يغلب الظنّ أن بوليكربس قد ولد حوالى العام 69 من أبوين مسيحيّين. وهو لم يكن يهوديّ الأصل، وممّا يساعد على هذا الاعتقاد ما يبدو لديه من جهل للعهد القديم، إذ يقول في رسالته إلى أهل فيلبّي: “لي قناعة أنّكم متضلّعون كثيراً من الكتب المقدّسة التي ليست مغلقة عليكم. أمّا أنا فلا”. ويروى أنّ بوليكربس، عندما كان طفلاً، قد عرف الرسل أو سمع عنهم، ولا سيّما يوحنا الإنجيلي. فالقدّيس إيريناوس أسقف ليون (+ 202)، أحد تلاميذه، يقول في رسالة إلى أحد أصدقائه: “حتّى إنّي أستطيع أن أصف كيف كان الشهيد بوليكربس يخبر عن معاشرته ليوحنّا وللآخرين الذين كانوا قد عاينوا السيّد”. ويذكر إيريناوس أنّ بوليكربس قد عاش طويلاً وأنّه كان “عجوزاً جدّاً” عندما غادر هذه الحياة “باستشهاد مجيد”.
لم يأخذ بوليكربس التعليم من الرسل وحسب، بل إنّهم جعلوه أسقفاً على مدينة إزمير بآسية الصغرى (تركيا الحاليّة). وقد كان بوليكربس شابّاً عندما مرّ به القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ (+ 108) في طريقه إلى الاستشهاد في رومية. وترك لنا إغناطيوس شهادة في تقوى بوليكربس، وذلك في رسالة بعثها إليه فيقول: “إنّي أمتدح تقواك الراهنة الموطّدة كما على صخر لا يتزعزع”. أمّا استشهاده فقد حصل إبّان اضطهاد وقع في مدينة إزمير في العام 156 على الأرجح. وجاء في رواية استشهاده أنّه أحرِق حيّاً، بعد أن أنبئ بذلك في نبوءة، إلاّ أنّ النار لم تلتهم جسده، فأجهِز عليه بطعنة خنجر. فأحرق بعد وفاته، على حسب عادة الوثنيّين، وجمع مؤمنو إزمير عظامه. تحيي الكنيسة تذكاره في الثالث والعشرين من شهر شباط.
لم يصلنا من أعمال بوليكربس المكتوبة سوى رسالة واحدة غير كاملة أرسلها إلى أهل فيلبّي. تنتمي هذه الرسالة إلى النمط الوعظيّ، إذ يحثّ كاتبها على الأمانة للإيمان المستقيم وعلى ممارسة التعاليم الإنجيليّة. وتتضمّن نصائح إلى المؤمنين لتقوية إيمانهم الذي ورثوه، وهذا غير ممكن إلاّ بمطالعة رسالة “السعيد والمجيد بولس” إلى أهل مدينتهم. وتحتوي أيضاً على نصائح إلى الشمامسة وإلى الشباب والعذارى. فالشمامسة “هم خدّام الله والمسيح وليسوا خدّاماً لنا”، وعليهم أن يسيروا في طريق الحقّ التي رسمها السيّد الذي جعل ذاته شمّاساً (أي خادماً) للجميع. كما تضمّ نصائح إلى الكهنة بأن “لا يكونوا قساة في احكامهم، بل فليتذكّروا أنّنا جميعاً بات للخطيئة علينا دين”.
أمّا أهمّ ما ورد في الرسالة فهو ردّ بوليكربس على أصحاب بدعة المشبَّهة الذين كانوا ينكرون حقيقة تجسّد ابن الله، فيقول: “كلّ مَن يرفض أن يعترف بأنّ يسوع المسيح جاء في الجسد هو عدوّ للمسيح. ومَن لا يعترف بشهادة الصليب هو من الشيطان. ومَن يؤوّل كلمات السيّد بحسب رغباته الخاصّة، نافياً القيامة والدينونة، هو مولود الشيطان الأوّل”. وبالنسبة إليه، إنّ التقليد، أو التراث، الكنسيّ يشكّل أمضى سلاح يواجه به المؤمنون أصحابَ البدعة، فيتابع بوليكربس قائلاً: “لنقل، إذاً، وداعاً لأباطيل الغوغاء والتعاليم الخاطئة، ولنعد إلى التعليم الذي نُقل إلينا منذ البدء”.
إن رواية استشهاد القدّيس بوليكربس هي أقدم رواية وصلتنا عن وفاة شهيد، وهي بمجملها صحيحة. وقد أنشأها شاهد عيان من مؤمني كنيسة إزمير. ويقول أحد علماء التاريخ الكنسيّ إنّها أقدم وثيقة نملكها عن حياة القدّيسين، وإنّ ليس ثمّة من نصّ أجمل منها. أمّا كاتب الرواية فيشبّه استشهاد بوليكربس بآلام السيّد المسيح، ذلك أنّ الشهادة العظمى هي الاقتداء بالسيّد المخلّص. وفي اليوم الذي ألقي عليه القبض، “وكان يوم الجمعة، وقد قربت ساعة العشاء… وكان في مستطاعه أن يهرب… إلاّ أنّه لم يشأ، بل قال لتكن مشيئة الله”. وفي الملعب الذي قضى فيه، إذ طُلب إليه أن يجحد إيمانه ويلعن المسيح أجاب بتنهّد عميق وهو يشير إلى الجماهير وينظر إلى السماء: “إنّ لي ستّة وثمانين عاماً في خدمة المسيح، ولم يسئ قطّ إليّ، فكيف يسعني أن أجدّف على ملكي ومخلّصي؟”. وإذا بالجماهير تصرخ: “هذا هو معلّم آسية، أبو المسيحيّين، هادم آلهتنا”. وعلا عجيج الجماهير مطالباً بقتله.
لمّا أسلم بوليكربس روحه وأحرِق جسده، لمّ المؤمنون بقاياه ووضعوها في مكان لائق. يقول كاتب السيرة: “وهكذا استطعنا أن نلمّ عظامه التي لها ثمن أعظم من الحجارة الكريمة وقيمة أكثر من الذهب، فوضعناها في مكان لائق. وهنالك نجتمع ما استطعنا في الفرح والابتهاج لنحتفل، بمعونة السيّد، بتذكار اليوم الذي وُلد بوليكربس فيه بالشهادة”. إنّ لهذا النصّ فائدة كبيرة إذ إنّه مرجع أساسيّ وقديم لعادة تكريم ذخائر القدّيسين والاحتفال بيوم ميلادهم الحقيقيّ، يوم استشهادهم.
تعيّد له الكنيسة في 23 شباط.
مختارات من رسالته إلى فيلبّي:
- “صلّوا من أجل القديسين، من اجل الملوك والرئاسات والسلاطين ومن أجل الذين يضطهدونكم والذين يبغضونكم ومن اجل أعداء الصليب حتى تكون ثماركم واضحة وتكونوا كاميلن في الله…
- أنصحكم بالابتعاد عن البخل وان تكونوا أنقياء، محبّي الحقيقة. ابتعدوا عن كل شر. الذي لا يستطيع ان يضبط نفسه كيف يمكنه ان يوجّه الآخرين ويقودهم. من لا يبتعد عن البخل يتّسخ بالوثنية…
- لا تتأخروا عن فعل الإحسان فالإحسان يخلّص من الموت. لا تكونوا سببا لشتم الرب. ويل للذين يُشتم اسم الرب بسببهم. علّموا جميعا الوداعة التي تعيشون فيها…
- يجب ان نترك الخطب البطالة والتعاليم الخداعة ونعود الى التعليم الذي نُقل الينا منذ البدء. لنكن يقظين في الصلاة والصيامات ولنطلب من الله الذي يرى الكل ان لا يدخلنا في تجربة…
- يجب ان يكون الشيوخ شفوقين رحماء نحو الجميع… ويتجنبوا كل غضب ومحاباة الوجوه ومحاكمة الخاطئ… ولا يصدّقوا فورا ما يقال عن شرور الآخرين ولا يكونوا قساة في أحكامهم، واضعين أمام أعينهم اننا جميعا معرَّضون للخطيئة. اذا كنا نطلب من الله ان يغفر لنا، فعلينا ان نغفر للآخرين. ونحن كلنا تحت أعين ربنا..”.
طروبارية باللحن الرابع
ظهرتَ كزيتونةٍ مُثمرةٍ في بيتِ الله. لمَّا خَتمتَ دعوةَ أعمالِك، أيُّها الحكيم، يا بوليكربوسُ المجيد، بما أنّكَ رئيسُ كهنةٍ ومجاهدٌ صنديد. فأنتَ تُغذّي الكنيسة بِحُسْنِ أثمارِكَ العقلية. مُتَشَفِّعاً أيُّها الشهيدُ في الكهنة، من أجلِ نفوسِنا.
قنداق باللحن الأول
لما قدَّمتَ للرب أثماراً نطقية يا بوليكربوسُ الحكيم ظهرتَ بالفضائل الإلهية مستحقاً لرئاسة كهنوتِ الإله أيها المغبوط، فلذلكَ نحن المستنيرين بأقوالكَ نُسبح اليوم تذكارك المستحق المديح، معظمين الله.