Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

“مغبوط الرجل الذي نصْرَتُه من عندك، مصاعد في قلبه وضع في وادي البكاء، في المكان الذي وضعه”

عن أيّة مصاعد روحيّة يكلّمنا النبيّ، والتي حين يضعها الإنسان في قلبه تغدو حياته مغبوطة؟

يقدّم عصرنا الحالي، بمنجزاته وحضاراته الماديّة وبالتقدّم العلميّ الحاصل، للإنسان إمكانات رائعة، أن يرى مثلاً العالم كلّه وهو في مكانه، أن يسمع بكلّ ما يجري ويحصل، أن يراقب كلّ “موضة” وكلّ عادة دارجة وأن يتابع أيّ حدث!

وسائل الإعلام، الشّاشة والصحف والمواصلات والاتصالات، تقدّم للإنسان الاحتكاكَ والاتصال ليس مع محيطه الخارجيّ القريب فقط، ولكن أيضاً مع كلّ العالم البعيد عنه. حين تطغى هذه الإمكانيّات الرائعة على إنسان اليوم، للأسف، تعود عليه بنتائج لا يرغب بها لنفسه.

هناك حالةٌ يعاني منها يعض الناس اليوم وهي الخضوع لهيمنة الحضارة الحديثة، ليس كمستفيدين وإنّما كعبيد معجَبين تابعين وليس كقادة، بالنهاية كمستخدَمين وليس كمستخدِمين. أولى هذه النتائج السلبيّة وأخطرها هي أنّ كلّ ما سبق يُخرِج الإنسانَ إلى الخارج ويجعله يحيا في وضع من “الإنفلاش” الخارجيّ يفقد فيه سيطرته على داخله. يحيا “مجروراً” وراء كلّ نبأ أو موضة أو حدث…!

هذا ما تعبّر عنه كوميديّة فرنسيّة ظريفة: وفحواها باختصار، أنّ أحد الأساتذة اعتاد كلّ صباح أن يتتبّع الأخبار العالميّة على شاشة التلفزيون الصغيرة قبل الذهاب إلى مدرسته. بينما كان ذات صباح يتتبّع أنباء العالم كلّه، ذلك العالم البعيد عنه، الذي هو غير فاعل فيه ولا مؤثّر عليه، ترامت إليه في تلك اللحظات أصوات مزعجة من الخارج، ولما اتّجه إلى النافذة ليغلقها رأى مظاهرة…! ولشدّة فضوله سأل عنها، فإذا بها مظاهرة للأساتذة يطالبون بحقوقهم. نعم، يحيا إنسان اليوم خارج ذاته، يناقش في كلّ الأمور التي، في أغلبها، لا تعنيه، وإنّما تلهيه، ويسهو حتّى عن حقوقه، وبالنهاية عن حقّ ذاته به، وحتّى أيضاً عن واجباته. الكوميديّة متطرّفة، إلاّ أنّها تعطي صورة عن التشتّت الذي يحياه إنسان اليوم، وإن كانت أيضاً بالفعل لا تقصد عدم المبالاة بالعالم الخارجيّ فإنّها تشير إلى الخروج غير الواعي عن عالمنا الداخليّ.

هذا “الإنفلاش” الخارجيّ قطَعَ صلةَ الإنسان بأخيه الإنسان. فراح كلّ فرد يشعر بذاته أنّه نقطة في بحر غير متماسك، نقطة غريبة بين نقاط أخرى. خرج الإنسانُ عن ذاته ولم يلتقِ بآخر قربه فبقي غريباً بين غرباء. “الوحشة الاجتماعيّة”حالة تحمل تناقضاً رهيباً وتخلق ردّة فعل عكسيّة. اليوم أكثر من أيّ وقت سابق، يكثر الميل والبحث عن أساليب وأوقات وطرق للغوص الداخليّ. الشيء الذي استغلّته الأديان السريّة الشرقيّة، التي تعتمد على هذه الرياضات الغريبة. تتصاعد الرغبة، عند الشباب خاصّة، بتعاطي مخدّرات أو ممارسات أو أساليب شتّى يحاولون بها أن يغوصوا إلى داخلهم الذي خرجوا منه، فتغرّبوا عن ذواتهم وارتموا في وحدة الوحشة القاسيّة في مجتمعات يحيا فيها كلّ إنسان فرداً مستهلِكاً أو مستهلَكاً بدون قريب. كلّ يوم تزداد الشركات والأعمال المشتركة التي تربطنا بالمصلحة ويسود فيها الحذر والدهاء، بينما لا يوجد فيها تعاون قلبيّ صادق يعطي للعمل وللحياة وجههما الصحيح، ألا وهو المحبّة.

إلاّ أنّ الكنيسة هي فردوس صداقات وواحة محبّة في صحارى المجتمعات المفكَّكة. في الكنيسة، يعود الواحد إلى ذاته فعلاً. والعودة إلى الذات، التي نتعلّمها ونسمع بها، تختلف بالكليّة عن الغوص الداخليّ السابق. الغوص الداخليّ هو إنطوائيّة معاكسة للإنفلاش الخارجيّ، بينما العودة إلى الذات هي الفنّ النسكيّ المسيحيّ، وهي الحلّ الحقيقيّ لأتعاب ذلك الإنفلاش الخارجيّ المعاصر. إذا كان الغوص الداخليّ ردّةَ فعلٍ ورفضاً للعالم الخارجيّ وانعزالاً عنه ولقاءً فرديّاً مع الذّات في ظلمة القلب، فإنّ العودة إلى الذّات بالممارسة المسيحيّة ليست إنطوائيّةً ولا انعزالاً ولا انفراداً بالذّات البتّة، لكنّها لقاء في القلب مع “مَن” لا تسعه السموات. العودة إلى الذّات ليست رفضاً للمحيط الخارجيّ المفكك، الذي يفشل بتقديم أيّ لقاء مع أي قريب، وليست استرجاعاً أنانيّاً للذّات التي ضاعت، وإنّما هي التحام داخليّ في القلب مع مَن هو أقرب إلينا منّا إلى أنفسنا؛ مع المسيح!

العودة إلى الذّات وإلى القلب هي الالتقاء بالمسيح في أصدق لحظة من لحظات الصداقة، إنّها الانفتاح الحقيقيّ للذّات على أقرب المقرَّبين إليها. لهذا مَن يصل إلى هذا القريب لا يمكن لضوضاء العلم أن تفصله عنه، فيقدر أن يعود لذاته وهو في العالم. سرّ اللقاء بالمسيح ليس رفضَ العالم لكن حمْل المسيح في القلب لننقله إلى العالم.

والعودة إلى الذّات كما يشبّهها تقليدنا الكتابيّ ليست غوصاً وإنّما “مصاعد” أو “مراقي” أو سلّم. القلب ليس ظلمة داخليّة ولكنّه سلّم منصوبة من الحياة اليوميّة الأرضيّة إلى السماء. لهذا يقول المرنِّم طوبى للرجل، ومغبوط ذلك الإنسان الذي وضع في قلبه ليس التشتّتات الخارجيّة وإنّما المصاعد الروحيّة، مصاعدَ في وادي البكاء، وادي العودة إلى الذات وإلى القلب، وادي اللقاء بدموع مع “القريب”-“الغريب” الذي مملكته ليست من هذا العالم. العودة إلى الذّات هي إطلالة على العالم المفتوح الرّحب الواسع. إنّها دخول، وكما يقول المسيح، إلى ملكوت الله الذي فينا: “ملكوت الله في داخلكم”(33). إنّها تلمّسٌ وتذوّق للسعادة الحقيقيّة التي دخلنا إلى عالمها من يوم المعموديّة، لكنّنا نحيا، وللأسف، خارجها في عالم يلهينا عن أنفسنا وعن الساكن فينا. العودة إلى الذّات هي قطاف لثمار المعموديّة التي زُرعت فينا. إنّها لقاء مع الثالوث الأقدس في حرم القلب الداخليّ، إنّها صعود على تلك المصاعد الروحيّة، إنّها الغبطة، غبطة اللقاء إلى درجة الدموع.

لكن ما هي تلك الدرجات الصاعدة، وما هي تلك المصاعد؟ لسنا بحاجة اليوم إلى بحث طويل، وإنّما يكفينا تلخيص تلك الخبرات الطويلة للرجال الذين نالوا تلك الطوبى. هذه الدرجات كثيرة. ونحن نصعدها واحدة فواحدة. ليس كقفزات وإنّما بالتدرّج شيئاً فشيئاً.

أولى تلك المصاعد هو “الصبر”. لأنّ الصبر هو الأساس الثابت الراسخ الذي عليه سيقوم ذلك الصعود الطويل. فبالصبر نتغلّب على كلّ تردّد وكلّ صعوبة تعترضنا أثناء صعودنا. التّراخي أمام كلّ محاولة يعني فشلاً، من الانطلاقة الأولى. وهذا الصبر هو “صخرة الإيمان”. فالإيمان العميق بالربّ الذي سنلاقيه ويثبِّتنا والآتي إلينا هو الصخرة التي تقوم عليها تلك السلّم السماويّة. الصبر هو سرّ نجاح مصاعدنا وهو البداية الأساسيّة للنهاية المنشودة، المحبّة. إذن الصبر هو الشرط الأساسيّ للقاء الله المحبّة، الربّ يسوع. 

يأتي “الصمت” بعد الصبر. الصمت الروحيّ الصحيح. ليس الانقطاع عن الكلام وإنّما ألاّ نقول كلاماً بطّالاً، أي الانقطاع عن المضرّ من الكلام وغير اللازم. بالصمت، يقول الآباء القدّيسون، نقطع نصف خطايانا وزلاّتنا. ألاّ نتكلّم إن لم تكن هناك حاجة. وعندما نتكلّم أن يكون كلامنا من الروح القدس بنّاءً. فليقسْ كلّ منّا كلماته وليحصِ كم منها كان البنّاء أو على الأقل لازماً، وكم منها كان مضرّاً أو فضوليّاً… لهذا يقول الكتاب: “الزلّة من السطح ولا الزلّة من اللّسان”. أَلَيس من اللسان نخرج إلى التشتّت الخارجيّ؟ التقليد النسكيّ يوضح أنّ عدم إخراج الأهواء هو نصف شفائها. فأن نغضب داخليّاً هذا طبيعي، لكن إخراج اللّعنات أو الكلمات أو التعابير هو انكسار أمام الهوى وتنمية له. بينما الصمت هو حدّ له وإضعاف، وهو نصف الشفاء. والربّ قال لنا: “من كلماتك تُدان ومن كلماتك تتبرّر”(34). مَن هو المغبوط الذي سيصل إلى درجة القدّيس سلوان الآثوسيّ؟ إلى تلك الدرجة التي لا يتكلّم فيها الإنسان إلاّ “عندما ينطق الروح فيه” ويصمت الإنسان! هذا الإنسان سيقول مع بولس الرسول “لستُ أنا أحيا بل المسيح يحيا فيَّ”. لهذا يُسمّى بولس “فم يسوع المسيح”؛ لأنّه كما قال عنه فم الذهب: “عندما يتكلّم بولس ينطق المسيح بفمه”.

وثالث تلك المصاعد هي “الصلاة”؛ الصلاة الحقيقيّة؛ الصلاة من كلّ القلب. الصلاة المتواضعة. لأنّه بالصلاة يتمّ الالتحام واللّقاء في القلب مع المسيح الربّ. واللّقاء هناك مباشر. الصلاة هي أقوى سلاح لنا في حياتنا وضدّ أعدائنا. إنّها مقياس دخولنا إلى القلب. لهذا مَن يملك الصلاة ويلاقي الربّ قد عاد إلى قلبه ولو كان وسط ضجيج كلّ العالم. الصلاة تعني أنْ نحيا مع المسيح بحيث يحيا هو فينا. أنْ نحيا ولا نفكّر إلاّ بالمسيح. أنْ نصلّي من كلّ القلب، يعني أنّنا دخلنا فعلاً إلى القلب، ويعني عودة حقيقيّة إلى الذّات. الموضوع ليس غوصاً بقدر ما هو صفاء من أجل هذا اللّقاء. التشتّت الخارجيّ المعاصر يعكّر ويصعِّب هذا اللّقاء ويشوّش كلمات الصلاة.

العالم بمشاكله ليس حتماً تلهيةً أو تشويشاً، عندما نواجهه مسيحيّاً كمسؤوليّة، نستطيع أن نحمله معنا إلى القلب إلى المسيح. فالمشكلة ليست بالعالم وإنّما بموقف المواجهة له. إن حملناه بمسؤوليّة الرسول صار لنا، كما يجب، قائداً إلى المسيح وإلى المحبّة، أمّا إنْ واجهناه كضعفاء أو خرجنا إلى حناياه البعيدة قبل الأوان سيكسرنا ويخرجنا إلى ضوضائه حيث لن نصادف المسيح ولن نعود به إلى ذواتنا، لأنّنا سنعيش فيه كأنّنا منه. وأعمى لا يقود أعمى.

أمّا الدرجة الرابعة، فهي ما يسميّه الآباء فنّ “اليقظة”، وهي السهر على الذّات، أي على الأفكار، وعلى ما يدخل إلى مخدعنا الداخليّ ويخرج منه. إنّها مراقبة تمنع دخول ضوضاء العالم والتافه منه إلى المقدس الداخليّ؛ هي حارس أمين واعٍ يطرد “شهوات العالم” التي تطرد من داخلنا “محبّة الناس”. إنّها منظّم على باب القلب يسمح فقط للأفكار الصالحة ولمشاعر التوبة والتواضع بالدخول. إنّها بكلام آخر حصن ودرع لعالمنا الداخليّ ضدّ هجمات الأهواء والميول والظروف الخارجيّة المضرّة، وضدّ “النّبال الشرّيرة المحماة الثائرة علينا بغشّ”.

السهر الداخليّ واليقظة، هما نور مسلَّط على القلب. هذا السهر يمارس عمليّاً بالفحص المستمرّ للذّات وباللجوء إلى الاعتراف والتوبة. تنظيم الحياة حول هذا السرّ هو ختم على نجاح مسيرتنا الصاعدة على تلك السلم السماويّة التي وضعناها في قلبنا يوم اعتمدنا. ممارسة هذه الحركة العمليّة لليقظة والسهر هو ضمانة أكيدة لصحّة العودة إلى الذات وسلامتها، طريق أكيدة إلى القلب وإلى تلك المراقي والمصاعد الإلهيّة، إلى الربّ الواقف خلف الباب يقرع. فطوبى للإنسان الذي وضع مصاعد في قلبه في وادي البكاء، آمين.

 

 


(32) حاشية مرتبطة بالعنوان: يُتلى هذا المزمور في صلاة الساعة التاسعة.

(33) لو 17، 21.

(34) متى 12، 37.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى