Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

المزمور السادس هو صلاة فرديّة لإنسان في ضيق شديد، وسبب هذا الضيق هي خطيئتُه! فما أشدّ ضيقَه من الناس الذين حوله، يعيّرونه على الفارق بين إيمانه وحياته. وما أصعب الضيق الناتج عن إحزانه لإلهه الذي يحبّه الحبّ الأوّل!

لقد غلب هذا الإنسانَ ضعفُه! فهل هناك مخرج؟ ولقد أساء إلى الله الذي كان متّكله! كلّ شيء يدعو للضيق النفسيّ وحتّى الجسديّ ولليأس أيضاً، لولا رحمة الله المخلِّصة!

(العنوان) لإمام المغنين، على ذوات الأوتار، على القرار، مزمور لداؤود

تتصدّر المزاميرَ كلَّها عناوينٌ تشير إلى فحوى المزمور أو طريق أدائه أو إلى كاتبه. وفي الترجمة السبعينيّة يتصدّر هذا المزمور عنوان مختلف: “في النهاية، في التسبيح، من أجل الثامن. مزمور لداؤود”.

والمقصود هنا ب” في النهاية” ربّما ما يرادفه في “الثامن”، أي المعنى الاسختولوجيّ للدهر الآتي. إنّ هذا الدهر هو أسبوع، ويليه اليوم الثامن بدء الدهر الآتي… ولليوم الثامن لاهوت طويل في الكتاب المقدّس. اليوم الثامن هو إذن ما بعد أسبوع هذا الدهر، إنّه يوم الدينونة، إنّه بدء الدهر الآتي، إنّه يوم القيامة أو العنصرة، اليوم الذي لن يعروه مساء(5). ل”ذيذيموس”، إنّ الحياة البتوليّة والرهبانيّة التي هجرتْ عالميّات هذه الدنيا هي شكل من لون الحياة الآتية(6). وربّما تصدّر هذا الانتظار الأخرويّ المزمور السادس لأنّه ينتظر حكم الله العادل في المنتهى على أعداء الإنسان وظروف هذا الدهر غير المؤاتية.

(1) يا ربّ لا بغضبك توبّخْني، ولا برجزك تؤدّبْني

بمشاعر الانسحاق العميق، يرفع المرنِّمُ يديه وصلاتَه إلى الربّ، يعترف بصدق بأنّه يستحقّ فعلاً كلَّ غضب إلهيّ والرجز أيضاً. هذا هو الحكم العادل على خطيئته الكبيرة، إنّها تستحق كلّ ذلك. ولكن غضب الله ورجزه بالنسبة له يعني الموت تماماً، إذ لا تقوم حياة دون الله!

لا يرفض هنا المرنّم “التأديب”(7)! “مغبوط الإنسان الذي يؤدّبه الربّ”(8). إنّ الربَّ يمحّص أحبّاءه كما الذهب في البوتقة. تأديب الربّ عنايةٌ ومظهرُ محبّة. لذلك يُروى أنّ أحد الرهبان راح يبكي سائلاً الله ألاّ يرفع عنه التجارب؛ فكلّ تجربة وضيقة هي تأديب، يختبر فيه الإنسان إلى جانب الصعوبة المؤازرةَ الإلهيّة ورفقةَ الربّ الراعي، فيختبر إذن التعزيات الإلهيّة.

لكن شعور المرنّم هو أنّ خطيئته تجاوزت حدود التأديب، وتستحقّ كلّ عقاب من الغضب والرجز، إنّ خطيئته جسيمة في عينيه، ولكن ليس من مخرج سوى الالتجاء إلى الحنان الإلهيّ بدل عدله! لقد سئم المرنّم خطيئته وكرهها واعتبرها جسيمة تستدعي غضب الله؛ ولكن ذلك يقوده ليس لليأس بل للصراخ إلى الله الحيّ الحنون! عندما تشتدّ المصاعب، علينا أن نشدّد صلاتنا ونرفع صوت صراخنا. “حيث تكثر الخطيئة تكثر النعمة”. وحيث الشدّة قويّة والضعف كبير هناك الحاجة للصلاة الحارّة والتضرّع الصادق. “أدِّبْني أبويّاً وليس قضائيّّاً، طبِّبْني من جراحات ضعفاتي ولا تعاقبْني، لا تبادلْ خطيئتي بعقوبتها المحقّة، لكن بمحبّتك للبشر وتحنّنك اشفِني”، كما يشرح ثيوذوريتوس.

