Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

تمهيد

ليست هذه الصفحات ترجمة جديدة لخدمة القداس الإلهي التي كتبها القديس يوحنا الذهبي الفم. ولا هي دراسة لهذه الخدمة متسلسلة. كذلك لا تحتوي شروحات تاريخية ولا توسيعات لاهوتية { من أجل المزيد من المعلومات على القداس الإلهي، راجع (مدخل إلى القداس الإلهي)، لكوستي بندلي، و (من أجل فهم الليتورجيا وعيشها) لرهبنة دير الحرف، و (ذبيحة التسبيح) لفريدا حداد، و (مائدة الرب) للأب افناسييف، و (الكنيسة الأرثوذكسية إيمان وعقيدة) لتيموثي وير، و (العبادة الفردية والعبادة الجماعية) للأب فلوروفسكي، كلها في منشورات النور (الناشر) }. هي تعليقات (notes) بسيطة، أي ملاحظات مختصرة تُبرز بعض المقاطع من نص الخدمة وبعض المواضيع الرئيسة من هذه الصلاة الطويلة والكثيرة الغنى التي حملها القديس يوحنا الذهبي الفم من أنطاكية إلى القسطنطينية في القرن الرابع، والتي هي، في خطوطها العريضة، مثبتة في مخطوطات يونانية من القرن الثامن. ولقد أردنا توجيه انتباه المؤمنين وتفكيرهم إلى بعض الذرى الروحية في هذا النص.

لم نكتب للعلماء ولكن للعامة، رجالاً ونساء، وحتى للتلاميذ، للنفوس الأقل إلفة مع المناقشات العقائدية والتي ترغب، مع ذلك، في أفكار أوّلية محددة.

بعض الكلمات على البنية العامة لخدمة القديس يوحنا الذهبي الفم لن تكون بلا فائدة.

إن هذه الخدمة التي نتأمل فيها الآن تجمع، كالخدم المسيحية القديمة، نموذجين للاجتماع الليتورجي: خدمة الكلمة وخدمة الإفخارستيا.

تأتي أولاً خدمة الكلمة وهي ترتكز إلى الكلمة بوجهيها: كلمة الإنسان الذي يتوجّه إلى الله، وكلمة الله الذي يتوجّه إلى الإنسان. يتوجّه الإنسان إلى الله من خلال الطلبات السلامية، وهي سلسلة من الطلبات يرفعها الكاهن أو الشماس باسم الجماعة. ويفصل بين هذه الطلبات تراتيل وتلاوة مقاطع من الكتاب المقدس (ستيخونات، خاصة من المزامير) مع صلوات ندعوها (سرّية) (الأفاشين السرية) يتلوها الكاهن.

ثم إن (الدخول الصغير) (الدورة الصغيرة) للكاهن وهو يحمل كتاب الأناجيل يشير إلى أن هذا القسم من الخدمة يوجّه الفكر إلى الكلمة الإلهية المكتوبة. بعد صلاة التعظيم (تريصاجيون: (قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا…) تعاد ثلاث مرات)، تتلى الرسالة والإنجيل الموافقان لليوم، وتليهما عادة عظة.

عندها تبدأ الخدمة الإفخارستيا الشكرية. يُحمل الخبز والخمر إلى المائدة المقدسة. هذا هو (الدخول الكبير) (الدورة الكبيرة)، تليه تلاوة دستور الإيمان. يقرأ الكاهن، بعدئذ، الصلاة الشكرية الكبيرة التي تتضمن الشكر لله على كل عطاياه والدعاء الإنجيلي في تأسيس سر الشكر في العشاء السري للسيد، واستدعاء الروح القدس علينا وعلى القرابين.

هذه الصلاة الطويلة التي تتخللها بعض الاستشفاعات والتذكارات، تبلغ ذروتها في الصلاة الربيّة (أبانا الذي في السماوات…). يناوَل المؤمنون، بعدها، جسد الرب ودمه. وتنتهي الخدمة باستشفاعات قصيرة وتبريكات.

هذه هي الخطوط الكبرى لخدمة القديس يوحنا الذهبي الفم، والتي سيستخرج هذا الكتيّب بعض عناصرها ليقدمها للقراء بشكل أفضل فيلتقطوها بانتباه وورع.

كثيرون عملوا ما سعينا هنا إلى عمله. عملوه بأفضل منا كثيراً. وإذا كان لهذا الكتيّب فضل ففي بساطته وإيجازه.

فليجعل الرب من عملنا هذا، على تواضعه، عوناً لبعض النفوس في أن تعبده بالروح والحق.

بيروت، ميلاد 1971

 

  1. في السلام
  2. دخول الملائكة القديسين
  3. دخول الكتاب
  4. نتقدم بتوبة
  5. السلام لجميعكم
  6. آمين
  7. النور الصافي
  8. النفوس والأجساد
  9. لنسمع الإنجيل المقدس
  10. الدخول الكبير
  11. شركة محبة وشركة إيمان
  12. الأبواب
  13. تحت نفخة الروح القدس
  14. أتؤمن بهذا ؟
  15. صلاة شكرية
  16. تقدمة
  17. عنصرة
  18. مباركة أنت في النساء
  19. جميعهم وجميعهن
  20. الصلاة الربّيّة
  21. عشاء الرب
  22. قد نظرنا النور الحقيقي

 

في السلام

تفتتح الطلبة الكبرى التي تبتدئ بها الخدمة الإلهية بطلبة تلحّ في أن يُعطى لنا السلام.

وبالفعل، فإن هذه الطلبة مهمة جداً وأساسية. فهي تتكرر ثلاث مرات بأساليب مختلفة قليلاً. وهذه ليست إعادات غير ضرورية، إذ تحمل كل واحدة منها معنى عميقاً وخاصاً.

آ- (بسلام إلى الرب نطلب). المقصود، أولاً، أن نضع ذواتنا في حالة سلام داخلي. فمن سيشترك (1) في القداس الإلهي عليه أن يطرد من فكره كل تشويش، أن يغلق كل نافذة على التجارب الجسدية والدنيوية وأن يتحرر من كل تسلط لـ (أمور) هذا العالم ومن كل شعور عدائي تجاه أي إنسان ومن كل قلق شخصي. عليه أن يقف أمام الله في حالة هدوء وانتباه واثق وتركيز على (الحاجة الوحيدة).

ب- وها هي، فوراً، طلبة ثانية: (من أجل السلام الذي من العلى وخلاص نفوسنا، إلى الرب نطلب). السلام الذي طلبناه منذ قليل هو شيء آخر مختلف عن حالة نفسية نصلها بجهودنا. هذا سلام يأتي (من العلى). يجب أن نعترف، متواضعين، بأن هذا السلام عطية من الله، وأن ننفتح على هذه العطية ونمدّ لها أيدينا. وعلينا، من جهة أخرى، أن نعترف بأن السلام الإلهي و (خلاص نفوسنا) مترابطان في العمق. السلام إشارة إلى حضور المخلّص وعمله فينا.  

ج- وهذه، أخيراً، طلبة سلامية ثالثة: (من أجل سلام كل العالم وحسن ثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الكل، إلى الرب نطلب). السلام الذي نطلب يتجاوز أشخاصنا المنعزلة ويتخذ طابع التطبيق العملي. نصلّي من أجل سلام الكون، ليس فقط من أجل البشر، ولكن من أجل كل الخلائق، من أجل الحيوانات، من أجل النباتات، من أجل الكواكب وكل الطبيعة. هكذا ندخل في تقوى كونية ونتعاطف مع كل ما خلقه الله. نصلّي من أجل كل تلاميذ المسيح ومن أجل أن يعبدوا جميعهم الله (في الروح والحق). نصلّي من أجل زوال الحروب والصراعات بين الأمم والأوطان والطبقات. نصلّي من أجل أن يتّحد جميع الناس في حب واحد.

كل هيكل للسيد بيت (حضور إلهيّ) وبيت صلاة. كل هيكل أيضاً بيت للسلام. فلتصر نفس كل من يدخل إلى هذا الهيكل ليشارك في الاجتماع الإلهي، لتصر هي أيضاً بيتاً للسلام.

للأعلى

دخول الملائكة القديسين

يتم الطواف بالإنجيل في زيّاح يتجه نحو الهيكل. هذا هو الطقس المدعو (الدخول الصغير) (الدورة الصغيرة). ماذا يعني هذا الدخول الصغير؟ تعبّر عن معنى هذا الدخول الصلاة التي يتلوها الكاهن عندئذ وفيها: (… اجعل دخولنا مقروناً بدخول ملائكة قديسين يشاركوننا في الخدمة وفي تمجيد صلاحك). الملائكة يشاركوننا اجتماعنا. هم يصلّون معنا ومن أجل كل منّا. نحن محاطون بجمع الملائكة. إنهم يحرسوننا ويساعدوننا ويحبوننا. يجب أن نجتهد للدخول معهم في علاقة واثقة وحميمة.

