ملاحظة: هذه الترجمة هي من أعمال الكنيسة القبطية نقلاً عن الترجمة الإنجليزية
مقدمة:
أنجبت ولاية كبادوكية (تركيا) جيلاً من الآباء العظماء، هم القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية وأخوه القديس غريغوريوس أسقف نيصص وصديقه القديس غريغوريوس النزينزي. هؤلاء الآباء العظام كان لهم أثرهم الفعّال على الفكر اللاهوتي المسيحي، إذ حُسِب فكرهم كامتداد لفكر وكتابات القديس أثناسيوس الرسولي الذي دافع عن الإيمان السليم أمام الأريوسيين.
والقديس غريغوريوس أسقف نيصص الذي نحن بصدد التكلُّم عنه ولِد حوالي سنة 329 م، لأبوين مسيحيين تقيين، وكان من بين أخوته القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية والقديس بطرس أسقف سبسطية وأيضاً القديسة ماكرينا التي أسست دير رهباني شهير للفتيات اجتذب إليه الكثيرات.
مات والد غريغوريوس وهو في سن صغيرة تاركاً أبناءه في رعاية جدتهم ماكرينا ووالدتهم إميليا وأيضاً أخوهم الأكبر باسيليوس وأختهم ماكرينا التي تسمّت باسم جدتها. ولم يكن غريغوريوس ميّالاً إلى الحياة الدينية في البداية، إلى أن َقبِل – تحت الإلحاح – الاشتراك مع والدته وإخوته في الاحتفال بعيد شهداء سبسطية الأربعين. وإذ نام في الاحتفال بالكنيسة رأى بستاًنا جميلاً أراد الدخول فيه فمنعه الشهداء الأربعون، فعندئذٍ استيقظ من نومه نادماً على العمر الذي قضاه بعيداً عن الله، وقرر أن يبدأ حياته مع الله متشفِّعاً بهؤلاء الشهداء الأربعين.
كان القديس غريغوريوس في بداية حياته متعلِّقا جداً بالبلاغة والأدب والفلسفات المختلفة، كما يبدو أيضاً أنه قد تزوّج من امرأة تقية كما يظهر في مدح الكثيرين لها. وفي ذات يوم وصله خطاب من صديقه القديس غريغوريوس النزينزي يحثّه فيه على ترك الانشغال بالفلسفة وتكريس حياته لله، كما فعل أخوه باسيليوس وأخته ماكرينا. فتأثر جداً بذلك الخطاب وقرر أن يكرّس حياته بالكامل لله وقال البعض أنه أرسل ز وجته للدير الذي أسسته القديسة ماكرينا أخته. وقال البعض الآخر أنها بقيت تخدم معه كأخت شماسة عندما بدأ حياته الرهبانية والنسكية.
وفي عام 370 رسم القديس باسيليوس أسقفاً على قيصرية وإذ كان الإمبراطور فالنس الأريوسي يشّن حرباً ضد الأرثوذكسية، لجأ القديس باسيليوس إلى رسامة أكبر عدد ممكن من الأساقفة الذين يثق في سلامة إيمانهم حتى يساعدوه في الدفاع عن الإيمان. فرسم أخوه القديس غريغوريوس أسقفاً على نيصص التي كانت مدينة صغيرة وغير معروفة، حتى أن يوسابيوس الساموساطي وقد كان صديقاً لباسيليوس قد أرسل إليه يعاتبه لأنه بهذه الرسامة وبحسب قوله : “يدفن شخصاً مشهوراً في إيبارشية مجهولة ” إلا أن القديس باسيليوس أجابه بأن “الإيبارشية ستنال شهر ة بأسقفها وليس الأسقف بإيبارشيته “.
وبالفعل تحققت كلماته إذ قد صار ت نيصص شهيرة بفضل أسقفها القديس غريغوريوس.
كان القديس ميّالاً للدراسة والهدوء، حتى أن الأريوسيين خافوا منه جداً إذ حسبوا كتاباته عدوّاً لا يقدرون على مقاومته.
لذلك لجأوا إلى الدسائس حتى تم نفيه في عام 375 م إلى أن مات الإمبراطور فالنس الأريوسي وتولَّى بدلاً منه جراتيان الذي أعاد الأساقفة المنفيين عام 375 م. وظل القديس يرعى شعبه أحسن رعاية حتى تنيّح على ما يبدو حوالي سنة 394 م.
فكره وكتاباته:
نال القديس غريغوريوس شهرة واسعة بسبب رجاحة عقله وعمق كتاباته اللاهوتية التي عبّرت بصدق عن نقاوة التعليم الرسولي كما وضعه السيد المسيح في الكنيسة. لذلك نجده قد اشترك في الكثير من المجامع التي عُقِدت في عصره وساعد كثيراً في دحض الكثير من الهرطقات. وكان أشهر المجامع التي حضرها هو مجمع القسطنطينية الأول المسكوني (المجمع المسكوني الثاني) سنة 381 م وكان له دور فعّال فيه.
تنوّعت كتابات القديس ما بين العقائدية والتفسيرية والتعليمية. فنجد مثلاً كُتبه التي ألَّفها في مواجهة أنوميوس الأريوسي الذي أنكر لاهوت الابن والروح القدس، كذلك كتب ضد أ بوليناريوس الذي أنكر كمال ناسوت السيد المسيح وضد مقدونيوس الذي اعتبر الروح القدس مجرد طاقة إلهية وليس أقنوماً كاملاً مثل الآب والابن.
أما عن الكتب التفسيرية فنجد له مؤلفات عن تفسير أجزاء من سفر التكوين وعن سفر النشيد والمزامير والجامعة وأيضاً تفسير أجزاء من الإنجيل ومجموعة من رسائل بولس ككورنثوس الأولى مثلاً.
عظاته:
اشتهر القديس غريغوريوس أيضاً بعظاته التي عُرِفَت ببلاغتها الشديدة وتنوّع موضوعاتها وعمقها الروحي. والكتاب الذي بين أيدينا هو في الأصل عظة ألقاها القديس في يوم عيد الغطاس تحت عنوان : “عظة على يوم الأنوار “. استغل فيه القديس فرصة عيد الغطاس (عيد الظهور الإلهي) وبدأ يتكلَّم عن المفاهيم الأساسية لسر المعمودية ويعتبر موضوعه الأساسي في تلك العظة هو شرح كيفية حصولنا على نعمة التجديد الروحي من خلال ا لمياه.
ويمكننا تقسيم تلك العظة إلي:
- مقدمة: يتحدث فيها القديس عن أهمية الانتظام في الحضور للكنيسة دائماً وليس فقط في أوقات الأعياد، ثم يتطرّق بإيجاز إلى عيد الغطاس موضِّحاً كيف أن المسيح قد اعتمد لأجلنا لكي وبحسب تعبيره “يقدس باكورة كل عمل”.