بالطبع إنّ هذه الصور البشريّة، من الغضب والرجز، هي طبائع بشريّة ليست في الله. لكن المرنّم ككلّ إنسان يتكلّم مع الله بلغته البشريّة ليعبّر عن حقيقة علاقة روحيّة. هكذا الأب يتقبّل تمتمة طفله ولو كانت بلغة غير طبيعيّة. فلا يمكن للإنسان أن يتكلّم عن أمور بلغةٍ تختلف عن لغته! يسهل التكلّم عن الأمور الماديّة، لكن الكلام مع أو عن أمور غير ماديّة (تختلف عنّا) يحتاج إلى لغة رمزيّة من عالمنا الماديّ. هكذا في الحياة اليوميّة، نقول: “آلمني شرُّه”، “بدّلتُ فكري”، “مرضتْ نفسي”… ونَصِفُ أموراً لا ماديّة بأفعال من إطارنا الماديّ، وما هو غير ملموسٍ بتعابير ملموسة. وهذا ينطبق على لغة تعاملنا مع الله كحقيقة غير مدركة ماديّاً، وذلك للتعبير عن معرفة عميقة أو شعور حقيقيّ.

(2) ارحمني يا ربّ فإنّي ضعيف

ارحمْني يا ربّ، لأنّي بقواي الذاتيّة أنا عاجز. أنا أطلب ليس فقط أن تحوّل غضبك عنّي وألاّ ترجزني، بل أيضاً أن تمدّ إليَّ يدَ المساعدة. يا ربّ عدلك لا ينقذني، رحمتُك فقط هي متّكلي، رحمة تصفح وتسند!

ضعيف أنا أمام الأعداء وتجاه الشدائد التي قويت عليّ. ضعيف أنا أمام “العدوّ قاتل الإنسان”، الذي يترصّدني كالأسد يريد أن يبتلعني. ضعيف أنا لأنّ الخطيئة أنهكتني. ضعيف أنا أمام أهوائي ونزواتي التي تغلبني. ارحمني يا ربّ! أنت رحوم للجميع، ولكن بالوقت ذاته لمن يظهر توبة. إنّك تريد أن ترحم الجميع، ولكن لا يمكنك ذلك إلاّ مع مَن يرحم ذاته بالتوبة(9).

“إن كنتَ للآثام راصداً، يا ربّ يا ربّ مَن يثبت لأنّ من عندك هو الاغتفار”(10) وليس الانتقام ولا المقاضاة. فإنّه لا يتقبّل رحمتك مَن لا يعترف بضعفه. التواضع وحده يستقطب الرحمة، التي لا يدفع ثمنها أيُّ شيء.

 اشفني يا ربّ، فإنّ عظامي قد اضطربتْ

لقد آلمتني خطيئتي حتّى العظم. عندما يبلغ الألم النفسي حدوداً كبيرة ينعكس على أعضاء الجسد ذاتها. هكذا الأحزان تولّد صداعاً في الرأس وآلاماً في الحشا، وأقساها يؤلم حتّى العظم. لقد اضطربت العظام من الألم الروحيّ الذي لا يمكن تصوّره. رحمتك يا ربّ وحدها ستشفي عظامي الذليلة.

(3) ونفسي قد اضطرمتْ جدّاً(11)

كما الريح القويّة تضرب البحر فتصل إلى أعماقه فيضطرب وترتفع أمواجه، هكذا جسامة الخطيئة ضربت أعماق نفسي فاضطربت وفقدت سلامها وليس لها بعدُ راحة، بحسب تعبير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ.

§ وأنتَ، يا ربّ، حتّى متى؟

هذه هي علّة آلامي كلِّها، غيابُك وأنك تصرف وجهك عني، بسبب خطيئتي. هذا ألمٌ لا يُحتمل. غيابك يا سيّدي جعل عظامي تنزعج ونفسي تضطرب. فحتّى متى يا ربّ، لقد استنفذتُ كلّ طاقة ووصلت إلى النهاية، “فخلِّصْني قبل المنتهى”. تأديبك يا سيّدي نزل عليَّ قاسياً، وغيابك لم يعدْ محتمَلاً عندي.

