ديونيسيوس الأريوباغيّ قاضي العلماء

ديونيسيوس الأريوباغيّ

 ديونيسيوس الأريوباغيّهو تلميذ القدّيس بولس الرسول. ورد ذكره في كتاب أعمال الرسل في جملة الذين آمنوا ببشارة القدّيس بولس في أثينا: “غير أنّ بعض الرجال انضمّوا إليه وآمنوا ومنهم ديونيسيوس الأريوباغيّ” (أعمال   17:   34). وقد كان  ديونيسيوس أحد البارزين في الأريوباغس (لذلك دعي  بالأريوباغيّ) التي هي المحكمة العليا المختصّة بالقضايا الجنائيّة، وكان ضليعاً بالفلسفة اليونانيّة. يذكر التراث أنّه صار أسقفاً على أثينا، وربّما الأسقف الأوّل. يبدو أنّه عمّر طويلاً فبلغ التسعين ومات شهيداً بقطع الرأس، هو واثنان من تلاميذه، في أيّام الإمبراطور دوميتيانوس سنة   96.

وصلنا أربعة مؤلّفات لاهوتيّة شهيرة وهامّة يدّعي كاتبها أنّه ديونيسيوس الأريوباغيّ. غير أنّ العلماء أجمعوا على أنّ هذه الكتابات لا يمكن أن تكون للقدّيس ديونيسيوس المتوفّى في القرن الأوّل للميلاد، بل هي لكاتب مسيحيّ سوريّ مجهول عاش طويلاً في مدينة أثينا في أواخر القرن الخامس الميلاديّ، بعد حوالى أربعمائة عام على وفاة ديونيسيوس. لذلك، أصبحت هذه الكتابات تُعرف بكتابات ديونيسيوس الأريوباغيّ المنحولة (أي المنسوبة لغير كاتبها). ولأهمّيّة هذه الكتابات، التي كما أسلفنا ليست لقدّيسنا الشهيد، سوف نعرض لمضمونها ومواضيعها في ما يلي.

وضع الأريوباغيّ أربعة مؤلّفات هي: 1) “الأسماء الإلهيّة”: يتكلّم المؤلّف في هذا الكتاب عن أسماء الله الواردة في الكتاب المقدّس، شارحاً بها جوهر الله وصفاته. 2) “اللاهوت الصوفيّ”: يحتوي هذا الكتاب على خمسة فصول تتكلّم عن اتّحاد النفس بالله اتّحاداً صوفيّاً هو نوع من الاستسلام التامّ. فالنفس تتّحد بالله مباشرة في التأمّل بالانجذاب والانخطاف. 3) “المراتب السماويّة”: وفيه تفصيل عن عالم الأرواح السماويّة (أي الملائكة) وعن طبيعتهم وصفاتهم وانقسامهم إلى ثلاث ربوات، كلّ ربوة من ثلاث جوقات. 4) “المراتب الكنسيّة”: يتناول كاتبه بالشرح المراتب الكنسيّة الكهنوتيّة والعلمانيّة بالتفصيل. كذلك أنشأ ديونيسيوس رسائل عدّة في اللاهوت تطرّقت إلى طبيعتَي السيّد المسيح الإلهيّة والإنسانيّة، والظلمة والنور غير المدرَك، وفكرة الله المتعالي، واحترام المراتب، وموقف المسيحيّ إبّان الاضطهادات.

يؤمن صاحب هذه المؤلّفات بأنّ الله متعالٍ جدّاً، غير مدرَك، ولذا لا يستطيع علم اللاهوت التحدّث عنه إلاّ بالتنزيه والنفي، أي بما ليس هو. فنجد آثاراً لهذا التنزيه، مثلاً، في القدّاس الإلهيّ حيث يقول الكاهن: “لأنّك أنت الإله غير الموصوف الذي لا تحدّه العقول، غير المنظور، غير المدرَك”. إنّ جميع أسماء الله، بالنسبة لديونيسيوس، كأسماء الخير والنور والجمال والحبّ والحكمة والحقّ والقوّة والعدالة والصلاح والخلاص والسلام وغيرها، لا تعني شيئاً عن كيان الله غير المدرَك، وهي لا تدلّ إلاّ على أفعال الله وليس على كيانه. وهو هنا في تنزيهه الله يقتفي أثر العهد القديم والآباء الإسكندرانيّين والكبادوكيّين. وفي السياق عينه يطرح ديونيسيوس موضوع الشرّ الذي لا يمكن أن يكون له وجود، إذ إنّ الله وحده هو الموجود. فالشرّ ليس سوى انتفاء الخير.

