيمنة. إنه عملية واعية يأتي المرء من خلالها إلى معرفة نفسه بمساعدة الآخر. وهذا كي يتحقق، يشترط تبادلاً في الحب والاحترام والكرامة. إذ لا قيمة للحب، إلا إذا فهم الإنسان أنه محبوب ومحب، مطاع ومطيع بآن معاً.
والحب المذكور ليس نتيجة وثمرة للاكتفاء الجنسي كما قد يتوهم الكثيرون في هذا الزمان. الحب ليس باباً إلى عالم الأجساد من أجل استهلاكها. إن حباً غايته الجسد (2). ليس حباً. إذ يمكن أن تقوم المتاجرة بالجسد، في غياب كامل للحب. والكلام عن السعادة وعن تقنيات جنسية، لا يمكن أن يكون سابقاً للحب، وقبل الحب، بل هو دائماً ثمرة الحب الذي يرعاه الوفاء، وتحميه الشرائع والقوانين كما بيّنت معطيات التحليل النفسي (راجع، فن الحب، اريك فروم، ص 65-66).
ودراسة أكثر المسائل الجنسية شيوع، أعني البرودة عند النساء، والعجز عند الرجال، تظهر، أن السبب وراء هذه المسائل والمشاكل لا يكمن في فقدان معرفة التقنيات الجنسية، إنما هو في الموانع الكثيرة التي تحول دون عطاء الذات للآخر، ودون التصرف معه بعبقرية وبساطة هي في الأساس من فيض حبه والثقة به واحترام فرادته.
وتقنيات الجنس التي يشدد عليها الإعلام في هذا الزمان، عاجزة حتماً عن حل مشاكل الجنس. فهي، أي التقنيات، مهما تشعبت وتعددت وتنوعت، لا يمكنها أن تولد الحب. وليس من الضرورة بمكان أن تكون هذه التقنيات من ثمار الحب. رب حب كبير لا يعرف طرفاه التقنيات* المزعومة.
ورغم أن التقنيات الجنسية لا تعبّر عن الحب بالضرورة، ولا تولّد الحب بالضرورة، وليست هي ثمرة الحب بالضرورة، إلا أننا نشهد اليوم وبقوة، انشغال العصر في تجميل التقنيات هذه، وتسليط الضوء عليه، وإبرازها من خلال الإعلام، وذلك بدرجة تجاوزت حدود الإفراط و التفريط. وهكذا يخال إلي أن عصرنا عاجز عن تقديم الحب قبل الجنس وبدون الجنس. إن عصراً يجعل الجنس سابقاً للحب، لن يقطف أبناؤه غير الحريق. الجنس قبل الحب، لا بل بالأحرى قبل الزواج، هو كالعربة أمام الحصان، بدل أن يكون الحصان أمام العربة.
وعصرنا لا يفهم، ولا يريد أن يفهم أن الحب أساس لا نتيجة، وأنه يمكن أن يقوم الحب ليس فقط قبل الجنس، بل في غياب كامل للجنس (3)، كما في الرهبنة مثلاً. ترى من أين وصلتنا الفكرة القائلة أن الحب هو ثمرة الاكتفاء الجنسي؟
في اعتقادي أن هذه وصلتنا عبر نظريات فرويد (راجع للاستزادة، فن الحب، اريك فورم). بالنسبة لفرويد، الحب هو مسألة جنسية، ولكن حذار من أخذ هذا القول عشوائي، إذ من الخطأ المبالغة في تقييم أثر الفرويدية على العصر دون الغوص في جذور الفرويدية ومنطلقاتها وركائزها.
فرويد نفسه تأثر إلى حد بعيد بمادية القرن التاسع عشر. لا بل يمكن القول أنه أفرط في الكلام عن الجنس إلى حد أنه رأى في الحب والحسد والكراهية مجرد ثمار متعددة الأشكال لأمر واحد هو: الغريزة الجنسية. لم يلحظ فرويد أن حقيقة الإنسان تكمن في جوهره، لا في جزء منه فقط. من هنا فإن قول فرويد أن المتعة غير المشروطة، هي التي تخلق الصحة العقلية والسعادة، هو في العمق زعم خاطئ، وذلك لأنه قول لا يأخذ الإنسان كله في الحسبان، بل يبني الحقائق على جزء من الإنسان لا على الإنسان بكليته. انطلاقاً من هذ، نسأل عن مسألة الجنس قبل الزواج في هذه الأيام.