(4) عدْ، يا ربّ، نجِّ نفسي، خلِّصْني من أجل رحمتك

إنّك يا ربّ لا تترك الإنسان يموت بل تريده أن يعود ويحيا. ها أنذا قد وصلت إلى شفير الهاوية، إنّك تؤدّب ولا تهلك. فعْد يا ربّ، ألم يَحُنْ زمن الصفح؟ فإنّ غضبك أنهكني، عدْ يا ربّ! طردتْكَ خطيئتي، لكن عدْ يا ربّ برحمتك. لا تنتظر يا ربّ فضائلي بل بادرْ أنت برحمتك.

(5) لأنّه ليس في الموت مَن يذكرُك، ولا في الجحيم مَن يعترف لك

هذا ما اعتقده اليهود في زمن النبيّ داؤود، أنّ الجحيم هو المكان الرهيب الذي فيه ينتظر الأمواتُ، ولا يزوره الله! وهل هناك موت أصعب من غياب الله. عدْ يا ربّ ما دام هناك زمان لي بعدُ للتوبة، عدْ يا ربّ بادرْ إلى رحمتي فإنّي أهلك. لأنّه لا توبة ولا أعمال لي بعد الموت، فهناك لا يذكرك أحد ولا يعترفون لك بالشكر والتسبيح.

التأمّل بالموت تدريب روحيّ ضروريّ في الحياة المسيحيّة. ليس التأمّل بالموت احتقاراً للحياة الحاضرة، بل هو إكرام لكلّ لحظة فيها. يقول السلميّ مَن يتأمّل بالموت لا يخطئ.” ذكر الموتِ موتٌ كلّ لحظة”. يذكّرنا الموت بأنّ حياة كلّ لحظة ذات قيمة كبيرة. “سِيروا ما دام لكم النور”، “افتدوا الأيّام فإنّ الزمان قصير”. عجزتُ يا ربّ عن النهوض بمفردي. عدْ يا ربّ الزمن يجري وزمن التوبة لديّ لم يبدأ بعدُ! بادرْ يا سيّدي إلى إنقاذي ونهضتي قبل الانقضاء.

(6) تعبتُ في تنهّدي، أحمُّ في كلّ ليلة سريري، بدموعي أعوِّم فراشي

تنهّدات عميقة حارّة وكثيرة أتعبتني. التنهّد هو التعبير الأقصى عن الضيق وعدم الاحتمال. والدموع هي أعمق وأنبل مظهر للمشاعر الحارّة. يعلّمنا هنا المرنّم أن نختلي كلّ مساء إلى ذواتنا ونفحص أنفسنا ونذرف الدموع الغزيرة على خطايانا. كلّ ليلة كان المرنّم يبكي على اضطراب علاقته بالله وغياب وجه الله عنه، ويرثي لشعوره بعدم الرضى الإلهيّ. “بهطل الدموع” قدَّس النسّاك ذواتهم. لا تعلو على هذه الصور أيّة كلمات تحاول أن تعبّر عن الألم والشوق الجريح في قلب الإنسان الذي أنهكته غربته عن الله.

الليل هو وقت الخلوة والعودة للذات بعد نهار الأعمال والأشغال. في الليل يجمع الإنسانُ ثمن أعمال يومه. الليل هنا هو الهدوء والصفاء ولحظات الوقفة أمام الله في الصلاة. “الصلاة محكمة” يقول السلميّ. مَن وقف أمام حاكم أرضيّ يفهم معنى الوقفة في الصلاة أمام الله!

دموع التوبة تغسل، إنّها معموديّة ثانية بعد المعمودية بالماء والروح. “مجاري المياه لوقت الحريق، ومجاري الدموع لزمن التجربة”، يقول أفرام السريانيّ. “لقد لخّص الآباء القدّيسون كلّ نشاط الراهب في كلمة “حياة البكاء” (الأسقف أغناطيوس بريانتشانينوف). ولقد طوّب يسوع الباكين لأنّهم سيضحكون. هذه هي قوّة الدموع.

(7) تعكّرتْ من الغيظ عيناي، عَتُقْتُ في جميع أعضائي

عندما تكره الخطيئة عندها تبدأ التوبة. لقد أدمعتْ عينا داؤود من شدّة غيظه من خطيئته! لقد عادت الكرامةُ الصحيحة بداؤود إلى دموع التوبة كما قادت هكذا كرامةُ الابن الضال إلى بيت أبيه من مذلّة الحياة مع الخنازير!

عَتقتُ في جميع أعضائي، لقد شاخ كلّ عضوِّ فيَّ نتيجة العذاب الذي برّح بي. هناك ترجمات تقول “عتقت في جميع أعدائي”، أي صرتُ كالشيخ الهرم بين أعدائي الأقوياء، والمعنى أنّ المرنّم يصف هنا حالة الانهيار الكامل، وحالة التعب حتّى الحدّ الأقصى من جراء خطيئته وغياب الله!

(8) ابعدوا عنّي يا جميع فاعلي الإثم، فإنّ الربّ قد سمع صوت بكائي

انقلاب كامل! هنا فُتحتْ أبواب التوبة للمرنّم! من صرخات البكاء والشعور بالنهاية والوصول لشفير الهاوية، يقف هنا المرنّم شاخصاً بالرحمة الإلهيّة، ويبدأ هنا نهضته وتوبته بصرخة ثقة وعزم روحيّ لا مثيل له.

ابعدوا عنّي يا جميع عمال الإثم! لقد كان جزءٌ كبير من ألمه هو هزء غير المؤمنين به وبإيمانه! لقد انتفض من نومه، من موته، وقام إلى الحياة مع الله، لقد رفعتْه نعمة الله ورحمته إلى التوبة.

“سمع الربّ صوت بكائي” ولقد زال الكَرب. لقد قبل الربّ أن يلتفت إليّ ولا يعني لي بعدُ شيئاً لا ضعفي ولا حتّى خطيئتي تقدر على أسْري في قيود اليأس. “أقوم” وأعود إلى أبي وأقول له “يا أبي أخطأتُ إلى السماء وأمامك”، إنّه سيقبلني كأحد أبنائه وليس كأجرائه.

(9) سمع الربّ تضرّعي، الربّ تقبّل صلاتي

“طوبى للباكين فإنّهم سيفرحون”! لا تشتري الرحمةَ الإلهيّة أعمالُنا. “المستحقّ” هو فقط “المنسحِق”. لا سبيل إلى استعادة الرضى الإلهيّ إلاّ بالتواضع والتوبة. الدموع شِركة عجيبة تُعيدُ ربطَ العريس مع عروسه، أي الربّ مع النفس البشريّة (مكاريوس الكبير). العين الباكية هي جرنُ لمعموديّة التوبة والتجديد. لو لم يهبْنا الله نعمة الدموع ويسمع بكاءنا لتعذّر خلاص كثيرين (يوحنّا السلميّ).

(10) فليخزَ ويضطربْ جميعُ أعدائي، وليعودوا ويخزوا جدّاً سريع

يؤكّد المرنّم قيد هنا “خلاصه” من ماضيه، وولوجَه في عالم التوبة، عالم التجديد؛ لقد استجاب الله لدموعه؛ تقبّل بدموعه الغفران وقبِل الربُّ توبتَه؛ لقد تصالح مع الله، بعد أن كان يشعر بأنه قد أغضبه ولا يستحقّ إلاّ رجزه؛ الآن يطمئنّ أنّه ممكن له أن يخاطبه ويناجيه ويسبّحه ويطلب عونه ويناله!

لقد خرج اللهُ من صمته بعد أن رأى دموع التائب. لقد خرج الله فليتبدّدْ جميع أعدائه ويخزوا، لا بل يخزوا سريعاً، آمين.

 

 


(6) حاشية مرتبطة بالعنوان: يُتلى هذا المزمور في صلاة النوم الكبرى.

(5) القديس غرغوريوس النيصصي، إصدار W. Jaeger، ص. 84؛ ثيوذوريتوس أسقف قورش، [PG 80, 991B]؛ إفسابيوس أسقف قيصرية، [PG 23, 120].

 (6) PG 39, 1176.

(7) ثيوذوريتوس أسقف قورش، [PG 80, 991].

(8) أيّوب 5، 7.

(9) القديس يوحنّا الذهبيّ الفمّ، [PG 55, 72].

(10) مز 129.

(11) أنظر: يو 12، 27.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى