هل من براهين على وجود الله؟

 إنّ أوّل شرط من شروط الإيمان المسيحيّ هو الاعتراف بوجود الله، خالق كلّ شيء من العدم. والله هو الكائن الذي لا بدء له ولا نهاية، فهو أزليّ وأبديّ وغير محدود في الزمان ولا في المكان. وقد جاهد المؤمنون خلال الأزمنة المتعاقبة على التفكّر في براهين منطقيّة ثابتة تؤكّد وجود الله، وذلك في وجه مَن ينكر وجوده. أمّا أبرز البراهين فهي تلك التي ترتكز على التأمّل في الكون والطبيعة وسائر المخلوقات، للتوصّل من خلالها إلى التعرّف بالله والاعتراف بوجوده.

صحيح أنّ الإنسان المؤمن بالله لا يحتاج إلى أدلّة عقليّة وبراهين منطقيّة لكي يستمرّ في إيمانه. ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ كلّ مقدّرات الإنسان الذهنيّة والعقليّة والخبرة الشخصيّة المتعلّقة بواقع حياته تلعب دوراً كبيراً في ترسيخ الإيمان. فالإيمان ينبغي أن يكون قراراً شخصيّاً يتّخذه المرء بكامل حرّيّته ومسؤوليّته. من هنا، يضع الإنسان كلّ علمه ومعارفه في سبيل تثبيت إيمانه بالله، حتّى لا يكون هذا الإيمان أعمى، بل إيماناً لا يتزعزع. وهذا يعني أن يضع الإنسان عقله في خدمة الإيمان.

غير أنّ المتعارف عليه أيضاً هو أنّ العقل لا يستطيع إثبات أيّ أمر يخصّ الله بشكل قاطع. فالعقل محدود وناقص، والدليل على ذلك أنّ العلوم تتطوّر وكلّ يوم ثمّة اكتشافات واختراعات جديدة. فلو كان العقل كاملاً لكانت المعارف ثابتة لا تتغيّر. من هنا، نستطيع القول إنّ الله غير المحدود لا يمكن التثبّت من وجوده بواسطة ما هو محدود، أي العقل. ولا يمكن، تالياً، العقل البشريّ بقواه فقط أن يدرك الله أو أن يثبت وجوده، ولكنّه أيضاً لا يستطيع أن يثبت عدم وجود الله.

إنّ الله وهب الإنسان، خلافاً لكلّ المخلوقات الأخرى، عقلاً. ودعا الله الإنسان إلى التفكّر، بواسطة هذا العقل، في كثير من المسائل التي يعجز العقل عن الإجابة عليها إجابة جازمة، كبدء الخليقة ومصيرها ومصيره هو وغاية الوجود… بيد أنّ المؤمن يستطيع، إذا أعمل عقله، أن يرى عمل الله وأصابعه في كلّ ما يحيط به من طبيعة ومخلوقات، فيزيد إيمانه ويترسّخ أكثر فأكثر. ولنا في خبرة المؤمنين العاديّين أمثولة، فترى هؤلاء يقولون عند كلّ منظر مدهش ولافت “سبحان الله”، وكأنّ هذا القول بمثابة اعتراف بقدرة الله. كما أنّ آباء الكنيسة واللاهوتيّين، على مرّ تاريخ المسيحيّة، دعوا المؤمنين إلى التمعّن في آيات الله ومعجزاته في الكون، والتأمّل بعظمة الخليقة للتعرّف بصانعها فيزداد إيمانهم به.

من هنا، يدعو القدّيس باسيليوس الكبير (+379) الإنسان إلى تفحّص تركيب جسمه العجيب وطريقة تنفّسه وسريان الدم في الشرايين وخفقان القلب ودفقه للدم بانتظام، حتّى يصل إلى الاستنتاج: “إنّ معرفة دقيقة لجسم الإنسان تقود حتماً إلى معرفة الكائن العظيم الذي خلقه“. لذلك، ليس المطلوب من الإنسان إلاّ أن ينظر إلى نفسه حتّى يدرك وجود الله. ولا يجدر بالإنسان البحث عن معجزات تبيّن له قدرة الله، فهو بحدّ نفسه معجزة كبيرة من معجزاته.

Што се тиче القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750) فقد أورد، في كتابه “المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ”، براهين عقليّة عدّة تستند إلى الفلسفة اليونانيّة، رافضاً نسبة الخلق إلى الصدفة. فيقول: “لأنّنا إذا افترضنا بأنّ المخلوقات وُجدت صدفة، فما هو الذي نظّمها؟ وإذا سلّمنا بهذا أيضاً، لمَن ننسب الاعتناء بها وحفظها طبقاً للقواعد التي تأسّست عليها في البدء؟ إنّ ذلك هو حتماً غير الصدفة. وماذا يكون سوى الله؟“. وكأنّ القدّيس الدمشقيّ يردٌّ على ما يشيع اليوم من اعتقادات ملحدة تقول بأنّ الله ليس هو الخالق، بل إنّ الكون أوجد نفسه أو إنّ الصدفة هي التي جعلته يتّخذ الشكل الذي هو عليه اليوم.

وفي الغرب المسيحيّ، برع توما الأكوينيّ (+1274) بجعل الفلسفة في خدمة الدين من خلال عرضه لمجموعة من البراهين على وجود الله، نكتفي منها ببرهان تدبير الكون والمخلوقات. فيقول إنّ المخلوقات غير العارفة والجامدة منها، إنّما وُجدت لغاية تبلغها بتسيير من الله. فالشجرة تعطي ثمارها في أوانه، مع العلم أنّها لا تعلم أنّها تعطي ثمراً. إذاً، ينبغي أنّ يكون ثمّة كائن عاقل يسيّرها إلى غايتها، إذ إنّ “ما لا معرفة له لا يسعى إلى غايته إلاّ بمقدار ما يسيّره كائن عارف عاقل”، ومَن يكون سوى الله؟

لا تقف الكنيسة ضدّ العقل، بل إنّها دعت المؤمنين إلى تآلف العقل والقلب في خدمة الإيمان ونشره. وإنْ لم يستطع العقل البشريّ أن يثبت وجود الله بالبراهين القاطعة، فإنّ المؤمنين يستطيعون التأكيد على أنّ إيمانهم لا يناقض العقل، بل على العكس من ذلك، يجيب على تساؤلات كثيرة في وجه الإلحاد. لا يدّعي المؤمنون أنّهم يستطيعون إقناع غير المؤمنين بالبراهين العقليّة. حسبهم أن يشهدوا على ما يؤمنون به وعلى ما يختبرونه ويحيونه في إيمانهم.

نقلاً عن: أبرشية جبيل والبترون
Мој парохијски гласник
الأحد 10 شباط 2002
العدد 6

sr_RSSerbian
Иди на врх