ظاهرة “الجنس قبل الزواج”، هي ثمرة العصر، ووليدة برمجة شهوانية ومتشهونة يتم إعدادها للأجيال الطالعة. الجنس قبل الزواج هو نتيجة طبيعية، وعلامة أكيدة على الارتماء في دنيا الشهوات والموبقات الكثيرة والعديدة، وهكذ، فإن الإنسان اليوم، لا سيما لجهة موضوع الجنسي قبل الزواج، جعل العربة أمام الحصان، بدل أن يكون الحصان أمام العربة يشدّها وينقلها من مكان إلى آخر. ومع الأسف لم يعد الإنسان يقتنع أن الحصان يجب أن يكون قبل الغربة. لماذا؟ كأني بإنسان اليوم يريد الشهادة المدرسية حتى قبل الذهاب إلى المدرسة.
ويرى المطالبون بالجنس قبل الزواج، أن الجنس غاية المنى، ومنتهى الحياة، وأن الزواج هو مرتع الجنس لا أكثر. وربما يصل بهم الموقف حد القول أن كل ما في الزواج جنس. من هنا لا يرى الكثيرون غضاضة في المطالبة بالجنس قبل الزواج، والدعوة إلى معرفته قبل الزواج، واختباره قبل الزواج. إلا أن المطالبة بالجنس قبل الزواج، هي في حد ذاتها إشارة إلى أن الأمر غير مألوف، لا بل ينطوي على خروج على الأعراف والتقاليد المعمول بها عبر تاريخ البشرية. المطالبة بحد ذاتها على أن المطلوب غير مألوف. وليس عندنا في كل تاريخ المجتمعات البشرية حرية جنسية متفلّتة وغير مشروطة، إلا في زمننا. وبالتالي ليس هناك إجماع إنساني لجهة الحرية الجنسية.
ويقول المطالبون بالجنس قبل الزواج أنه لا غضاضة ولا مشكلة في تعاطي الجنس قبل الزواج. إلا أننا نسأل: هل من محاذير ومخاطر يمكن أن تنجم عن تعاطي الجنس قبل الزواج؟
من شأن الدخول في الخبرة الجنسية قبل الزواج، أن يجعل مشروع الزواج في حد ذاته أمراً بسيطاً لا يحتاج من يُقبل عليه، إلى زخم وإبداع وتجديد وخلق. الجنس قبل الزواج يقتل في النفس اللهفة إلى بلوغ جوهر الزواج القائم على المسؤولية والتضحية المتبادلة. وذلك لأنه يمكن للجنس أن يثبط عزيمة المرشحين للزواج، بحيث يجعلهم (أي الجنس) يقبلون على الزواج بفتور وبرودة، فيقولون: “لقد عرفنا الجنس، وبالتالي عرفنا سر الزواج وحقيقة الزواج”. مثل هذا التفكير من شأنه أن يجعل أمثال هؤلاء يشعرون أن الحياة أصبحت محدودة، وبدون أهداف، وبالتالي تافهة ولا معنى لها. وإذا توصل الناس إلى هذا التفكير، عندها قد يصرّحون: لماذا الزواج؟ (4) والسؤال الآن هو: لماذا الكلام عن زخم في الزواج؟ ما هي أهمية هذا الزخم من أجل الدخول في سر الزواج؟
الزخم عنصر مهم جداً لا بد منه لكل المرشحين للزواج. إنه طاقة حماسة وشوق يشعر المرء من خلالها أن حياته المقبلة مليئة بالبهاء، وأن الزواج مفعم بالجمال. في الحقيقة لا بد أن تأتي أمور الحياة الواحدة تلو الأخرى، وأن تأتي أطوار الحياة، الواحدة تلو الأخرى.
لا يستطيع المرء أن يعيش في المراهقة، وهو يتطلع إلى خبرة رجل وخبرة شيخ. كل شيء يكون، ويجب أن يكون في حينه. والدخول في خبرة الزواج، وفي عداد المتزوجين، هو أمر يقوم على قبول سر الحياة المشتركة في حلوها ومره، في سكّرها وملحها. الكلام عن الزواج ليس كلاماً عن حياة جنسية. وقد يأتي زمان تموت في الحياة الجنسية في الإنسان وذلك بسبب ضراوة الصعاب والمشاكل وعدم التجانس والانسجام والتفاهم بين الزوجين. ومع ذلك يتشدّد المطالبون بالجنس قبل الزواج، إذ لا غنى في نظرهم عن الجنس قبل الزواج، فهو ضروري كي يعرف كل فريق الآخر.
في الحقيقة لا يمكن للجنس أن يقود إلى هذه المعرفة، فهو علاقة جسدية، ولا يمكن في أي حال أن يسهم في المعرفة بين الطرفين إلا بعد الزواج ولكن في إطار ضيق، دون أن يكون حتماً العنصر الأول في هذا التفاهم وهذه المعرفة.
لا يمكن أن يكون تلاقي (5) الأجساد سبباً لتلاقي النفوس. قد تلتقي الأجساد دون أن تلتقي النفوس. ليس من علاقة بين لقاء الأجساد ولقاء النفوس. وبالتالي ليس من علاقة بين المعرفة الجنسية والاختيار الزوجي.
وهنا لا بد للمرشحين للزواج أن يتمتعوا بشرطين أساسين:
1. الاستعداد للانفتاح. 2. الاستعداد للتفاهم.
ولا يكفي أن يكون أحد الطرفين منفتحاً كي تستمر مسيرة الحياة الزوجية. وبالتالي، إذا حصل أن غاب التفاهم المتبادل، ففي هذا كل الدليل على أن أحد الفريقين مظلوم ومغبون، وأن الفريق الآخر ظالم ومستبد.
ونحن كثيراً ما يغيب عن أذهاننا أن الإعداد للحياة الزوجية يبدأ منذ الطفولة. كثيراً ما يغيب عن أذهاننا أن الزيجات السعيدة يجب أن يكون وراءه، وفي أساسه، أزواج سعداء وعقلاء ومتفاهمون. فالزواج ليس مجرد “سنّة الحياة”. وسنّة الحياة لا يمكنها أن تعني البتة إلزامية دخول الجميع في الحياة الزوجية. الإلزامية غير مبرّرة على أرض الواقع، وذلك لأن كثيرين ولأسباب كثيرة، لا يتزوجون. لا بل أن كثيرين لا يرون أن للحياة الزوجية شروطاً كي تنجح، فما جدوى (6) الإلزامية هذه؟ والآن يبرز السؤال: ما هو حجم الجنس في مشروع الزواج؟
إذا قلنا أن الجنس هو كل الزواج، فنحن نتنكر لما قلناه في الصفحات السابقة، فالجنس ليس في الواقع كل الزواج. وإذا قلنا أنه لا قيمة للجنس في الزواج، فهذا تطرف أعمى، وفكرة لا معنى له، ولا أساس لها على أرض الواقع. من هنا يكفي أن يقال أن الجنس ليس كل شيء. إذ، ما هي حدوده؟
لا يمكن في الحقيقة أن يكون ثمة جواب واحد محدد على هذا السؤال. فمثل هذه الحدود يختلف الكلام عليها من شخص إلى آخر. المهم أن الجنس طاقة محدودة وأمر محدود. وهذه المحدودية تكتشف يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة. هناك حالات يموت فيها الجنس، ويعاش بين الزوجين كأمر ذي حدود، تماماً كما يقول غاندي الشهير عن زواجه وعن علاقته بزوجته التي اتفق وإياها بعد حين من زواجهم، ألاّ يعرف أحدهما الآخر (7).
والمتزوجون يعرفون أن الجنس ليس كل شيء، فالإعجاب أبقى، والحب أثبت، والتفاهم أعذب، والتحاور أسلم. التفاهم بين الزوجين هو عامل السعادة الأول لا سيّما عندما يقترن بالتضحية المتبادلة ولكن مع الأسف، فإننا في زماننا هذا بدأنا نشهد تضخم الجنس وتنامي الهواجس (8) الجنسية. هذا الزمان جعل الجنس المدخل إلى كل شيء؟ وفي رأي لا يمكن أن تسلم مسيرة السفينة الزوجية إذا تمادى الناس في التراخي والفلتان. لن تسلم الحياة إلا إذا اقتنعنا أن الله هو الأساس المتين لكل بناء وبيت، لكل علاقة ولكل مشروع حياة. الله أساس الحياة وضرورته، ومبدأه، ومعناها. هذا الكلام يجب أن يلقّنه الآباء للأبناء ولا يترك البت به لمزاجية الأبناء وشهواتهم التي تتنامى بفعل ثقافة شارعية.
وحتى لو أوغل الزمان هذا في إطلاق الهواجس الجنسية، والتشديد على الجنس في الإعلام، فالحياة الحقيقية لا تقوم على تلاحم الأجساد، لأن للأجساد جحيماً لا قرار له إذا غرق المرء في أوحال الجسد والشهوات، وذلك لأن جوهر الإنسان يتخطى الجسد. إنسان اليوم لا يفهم أنه في عمقه أكبر من جسد، وأعظم من أن يحد في جسد. إنسان هذا الزمان هو بدون ثقافة، وبدون معطيات. إنه إنسان بدون آفاق. إنسان اليوم هو ابن التلفزيون والسينما.
والآن نأتي إلى صعيد آخر: من شأن الإقبال على الجنس قبل الزواج أن يجعل العازب متزوجاً دون أن يكون مسؤولاً. أي أنه من شأن الذين يقبلون على الجنس الآخر قبل الزواج، أن يشعروا أنهم متزوجون دون أن يكونوا في الحقيقة هكذا. والذين يقبلون على الجنس قبل الزواج، ليس هناك ما يلزمهم بالرصانة والمسؤولية. وبالطبع هذا لا يعني أن المتزوجين كلهم يحملون المسؤولية، على رغم أن القوانين العامة المعمول بها في الدوائر المختصة ترعة حقوق الجميع، كي لا يُظلم أحد.
ليس هناك ما يلزم العازبين، الذين يختبرون الجنس، بالمسؤولية، إذ ليس هناك ما يقيّد تصرفاتهم، ويكبح جماحهم وتهوّرهم. ليس هناك ضمانة في شيء. قد يأتي الشاب، وفي العادة هو المبادر، إلى قطع العلاقة مع الفتاة. في مثل هذا الحال ليس هناك ما يدعو مثل هذا الشاب كي يرعوي ويعتدل إذا عزم التخلي عن فتاته. وهنا المصيبة. أما إذا شاء أحد المتزوجين ترك زوجته للعديد من الأسباب، ومعظمها تافه ويمكن تذليله بالتفاهم الصافي والإصغاء بانتباه ومحبة، عندها يأتي القانون ليعطي لكل ذي حقٍ حقه. ترى ماذا لو قرر الشاب ترك الفتاة قبل الزواج؟ أليس خذا مصدر صدمة عنيفة على قلبها؟ أنا لست من دعاة التراخي والاستسلام. وأطالب الشباب والشابات بالتروي والتعقل كي تسلم مسيرة السفينة. الذين يبدأون رزنامة الزواج بالجنس، لا أعرف أين ينتهي أمرهم.
الجنس قبل الزواج هو مسألة غريزة لا أكثر بينما في الزواج يصبح الأن والأنت مسؤولين أمام الله والناس ويخطئ مع ذلك من يظن أن الزواج مرتع الجنس، وفرصة للفلتان. الزواج مدرسة كبيرة، قد لا ينتسب إليها البعض، وقد ينتسب إليها البعض الآخر. وفي هذه المدرسة هناك نواميس وخطوط لا يمكن تجاوزها وإلا تداعى البيت وتهدمت الحياة.
يُضاف إلى ذلك أن الذين يدركون الجنس قبل الزواج، يختبرون حالة من الصحراوية والجفاف بعد كل لقاء، هذا علماً أن الصحراوية ممكنة في الزواج أيضاً إذا لم تتوفر سبل السعادة وعناصر الوفاق بين الفريقين، ليس على صعيد الحياة الجنسية فقط، بل أيضاً على كافة الصعد الزوجية.
الزواج في حد ذاته، لا يجمّل الجنس، بل يعرّيه ويكشف حدوده وحقيقته ودوره ورسالته. وبالتالي فإن جنساً يمارس خارج الزواج، يأتي ليجعل محبيه وطالبيه ومؤيديه والداعين إليه، في عزلة خانقة. ومع ذلك، قد لا يتعظ أحد، لأن الجنس كرة من نار جذابة لا بد أننا نحترق إن نحن أمسكناها بجهل وغباوة.
إن كل علاقة بين شاب وفتاة، تحتاج إلى ضمانة، وهذه الضمانة لا يضمنها أحد إلا القانون، الأمر الذي يعني أن الجنس لا يفهم ولا يقبل إلا في حظيرة الزواج. والدوائر المختصة في كل مكان من العالم تعمل على إيصال الحق إلى أصحابه ضمن قوانين مرعية الإجراء يؤخذ بها. ولكن لماذا الضمانة؟
قد لا تكون هذه الضمانة مهمة للشاب، فهو قد اعتاد، لا سيما في الشرق، أن يكون حراً طليقاً. بهذا المعنى تحتاج الفتاة إلى ضمانة حتى ولو لم تكن تفكر بها. الفتاة تحتاج إلى الضمانة كما الشاب، لأنها تقيها شرّ المجهول الذي لا تعرفه ولا تنتظره. من الغباء حقاً عدم أخذ الضمانة في الحسبان. ومن الغباء أيضاً عدم المطالبة بها. فالفتاة التي تقع ضحية الابتزاز، قد لا تتمكن من النهوض لمتابعة المشوار. بيد أن الضمانة ليست –في قناعتي- ضرورية للفتاة فقط، لأن الأهل (9)، بدورهم يحتاجون إلى ما يضمن لهم حسن مسيرة ابنتهم وأبنهم وسلامة علاقتها بمن تحب. وقد يكون الأهل من لا يراعي هذه الأمور، وهذا بمثابة الاستثناء لا القاعدة. هذه في التحليل الأخير أمور لا تنتمي حقاً إلى كوننا أناساً شرقيين، وحسب، إنها أمور يمليها علينا العقل الراغب بحسن سير الأمور، لا سيما وأن للأهل عاطفة وحباً تجاه فلذاتهم وهذا ليس بالأمر القليل. والآن نطرح السؤال: لماذا يكون الجنس قبل الزواج؟ لماذا لا يحق لنا التفكير بالإنجاب قبل الزواج، بينما نستسهل المطالبة بالجنس قبل الزواج؟ أليس جميلاً أن يكون الإنجاب قبل الزواج؟
المطالبة بالجنس قبل الزواج، تكشف بحد ذاتها أن الجنس ليس قائماً قبل الزواج، وأن المطالبة به هي التي تجعله قائماً. والجنس قبل الزواج يمكنه أن يكون، إلا أن الإنجاب قبل الزواج غير وارد، وذلك لأنه يلزم الطرفين بتبعة عملهما. الإنجاب يستتبع المسؤولية. ترى مَن مِن الآباء العقلاء والأمهات العاقلات يسمحون لأولادهم و يجيزون لهم أن يكونوا أدوات اختبار لمشروع قد يتحقق و قد لا يتحقق؟ إذا كان المجتمع لا يقبل بالإنجاب قبل الزواج، فكيف يقبل بالجنس قبل الزواج؟ كيف نقبل الواحد ونرفض الآخر؟ ترى لماذا لا يسأل المطالبون بالجنس قبل الزواج أهل الرأي من المتزوجين علّهم يسمعون منهم ما يفيد؟ في رأي لا يستطيع العازب أن يكون بعيداً عن نصائح المتزوجين العاقلين وخبرتهم ورؤيتهم.
أخيراً أردت الكتابة في الجسد واللباس والشهوة لقناعتي أن هذه الثلاثة هي من شؤون الساعة، ومن المواضيع الحساسة والبالغة الأهمية. فأنا حيثما تلفّت، لا أرى أمامي إلا أجساداً تحضّ على الارتماء في النار. حيثما نظرت، يسطع في عيني وهج أجساد تحترق وتحترق. وتساءلت مراراً: ما هذا الذي أراه؟ لماذا تفرح حواء بأن تكون معروضة للفرجة وللاشتهاء؟ ما الذي حصل حتى أننا تخلينا عن شرقيتنا وعاداتنا وأعرافنا في هذا الشرق؟ لماذا شرعن، وعلى عجل، نتبنى أموراً غريبة في بلادنا قبل حين؟ ما الفرق بين بائعات الهوى من جهة، والفتاة التي تستعرض مفاتنه، باسم الموضة، من جهة ثانية؟ أين هو مصير النقاوة الداخلية إذا كانت الفتاة المؤمنة تلبس كالفتاة العادية؟
في الحقيقة يبدو الواحد منا عاجزاً عن التفريق بين بنت الموضة وبائعات الهوى، ففي الأمرين تحريض على زنى القلب والجسد بآن؟ في الأمرين ليس من حشمة. في الأمرين معاً يستباح الجسد اللعين المشتهية.
ورأيت أن حواء شرعت تلبس القصير دون أن تكون مرتاحة. فهي تبدو، ومن خلال اللباس القصير والمشقوق، قلقة ومضطربة، وذلك لأنها في العمق لا تعرف ماذا تريد. من يدري، ربما ترجو حواء من خلال الموضة أن تقول ولو مداورة أن ليس عندها ما تعطيه غير هذا الجسد. وإذا صدق الاستنتاج، أن ليس عند حواء ما تعطيه غير جسده، عندها بئس أمومة الغد، وبئس الأجيال الطالعة والمرتقبة.
الموضوع الذي أردت الكتابة فيه شائك ودقيق، ومن الأكيد أني لم أتناول كل جوانبه. إلا أني أدعوك إليه في حلّته القائمة بين يديك لتطالعه بتمعن. ولك مني بعد كل جهد يُبذل، الشكر والتقدير.
(1) هذا ما حدا بالشاعر (جون كيت) أن يقول في قصيدته Grecian urn عندما وصف حالة العاشق الذي خرج إلى الحقول في أثر عشيقته: لن تعود إلى بيتك. ولن تمسك بعشيقتك، وستبقى إلى الأبد هائماً على وجهك، لأن الزمن توقف، وبالتالي فأنت لن تشيخ وحبك لن يموت.
(2) العالم المعاصر يرى في المرأة مجرد جسد. عقلها لا يعنيه. ومع الأسف، فالمرأة نفسها كرّست هذه المقولة لتصبح جسداً يتم التعامل معه بمعزل عن العقل
(3) لا يستطيع متزوج عاقل أن يقول أن الجنس أساس السعادة عنده. الجنس لغة بين المتزوجين. من الأكيد أن في الزواج السعيد أكثر من لغة للتحاور والتحاب الزوجي. وقد يكون صفاء الحور بين الزوجين هو اللغة الأعمق والأجمل بامتياز. * في المكتبات الكثير من الكتب التي تتكلم عن أهمية الجنس للسعادة. لكن المشكلة أن الجنس ليس مصدر السعادة، ويجب التفتيش عن السعادة في موضع آخر.
(4) هناك نزوع في هذا الزمان إلى تبني العزوبية، ليس فقط بداعي الضغوط الاقتصادية بل أيضاً بسبب استفحال الأن واستشراء الرغبة بالحرية واللامسؤولية.
(5) الجنس ليس معرفة، ولا علاقة له به، فهو مسألة فيزيولوجية شهوانية في العقل المعاصر. والمطالبة به قبل الزواج، لهي الدليل أن الإنسان المعاصر يؤثر الشهوات، والملذات، بامتياز، على أي أمر آخر.
(6) إذا قلنا بإلزامية الزواج. فهذا يعني أن زواج المتخلفين عقلياً أمر قائم، وزواج المتخلفين نفسي، مقبول. النفس المختلة وغير السوية يحظر عليها الزواج حتى ولو كانت الشهوة إحدى أعظم الأسباب الكامنة وراء الإقبال على الزواج. ومن الخبرة نتعلم أن الزواج مدرسة كبيرة وعظيمة، إلا أننا نتعاطاها فقط على قاعدة “سنّة الحياة” وهذا خطأ كبير.
(7) راجع مذكرات غاندي، وسيرة حياته المطولة.
(8) إن كل احتفالات الزواج اليوم، تأتي لتؤكد تفاقم الهاجس الجنسي. مثلاً لماذا يتم تجميل العروس أمام عيون الناس، بينما الدعوة هي أن تكون عروساً جميلة في عيني ربها وزوجها أولاً وأخيراً؟ لقد تجنسنت كل احتفالات الزواج في الشرق.
(9) راجع مذكرات غاندي، وسيرة حياته المطولة.