- المعمودية: ثم ينتقل للحديث عن المعمودية ك سرّ إلهي نحصل من خلاله على الولادة الجديدة بطريقة تفوق إدراكنا وفهمنا.
- استخدام الله للأمور المادية البسيطة : وبعد حديث القديس عن المعمودية بدأ يتكلَّم عن كيفية تتميم هذا السر بواسطة المياه شارحاً أسباب استخدام الماء، مقدِّماً نماذج لاستخدام الله لأمور مادية لتتميم الأمور الروحية من العهد القديم.
- الروح القدس : ثم تحدّث القديس عن الروح القدس الذي يعمل في الماء ويعطي من خلالها الولادة الجديدة للإنسان. وقد استغل القديس فرصة الحديث عن الروح القدس وقدَّمَ دِفاعاً مختصراً عن لاهوت الروح القدس ومساواته للآب والابن وهي الأمور التي أنكرها أنوميوس الأريوسي ومقدونيوس اللذين انشغل القديس كثيراً بمهاجمة أفكارهم المنحرفة.
- مياه المعمودية : ثم قَدَّمَ القديس بعد ذلك نبوات كثيرة من العهد القديم عن استخدام المياه، مُقَسِّماً إياها إلى نوعين: النوع الأول وهو مجموعة من أحداث العهد القديم التي رمزت وتنبأت عن استخدام الماء في المعمودية، والنوع الثاني : هو نبوات مباشرة قد ذكرها الأنبياء في نفس هذا الموضوع.
- الخاتمة: ثم خَتمَ القديس هذه العظة بالحديث عن ضرورة سلوك الإنسان بطريقة تليق بحصوله على هذا السر العظيم إذ قد صرنا جميعاً بالمعمودية أبناء لله.
تُرجِم هذا الكتاب عن:
Nicene & Post-Nicene Fathers
Series II, Volume V
St. Gregory of Nyssa, On the Baptism of Christ
عظة على يوم الأنوار
للقديس غريغوريوس النيسي
الحضور إلى الكنيسة
إنني الآن أرى قطيعي! إنني اليوم أرى منظر الكنيسة المعروف، إذ أراكم قد رفضتم الانشغال باهتمامات الجسد وحضرتم معاً إلى الكنيسة بأعدادٍ كبيرة لخدمة الله، فعندما تزدحم الكنيسة بالناس لكي يقتربوا من الهيكل المقدس، تضطر الجماهير التي لا تجد لها مكاًنا بالداخل إلى الوقوف خارجاً فيملأون الفناء كالنحل، فنحن نرى في خلية النحل مجموعة من النحل يعملون بالداخل ومجموعة أخرى يطنُّون بالخارج. فهكذا يفعل أبنائي ولا يتركون عنهم غيرتهم.
وأنا أعترف إليكم بأنني أشعر بمشاعر الراعي، إذ عند وقوفي على المنبر أحب رؤية القطيع مُجتمِعاً كما عند سفح الجبل. وعندما يحدث ذلك أمتلئ بكل حماس ونشاط وأتكلَّم بكل سرور في العظة كما ينشِد الرعاة أناشيدهم البسيطة. ولكن فعلتم سابقاً في يوم الرب الماضي (1) فإنني أتضايق كثيراً وأُفضل الصمت. وأَُفكَِّر في الهروب من هنا وأبحث عن جبل الكرمل الذي سكن فيه إيليا النبي أو عن أي مغارة أخرى بلا ساكن. فالذين يشعرون بالإحباط عادًة ما يُفضِّلون الوحدة والعزلة. ولكن الآن عندما أراكم جميعاً محتشِدين هنا مع جميع أُسرِكم أتذكَّر قول إشعياء النبي والذي نادى به متنبئًا منذ زمن بعيد مخاطِباً الكنيسة عن أبنائها الكثيرين الأبرار قائل: ” مَنْ هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام بصغارها إليّ” (إش 60: 8) (2). كما يضيف أيضاً قائل: “ضيَّق عليَّ المكان، وسِّعي لي لأسكن” (إش 4٩: 20 ). هكذا كانت النبوة بقوة الروح القدس عن كنيسة الله الملآنة والتي ملأت الأرض فيما بعد من أقصى المسكونة إلى أقاصيها.
عيد الغطاس:
ولهذا فلنضع الآن الحديث عن بقية الكتاب المقدس جانباً لمناسبات أخرى ونلتزم بالموضوع المُقرَّر لنا (3)، مُقدمين على قدر طاقتنا التقدمات التي تناسب وتليق بالعيد، إذ أن لكل عيد معاملة خاصة. فإننا نستقبل أي زيجة بألحان العرس، وفي الجنازة نُقِّدم ما هو مناسب من ألحان الجنازات. وفي وقت العمل يتَّسِم كلامنا بالجدية بينما في أوقات البهجة لا ُنجهِد أفكارنا وُنخفِف من تركيزنا، ففي كل هذه الأحوال نتجنَّب التأثير على المناسبة التي نحن فيها بأمور غريبة عن روح تلك المناسبة.
فالمسيح إذن قد ولِد كما لو كان منذ عدة أيام (4)، في حين أنه هو المولود قبل كل الخليقة المادية والعقلية (5). واليوم فإنه يعتمد على يد يوحنا ليطهِّر الإنسان الساقط الذي َتدنَّس حتى يأتي بالروح القدس من فوق ويرفع الإنسان إلى السموات، لكي يقيم الذي سقط ويخزِي من أسقطه. ولا تتعجبوا إن كان الله قد أظهر اهتماماً عظيماً بقضيتنا. فبينما دبَّرَ العدو مكيدته لنا لكي يسقِطنا، كان خلاصنا مُعَدّاً من قِبَلْ تدبير الله السابق. فهذا المغوي الشرير الذي نسج سلاحه الجديد –الخطية- ضد جنسنا سكن في الحية، تلك الصورة التي كانت ملائمة لنيّته الشريرة، فهو بما فيه من دنس دخل إلى تلك التي تشبهه وسكن في ذلك الحيوان الزاحف كمسكن ترابي وأرضي، تماماً مثل إرادته الترابية الأرضية. ولكن المسيح مُصلِح شر الشيطان أخذ ناسوت الإنسان بالكامل وخَلَّص الإنسان، وأصبح صورة ومثالاً لنا جميعاً. لكي يُقدِّس باكورة كل عمل حتى لا يترك لخدامه أي مجال للتعثر عند التزامهم “بالتسليم” (6) الذي قدمه المسيح لهم.
عمل سر المعمودية:
إذن فالمعمودية هي تطهير من الخطايا وإزالة للمعاصي وأصل للتجديد وللميلاد الجديد. ويجب أن نفهم أن الميلاد الجديد هو شيء يُدرك على مستوى الفكر ولا يدرك على مستوى الجسد (7) لأنه لا يمكننا، كما ظَنَّ نيقوديموس بعدم حكمة، أن نحوِّل الشيخ الكبير مرة أخرى إلى طفل، ولا يمكننا إعادة الشيخ الذي قد شاخ وشاب شعره إلى نضارة الشباب إذا أعدناه مرة أخرى إلى رحمِ أمه. ولكن يمكننا من خلال النعمة الإلهية إعادة مَنْ يحمل جراحات الخطية وشاخ في العادات الشريرة إلى براءة الطفل. لأنه كما أن الطفل المولود حديًثا حر من الاتهام ومن العقاب (8)، هكذا من له ميلاد جديد من المعمودية ليس عليه أي شيء إذ قد تحرر بالنعمة الإلهية من الدينونة.
دور المياه في سرّ المعمودية:
ولا تَهِب المياه هذه العطية من ذاتها وإلا صارت المياه مادة لها مكانة فوق كل الخليقة، ولكن هذه العطية هي بأمر الله وحلول الروح القدس الذي يحِلَّ بطريقة سرائرية لكي يُحرِّرنا.
ولكن المياه تعمل للتعبير عن التطهير لأنه كما اعتدنا على غَسل أجسادنا بالماء عند اتساخها بالتراب أو الطين فإننا نستخدمها أيضاً في هذا العمل السرائري ونُعبِّر عن جمال المعنى الروحي بتلك المادة المحسوسة لدينا.
ولكن إذا حَسن لديكم، دعونا نجتهد في الدخول بأكثر عمق وتدقيق فيما يخصّ المعمودية ونبدأ كما من أصل الينبوع أي من الإعلان الكتابي: “إن كان أحد لا يوَلد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 3: 5). ولكن لماذا ذَكَرَ الاثنين، أي كل من الماء والروح؟ ولماذا لم يعتبِر الروح فقط كافياً لإتمام المعمودية؟
فإننا نعرف جيداً أن الإنسان كائن مركَّب وليس كائناً بسيطاً، ولهذا توصف له الأدوية مركَّبة أيضاً، فلجسده المنظور نُقدِّم الماء، المادة الملموسة، ولنفسه غير المنظورة نُقَدِّم الروح غير المرئي المستدعى بالإيمان، الذي وجوده غير موصوف. لأن “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب” (يو 3: 8). فالروح يبارِك الجسد الذي يعتمد والماء الذي يُعتَمَد به. لهذا يجب ألا نحتقر الجرن الإلهي ولا نستهين به ظانين أنه شيء عادي بسبب استخدام الماء. لأن القوة التي تعمل في الماء هي عظيمة جداً والأشياء التي تحدث في هذا السر باهرة للغاية.
استخدام بعض الأمور المادية كواسطة لتتميم أمور روحية:
فإن هذا المذبح المقدس أيضاً الذي أنا واقف أمامه مصنوع من الحجارة وهي مادة عادية في طبيعتها، فهي لا تختلف في شيء عن قِطع الحجر التي نبني بها بيوتنا وشوارعنا. ولكن إذ قد كر ست ودشَِّنت لخدمة الله فقد أصبحت مائدة مقدسة، مذبح بلا دنس، لا تقدر أن تمسّه أي يد، إلا أيدي الكهنة فقط الذين يمسونه بكل توقير. والخبز أيضاً يُعتَبر خبزٌ عادي في البداية ولكن بعد أن يتقدَّس بالعمل السرائري يصبح جسد المسيح ويسمّى كذلك. وهكذا أيضاً بالنسبة للزيت السرائري والخمر (9). فعلى الرغم من أن ليس لكل منهما قيمة كبيرة قبل التقديس، ولكن بعد تقديس الروح القدس يصبح لهما عملهما المختلف. كما أن نفس قوة الكلمة (10) هي التي تعطي الكاهن وقاره وكرامته وُتفرِزه عن بقية الناس بالنعمة الجديدة التي أُعطِيت له. فبينما كان من قبل واحداً من العامة، من الشعب، إلا أننا نجده قد أصبح فجأًةً مدبِّراً ورئيساً ومعلِّماً للبِرِّ ومُرشِداً للأسرار الخفية. وهو يقوم بكل هذا دون أن يطرأ عليه أي تغيير في الجسد أو في الشكل، فهو من حيث المظهر الخارجي هو هو نفس الإنسان الذي كان من قبل، إلا أنه وبعمل النعمة والقوة الخفية، قد ارتفعت نفسه غير المرئية إلى المرتبة الأعلى. وهكذا فهناك العديد من الأشياء إذا تأملتها تبدو لك من الخارج كأشياء لا قيمة لها، ولكن الأعمال التي تُتممها عظيمة.
أمثلة كتابية:
وهذا بالضبط هو الوضع إذا تأملت التاريخ القديم؛ فستجد فيه مواقف مشابهة لذلك. فعصا موسى كانت عصا من “اللوز”، واللوز هو نوع من الخشب العادي، تستطيع أي يد أن تقطعه وتحمله وُتشكِّله كما تشاء وُتلقي به في النار إذا شاءت. ولكن عندما سر الله أن يعمل بهذه العصا كل تلك العجائب العالية الفائقة لقوة الُنطق، تحوّلت هذه العصا إلى حيّة وفي مرة أخرى ضرب بها موسى المياه وحوّلها إلى دم كما أخرج عدداً لا حصر له من الضفادع ومرة أخرى شقَّ البحر وقسمه من الأعماق موقًّفا المياه عن الحركة. وهكذا أيضاً جعَلت عباءة أحد الأنبياء (11) من إليشع رجلاً معروًفا في كل العالم رغم أنها مصنوعة من مجرد جِلد الماعز، وبالمثل فإن خشبة الصليب لها قوة خلاصية لكل الناس بالرغم من أنها كما أعلم قطعة خشب من شجرة متواضعة أقل قيمة من بقية الأشجار. ومن خلال العليقة أُظهِرَ لموسى إعلان حضور الله، وعظام إليشع أقامت إنسان ميت، والطين وهبَ النظر لأعمى منذ ولادته.
وعلى الرغم من أن كل هذه الأشياء هي مادة بلا روح أو إحساس فلقد تحوّلت إلى أدوات لعمل العجائب العظيمة التي صنعت بها عندما قبلت قوة من الله. وبنفس المنطق فالمياه أيضاً بالرغم من كونها مجرد ماء فهي تُجدِد الإنسان للميلاد الروحي عندما تُقدَس بالنعمة التي من فوق.