فلنلاحظ أن نص القداس يقول إننا والملائكة نخدم (صلاح) الله. لا يقول النص إننا نخدم مجد الله أو قدرته، إنه يضع النبرة على (صلاح) السيد. فمجد الله هو، بالتأكيد، إشعاع صلاحه، وقدرة الله تجعل هذا الصلاح فاعلاً. لكن الخدمة الإلهية توجّه نظرنا، أولاّ، نحو الصلاح. وطقس (الدخول الصغير) هو دخول في صلاح الله، في هذا الصلاح الذي يعرفه الملائكة أفضل مما نعرفه بكثير. هو دخول في هذا الصلاح الذي يتوجّه إليه دعاء نردّده في القداس باستمرار: (يا رب ارحم).

للأعلى

دخول الكتاب

أثناء زيّاح الدخول الصغير (الدورة الصغيرة) يحمل الكاهن أو الشماس كتاب الأناجيل المقدسة. يتوقف الموكب أمام أبواب الأيقونسطانس. يرفع الكاهن أو الشماس (حامل كتاب الأناجيل) الكتاب ويبرزه للمؤمنين قائلاً: (حكمة! فلنستقم)، ثم يدخل الهيكل ويضع الكتاب على المائدة المقدسة.

ليس الدول الصغير دخولاً للملائكة فقط، ولكنه، أيضاً، دخول لإنجيل السيد يسوع المسيح إلى قلب كلٍّ منا. ويعني الإعلان: (حكمة!) أن الأناجيل هو الحكمة الفائقة، هو الحكمة الإلهية المعلنة والتي تتجاوز، بما لا يقاس، كل معرفة بشرية، ويشير الطلب: (فلنستقم!) إلى الإجلال العظيم الذي ينبغي أن نتقبل به كلمة السيد. ثم إن إبراز الإنجيل للمؤمنين دعوة لسماع كلمة المعلِّم وإتباعها.

يبقى كتاب الأناجيل موضوعاً على المائدة طيلة القداس الإلهي. كما توضع عليها أيضاً (القرابين المقدسة) التي ستستخدم في عشاء السيد السري (في الذبيحة الإلهية). وهكذا يتأكد التلازم بين الطعام السماوي غير المنظور وهو كلمة الله، والمشاركة في جسد مخلصنا ودمه. يبقى الأناجيل على المائدة المقدسة كأنه ينتصب ويدعو. فهل دخل إنجيل يسوع قلوبنا في هذا الدخول الصغير؟

للأعلى

نتقدم بتوبة

إذا كانت خدمة القديس يوحنا الذهبي الفم لا تُستهل، كبعض القداديس المسيحية الأخرى، بصلاة خاصة للاعتراف بالخطايا وإعلان المغفرة الإلهية، إلا أن هذين العنصرين (الاعتراف بالخطايا وإعلان المغفرة الإلهية) موجودان، مع ذلك، فيها وإن بشكل أقل وضوحاً منه في غيرها. فهما يبرزان بوضوح في الصلاة التي يرفعها الكاهن قبل تلاوة الرسالة. وبالفعل فإن هذه الصلاة التي، وللأسف، يجهلها المؤمنون عموماً، تحتوي على الكلمات التالية: (… يا من لا يهمل الذين يخطأون بل وضع توبة للخلاص… أنت أيها السيد تقبّل من أفواهنا أيضاً نحن الخطأة التسبيح المثلث التقديس، وافتقدنا بغنى صلاحك واغفر لنا كل ذنوبنا الطوعية والكرهية. قدِّس نفوسنا وأجسادنا…). كل ما وجب قوله يقال في هذه الصلاة. ليس فيها تعداد للخطايا بل اعتراف متواضع بوضعنا كخطأة ولجوء إلى رحمة الله اللامتناهية.

ويتوجّه الكاهن، في هذه الصلاة نفسها، إلى الله فيقول: (لقد أهلتنا نحن عبيدك الأذلاء غير المستحقين أن نقف في هذه الساعة أيضاً أمام مجد مذبحك المقدس…). لقد أهلتنا أن نقف أمام مائدة السيد. فلْنَرَ جيداً التأكيد الوادع والبَنَويّ في هذه الصلاة. فنحن لا نقول هنا: (أهِّلنا) ولكن: (لقد أهلتنا). نحن لا نشك في أن سيدنا الرحوم قد استجاب لشوقنا إلى نعمة الغفران بأن أعادنا أبناء له مصالَحين ومحبوبين.

للأعلى

السلام لجميعكم

هذه العبارة هي التي كثيراً ما يردّدها الكاهن أثناء القداس إذ يتجه نحو المؤمنين مباركاً إياهم.

لقد رأينا في بداية هذه التأملات معنى طلب السلام وأهمية هذا الطلب الذي كثيراً ما يردده الكاهن أو الشماس. فالعبارة (السلام لجميعكم) هي، بمعنى ما، جواب الله على هذا الطلب، إلا أننا ألفنا هذه العبارة إلى حد أن الكثيرين منّا ما عادوا يستطيعون أن يحسّوا قيمة ما تحمله ووزنه.

عندما يرفع الكاهن يده مباركاً وقائلاً: (السلام لجميعكم) فهو يبلّغنا واقعاً. إنه يمنحنا هبة من لدن الله ونعمة، يمنحنا السلام الذي يأتينا من الله لا منّا، السلام الذي يحلّ علينا ويدخل فينا. هل نحسّ هذا السلام في قلوبنا ؟

هل نحن واعون حقاً أن السيد يهبنا سلامه ؟ هل لنا الإيمان بأن السلام المعطى لنا هكذا وفي مرات كثيرة يحمل في ذاته ما يهدّئ اضطراباتنا وآلامنا ؟ ربما سمعنا، مئات المرات، في القداس، هذا (السلام لجميعكم) دون أن نوليه انتباهاً جديّاً. لقد حانت الآن الساعة المؤاتية التي يجب أن نسعى فيها، وبقلب جديد، إلى أن نتقبل في ذواتنا سلام يسوع هذا المعطى لنا ونحافظ عليه.

للأعلى

آمين

هذه هي الكلمة التي يقولها المؤمنون في أكثر الأحيان أثناء القداس. إنها جواب الشعب على الصلوات التي يرفعها الكاهن أو الشماس بصوت عال.

ما قيمة كلمة آمين التي نقولها ؟ هي تعني، في العبرية، أن موضوع كلامنا يقينيّ وثابت. ثم إن تفوّهنا بهذه الكلمة يعني منّا التزاماً. فالكلمة تعني كل واحد من الذين يقولونها، تعنيه شخصياً.

وبالفعل، فإننا كثيراً ما سمعنا هذا الـ (آمين)، كثيراً ما قلناه، بحيث فقد كثيراً من زخمه وقوته. جعلنا منه ردة فعل آلية إزاء بعض كلمات في القداس. فبدلاً من (إنه، حقاً، هكذا)، وهذا هو المعنى الأصلي لكلمة آمين، نضع قبولاً فاتراً في التزام سطحي، وكأن واحدنا يقول: (نعم، بكل رضى، فليكن هكذا). لا نحسّ أن حياتنا كلها وكياننا كله داخلان، عميقاً، في فعل إيمان وثقة حارَّين.

فلنبدأ، اليوم بالذات، وفي هذا القداس الذي نشارك فيه الآن، لنبدأ بإعطاء كلمة آمين التي نقولها المعنى الذي يجب أن تتخذه بالنسبة لنا. لنجعل من كل آمين اندفاعاً حيّاً نحو الله وصرخة توحدنا بكلمته ومشيئته.

للأعلى

النور الصافي

تُقرأ الرسالة. تعقبها تلاوة الإنجيل، ويُمهد لها الكاهن بصلاة تبدأ هكذا: (أيها السيد المحب البشر، أطْلع في قلوبنا نور معرفتك الإلهية…).

كما سبق وقلنا، فالقداس الإلهي لا يجمع المؤمنين حول عشاء السيّد، فقط، ولكنه، أيضاً، يجمعهم حول كلمة السيّد. هو التفاف حول الكتاب مثلما هو التفاف حول الكأس. ففي إعلان الإنجيل وفي الاستلام الحقيقي لهذه الرسالة، سنجد أنفسنا في اتصال حيّ مع هذا الذي هو (نور العالم).

هذا النور (يضيء في الظلمة)، ممّا يعني أنه محاط بظلمات وقوى مضادة، ومع ذلك، لن يتغلّب عليه الظلام. وهذا التأكيد نتحققه في كل العالم الوسيع المحيط بنا. كما أنه تأكيد حقيقي بالنسبة لكل واحد منّا، لأن كل إنسان يحمل في ذاته، في نفس الوقت، قوة الظلمات ونوراً لن يطفأ أبداً.