يتبنّى ديونيسيوس في كتاباته لاهوتاً تنزيهيّاً مطلقاً، إذ إنّه لا يمكن الكلام على الله بأيّ لغة تأكيديّة. فيبيّن، مثلاً، في بحثه عن اسم “الواحد” عدم كفاية هذا الاسم، ويقابله باسم آخر هو “الأسمى”، اسم الثالوث الأقدس الذي يعلّمنا أنّ الله ليس الواحد ولا المتعدّد، فالله غير قابل للمعرفة في ما هو، أي أنّه غير قابل للعدد. ولكنّ الله ينزل إلينا في “قواه” التي تُظهره، ونحن نصعد إليه في “الاتّحاد” حيث يبقى غير قابل للمعرفة بطبيعته. فيكون، تالياً، تنزيه الله سبيلاً إلى الاتّحاد الصوفيّ به. ويعتبر ديونيسيوس أنّ الظهور الأسمى أو التجلّي الكامل لله في العالم بتجسّد الكلمة، يحتفظ بطابعه التنزيهيّ، فيكشف ما ليس هو بطبيعته. في هذا الصدد يقول ديونيسيوس: “في ناسوت المسيح تجلّى الفائق الجوهر في جوهر بشريّ، ولم يكفّ عن كونه خفيّاً بعد هذا التجلّي، أو _ بتعبير إلهيّ أكثر _ في هذا التجلّي ذاته”.

يشبّه ديونيسيوس العلاقة بين الله والإنسان بسلّم منتصبة إلى السماء، يخترق أعلاها الغمام الذي يحيط بالله، وينغرس أسفلها في عالم الأشياء المادّيّة. وبين أعلى السلّم وأسفلها يفيض النور الإلهيّ بغزارة، إلاّ أنّ فيضه يفقد من قوّته وغناه بمقدار ما ينزل إلى الدرجات السفلى. لذلك، على الإنسان أن يجاهد ليرتقي السلّم نحو الله فيزيد فيض النور الإلهيّ عليه. ويؤمن ديونيسيوس بأنّ الله واحد عنه يصدر وإليه يعود كلّ شيء. هكذا يكون الله هو الخالق الذي أوجد كلّ شيء وهو الذي يرجع إليه كلّ شيء.

ما أراد أن يبيّنه ديونيسيوس هو أنّ معرفة الله لن تحصل إلاّ على الطريق الذي ليس مبتغاه المعرفة، بل الاتّحاد بالله، وتالياً التألّه. لذلك، ليس ثمّة لاهوت خارج الخبرة. إنّ مَن يسلك هذه الطريق، بحسب القدّيس غريغوريوس النازينزيّ (+ 381)، ويخال في وقت من الأوقات أنّه قد عرف الله، يكون ذهنه فاسداً. لكي نعرف الله علينا أن نقترب منه بالصلاة والصوم وكلّ مستلزمات الحياة في المسيح. هذه هي الطريق.

تحتفل الكنيسة بذكراه في الثالث من شهر تشرين الأوّل

طروبارية باللحن الرابع
لما تعلّمت الصالحات واستيقظت في جميع الأحوال، لابساً النية الصالحة كما يليق بالكهنوت، تلقنت من الإناء المصطفى، الأسرار الغامضة الوصف، وإذ أنك حفظت الإيمان أتممت السعي القويم، أيها الشهيد في الكهنة ديونيسيو، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلص نفوسنا.

قنداق باللحن الرابع
بما أنك تلميذٌ للرسل الذي ارتقىإلى مافوق السماء الثالثة، ولجت بالروح نحو الأبواب السماوية، فاستغنيت يا يونيسوس، بكل معرفة في الأمر الغامضة الوصف، وأنرت الثاوين قبلاً في ظلمة الغباوة، فلذلك تصرخ إليك قائلين: السلام عليك يا أبا العالم كله.

arArabic
انتقل إلى أعلى