عمل الله غير المُدرك:
وهنا إذا جاءني مَنْ يعترض ثانيةً بإثارة المشاكل بأسئلته وشكوكه سائلاً وفاحصاً بإصرار عن كيف يمكن للماء والعمل السرائري الذي فيه أن يعطي الميلاد والتجديد، فإنني لا أملك إجابة أقولها له سوى “أرِني الطريقة التي يُولَد بها الإنسان حسب الجسد وأنا أشرح لك قوة الميلاد الجديد للنفس”. وقد تقول في سبيل إيضاح هذا الأمر أن “الإنسان يولَد من زرع البشر”، ولكن يجب أن تعرف أن الماء المقدس يُطهر وينير الإنسان. وإذا عارضتني مرة أخرى سائلاً كيف؟ فستكون إجابتي وبكل شِدة: “كيف يمكن للمادة السائلة التي لا شكل لها أن تصبح إنساًنا؟” (12). وهكذا نستطيع أن نستخدم نفس السؤال عن كل ما في الخليقة إذا ما طال الجدل “كيف وجِد ت السماء والأرض والبحر وباقي الأشياء؟”. فعندما يعجز فكر الإنسان عن الفهم يلجأ إلى كلمة “كيف” كما يلجأ من يعجز عن المشي إلى الكرسي ليجلس.
وللإيجاز، يجب أن نقول أن سلطان الله وأعماله غير مُدركة ولا يمكن وضعها في إطار القواعد المعروفة، فهو يعمل ما يشاء خافياً عنَّا دقائق الأمور في عمله. لأجل ذلك عندما تأمل داود بفكره روعة الخليقة، وامتلأت نفسه من الاندهاش والإعجاب، تكلَّم بالآية التي يرتلها الجميع: “ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صَنعت” (مز 104: 24 ) فقد أدرك المرتل عظمة حكمة الله وإن لم يستطع أن يفهمها.
لماذا التطهير بالماء؟:
ولهذا فلنترك البحث عما هو فوق القدرة البشرية، ولنبحث بالأحرى عما يمكن إدراكه ولو جزئي: لماذا يتم التطهير بالماء؟ وما هو الغرض من التغطيس ثلاث مرات؟..
فما تعلَّمناه من الآباء وَقبِْلناه بفكرنا هو الآتي: نحن نعرف العناصر الأربعة التي تتكوَن منها الخليقة والتي يعرفها الجميع دون الحاجة لذِكر أسمائها، ولكن نذكرها لِمَنْ لا يعرفها مِنَ البسطاء وهي النار والهواء والماء والتراب (13). فلكي يكمل لنا إلهنا ومخلصنا التدبير دُفِن في العنصر الرابع، أي التراب لكي يقيم الأموات منه. ونحن بالمعمودية نشابه ربنا ومعلِّمنا ومرشدنا لا بدفننا في التراب -الذي نستخدمه لدفن الأجساد الميتة حتى يغطي تحلُّل وضعف طبيعة أجسادنا- ولكننا ُندَفن في العنصر الشبيه بالتراب وهو الماء، فُندَفن فيه مثلما دُفِنَ مخلصنا في التراب. وفي التغطيس ثلاث مرات إشارة إلى نعمة القيامة التي تمت في اليوم الثالث. وهكذا نفعل لا في صمت أثناء أداء السر بل يُقال اسم الثالوث الذي نؤمن به والذي فيه رجاؤنا والذي منه حاضرنا ومستقبلنا.
لاهوت الروح القدس:
وإذا شعر َ ت أن هناك تجديف بهذا الكلام يا مَنْ تقاوم بجسارة مجد الروح القدس (14) وإذا كنتَ تعارض إعطاء الروح هذه الكرامة التي يعطيها له الأتقياء. فلا تعارضني أنا، بل إذا كنت تستطيع، عارِض كلام الرب الذي أعطى هذا القانون الخاص بالتعميد للناس. فماذا تقول وصية الرب: “عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 1٩ ). فلماذا يكون التعميد باسم الآب؟ لأنه أصل كل الأشياء. ولماذا باسم الابن؟ لأنه صانع الخليقة كلها. ولماذا باسم الروح القدس؟ لأنه هو القوة التي تُكمِّل الكل.
ولهذا فنحن نسجد للآب لكي نتقدَّس، وللابن لكي نحصل على نفس التقديس، وللروح القدس لكي نحصل على ما هو له بالطبيعة والاسم (15). ولا يوجد تفريق في التقديس، بمعنى أن يكون تقديس الابن أقل من تقديس الآب وتقديس الروح أقل منهما. فلماذا إذن تُقسمون الأقانيم الثلاثة إلى أجزاء بطبائع مختلفة، جاعلين إياهم ثلاثة آلهة مختلفين عن بعضهم البعض بالرغم من أنكم تحصلون على نفس النعمة منهم جميعًا؟!
ولكن الأمثال عادةً ما تُعطي للموضوع وضوحاً أكثر لدى السامعين، وأنا أهدف منها إلى تعليم عقول المجدفين من خلال الصور شارحاً باستخدام الأشياء الأرضية البسيطة تلك الأمور العظيمة التي تفوق الحواس. فإذا كنت، على سبيل المثال، قد سقطت في أسر أعدائك وتعاني من الشقاء والعبودية وتئن حنيناً للحرية القديمة التي كانت لك فيما قبل، وفجأة جاء ثلاثة رجال (16) ذوي شأن من مواطني هذه المملكة التي أنت في أسرها، وقاموا بتحريرك من قيودك دافعين فِديَتكَ بالتساوي وقاسمين الثمن المدفوع بالتساوي بينهم، فإذا كنتَ تُقدر قيمة المعروف الذي قدَّموه لك، ألن تنظر إليهم الثلاثة بالتساوي كمحسِنين إليك لأجل ذلك المعروف دافعاً الدين الذي عليك لهم بالتساوي لأنهم تساووا في دفع الدين عنك؟ وهكذا نفهم على قدر ما يوضِّح لنا هذا المثال، فليس هدفنا الآن الشرح الوافي للإيمان. والآن فلنعد مرة أخرى للعيد الحالي والموضوع الذي طرحه هذا العيد.
العهد القديم ومياه المعمودية:
إنني أجد أنه ليس فقط الأناجيل التي كُتِبت بعد الصلب هي التي تتكلَّم عن نعمة المعمودية، ولكن حتى قبل تَجسد ربنا يسوع المسيح أعطَتْ الأسفار القديمة الصور الرمزية لميلادنا الجديد، ولم تُعلِن شكل هذا الميلاد الجديد بجلاء ولكن أوضحت بشكل خفي حب الله للإنسان. وكما تم التنبؤ عن ذبيحة الحمل والصليب مسبقاً كذلك تم التنبؤ بالمثال وبالكلام عن المعمودية (17). فلنسترجع معاً الآن أمثلة المعمودية لِمَنْ يبغوا الأفكار الحسنة، فإن المناسبة تستوجب استرجاع هذه الأمثلة.
أمثلة إشارات إلى استخدام المياه في المعمودية
- هاجر وإسماعيل:
فهاجر عندما طُرِدت من بيت سيدها بسبب حنق سارة وغيرتها، تاهت في برية قَفرة، ذاهبةً إلى أرض مقفِرة، حاملة ابنها إسماعيل في حضنها، وعندما أصبحت في ضيقة لاحتياجها لمقومات الحياة وأشرفت على الموت وكان رضيعها متألِماً بسبب شدة احتياجه للماء، ظَهرَ لها ملاك فجأة وأراها عين ماء حي، وعندما أَخَذت من الماء، استطاعت أن َتنْقَِذ إسماعيل. وهوذا مثالٌ لسِرّ المعمودية، فكيف أنه بدايةً كانت النجاة من خلال الماء الحي للطفل الذي كان على وشك الهلاك، ذلك الماء الذي لم يكن له وجود من قبل ولكن أُعطي كنعمةٍ من يدِ الملاك. - اسحق:
وفيما بعد أيضاً كان قد حان الوقت لزواج إسحق، فأرسل إبراهيم عبده لإجراء الخُطبة، ولإحضار عروس لسيده، ووجد رفقة على عين الماء، وهكذا فالزيجة التي أتى من نسلها المسيح فيما بعد كانت بدايتها وأول عهد لها عند الماء.
كما أن إسحق ذاته عندما كان يرعى قطيعه حفر آباراً في كل مكان في الصحراء، والتي فيما بعد ردمها الغرباء وهم بهذا مثال لهؤلاء الأشرار في الأيام اللاحقة الذين يقفون ضد نعمة العماد ويتكلَّمون بكل جسارة ضد الحق. ولكن الشهداء والكهنة تغلَّبوا عليهم بحفر الآبار وهكذا غَمَرَتْ المعمودية العالم أجمع. - يعقوب:
وبنفس المثال تقابل يعقوب مع راحيل بطريقة غير متوََقعة عند بئر الماء عندما كان يبحث عن عروس. وكان هناك حجر عظيم على بئر الماء، وكان يحتاج إلى جمعٍ من الرعاة ليدحرجوه ليستقوا ويسقوا قطعانهم ولكن يعقوب وحده دحرج الحجر وسقى قطيع زوجته. وأعتقِد أن هذا الأمر هو مثال وظل للأمور العتيدة، لأن ما هو الحجر الموضوع إلا المسيح نفسه؟ فإشعياء يقول عنه: “هأَنذا أُؤَسس في صهيون حجراً. حجر امتحان. حجر زاوية كريماً أساساً مؤسساً” (إش 28: 16 ) ويقول دانيال أيضاً “… قد قُطِع حجر من جبل لا بيدين…” (دا 2: 45 )، أي أن المسيح ولِدَ بدون زرع بشر.
فكما أنه أمر عجيب وجديد أن يقطَع حجر من صخرة بدون يد إنسان أو أية أداة من أدوات قطع الأحجار، هكذا هو أمر يفوق العجب أن يأتي نسلٌ من عذراء غير متزوجة. فلقد كان الحجر الروحي (أي المسيح) موضوعاً على البئر، وكان يخَتبِئ في العمق وبطريقة سرية جُرن الميلاد الجديد الذي احتاج إلى وقت كثير ليخرج إلى النور، كما لو كان حبل طويل يتم جذبه. ولم يحِّرك أحد الحجر سوى إسرائيل (يعقوب) الذي كان يرى الله بالروح. ولكنه أيضاً أخرج الماء من البئر وسقى غنم راحيل، أي أنه أظهر السر المخفي، وأعطى الماء الحي لقطيع مؤمني الكنيسة.
ونضيف على ذلك أيضاً قصة قضبان يعقوب الثلاثة، لأنه عند وضع القضبان الثلاثة عند البئر افتقر لابان الوثني واغتنى يعقوب من الغنم. وهنا يمكن أن يرمز لابان إلى الشيطان ويعقوب إلى المسيح، لأنه بعد تأسيس المعمودية أخذ المسيح كل قطيع الشيطان له وأصبح غنيا بهم. - موسى والناموس:
وموسى أيضاً حينما كان طفلاً حسن المنظر وعلى صدر أمه، أصدر فرعون القاسي القلب حكماً شديداً عليه وضد كل الأطفال الذكور، فظهرَ موسى على ضفة النهر، وهو لم يكن عرياًنا ولكّنه موضوع في صندوق، لأنه كان يليق بالناموس أن يوضع في صندوق للنفائس. وكما وضِع موسى بالقرب من الماء، هكذا كان الناموس واغتسالات العبرانيين اليومية –اللتان يرمز لهما موسى- قريبتين من النعمة إذ قد ظهرَ مغزاهما جليّاً فيما بعد من خلال المعمودية التامة والفائقة.