فلنتهيأ لسماع الإنجيل بانفتاحنا على النور. وليكن هذا النور، هذه المعرفة التي تأتينا من الله وليس من جراء أتعابنا، هذا النور الداخلي نفسه الذي كان يخرج من الرب يسوع ويشعّ حوله، ليكن هادياً كل خطواتنا في الطريق. نعم، كل خطوة من خطواتنا. فليس ثمة أشياء صغيرة في حياة الروح. فالرسالة التي أكتبها والحديث الذي أُنشئه والوقت الذي أقضيه، هذه كلها يهدينا الله فيها مثلما يهدينا في القرارات الكبرى التي تتطلب منّا التزاماً كيانياً.

وليضئ هذا النور ليس فقط سيري في الطريق التي يريدها الله، ولكن ليضئ كل ناحية من حياتي الروحية، وليجعل كل إنسان وكل شيء قائماً في المكان الذي يريده له الروح الإلهي. يا نور العالم اجعلني أتقدم من نور إلى نور.

للأعلى

النفوس والأجساد

يتابع الكاهن الصلاة قبل الإنجيل، ويتلو هذه الكلمات: (لأنك أنت استنارة نفوسنا وأجسادنا أيها المسيح إلهنا…).

استنارة أجسادنا ؟ نحن ندرك جيداً أن (نور العالم) ينير نفوسنا. ولكن كيف ينير أجسادنا، وإلى أي حدّ ؟ نسمع في صلاة الكاهن قبل الإنجيل أيضاً هذه الكلمات: (… لكي ندوس كل الشهوات الجسدية). فكيف يمكن للجسد نفسه أن يُداس ويستنير في آن ؟

الجسد، في ذاته، صالح، اللهُ خَلَقَه وبارَكَه. ولكنّ هذا الجسد الذي جرّحته خطيئة الجدّين الأولين وأضعفته، كثيراً ما يكون مصدراً لتجارب مختلفة. وقد يكون أيضاً حائطاً فاصلاً، انغلاقاً أنانياً، أداة مقاومة للروح القدس. إلاّ أن هذه كلها انحرافات. فالجسد، كما فكر الله فيه وأراده، هو أداة خلاص. هكذا، فالله هو مبدأ الحب بين الرجل والمرأة، وقد جعل الإتحاد الزوجي سراً. وهكذا أيضاً، فالله يفرض علينا أن نحافظ على جسدنا ونعتني بصحتنا ونصلّي من أجل المرضى. ثم لقد كرّم الله جسدنا إلى حدّ أنه أراد هو نفسه أن يتجسد في شخص ربنا يسوع المسيح. من اجل هذا، يدعونا القداس الإلهي، من خلال الصلاة نفسها التي تتلى قبل الإنجيل، (لندوس) شهوات الجسد (الرديئة منها والتي تفصلنا عن الله وعن إخوتنا) ونهذّ (باستنارة أجسادنا) كما باستنارة نفوسنا.

إذ أننا سنصغي إلى قراءة كلمة الله، فلنطلب، مع فاتحة الإنجيل بحسب القديس يوحنا، أن (تصير هذه الكلمة جسداً) فينا، و (تسكن فينا) وتدخل إلى أعماقنا حتى يصير جسدنا غلافها الشفّاف.

للأعلى

لنسمع الإنجيل المقدس

(حكمة. فلنستقم ونسمع الإنجيل المقدَّس)، يقولها الآن الشماس أو الكاهن. ويُتلى مقطع إنجيل اليوم.

يجب أن نلاحظ أن المقصود ليس هو مجرد سماع الإنجيل، بل الإصغاء إليه في العمق، وذلك بأن ننتبه جيّداً إلى الكلمة الإلهية ونفتح لها لا آذاننا فحسب بل قلوبنا أيضاً.

تعني كلمة (إنجيل) (البشرى السارة). لذا فالعبارة الطقسية (لنسمع الإنجيل المقدَّس) تعني بالتالي (لنسمع البشرى المقدَّسة السارّة). ذلك أن كل مقطع من الإنجيل يحوي بشرى سارّة، رسالة مفرحة، إعلان شيء عظيم يخص كلاً منّا. للوهلة الأولى، قد لا يبدو لنا الإنجيل كأنه (البشرى السارّة). قد يقول كل واحد منّا في قلبه وهو يصغي إلى المقطع الذي سوف يُتلى: (لقد سمعت هذا مرّات عدّة! ليس فيه أبداً ما يعنيني). إلاّ أن كل جزء من الإنجيل، أياً كان، حتى ولو كنا قد سمعناه مرّات كثيرة، له دائماً شيء يقوله لنا. إذا أصغينا إلى هذا الإنجيل بتواضع وخشوع فسنكتشف فيه، مع كلّ مرّة، جملة أو كلمة لم نكن لنلاحظهما إلى الآن، فتسترعيان انتباهنا كما لو أننا نسمعهما للمرّة الأولى. وهذه الرسالة – هذا التبليغ – ليست موجّهة إلى جماعة المصلّين جملة، إنّما هي موجهة إلى كل مصلٍّ شخصياً. إنها موجّهة إليّ أنا.

وعند سماعي تلاوة الإنجيل يجب أن أفكر بأن (هذه هي الكلمة التي احتفظ بها ربنا لي إلى هذا اليوم. هذا ما أراد أن يقوله لي اليوم. هذا ما يقوله لي. سوف أحفظ، باهتمام بالغ، هذه الكلمة في قلبي).

للأعلى

الدخول الكبير

الآن يُحمل إلى المائدة المقدّسة الخبز والخمر اللذان جُهِّزا ووضعا على مائدة أخرى قائمة في أحد جوانب الهيكل. يتم ذلك في طواف أمام المؤمنين ندعوه (الدخول الكبير) (الدورة الكبيرة) تمييزاً له عن (الدخول الصغير) (الدورة الصغيرة) الذي تكملنا عليه آنفاً والذي فيه يُنقل كتاب الأناجيل.

في هذه الأثناء يرتل الجوق: (أيها الممثلون الشاروبيم تمثيلاً سرّياً، والمرنمون التسبيح المثلث تقديسه للثالوث المحيي، لنطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ). في (الدخول الصغير) رسمنا دخول الملائكة مقروناً بدخولنا نحن، أمّا في (الدخول الكبير) فنحن نرسم ما هو أبعد من ذلك، إذ نعلن أننا أصبحنا، (سرّياً) وبنعمة الله، صورة الملائكة وممثليهم. وهكذا نماثل الملائكة، إذا صحّ القول. لذا يجب علينا، في هذه اللحظة التحويلية، أن نطرح كل اهتمام عالميّ وننسلخ عن كل ما لا يتّجه بنا نحو الله.

إلاّ أننا، مع ذلك، لا نستطيع أن ننسى حاجات إخوتنا وأخواتنا أو نهملها، بل يجب أن لا ننسى حاجاتهم أو نهملها. كذلك فإننا نسمع الكاهن في هذا (الدخول الكبير) وقبل أن يجتاز الباب الملوكي متجهاً إلى المائدة المقدّسة، نسمعه يذكر رعاة الكنيسة والبلد والمدينة التي نحن منها، ويذكر أيضاً كلّ من أقيمت الذبيحة الإلهية عن نيّتهم. عقب هذا يضع الكاهن الخبز والخمر على المائدة المقدّسة ويبخّرهما فيما يرتل الجوق: (لكوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكلّ مزفوفاً من المراتب الملائكية بحال غير منظورة).

للأعلى

شركة محبة وشركة إيمان

تلي (الدخول الكبير) طلبات كثيرة. الخدمة الإلهية تتدرّج بنا نحو إعلان الاعتراف بإيماننا اعترافاً جماعيّاً. ويمهِّد الشماس أو الكاهن لهذا الاعتراف بأن يتوجه إلى المؤمنين حاثّاً إياهم بقوة على المحبة: (لنحبَّ بعضُنا بعضاً لكي، بعزم واحد، نعترف مقرِّين…). يتابع الجوق: (… بآب وابن وروح قدس ثالوثاً متساوياً في الجوهر وغير منفصل).

هذه اللحظة لها معناها الهام جداً، لأن الكلمات التي قيلت الآن تعبِّر عن طبيعة الكنيسة بالذات. ففي محبة مشتركة وبمحبة مشتركة تعلن الكنيسة إيمانها في شركة المحبة العظمى، هذه الشركة التي يشكلها الآب والابن والروح القدس. الكنيسة شركة محبة. شركة المحبة هذه تعلن نفسها شركة إيمان؛ فالذين لا يريدون أن يتحابّوا لا يستطيعون أن يعترفوا، عن استحقاق، بمحبة الثلاثةِ الأقانيمِ الإلهيّة. ليس بإمكاني أن أقول: (أؤمن بالمحبة) (أي أؤمن بـ الله المحبة)، لولا أنني ضمَّنت هذه المحبة الإلهيّة ومحبتي أنا كلَّ الناس رجالاً ونساء.

للأعلى

الأبواب

مباشرة قبل دستور الإيمان يقول الكاهن هذه الكلمات: (الأبواب! الأبواب! بحكمة لنصغِ !). ماذا تعني هذه العبارة ؟

في القرون الأولى للمسيحية لم يكن يسمح للموعوظين ولا للخاطئين الذين يخضعون لفترة ندامة يعلنون بعدها توبتهم أمام الجماعة المؤمنة، لم يكن يُسمح لهؤلاء الموعوظين والتائبين بالاشتراك في القسم الثاني من القداس الإلهي، أي في الذبيحة الإلهية بحد نفسها. ففي هذا القسم من الخدمة الإلهية كان يُطلب إليهم أن يخرجوا. حينئذ تُغلق أبواب الكنيسة، في حين يبقى، داخلاً، المؤمنون الذين يتوافق وضعهم الشخصي مع قانون الكنيسة المحلية.

اليوم لا تُغلق، في الواقع، أبواب الكنيسة، إذ يُسمح للموعوظين والخاطئين وحتى لغير المؤمنين أن يحضروا القداس الإلهي بكامله، فهل يعني هذا أن إعلان إغلاق الأبواب قد أُفرغ من معناه ؟ طبعاً لا. ففي قلب كل منا باب غير منظور يجب إغلاقه، إن لم يكن ماديّاً فروحيّاً، عند إقامة الأسرار المقدّسة. يجب، في هذا الوقت، أن نطرح عنا كل شرود في الذهن، كل الاهتمامات، كل الأفكار وكل الرغبات المضادّة لله والغريبة عنه.

وبالعكس من ذلك، ثمة أبواب يجب، وبطرية غير منظورة أيضاً، أن نفتحها في قلبنا. (لنصغِ!) يقول نصّ القداس الإلهي. فلنصر إذاً منفتحين على الكلمات والإلهامات التي تأتي من الله ومصغين إليها. فالسيّد يوجِّه لكل منّا العبارة التي قالها على أصمّ أبكم: (إِفَّتِحْ!) (أي انفتح) (مرقس 34:7).

للأعلى

تحت نفخة الروح القدس

هنا يتلو القارئ أو جماعة المؤمنين دستور الإيمان، فيما الكاهن يرفع الستر عن الخبز والخمر ويديره فوقهما في حركة رفرفة.

هذا الطقس الذي يبدو غريباً للوهلة الأولى يرتبط، أصلاً، بأسباب مادّية، شأنه في ذلك شأن طقوس كثيرة غيره. ذلك أنه كان ينبغي، في البلاد الحارّة، إبعاد الذباب عن القرابين المقدّسة. وقد أعطيت هذه الحركة فيما بعد معنى روحيّاً عميقاً، فاعتُبرت رفرفة الستر فوق الخبز والخمر رمزاً لنفخة الروح القدس وللريح الذي ملأ المنزل عند هبوبه في العنصرة. نحن الآن نعلن دستور إيماننا، لذلك لا نستطيع الاعتراف بالإيمان المسيحي كما يجب ما لم يحلَّ علينا، في هذا الوقت، الروح القدس. وقد نتلو جيّداً وبشكل صحيح عبارات إيماننا، ولكن ما لم نستلهم الروح القدس يبقى طقسنا ميتاً عقيماً. فليأت إذاً الروح القدس وليحرِّك فينا الكلمات ويُحيها!.

للأعلى

أتؤمن بهذا؟

يتلى الآن، إذاً، دستور الإيمان كما وضعه مجمعا نيقية والقسطنطينية (2).

يبتدئ دستور الإيمان بكلمة (أؤمن) (3). ماذا يعني أن أؤمن ؟ ليس المقصود هنا موافقة محض ذهنيّة على بعض العقائد. المقصود هو فعل الإيمان الحقيق الحاصل بتأثير النعمة الإلهية، والمستند إلى حقائق معلنة لا يستطيع العقل البشري، وحده، إدراكها، فعل الإيمان الذي نعبِّر عنه، حميميّاً، في ثقة وطاعة مطلقتين. قد تكون لنا معتقدات صحيحة من غير أن يكون لنا، مع ذلك، هذا الموقف الداخلي، موقف الإيمان الذي يخلِّص.

بماذا نؤمن ؟ إننا نردّد (بنود الإيمان) والكلمات القديمة التي من القرن الرابع. ويمكننا أيضاً، إلى الآن، أن نعود إلى تلك الينابيع القديمة لنغرف منها قوى جديدة. ولكن ينبغي في إيماننا أن يكون في كل بنوده حركة للروح واندفاعاً إلى الله ودعوة، لا أن يكون مجرَّد قائمة جافة من (المبادئ) المبهمة.

نؤمن بالله الخالق، ونعبد مقاصده بالنسبة للكون المخلوق ولكلّ عناصر هذا الكون وللتجديد العتيد أن يصير، في المسيح، لعالم استبعدته الخطيئة. ولسنا ننسب إلى إلهنا أيّاً من الشرور التي يحاربها معنا، هذه الشرور التي تسبب بها ثورة قوى الظلمة.

نؤمن بيسوع المسيح الابن الوحيد والأزلي للآب، والذي هو من طبيعته. في المسيح وبه نريد أن نصير أبناء للآب بالتبني. نريد أن نعبد يسوع المسيح ونحبَّه ليس فقط في طبيعته الإلهية ولكن، أيضاً، في الطبيعة الإنسانية التي اتخذها من الروح القدس ومن مريم العذراء. نريد أن نصبح مشاركي الخلاص الذي تمّ على الصليب، ومشاركي قيامة ربنا ومخلِّصنا يسوع وصعوده. وبحرارة نصبو إلى مجيئه الثاني وإلى ملكوته.

نؤمن بالروح القدس الرب المحيي، المنبثق من الآب. نريد أن نسعى إلى النور في الإعلان الإلهي المكتوب والشفهي، الإعلان الذي أوحى به الروح القدس، ونريد أن نسعى إلى النور في عمل الروح القدس الحاضر دائماً فيما بيننا.

نؤمن بالكنيسة الجامعة المتحدّرة من الرسل القديسين، ونتحد بكل أعضائها المنظورين وغير المنظورين، وبكل النفوس الطيّبة التي، وإن لم تعرف أن تسمّي المسيح، تطلب إليه ضمناً ومنه تأخذ كلّ ما فيها من حق وخير وجمال عمّده يسوع سرّياً.

للأعلى

صلاة شكرية

ندخل الآن في صلب صلاة القداس الإلهي، في عمل الشكر والتقدمة الكبير، الذي يشكل تقديس الخبز والخمر جزءاً منه. هنا الإفخارستيا بحدّ ذاتها، لأن الإفخارستيا تعني (صلاة الشكر).

(إنه لواجب وحقّ أن نسبّحك ونباركك ونحمدك…). ومن يسبّح ويبارك ويحمد بقلب صادق يقف، في أعماقه، موقف شكر. إنه في حالة نفسيّة يمكن أن ندعوها (حالة إفخارستية)، ويتقدم في الحياة مسبّحاً بفرح وثقة، إذ هو قد تثبّت في فرح يغمره ويتجاوز بآن.

علامَ نشكر الله في الصلاة الشكرية الكبرى ؟ إننا نعبّر له عن شكرنا إياه (على كل شيء). نتذكر أمامه كلّ ما صنعه من أجلنا: (أنت أخرجتنا من العدم إلى الوجود). لقد أقام الربّ البشر من بعد السقطة، وهو ما يزال يعمل من أجل أن يحملنا إلى الملكوت الآتي. نشكر الربّ (من أجل الإحسانات الصائرة إلينا، التي نعلمها والتي لا نعلمها)، من أجل كلِّ هذا الصلاح الذي يشملنا به كلَّ يوم بأشكال لا تُحصى.

ولكنّ عملنا الشكريّ يزداد وضوحاً وتخصيصاً: (نشكرك أيضاً من أجل هذه الخدمة التي ارتضيت أن تقبلها من أيدينا، مع أنه قد وقف لديك ألوف من رؤساء الملائكة…). كان بإمكان القوّات السماوية (الملائكة) وحدها أن تقدّم لله عبادة عن استحقاق أكثر من عبادتنا نحن. ولكن الله يقبل ما نقدّمه له بأيدينا الخاطئة. وفي هذا الوقت يتّحد الملائكة بنا لينشدوا تسبيح الظفر: (قدّوس، قدّوس، قدّوس. ربّ الصباؤوت)، ربّ القوّات الملائكية. (أوصنّا! مبارك الآتي باسم الربّ!).

الآتي باسم الربّ… المقصود هنا هو الذي يقترب منّا في هذه الدقيقة، الذي هو العطيّة العظمى التي يقدّمها الآب للبشر. (أنت الذي أحببت العالم بهذا المقدار حتى أنك أعطيت ابنك الوحيد لكي لا يهلك أيّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة…). إن الكلمة المفتاح في القداس وفي كل علاقة الله بالبشر تقال هنا: (أنت الذي أحببت العالم بهذا المقدار…). كل وجود الله وكل الوجود الإنساني هما سرّ محبة. ها نحن في هذا الوقت نفسه أمام الحبّ المبذول.

القدّاس الإلهيّ يوضِّح الآن، بفم الكاهن، الشكل المرئيّ الذي به ظهرت (عطيّة الحبّ). كلمات السيّد سوف تتردّد، وهي الكلمات التي قالها (في الليلة التي فيها أُسلم، والأوْلى أنه أسلم نفسه من أجل حياة العالم) فلنسمع من جديد هذه الكلمات: (خذوا، كلوا، هذا هو جسدي الذي يُكسر من أجلكم لمغفرة الخطايا… اشربوا منه كلكم، هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُهرق عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا).

كلّ كلمة من هذه الكلمات ينبغي لنا أن نزنها في قلبنا. (خذوا) : تجدر الإشارة هنا إلى هذه الجرأة التي بها نتقدم و (نأخذ) بأيدينا الخاطئة. ماذا نأخذ ؟ (جسدي…. دمي). هاتان الكلمتان هما روح وحياة. لن نفهمهما بنوع من الماديّة السرية (matérialisme sacramentel) ولن نرى فيهما مجرد عبارة رمزيّة أو استعارة أو مجرّد إشارة. هاتان الكلمتان – (جسدي… دمي) – نتقبلهما على أنهما الإعلان الفاعل الحقيقيّ لحضور جسد المخلّص ودمه حضوراً غير منظور بل حقيقياً كلياً، حيّاً وفاعلاً. هذا الخبر جسد (مكسور)، وهذا الخمر دم (مُهرق). قدّاسنا الإلهيّ هو، كالعشاء السرّيّ الأول، دعوة لنا لنشارك، بحسب قدرتنا، كسر جسد السيّد وإراقة دمه. نحن مدعوّون لأن نبذل أنفسنا، لأن نُكسَر ونُهْرَق. ذلك أن الإفخارستيا، كما قلنا، سرّ محبة. ونحن نعرف من الإنجيل أن ليس هناك حبّ أعظم من هذا: أن يبذل الإنسان نفسه فداء عن أحبّائه.

(من أجلكم…). يُكسر جسد السيّد من أجلي أنا، ويُهرق دم السيّد من أجلي أنا. يليق بنا إذاً، حتى لا نُغرق إعلان المسيح في العموميات، أن نعرف فنرى كم هي شخصيّة كلمات السيّد بالنسبة لنا، وكم هي تعني كلّ واحد منّا بمفرده. في هذا الوقت بالذات يقول لي السيّد إنه مات من أجلي وإنه الحمل الفصحيّ الحقيقيّ الحامل كلّ خطايايّ. فهل أُحسّ بعظمة الصفح الإلهيّ وأبعاده ؟ هل أحسّ أنني منقَّى وأنني متسربل دم الفادي ؟

للأعلى

تقدمة

يقدِّم لنا السيّد جسده ودمه. ماذا نستطيع نحن، بالمقابل، أن نقدّم له ؟ نستطيع أن نقدّم له كلَّ ما نملك وكلّ ما في طاقتنا أن نقدِّمه. ونقدِّم له ذواتنا قبل كل شيء. نستطيع أن (نبادله) كلَّ ما فعله من أجلنا، أي أن نعترف له بإحساناته إلينا فنسجد لصلاحه في كلِّ هذه الإحسانات. من أجل هذا فإنّ الكاهن، إذ يذكّرنا، بسرعة، بكلّ تاريخ خلاص البشر: الصليب، القبر، القيامة، الصعود والمجيء الثاني، إذ يذكِّرنا بكلِّ هذا يرفع إلى الله الخبز والخمر قائلاً: (التي لك ممّا لك نقدِّمها لك على كلِّ شيء ومن جهة كلِّ شيء).

لنتوقّف قليلاً عند هذه الكلمات: (التي لك ممّا لك…). نحن لا نملك شيئاً، إذ ليس ثمة شيء لم نأخذه من الله. لذا لا نستطيع أن نقدِّم لله إلاّ ما أعطاناه. نصلّي إليه ونرجوه أن يأخذ من جديد وأن يقدِّس، من أجله ومن أجلنا، كلَّ ما كان قد جعله لخاصَّتنا. ونصلّي إليه أن يقدِّس أوّلاً هذا الخبز وهذا الخمر، هذين العنصرين اللذَيْن يرمزان إلى كلِّ الخليقة واللذَيْن سيصيران الأداتين المنظورتين لشركتنا مع السيّد. ويجب أن نتذكر هنا كلَّ الذين أنبت لنا تعبهم هذين الخبز والخمر: زارع القمح، الفلاّح، الخبّاز، الكرّام والعامل صانع أوعية الزجاج والمعدن. كلّ الكون وكلّ العمل البشري يُختصران في هذه العناصر المادية الوضيعة التي من خلالها يأتي الله نفسه إلينا. في هذا الوقت يبلغ فعل الخلق الإلهي ذروته.

ونصلّي، في هذا الوقت أيضاً، من أجل كلّ الخليقة ونكرّس لله كلَّ البشر والعالمَ كلَّه. نكمِّل خدمة الكاهن ليكون كهنوتنا كهنوت خدمة و (كهنوتاً ملوكيّاً)، هذا الكهنوت الذي ينسبه الكتاب المقدّس إلى كلّ المؤمنين.

نرفع إلى الله، في تضرّعنا إليه واستشفاعنا إيّاه، كلَّ الأشياء وكلّ البشر، كلَّ الحاجات البشريّة وكلَّ الضيقات والشدائد. وأقدِّم لك يا سيّدي نفسي وجسدي اللذين هما منك ولك، أعيدهما إليك وقد أصبحا لك أكثر من ذي قبل، وذلك بالنعمة والصلاة: (التي لك ممّا لك…).

للأعلى

عنصرة

يستدعي الكاهن، الآن، روح الله على (القرابين المقدّسة).

(… ونطلب ونتضرّع ونسأل، فأرسل روحك القدّوس علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة. واصنع أمّا هذا الخبز فجسد مسيحك المكرَّم، وأمّا ما في هذه الكأس فدم مسيحك المكرَّم، محوِّلاً إيّاهما بروحك القدّوس حتى يكونا للمتناولين لانتباه النفس ومغفرة الخطايا وشركة روحك القدّوس وملء ملكوت السماوات…).

نبلغ الآن وجهاً للقدّاس آخر. ليس القدّاس الإلهيّ مجرّد اجتماع للمؤمنين حول كلمة الله. كما أنه ليس مجرد اجتماع للمؤمنين حول العشاء السرّيّ. القدّاس اجتماع عنصرة، هو عنصرة. القدّاس مجيء، إنه نزول الروح القدس فيما بيننا وعلينا. وهذا الطابع العنصرانيّ الذي للقدّاس تشير إليه عبارات كثيرة في نصّ الخدمة الإلهيّة. فالكاهن، قبل أن يبدأ القُدّاس، يستدعي الروح القدس: (أيها الملك السماويّ المعزي، روح الحقّ، الحاضر في كلّ مكان وصقع والمالئ الكلّ، كنز الصالحات ورازق الحياة، هلمَّ واسكن فينا…). إننا نبتهل مرّات كثيرة في الخدمة إلى الروح القدس (الصالح والمحيي) مع ابتهالنا إلى الآب والابن. سمعنا الكاهن بعد الدخول الكبير يطلب: (… ليحلّ روح نعمتك الصالح علينا وعلى هذه القرابين الموضوعة وعلى كلّ شعبك). ثم إنّ الكاهن طلب أيضاً أن تكون (شركة الروح القدس) مع نعمة ربّنا يسوع المسيح ومحبّة الله الآب، معنا جميعاً. كما سمعناه يعلن للشماس أنّ الروح القدس نفسه (يشاركنا في الخدمة). والآن يتمّ استدعاء الروح هذا بأكثر إلحاحاً: (نطلب إليك ونتضرّع ونسأل، فأرسل روحك القدّوس…).

على ماذا سيُرسَل الروح القدس ؟ (… على هذه القرابين الموضوعة). إنّ تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه ليس عمليّة سحرية يتممها الكاهن. يقول نصّ القدّاس: (… محوِّلاً إيّاهما بروحك القدّوس). هذا التحويل الذي هو استجابة الله لصلاتنا ليس هدفاً بحدّ ذاته، لكنه يتم (حتى يكونا للمتناولين لتطهير النفس ومغفرة الخطايا) وأيضاً (لشركة روحك القدّوس). كلّ شيء يُعمل بالروح القدس وفي الروح القدس.

ويجدر بنا أن نلاحظ شيئاً هاماً. لقد قال الكاهن: (أرسل روحك القدوس علينا وعلى هذه القرابين…). لم يطلب الكاهن أن يحلّ الروح القدس على القرابين أوّلاً بل أن يحل علينا نحن في الدرجة الأولى. هنا تكمن العنصرة في الخدمة الشكرية. الروح القدس يحلّ في قلوبنا قبل أن يحلّ على العنصرين المادّيين، الخبز والخمر، اللذين هما أداتا التقوية والتقديس. فهل نحسّ بكلّ قيمة هذه العنصرة الداخلية غير المادّية ؟ هل نحسّ أننا قد وُهبنا، في هذه الدقيقة، حضور الروح القدس وقوّته ؟ وأيضاً، فإنّ هؤلاء الذين لم يشتركوا سريّاً في القدّاس يستطيعون هو أنفسهم، إذا اتجهت قلوبهم نحو الله، أن ينالوا عندئذ موهبة الروح القدس. قد تقف بعض الحواجز والموانع دون الدخول الصميم إلى السر؛ ولكنّ الروح يهبّ حيث يشاء ولا تستطيع أية حدود أن تحدّ المحبة التي لا حدود لها.

وحتى، أثناء الذبيحة الشكرية، فإنّ الروح القدس لا يُعطى فقط من أجل سرّ الشكر. إذ المقصود هو الدخول إلى الحياة العنصرانية، إلى حياة الروح القدس. هل إننا، في وقت ما، أخذنا على محمل الجدّ الوعود التي وعد بها الربّ يسوع، بعد القيامة، لا رُسُلَه فقط بل كلّ المؤمنين أيضاً ؟ هل إننا، في وقت ما، آمنّا بأننا نستطيع، باسم يسوع، أن نطرد الشياطين ونشفي المرضى ؟ هذا ما أكّده لنا الربّ يسوع. بئس عدم الثقة هذا، وهو أن لا نجرؤ (بإيمان وتواضع وطاعة للإرادة الإلهية) على محاولة ممارسة السلطان الذي أعطاه المسيح المؤمنين به. هذه الجرأة المقدّسة تفترض فينا، بلا شك، قوّة تجدّد كلّي وتفترض فينا أيضاً أن يتجلّى كياننا كلُّه في التَّرك والفرح والمحبة. وعندما تستدعي الكنيسة الروح القدس علينا هل نُعطى هذا الروح عبثاً وبلا جدوى ؟ وهل أنّ وعود المخلّص في الإنجيل قد أُعطيناها عبثاً ؟

للأعلى

مباركة أنت في النساء

يذكر الكاهن، الآن، الذين واللواتي تجلّت فيهم العنصرة بشكل منظور أي القدّيسين الذين يؤلفون الكنيسة الممجَّدة، الكنيسة السماوية (4). وتذكِّرنا الأيقونات بأنّ هؤلاء القديسين حاضرون معنا ويشتركون معنا في الصلاة. ولقد طلبنا إلى الله، أثناء الدخول الصغير، أن يكون دخولنا إلى الهيكل مقروناً بدخول الملائكة والقدّيسين. تذكار القدّيسين هذا يخصَّص الآن، فيقرّب الكاهن (هذه العبادة الناطقة من أجل الأجداد والآباء ورؤساء الآباء والأنبياء والرسل والكارزين والمبشرين والشهداء والمعترفين والنسّاك وكلِّ روح صدّيق توفيّ بإيمان وخاصة من أجل الكليّة القداسة الطاهرة الفائقة البركات المجيدة، سيّدتنا والدة الإله الدائمة البتوليّة مريم).

يجيب الجوق بالترتيل مغبِّطاً (التي هي أكرم من الشاروبيم وأرفع مجداً بغير قياس من السارافيم)، هي التي، (بغير فساد، ولدت كلمة الله).

السبب في تعظيمنا مريم ليس هو فقط في الامتياز الوحيد الذي نالته، ولكن في أنها كانت الخادمة المتواضعة للربّ، التي طلبت أن يكون لها حسب قول ملاك البشارة والتي كانت تسمع كلمات ابنها وتحفظها في قلبها. ومريم تحيطنا بحنان صامت، متيقظ، رحوم ومتشفِّع. لذا فإلفتنا الواثقة والودودة معها تُدخل إلى حياتنا الانتعاش والهدوء والرجاء.

للأعلى

جميعهم وجميعهن

يتابع الكاهن قائلاً: (أذكر يا ربّ…)؛ وهنا يذكر، من جديد، الذين رقدوا على رجاء القيامة. ثم يصلّي من أجل أولئك الذين أولاهم الله سلطاناً على الأمم. يصلّي أيضاً من أجل الذين هم رعاة النفوس ومن أجل قادة الكنيسة. ويذكر، بشكل خاص، أسقف الكنيسة المحلّية من أجل أن (يقطع باستقامة كلمة حقّك). يجدر هنا الانتباه إلى هذه الكلمات، لأن هذا هو بالضبط ما نطلبه أوّلاً من أجل الأساقفة والكهنة. وأخيراً يطلب الكاهن إلى الربّ أن يذكر المسافرين والمرضى والأسرى. لنفكر، هنا، في مجموع الآلام البشرّية وفي شدائد كلّ إنسان وضيقاته. ثم يطلب الكاهن أيضاً إلى الله أن يذكر (الذين يقدِّمون الأثمار… والذين يفتقدون المساكين). هذا أوان تذكُّرنا أننا لا نملك شيئاً وأننا مجرد وكلاء على خيرات الربّ وأنه يجب علينا تقاسم الخيرات مع الذين هم في العوز؛ ويجدر بنا أن نتذكّر أيضاً أنّ العطاء الذي لا يكلِّف شيئاً عطاء بلا قيمة. فماذا سأضع في (لصينية) التي تجوب الآن بين المؤمنين ؟

يختم الكاهن: (واذكر يا رب الخاطرين في فكر كلِّ واحد من الحاضرين جميعهم وجميعهنّ). يجيب الجوق: (جميعهم وجميعهن). لننتبه جيّداً إلى ما تتضمنه هذه الجملة. إنها تعبّر عن كونيّة صلاة الكنيسة وكونية صلاتنا الشخصيّة. لا نستثني أحداً من صلاتنا. نفتح أذرعنا ونمدّها لكل الحاجات ولكلِّ الضيقات. إليكم جميعاً نحن ننتمي وإليكنّ جميعاً، وبكم جميعاً نتّحد وبكنّ جميعاً.

للأعلى

الصلاة الربّيّة

الطلبة السلامية الكبرى تتابَع. لنلاحظ، من بين الطلبات التي نتوجّه بها إلى الله، الطلبة التي فيها نلتمس حضور ملاك (مرشد، أمين، حافظ نفوسنا وأجسادنا). هل سبرنا كل غنى هذا الحضور، حضور ملاك حارس، إليه خاصة نحن مسلِّمُون؟ هل صار ملاكنا، في الحقيقة، صديقاً لنا حميماً ورفيق الدرب الحبيب ؟ أيَّ مكانة نخصص له في حياتنا ؟

وها هي الآن الطلبة الكبرى تنتهي عند الصلاة بامتياز، هذه الصلاة التي لم تصلنا من سلطة محض بشرية، ولكن الرب يسوع نفسه هو الذي علّمنا إيّاها، وهي التي ينبغي، بحق، أن تحتل في صلواتنا مكانة مركزية. قد لا يتسع المجال هنا لتحليل لهذه الصلاة مفصّل { أنظر في هذا الموضوع كتاب المؤلف (أبانا)، للمؤلف، في (منشورات النور)، باللغة الفرنسية (الناشر) }، ولكن بعض الكلام على هذا النص قد يساعدنا على قوله كما يجب أن يقال في الروح والحق.

(أبانا…). يمكننا أن ندعو هذا الآب (أبي)، لكن يجب أن نقول أيضاً (أبانا) لأنه الأب المحب كل الناس (5).

(أب…). إن الرب يسوع هو، بطبيعته، ابن الآب بالمعنى الوحيد والاستثنائي. ولكننا نستطيع نحن أنفسنا أن نصير أبناء الآب بالتبني والنعمة.

(الذي في السماوات). لسنا ملزمين بأن نعتقد بوجود سماء حسّية، متموضعة مادياً. السماء هي، في الأساس، حالة نفسية، حالة رؤيا ومحبة واتحاد. وتذكِّرنا كلمة (السماوات) بكَمْ هي المسافة بين الخالق وخلائقه. والمسافة هذه، بطبيعتها، متعذرة العبور، ولكن إلهنا صار إنساناً وسكن في ما بيننا، ونحن به نحيا ونتحرّك ونوجد.

(ليتقدّس اسمك). لا يكفي أن نرتل التسابيح لله بلا انقطاع، بل يجب (فرز) اسم الله هذا الذي يفوق كل الأسماء ويحمل حقيقة تفوق كل الحقائق. كما ينبغي لنا أن نتصرّف بحيث تأتي أعمالنا لائقة بجلال أبينا وكماله.

(ليأت ملكوتك). إن ملكوت الله يستطيع أن يتجلّى ببعض الأشياء الخارجية، بعض البنى، بعض المؤسسات، بعض المبادئ وبعض الشعائر. ولكن هذا الملكوت، كما يقول الإنجيل، هو أولاً في داخلنا. إنه حدث داخلي. إنه بذل النفس كلياً لله.

(لتكن مشيئتك…). إن مجيء ملكوت الله يكون، خاصة، بتتميمنا مشيئة الله في كل الأمور، كبيرها وصغيرها إذا صحّ القول. ولكن ليس عند الله أمور صغيرة. فالتفاصيل الصغرى من حياتنا اليومية تصبح كبيرة بإطاعتنا المشيئة الإلهية.

(كما في السماء كذلك على الأرض). إن طاعة الملائكة الكاملة لله ينبغي أن تكون نموذجاً لطاعتنا نحن له. وطاعتنا يجب أن تكون محبة بلا حدود لله والناس.

(خبزنا الجوهري أعطنا اليوم). هذه الطلبة اتخذت عدّة أشكال تختلف قليلاً في ما بينها، ولكنها كلها صحيحة. فالخبز الذي نطلب هو، في الوقت نفسه، الغذاء الأرضي الضروري لحياتنا اليومية والغذاء الداخلي غير المنظور الذي تغذي به كلمة الله نفوسنا، مثلما هو أيضاً اشتراك في جسد الرب المبذول ودمه المهراق، وهو أيضاً وليمة الملكوت السماوي، هذه الوليمة التي يشكل هذا الخبز استباقاً لها.

(واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه). نحن، هنا، لا نتوجّه إلى الله كمن يكلفه المغفرة تكليفاً أو كمن يخطره إخطاراً. وليس ثمة مقارنة على قدم المساواة بين المغفرة الإلهية والمغفرة التي نصنعها نحن: (اغفر لنا لأننا نحن نغفر)، هذه هي الفكرة التي تريد العبارة أن تعبّر عنها وكأنها تعبّر عن شرط ضروري لغفران خطايانا ألا وهو أننا قد غفرنا لمدينينا. لقد أزلنا حاجزاً كان يحول دون مغفرة خطايانا، وهذا الحاجز هو رفضنا الغفران للآخرين. منذ الآن يستطيع الغفران الإلهي أن يعبر إلينا ويمحو خطايانا.

(ولا تمتحنّا). هذه العبارة تترجم النص الأصلي للأناجيل بأفضل مما تترجمه عبارة (ولا تدخلنا في تجربة)، أو عبارة (لا تدعنا نستسلم للتجربة). يجب ألا نتعظم لمقاومتنا التجارب. وفوق هذا، يجب ألا نصلّي إلى الله أن يتمجد فينا بسبب غلبتنا هذه التجارب. بل يجب علينا، بالأحرى، أن نطلب إلى الله، بتواضع، أن يبعد عنا التجارب وألا يمتحن ضعفنا الكثير.

(لكن نجنّا من الشر). تبدو هذه الترجمة أكثر صحة من (لكن نجنّا من الشرير). الله لا يريد الشر لأي إنسان، لا الشر المادي ولا الشر المعنوي. إنه إله خلاص، إله رحمة، إله محبة. وهو يناضل معنا ضد الشر الذي تسرّب إلى العالم بعصيان ملائكة وبالخطيئة. الله يسمح بهذا الشر ليترك للبشر الحرية في أن يقولوا له (لا) كما في أن يقولوا له (نعم). والله، في صراعه ضد عدوّنا المشترك، يحدث له (وهو الإله الذي ربما استطعنا أن نسمّيه، إلى حد ما، إلهاً متألماً) في الظاهر أن يكون، في بعض النفوس، مجروحاً وحتى مقتولاً. ولكننا نؤمن إيماناً راسخاً بأن المحبة والقيامة ستكونان أقوى من الموت.

للأعلى

عشاء الرب

ندخل، الآن، المرحلة من القداس ذات العلاقات مع المائدة الشكرية.

يصلّي الكاهن، بادئ ذي بدء، من أجل أن يحضر المسيح لتقديسنا: (هلّم لتقديسنا أيها الجالس في الأعالي مع الآب والحاضر ههنا معنا غير منظور، وارتض أن تناول بيدك العزيزة جسدك الطاهر ودمك الكريم، وبواسطتنا لكل شعبك).

هذه الكلمات توجّه انتباهنا إلى جانبين من القدّاس مهمين. فنحن نطلب إلى المسيح أن يناولنا (بيده) جسده ودمه. ونؤمن بأننا، بالمناولة، نأخذ المسيح. ولكن ينبغي لنا أن نصبح قادرين على أن ننظر، بعيني الإيمان والمحبة، الرب يسوع نفسه آتياً إلى كل منا حتى، كما صنع مع رسله، يقدّم لنا (القرابين المقدسة) التي من خلالها يبذل نفسه. ليس الكاهن هو الذي يناولنا. فالرب، من وراء الكاهن، هو الذي، في الوقت نفسه، يقرِّب ويقرَّب ويدنو شخصياً منّا. فهل نراه آتياً إلينا ؟ وهل نراه يقدّم لنا الخبز والخمر اللذين أصبحا الرب إياه ؟ هل نسمع الكلمة السرّية والشخصية التي يريد أن يقولها لنا في هذا الوقت والتي من المفروض أن توجّه حياتنا الخاصة ؟

ونصلّي أيضاً من أجل أن يوزَّع (بواسطتنا) جسد الرب ودمه الكريمان (لكل شعبك). فليس الكاهن وحده هو الذي، في إتمامه خدمته، سيجعل من أناس آخرين مشاركين في عشاء الرب. إذ أن كل الذين تناولوا اليوم يجب عليهم أن يوزّعوا وأن يعطوا الذين هم حولهم ما أخذوه هم. وهذا يعني أنهم بعملهم وكلمتهم – ليس كلمتهم المبشِّرة ولكن المُحبّة والشاهدة سرياً – ينبغي لهم أن يجعلوا النعمة التي حلّت عليهم مشعّة. وليس المقصود هنا فقط الذين اشتركوا، بشكل منظور، في سر الشكر. فأولئك الذين لم يتناولوا مادياً قد اتحدوا، روحياً، بسر الشكر وتغذوا، في القصد والنيّة، من جسد الرب ودمه فانفتحوا على الروح القدس. أولئك يجب أن يناولوا الآخرين، في حياتهم العملية وبمثلهم، قربان المخلّص. كلنا مسؤولون عن نقل هذا القربان (لكل شعبك) وذلك في عملية نقلٍ لا حدود لها.

يفصِّل الكاهن الآن الخبز المقدس قائلاً: (يُفصَّل ويجُزّأ حمل الله الذي يًفصَّل ولا ينقسم، الذي يُؤكل منه دائماً وهو لا يفرغ أبداً…). لنتوقف لحظة عند هذه الكلمات. إن ما سنتناوله هو خبز مفصّل، إنه جسد المخلّص الذي كُسر على الصليب. وما سنشتريه هو مر مسكوب، إنه دم الرب الذي أُهرق على الصليب. ولكننا لا نحيي، مادياً، ذبيحة الجلجلة بل نشترك فيها روحيّاً. كل مناولة لجسد الرب ودمه إنما هي (ذبح) للذي يتناول. فالمتناول يسلَّم جسده ليُطعن بحربة من نار. إنه يموت لنفسه ويحيا من جديد كإنسان متجدّد. هذا الجانب الذبيحي من عشاء الرب يجب أن يُترجم عملياً: ماذا سأبذل اليوم للمخلّص من اجل أن أتحد بذبيحته ؟ كيف سأميت فيّ، من أجله، ما يجب أن يموت ؟ بأي شكل سأتمم هذا (الانتحار) الروحي المقدّس جداً والذي هو المناولة ؟

مثلَ حمل الله ومع حمل الله يجب أن (أُفصَّل) و (أؤكل دائماً)، وذلك بأن أقدَّم ذاتي للآخرين وأبذل نفسي من أجلهم، فأصير إنساناً من أجل الآخرين. أيها الرب يسوع إنني أستودع روحي في يديك لأكون بهما مكسوراً ومفصَّلاً وموزَّعاً.

الآن، يسكب الكاهن قليلاً من الماء الساخن في الكأس، وهو يعني بهذا (حرارة إيمان مستوعبة الروح القدس). مرّة أخرى أيضاً ترتبط العنصرة بالفصح. ثم يتناول الكاهن من القرابين المقدسة ويدعو الشعب ليتقدم ويتناول هو أيضاً من القرابين المقدسة. صلوات كثيرة مفعمة بالورع والاتضاع قد أدخلت، شيئاً فشيئاً، هنا في الخدمة الإلهية. ولكن ينبغي لنا، حتى نعي بشكل صحيح العمل الذي يتم، أن نكون منتبهين إلى الكلمات التي يقولها الكاهن على كل متناول: (يُناول عبد الله أو أمة الله… فلان… جسد ودم ربنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح الكريم والمقدس، لغفران خطاياه وللحياة الأبدية. آمين).

تحتوي هذه العبارة خمسة تأكيدات أساسية. فالذي يتقدم إلى المناولة ويسمّى باسمه هو خادم أو خادمة. هل أنا حقاً هذا الخادم، هذه الخادمة ؟ هل أسمع، حقيقة، هذا النداء باسمي، هذا النداء الشخصي جداً ؟ ها أنا أتناول القرابين المقدسة. إنها قرابين، وهي علامات النعمة المجانية التي لا حق لي فيها والتي تغدقها عليّ محبة الله من جوده الذي لا ينفد أبداً. إن ما أتناوله هو جسد الرب يسوع ودمه. فما وراء العلامات المادية تكمن الحقيقة، يكمن حضور مخلّصي وفعله الخلاصي. أنا أشارك في تقدمة الجلجلة وذبيحتها. والقرابين المقدّسة التي أتناولها هي التعبير عن مغفرة خطاياي، خطاياي التي رفعها حمل الله المذبوح وحملها. فقد تطهرت بدم الحمل الإلهي وانغمست فيه لأغتسل به مثل كسرات الخبز هذه التي يسكبها الكاهن في الكأس. وهذا القربان هو، لي، عربون حياة أبدية، لأن حمل الله المذبوح والذي أشاركه فداءه هو أيضاً الحمل القائم من بين الأموات في اليوم الثالث. فالفصح يشتمل على قيامة المخلّص بمقدار ما يشتمل على صلبه. أنا أتناول في رجاء مشاركتي قيامة المخلّص.

للأعلى

قد نظرنا النور الحقيقي

ينتهي القداس في جوّ من الشكر والفرح وإذا أمكن القول، النشوة في الله. لنمتحن ضمائرنا ولنر ما إذا كانت هذه الكلمات العلوية تعني لنا خبرة شخصية، حيّة، حقيقية أو أنها تبقى مجرّد عبارات طقسية.

(إذ قد تناولنا مستقيمين أسرار المسيح الإله…) يقول الكاهن. هل تناولنا حقاً هذه الأسرار؟ كيف تناولناها ؟ وإذا كنّا قد تناولنا فهل اشتركنا، حقيقة، في الروح والحق، في سرّ المسيح ؟ وإذا لم نتناول فهل يعني هذا أنه كان بإمكاننا، أو كان من المفروض فينا أن نذهب وأيدينا فارغة، دون أن نكون حاولنا (أخذ) الحقيقة الإلهية ؟ حتى، من لم يتناول ينبغي له أن يكون، خلال القداس، قد نال نفخة الروح القدس، وذلك بلمسة نعمة نابعة من المخلّص أو بوحي مطهِّر ومحوِّل. تناولنا القرابين المقدسة السريّة أم لو نتناولها، يجب أن نخرج من الكنيسة على غير ما دخلناها، يجب أن نخرج أناساً آخرين.

لقد رتل الجوق: (قد نظرنا النور الحقيقي وأخذنا الروح السماوي ووجدنا الإيمان الحق). وقال الكاهن: (إذ قد رأينا قيامة المسيح…). فهل كانت لنا هذه الخدمة الإلهية اتصالاً مع المسيح ليس فقط الذبيح بل القائم أيضاً ؟ هل حصلنا في هذا القداس على رؤية الذي هو نور العالم ؟ وهل صارت لنا هذه الخدمة المقدسة عنصرة ننال فيها ليس فقط شخص المخلّص ولكن روحه القدوس القادر والفاعل أيضاً ؟ هل اكتشفنا في هذا القداس الإيمان الحق، الإيمان بالحب الإلهي يبذل حياته من أجل حياة العالم، من أجلي، من أجل الذين أحبهم الله – المحبة ؟ إذا لم يتحقق كل هذا فالقداس الإلهي يكون تحوّل إلى تعبير وكلمة فارغين عوض أن يكون حدثاً داخلياً حاسماً.

في آخر صلاة يتلوها الكاهن أمام أيقونة السيّد نسمعه يذكر هؤلاء (المتكلين عليك). فلنثق بالرب يسوع المسيح ولنتكل عليه مهما يكن ضعفنا ومهما تكن الأخطار المحيطة بنا. يجب أن يكون القداس الإلهي قد جعلَنا في حال ثقة واطمئنان. (لا تهملنا نحن المتكلين عليك…).

يقول الكاهن أيضاً: (احفظ ملء كنيستك… قدّس الذين يحبون جمال بيتك… شرِّفهم عوض ذلك بقوتك الإلهية…). لننتبه هنا. ملء الكنيسة، جمال البيت الإلهي، تقديس الذين يحبّون هذا الجمال: هذه كلها كلمات عظيمة وجميلة؛ ولكننا نخطئ خطأً فادحاً عندما نظن أن هذه صفات لكنيسة أرضية ظافرة بشرياً، جميلة بشرياً، قوية بشرياً وغنية. يتكلم القديس يوحنا الذهبي الفم على الذين يقرِّبون تقدمات ثمينة على المذبح الحجري في حين أنهم يغلقون قلوبهم دون المذبح الحيّ المقام في كل (شارع) أي في الفقير. كيف نستطيع أن نتكلم على جمال بيت الله وبيننا من يشترك في سر الشكر ويخرج من الكنيسة ليموت جوعاً ؟ كيف نجسر على أن نتكلم على ملء الكنيسة وبيننا من يشارك جماعة المؤمنين صلاتهم من غير أن يلتفت أحد إليه أو أن يسعى أحد إلى الاحتكاك به ؟ على أي جمال نتكلم إذاً ؟ على أي ملء ؟

إن الكلمة الأخيرة في نص القداس الإلهي تُظهر بشكل رائع الحقيقة الإلهية التي رأينا ظلالها من خلال رموز القداس. إن الكاهن يطلب إلى المسيح إلهنا أن يرحمنا ويخلّصنا، ويختم هكذا: (…لأنه صالح ومحبّ للبشر). هكذا يكشف لنا القدّاس الإلهي، عبر مراحله، الصلاح الفائق والمحبة التي لا حدود لها.

للأعلى

————————————–
تأليف: الأب ليف جيلله
تعريب: إيلي عبيد
————————————–

هوامش من وضع الشبكة

  • (1) يُخطئ المعظم ويقول “ذاهبون لنحضر القداس الإلهي”، والصحيح أن نقول “ذاهبون لنشترك في القداس الإلهي”. فالقداس الإلهي هو مائدة شراكة ومحبة وإيمان واحد. ولا يستطيع الكاهن أن يُقيم القداس الإلهي مالم يكن هناك مؤمنون يشتركون معه في القداس الإلهي.
  • (2) مجمع نيقيا هو المجمع المسكوني الأول وهو مجمع نيقية الأول، ومجمع القسطنيطينة هو المجمع المسكوني الأول أو مجمع القسطنيطينة الأول.
  • (3) بحسب الدستور الموضوع في مجمع نيقية يبتدء بـ “نؤمن”، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية رأت فيما بعد أن يُتلى هذا الدستور هكذا “أؤمن”. لأنها رأت أن موضوع الاعتراف بالإيمان هو اعتراف شخصي يقوله كل مؤمن على حدا. وخاصةً بعد أن أصبح يحضر هذا الجزء من القداس الإلهي عامة الشعب (مؤمنون وغير مؤمنين).
  • (4) لا يوجد إلا كنيسة واحدة لأن الرأس واحد وهوالرب يسوع المسيح. مع ذلك درجت العادة عند البعض أن يقول “الكنيسة السماوية والكنيسة الأرضية” و”الكنيسة المنظورة والكنيسة غير المنظورة”. راجع في ذلك: [كاليستوس (وير)، الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان وعقيدة، الفصل الثالث: كنيسة الله، الكنيسة، منظورة وغير منظورة].
  • (5) على عكس كلمة “نؤمن” التي رأت الكنيسة الأرثوذكسية أن تجعلها “أؤمن”. هذا لأن “آبانا” عائدة على الله الآب الذي هو أبٌ للجميع. وليست اعلان عن إيمان شخصي لكل مؤمن.
Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى