كتبت إحدى البنات الروحيات للقدّيس: زارتني امرأة تقيّة وكنّا نناقش أموراً روحيّة إلى أن وصلنا إلى موضوع الصلاة، وقد فوجئتُ لسماع ضيفتي تصرّ على أن العائشين في العالم ليسوا فقط بلا قوة للصلاة القلبيّة إنّما هي حتى لا تناسبهم. قلتُ ما بوسعي لكنّي أرغب بطلب كلمة منكم حول هذا الأمر. فأجابها برسالة جاء فيها:
لقد كانت ضيفتك على خطأ في تفكيرها. مَن ليس عنده الصلاة القلبيّة هو بلا صلاة، إذ إن الصلاة القلبيّة وحدها هي الصلاة الحقيقيّة المقبولة عند الله والمرضيّة له. إنها تشكل روح الصلاة الفرديّة والجماعيّة في الكنيسة. إذا فقدها شخص ما، لا يبقى له إلاّ شِبه الصلاة ولكن ليس حوهرها.
ما هي الصلاة أصلاً؟ إنّها رفع الفكر والقلب إلى الله للمدح والشكر والتضرّع إليه من أجل الأمور الضروريّة للنفس والجسد. جوهر الصلاة إذاً هو الصعود العقلي إلى الله في القلب. يقف الفكر في القلب بشكل واعٍ أمام وجه الله وممتلئاً بالوقار المناسب والضروري فيبدأ بسكب القلب أمامه. هذه هي صلاة القلب. وهذا ما يجب أن ينطبق على كل الصلوات. قراءة الصلوات، سواء في البيت أم في الكنيسة، تعطينا فقط الكلمات والشكل. كل إنسان يحمل في داخل نفسه، في قلبه وفي فكره، نفس الصلاة وجوهرها. كل ترتيب الصلوات في كنيستنا، وكل الصلوات الموضوعة للممارسة في البيت، تُقام بفكر متجه إلى الله. في القيام بهذه الصلوات، حتّى مع الحد الأدنى من الانتباه، لا يستطيع المرء تحاشي هذه الشركة العقلية مع الله، إلاّ إذا كان فاقد الوعي كلياً لما يقوم به. لا أحد يُوَفَّق إلى إنجاز أي شيء من غير صلاة القلب. نحن لا نقدر على الصعود إلى الله إلاّ من خلال الصلاة القلبيّة، لأن طبيعتنا الروحيّة تطلب ذلك. ونحن لا نستطيع أن نُتِّم هذا الأمر إلاّ من خلال العقل، لأن الله عقل. صحيح، هناك صلاة فكريّة يُنطَق بها، نقوم بها في الكنيسة وفي البيت. لكن هناك أيضاً صلاة عقلية ليس لها شكل خارجي ولا شرط منظور. جوهر هذه وتلك هو نفسه. كلا الصلاتين ضرورية أيضاً للعائشين في العالم. لقد أوصى المخلّص: “أدخل إلى مخدعِك وصَلِّ هناك إلى أبيك في السر”. هذا المخدع، بحسب تفسير القديس ديمتري روستوف، يعني القلب. بالتالي وصية الرب تجبرنا على الصلاة إلى الله سريّاً، بفكر القلب. هذه الوصية تعني كل المسيحيين. ما الذي يوصي به الرسول بولس عندما يقول بوجوب أن نصلي بلا انقطاع بكل الصلوات والتضرعات في الروح (أفسس 18:6)؟ إنّه يدعونا إلى صلاة القلب، الصلاة الروحيّة، ويوجّه دعوته إلى كل المسيحيين بدون تمييز. في النهاية، إنه يدعو كل المسيحيين إلى الصلاة بدون انقطاع (1 تسالونيكي 17:5). لكن الصلاة بدون انقطاع ممكنة فقط من خلال صلاة القلب. هذا يعني أن صلاة القلب ضرورية لكل المسيحيين، وإذا كانت ضرورية فلا يمكن لأحد أن يقول أنها مستحيلة، لأن الله لا يطلب المستحيل. صحيح أنها صعبة لكن من الخطأ القول باستحالتها. في النهاية، كل ما هو صالح صعب، وأكثر ما ينطبق هذا الكلام على الصلاة التي هي لنا مصدر كل خير وكل دعم ثابت.
قد يسأل البعض: كيف يتم هذا؟ ببساطة: اكتسبي خوف الله. فخوف الله، كشعور، سوف يجلب الانتباه والإدراك إلى القلب، وكخوف، سوف يجبر الانتباه والإدراك على الوقوف في القلب بتوقير أمام الله. هنا الوقوف العقلي، هنا الصلاة العقلية. بقدر ما يكون خوف الله في القلب، يلازم هذا الوقوف العقلي القلبَ. هذه هي الوسيلة الفاعلة لاكتساب صلاة القلب.
لكن قد يتساءل البعض: ماذا عن النشاطات التي تَصرِف الانتباه؟ إنها لن تصرفه: فقط اكتسبي خوف الله. ليست الأشياء والنشاطات مَن يشوّش على الوقوف في حضرة الله وتَذَكُّره، بل الانشغالات العقيمة. ضعي جانباً كل ما هو فارغ وسيء، واتركي فقط ما هو ضروري لا بحسب العالم بل بحسب الإنجيل وسوف ترين أن تحقيق هذه العهود، ليس فقط لا يصرف عن الله، بل على العكس، يوجّه العقل والقلب نحوه. عند نهوضك من النوم صباحاً، قفي بورع أمام الله في قلبك، في صلاتك الصباحية، ومن ثم ابدئي عملَك الذي حدّده الرب لكِ، بدون أن تبتعد أحاسيسك وإدراكك عن الله. وبذلك سوف تنهين عملك بقوى نفسك وقوى جسدك، فيما أنتِ تقفين أمام الله بفكرك وقلبك.
من الخطأ أن تفتكري، كما يفعل البعض، أن صلاة القلب تتطلب من الإنسان أن يجلس في مكان ما مختبئاً بعيداً وبهذا يعاين الله. ليس من مكان يتوارى فيه المصلّي إلاّ القلب. وبعد أن ترسخ نفسك هناك، ابحثي عن الرب أمامك، وكأنه عن يمينك كما فعل الملك داود. يقولون أن الوحدة نافعة في تحقيق صلاة القلب، فكيف للعائشين في العالم أن يجدوا الوحدة وهم دائماً منشغلون بعمل ما، ودائماً يصادفون المشاكل. صحيح أن الوحدة ضرورية في وقت الصلاة القلبية. لكن هناك نوعان من الوحدة: وحدة كاملة وثابتة فيها يمضي الإنسان إلى الصحراء ويعيش وحيداً، والأخرى هي شخصية آنيّة. الأولى، بالطبع، لا تناسب العلمانيين، لكن الثانية، ليست فقط ممكنة لهم، بل هم يملكونها. كل شخص يكون لبعض الوقت خلال النهار وحيداً، حتى ولو لم يخطط عن قصد لفترة من الوحدة. ويمكنه أن يستعمل هذا الوقت لينمّي في نفسه الصلاة القلبية ويقويها ويفعّلها. بالتالي، ما من أحد يستطيع أن يعطي حجة أنه يفتقد الشروط المناسبة للصلاة القلبية. جِدي هذا الوقت وانسحبي إلى داخل نفسك. ضعي جانباً كل همومك، قفي عقلياً في قلبك أمام الله واسكبي روحك قدامه.
في أي حال، إلى جانب الوحدة الخارجية وحدة داخلية. كل إنسان اختبر أنه عندما يكون في حالة من ألم القلب لسبب ما، حتى ولو وجد نفسه مع أمرح الأصحاب، فهو لا يسمع شيئاً ولا يرى شيئاً، بل على العكس يجلس وحيداً في قلبه. إذا كان هذا الأمر صحيحاً في الاهتمامات الأرضية، فلماذا لا يكون ممكناً أيضاً في الحياة الروحية؟ حين يُصاب شخص ما بألم القلب من هذه الحياة العالمية، ما الذي يمكن أن يمنعه عن إمعان النظر في هذا الألم في وحدة قلبه؟ يتبع أن الإنسان بحاجة فقط إلى أن يرسّخ هذه الوحدة الداخلية لكي يكون وحيداً، وألاّ يبقى بعيداً من هذه الوحدة. اختبري خوف الله وسوف تختبرين أكثر آلام القلب سحقاً وهو سوف يبقي الانتباه والشعور عند النصيب الصالح. بهذه الطريقة سوف نأتي أمام الله، نقف قدام وجهه. هنا إذاً تكون الوحدة!
يبقى هناك أيضاً عائق آخر، إذ في مباشرة الصلاة القلبية يجب أن يكون لديكِ دليل. أين يجد العلماني دليلاً؟ هناك، في العالم بين الآباء الروحيين وحتى بين العلمانيين. صحيح أن عدد الذين يمكن العودة إليهم بثقة للاستشارة يتناقص، لكنهم دائماً موجودون وسوف يبقون، وكل مَن يرغب بإيجادهم سوف ينجح برحمة الله. الحياة الروحية هي حياة في الله، والله يظهر اهتماماً خاصاً بأولئك الذين يسعون إليه. فقط كوني غيورة وسوف تجدين كل ما هو ضروري بقربك.
سواء أرادها العلمانيون أم لا، لا سبب عندهم لتجنب الصلاة القلبية. فليباشروها ويتعلّموا.
رسالة للقديس ثيوفان الحبيس
ترجمة الأب أنطوان ملكي
نقلاً عن مجلة التراث الأرثوذكس