كما أنه بحسب تفسير بولس الملهم، فإن عبور الشعب للبحر الأحمر يرمز إلى خبر الخلاص المفرِح الذي أتى بالماء. فقد عبر الشعب وغمَرتْ المياه ملك مصر وجنوده، فهذا الحدث كان نبوة عن هذا السر. لأنه حينما يدخل الشعب في مياه التجديد، هاربين من مصر، أي من أوزار الخطية، فإنه ينال الحرية والخلاص. ولكن الشيطان وخدَّامه يبتَلعون من الحزن ويهلِكون، معتبِرين أن خلاص الإنسان هو خسارتهم. - يشوع وعبور الأردن:
بالرغم من أن هذه الأمثلة تُعَتبر كافية للتأكيد على ما نقول إلا أن من له فهم جيد يجب ألا يتجاهل ما يلي: أن العبرانيين بعد الكثير من المعاناة وبعد أن أكملوا طريقهم الصعب في البرية لم يدخلوا أرض الموعد حتى عبر بهم يشوع مرشِدهم وقائد حياتهم نهر الأردن. ولكن من الواضح أن يشوع أيضاً، الذي وضع الاثني عشر حجراً في النهر، كان يشير بذلك إلى مجيء التلاميذ الاثني عشر خُدَّام سِر المعمودية. - تقدمة إيليا النبي:
وأيضاً التقدمة المعجزية للشيخ التسبيتي إيليا التي تفوق فِهم البشر، فما هي إلا إشارة عملية للإيمان بالآب والابن والروح القدس وبالفداء أيضاً. لأن العبرانيين عندما تركوا إيمان آبائهم وسقطوا في خطية عبادة الأوثان، وضلَّ ملِكهم آخاب بعبادة الأصنام مع إيزابل امرأته الشريرة التي كانت تحثَّه على الكُفر، التي صار اسمها نذير شؤم (18)، جاء النبي إيليا ممتلئاً من نعمة الروح للقاء آخاب، وتحدى كهنة البعل في تحدِّ عظيم وعجيب أمام الملك وكل الشعب. وإذ أعطاهم مهمة تقديم العجل دون نار أظهرهم بشكل سخيف و مخزٍ إذ كانوا يصّلون ويصرخون باطلاً لآلهة باطلة. وأخيراً حقق إيليا هدفه عندما صرخ إلى الإله الحقيقي بالرغم من الصعوبات التي أضافها هو نفسه إلى مهمته، لأنه لم يستدعِ النار من السماء على خشب جاف فحسب، بل أمر وطلب من الحاضرين أن يحضروا الكثير من الماء. وبعد أن سكَب الماء ثلاث مرات على قِطَع الخشب، أشعلت صلاته النار في الماء، مُظهِراً بجلاء عظيم قوة إلهه من خلال تلك المادتين المتناقضتين – الماء والنار- اللتين عملتا معاً. فالآن من خلال هذه الذبيحة المعجزية، أظهر لنا إيليا هنا بوضوح طقس المعمودية السري الذي تأسس فيما بعد. لأن النار اشتعلت في ذبيحةٍ سكِب عليها الماء ثلاث مرات، مظهِراً بوضوح أنه حيث يوجد الماء السري يوجد الروح المشتعِل الدافئ والناري الذي يحرِق الأشرار وينير للمؤمنين. - إليشع النبي ونعمان السرياني:
وهكذا أيضاً إليشع تلميذ إيليا، أبرأ نعمان السرياني المصاب بالبرص بغسله في نهر الأردن، عندما جاء إليه طالباً الشفاء، مظهِراً ما لابد أن يكون، من خلال استخدام الماء عامةً وأيضاً من خلال التغطيس في مياه هذا النهر بشكل خاص. لأن نهر الأردن، بأخذه باكورة التقديس والبركة، هو الوحيد من بين الأنهار الذي حمل بين ضفتيه نعمة المعمودية للعالم كله، كأنه هو ينبوع هذه النعمة. وهذه كلها مؤشِّرات بالفعل والعمل عن الميلاد الجديد بالمعمودية.
نبؤات مباشرة تنبأت عن استخدام المياه في سر المعمودية:
فلنفحص الآن النبوات الواردة عن المعمودية التي جاءت في كلمات مباشرة. فإشعياء صرخ قائل: “اغتسلوا. تنّقوا. اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني.” (إش 1: 16 ) وقال داود أيضاً “نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل” (مز 34: 5). وحزقيال يكتب بأكثر وضوح وصراحة منهما قائل: “وأَرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أطهركم. وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي في داخلكم” (حز 36: 25-27 ) كما يتنبأ أيضاً زكريا بكل وضوح عن يهوشع الذي كان لابساً ثياباً متسخة، ونُزِعت عنه الثياب القبيحة وأُلبِس ثياباً حسنة ونظيفة، مما يعلِّمنا بالشكل الرمزي أننا بالحقيقة في معمودية يسوع (19) نلبس الثوب المقدَّس والجميل الذي للميلاد الجديد، إذ نخلع عنا خطايانا كالثياب الرثَّة البالية.
- نبوة إشعياء عن كرامة المعمودية:
وكيف نُفسِّر نبوة إشعياء التي قيلت من جهة البرية “تفرح البرية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهِر كالنرجس. يزهِر إزهاراً ويبتهج ابتهاجاً ويرنِّم. يدَفع إليه مجد لبنان. بهاء كرمل وشارون. هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا” (إش 35: 1-2)، لأنه من الواضح أنه لا يعلِن عن الأخبار السارّة المُفرِحة لأماكن بلا نفس أو حواس، بل أن البرية هي مثال للنفس العطشى وغير المزينة، كقول داود النبي أيض: “صارت نفسي لك كأرض بلا ماء” (مز 143: 6) وأيضاً “عطشت نفسي إلى الله. إلى الإله الحي” (مز 42: 2). وهكذا يقول الرب في الأناجيل: “إن عطش أحد فليقبِل إليَّ ويشرب” (يو 7: 37). وقال للمرأة السامرية: “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو 4: 13). كما أن القفر يشير إلى النفس العطشى، كذلك يشير “بهاء كرمل” (إش 35: 2) إلى النعمة المعطاة لهذه النفس بواسطة الروح القدس. و كما أن جبل الكرمل قد صار مشهوراً ومعروفاً بسبب سُكَنى إيليا النبي فيه، هكذا صار نهر الأردن بسبب معمودية يوحنا المعمدان الذي جاء بروح إيليا.
وبهذا ينطبق كلام إشعياء النبي عن “بهاء الكرمل” وعن “مجد لبنان” (إش 35: 2) على نهر الأردن. و”مجد لبنان” يعود إلى علو أشجار لبنان، لأنه كما أن أشجار لبنان النابتة فيها مثيرة للإعجاب، هكذا أيضاً نهر الأردن نال مجداً بسبب إعطائه الميلاد الجديد للبشر وغرسهم في فردوس الله. وكما تقول كلمات المرتِّل: “أوراقهم لا َتنتثِر” (مز 1: 4) فهم دائماً مزهِرون وحاملون ثمار الفضائل، ويسر الله بهم إذ يقبل منهم ثمارهم في حينه، ويفرح بأعماله كزارع صالح. - نبوة داود عن عماد المسيح في المياه:
وكتب أيضاً داود المُلهم في سفره “صوت الرب على المياه، صوت الرب أرعد” (مز 2٩: 3) متنبِئًا عن الصوت الذي َتكلَّم به الآب من السماء عن الابن أثناء عماده، حتى يقود السامعين إلى إدراك كرامة طبيعة اللاهوت، هؤلاء الذين كانوا حتى هذا الوقت ينظرون فقط إلى تواضع بشريته كما أدركته حواسهم. ولكن علينا الآن أن نكتفي بما ذكرنا من شهادة الكتاب المقدس عن المعمودية. لأن البحث قد يستمر إلى ما لا نهاية إذا أراد المرء التفتيش عن كل الآيات بالتفصيل ليضعها في كتاب.
فلنعمل ما يليق بهذا السر:
ولكنني أطلب منكم، كما تفرحون بها، أن تفعلوا كما يليق بنعمة الميلاد الجديد. وأن تفتخروا كما يفتخر الكثيرون بالميلاد الجديد، وبهذا التجديد الخلاصي، وأروني التغير في طرقكم الذي يجب أن يتبع حصولكم على النعمة السرائرية، وأظهروا في طهارة سلوككم الفرق الذي حدث في تغيركم إلى الأفضل.
فبالنسبة لما نراه بعيوننا لم يتغير شيء.. فخصائص الجسد تظل بلا تغيير وكذلك شكل الطبيعة الظاهرة. ولكن لابد من دليل ظاهر نتعرّف من خلاله على الإنسان الذي ولِد من جديد، حتى نستطيع، من خلال البراهين الواضحة، أن ُنفرِّق بين الإنسان العتيق والجديد. وأعتقد أن هذه الأشياء “البراهين” توجد في ميول النفس، حيث تفصل النفس ذاتها عن حياتها القديمة وتدخل في سلوك جديد وتَظْهر بوضوح لمن يعرفوها أنها قد تغيرت عن شكلها القديم، وأصبحت لا تحمل داخلها أي شيء من سماتها القديمة.
إن اقتنعتم بكلامي وحفظتم ما أقوله فهكذا يكون التغير. فالإنسان قبل المعمودية كان شهوانياً، طمَّاعاً ومشتهٍ ما للغير، قبيحاً، كذَّاباً، وشتَّاماً ومتَّصِفاً بكل ما يرتبط بهذه الأمور وبكل ما يتطور منها. ولكنه الآن أصبح مسالِماً، معتدِلا وَقنوعاً ومساعداً للفقراء، صادقاً، بشوشاً ورقيقاً، أي أنه باختِصار أصبح سالكاً في كل سلوك يستحق المديح. فكما أن الظلمة تنقشِع بالنور، وكما يختفي السواد عندما يطغي عليه البياض، هكذا يختفي الإنسان العتيق عندما يتحلَّى بأعمال البر.
أمثلة على التغيير:
وقد رأيتم كيف أن زكا عندما تغيرت حياته أمات العشار الذي فيه، إذ أعاد أربعة أضعاف لكل من ظلمهم. وقسَّم مع الفقراء ما بقي عنده من الغِنى الذي كان قد جمعه بالظلم مِمَّن كان يقهرهم. كما أن متى الإنجيلي، والذي كان يعمل عشاراً كزكا، بعد دعوته غيّر حياته كما لو كانت مجرد قناع. وبولس كان مضطِهداً ولكنه بعد أن نال النعمة تحوَّل إلى رسول، حاملاً ثقل قيوده من أجل المسيح كتصحيح وتقديم توبة لتلك القيود الظالمة التي تسلَّمها من الناموس واستخدمها ضد الإنجيل.
سلوك الأبناء:
وهكذا يجب عليكم أنتم أيضاً أن تتجددوا، وأن تتخلَّوا عن عاداتكم التي تميل إلى الخطية، وهكذا يجب أن نسلك كأولاد لله، لأننا بعد أن ننال النعمة نسمى أولاده. ولهذا يجب علينا أن نتعرف بكل دقة على صفات أبينا، لكي ما نتشكَّل على صورة ومثال الآب ونصبح أولاداً حقيقيين له إذ قد دعانا للتبنِّي بحسب النعمة. لأن الابن غير الشرعي الكاذب الذي ينكر كرامة أبيه بأعماله هو مصدر ملامة وحزن. من أجل هذا فالرب نفسه يقول لتلاميذه: “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي فى السموات فإنه يشرِق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار (مت 5: 44) واضعاً لنا في الإنجيل قواعد لحياتنا، فهكذا يقول أن الأبناء هم الذين من جهة الفكر قد اتَّسموا بالمحبة واللطف تجاه إخوتهم على مثال صلاح الآب.
كرامة التبنّي:
ولهذا أيضاً يجب أن نعَلم أنه بعد نوال كرامة التبنِّي، يتحايل الشيطان بأكثر شراسة ضدنا، ناظراً لنا بحسد، إذ ينظر جمال الإنسان المولود ثانيةً والمتَّجه بِجِدٍّ نحو المدينة السماوية التي سقط منها هو. فيثير ضدنا إغراءات شديدة، ساعياً لإفساد شكلنا الجديد، كما أفسد صورتنا الأولى. ولكن عندما نُدرِك ما هي هجماته، يجب أن نردد في أنفسنا كلمات الرسول: “كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته” (رو 6: 3) والآن بما أننا شابهناه في موته، فالخطية بلا شك قد أصبحت مائتة فينا إذ قد قُتِلت برمح المعمودية كما طَعَنَ فينحاس الغيور الشخص الزاني.
إذن اهرب منا أيها الشيطان! لأنك تحاول أن ُتفسِد جثة ميتة، جثة كانت سابًقا ملتصقة بك، ولكن الآن فقدت الإحساس باللذَّات. فجسد الميت لا تستهويه شهوات الجسد ولا يسقط تحت سلطان الغِنى، ولا يقبح ولا يكذب ولا يشتهي ما للغير ولا يشتم الآخرين. فسلوكي ليس من هذه الحياة.. فلقد تعلَّمت أن أبغض ما في العالم، وأترك ما في العالم مسرِعاً لاقتناء السماويات، تماماً كما يشهد بولس بوضوح بأن العالم قد صُلِبَ له وهو للعالم (20). هذه هي كلمات نفس قد تمتَّعت حًقا بالميلاد الجديد! هذه هي كلمات الإنسان الذي نال المعمودية، الذي يذكر عهده الذي تعهَّد به أمام الله عندما نال السر: أن يستهين بكل أنواع الألم وكل أنواع اللذَّات (21).
المسيح مزُيِّن نفوسنا:
وبهذا نكون الآن قد تكلَّمنا بما يكفي عن موضوع هذا العيد المقدس الذي يأتي لنا في وقت محدد كل عام. ونفعل حسناً إذا ما وجّهنا نهاية حديثنا لمانِح هذه النعمة المحِب، مقدمِين له كلمات قليلة كمقابِل للأشياء العظيمة التي منحنا إياه: لأنك بالحقيقة يا رب الينبوع الطاهر والأبدي للصلاح، الذي بعدلٍ تركتنا وبلطف ومحبة رحمتنا. خاصمتنا ثم صالحتنا، لعنت ثم باركتنا. طردتنا من الفردوس وأعدتنا إليه ثانيةً. نزعت عنا ورق التين الذي كان لباساً غير لائق وأعطيتنا حلَّة فاخرة. فتحت أبواب السجن وأعتقت المذنبين. غسلتنا بماء طاهر وطهّرتنا من أقذارنا. فلن يشعر آدم فيما بعد بالخوف عندما تناديه، ولا يعود يختبئ بين أشجار الجنة بسبب إدانة ضميره له. ولن يكون هناك سيفاً نارياً حول الفردوس فيما بعد مانعاً الدخول لِمَنْ يقتربون. ولكن الكل تحوَّل إلى فرح لنا نحن الذين كنا ورثة الخطية. فالإنسان أصبح يستطيع الدخول إلى الفردوس بل وإلى الملكوت نفسه. والخليقة الأرضية والسماوية اللتان كانتا في عداوة، أصبحتا منسجمتين في صلح. وأصبح بإمكاننا نحن البشر أن نشترك في تسبيح الملائكة مَقدمِين العبادة والشكر لله. ولأجل كل هذه الأشياء فلنسبح الله بتسبحة الفرح والتي سبّحتْ بها الشفاه منذ زمن طويل عندما لمسها الروح: “فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر” (إش 61: 10 ).
وبالحقيقة فمزين العروس هو المسيح الكائن،
والذي كان، والذي سيكون،
المبارك الآن وإلى أبد
آمين.
المراجع:
(1) يوم الرب هو يوم الأحد، والقديس هنا يوبخ الشعب على تكاس قداس يوم الأحد السابق مباشرةً لعيد الغطاس.
(3) اعتاد الآباء قديماً تفسير أحد أسفار الكتاب المقدس بشكل منتظم من خلال عظاتهم الدورية، ولا يكسرون تلك القاعدة إلا عند حدوث الأعياد والتذكارات المختلفة، فيركِّزون في عظاتهم على الحديث عن تلك المناسبات، ثم يعودون لدراسة الكتاب المقدس بعد ذلك.
(4) يتكلم القديس هنا في يوم عيد الغطاس وبالطبع كان يسبق ذلك بعدة أيام عيد الميلاد.
(5) فالسيد المسيح بحسب تعليم الكتاب المقدس والكنيسة له ميلادان: ميلاد أزلي قبل كل الدهور من الآب، وميلاد زمني في ملء الزمان من العذراء مريم.
(6) يشرح لنا القديس هنا كيف أن المسيح من خلال تجسده على الأرض قد قدَّمَ لنا نموذجاً مثالياً للحياة يجب أن نحتذي به، وإذ قد اجتاز هو نفسه مراحل حياة الإنسان المختلفة، فلم يدع مجالاً لأحد لكي يتشكك أو يتعثّر في تعاليمه التي قد تمَّمها هو نفسه أولاً.
(7) لا يقصد القديس أن المعمودية أمر رمزي فقط، لكنه يقصد أن هذا الميلاد الجديد لا يُفهَم على أنه ميلاد جسداني جديد بل إنه ميلاد يحدث على مستوى الروح إذ يصير الإنسان خليقة جديدة.
(8) بالطبع لا يقصد القديس إطلاقاً بهذا المثل أن الأطفال الصغار أحرار من أثار الخطية الجدّية أو من الطبيعة الفاسدة ولكنه يتحدث هنا عن الأمور الأرضية فلا توجد محكمة تتهم طفلاً رضيعاً بأيّة تهمة كالقتل أو السرقة بسبب صغر سنه.
(9) يُقصَد بالزيت السرائري هنا زيت الميرون أو زيت مسحة المرضى.
(10) المقصود بقوة الكلمة هو نطق الرسامة الذي يتبعه حلول الروح القدس على مَنْ تتم رسامته في درجات الكهنوت.
(12) لقد كان في عصر القديس غريغوريوس موضوع كيفية ميلاد الإنسان وكيف يتكوَّن من الأمور غير المعروفة على المستوى العلمي. لذلك يستخدم هنا هذا الأمر كمثال ليوضح به فكرته، فكما يولَد الإنسان طريقة فائقة لمعرفة الناس، كذلك يتم الميلاد الروحي من الماء بطريقة فائقة لمعرفتهم.
(13) كان هذا الأمر هو اعتقاد علمي منتشراً قديماً وهو: إن كل الخليقة قد تشكّلت من تلك العناصر الأساسية الأربعة. إثنان منهما عناصر روحية “النار والهواء” وإثنان منهما عناصر مادية “الماء والتراب”. والقديس هنا قد استخدم هذا الإعتقاد ليشرح للناس كيف نشارك المسيح موته عندما نُدفَن في المعمودية في عنصر الماء الذي يشابه عنصر التراب الذي دُفِنَ فيه المسي.
(14) هنا يوجِّه القديس كلامه لأتباع أنوميوس الذين أنكروا لاهوت الروح القدس، وكانوا منتشرين في عصره.
(15) إننا نحصل على ما يخص الروح بالطبيعة: أي نحصل منه على التقديس الذي له طبيعياً. فهو بالطبيعة ينبوع للقداسة والبر وهو في ذلك يماثل الآب والابن. كما نحصل على ما يخصه بالاسم: إذ أن أقنوم الروح هو “الروح القدس” أي أن القداسة هي في اسمه أيضاً وليس فقط في طبيعته.
(16) هذا المثل ليس مثلاً لشرح عقيدة الثالوث بشكلٍ وافٍ في الكنيسة ولكن القديس استخدمه ليوضح مبدأً واحداً واضحاً تماماً وهو التساوي في المجد والكرامة بين الأقانيم الثلاثة. وهو نفسه قال في نهاية شرحه للمثل “ليس هدفنا الآن الشرح الوافي للإيمان”.
(17) قَسَّم القديس النبوات التي تحدَّثت عن المعمودية إلي قسمين:
نبؤات بالأمثال: وهي مجموعة أمثلة من أحداث العهد القديم تشير إلى المعمودية.
نبؤات بالكلمات: وهي نبؤات مباشرة ذكرها أنبياء العهد القديم للتحدُّث عن المعمودية
(18) ربما قصد القديس من ذلك أن ايزابل أصبح يُستخدَم بعد عصر إيليا للدلالة على الشرّ والخطية كما هو مذكور في سفر الرؤيا (رؤ 2: 20).
(19) المقصود هنا المعمودية التي قدَّمها لنا السيد المسيح ونُتمِّمها نحن في الكنيسة وليس المقصود معمودية المسيح الشخصية في نهر الأردن.
(21) يشير القديس هنا إلى طقس جحد الشيطان والاعتراف بالمسيح الذي يتممه المُعمَّد قبل المعمودية إذا كان كبيراً، أو يتممه الاشبين نائباً عنه إذا كان طفلاً صغيراً.