12: 49-50 – جئت لألقي ناراً على الأرض

12: 49 «جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ 50 وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟

 

 

الشرح:

يختلف بعض المفسرين حول ما تعنيه هذه العبارة (جئت لألقي نارا على الأرض) التي حفظها لوقا في إنجيله (12: 49). فمنهم من يرى أن الرب يسوع يريد بها الدينونة الأخيرة ونتيجتها، وآخرون يوازون، في معناها، بين النار وعطية الروح القدس.

ولا يخفى أن هذين التفسيرين لهما ما يبررهما في الكتاب المقدس. ذلك أن الكتاب أوحى، من جهة، بأن “النار” سترافق دينونة الله الأخيرة (انظر مثلا: إشعياء 66: 15 و16؛ حزقيال 38: 22 و39: 6؛ ملاخي 3: 19..) ووضع، من جهة ثانية، “النار” في سياق الكلام على معمودية الروح القدس التي بدأت في العنصرة (أعمال 2: 3 و19؛ ثمة من يصوّر انتشار خبر البشارة في الأرض بعد اليوم “الخمسين”، مثل النار في الهشيم).

ويعرف قارئو العهد الجديد أن يوحنا المعمدان الذي أعدّ الطريق ليسوع، وقال في رسالته: أنا أعمدكم بالماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني، من لستُ أهلا لأن أفك رباط نعليه”، وصف العمل الذي سينجزه يسوع، بقوله:” إنه سيعمدكم في الروح القدس والنار” (لوقا3: 16). وتَرِد، في إنجيل مرقس، صيغة مختصرة لهذه الكلمات، نقرأ ” سيعمدكم بالروح القدس” (ولا يذكر لفظة “نار”). أما متى فيتوافق مع لوقا (يربط بين الروح القدس والنار)، ويمضيان كلاهما فيرويان المزيد من كلمات يوحنا في وصف الرب الآتي، نقرأ: “بيده المِذْرى (خشبة ذات أطراف كالأصابع تنقّى بها الحنطة من التبن)، ينقي بيدره، فيجمع القمح في أهرائه، أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ (متى 3: 12؛ لوقا 3: 17). ونرى أن رسالة يسوع، كما توقعها يوحنا السابق، تفترض دينونة علنية يتمها الرب في ظهوره. وهذا الأمر يصح عموما، وذلك أن يسوع المخلّص الذي “أرجأ” تنفيذ دينونة العالم إلى اليوم الأخير، وضع في العالم قياسها، فهو سيدين الناس على حسب مقتضيات خلاصه، فمن يقبلها في حياته يحيا، ومن يتعداها موتا يموت.

غير أن قراءة المقطع الذي وردت فيه العبارة موضوع هذا المقال، تجعلنا نعتقد أن الكلام على الدينونة حصرا لا يتوافق كليا وسياق النص، يقول الرب:”جئت لألقي نارا على الأرض، وما أشد رغبتي أن تكون قد اشتعلت! وعلي أن أقبل معمودية، وما أشد ضيقي حتى تتم”. إن لهاتين الآيتين موازاة ظاهرة في الإيقاع، ولذا يبدو للكثيرين، وعن حق، أن فهم الآية الأولى يستحيل من ربطها بالآية التي تتبعها. ونرى أن يسوع- الذي أبى أن يستجيب لإرادة أثنين من تلاميذه طلبا منه أن يلقي نارا على مدينة رفضت استقباله (لوقا 9: 51- 56)- يقول: إنه جاء ليلقي “نارا على الأرض”، وأن رغبته جامحة لتشتعل. والحال أن هذه الرغبة (اشتعال النار) –كما يظهرها سياق النص – تفترض أن يقبل يسوع قبلا المعمودية (لوقا 13: 50)، وهو (يسوع)، لا شك، لا يشير هنا إلى المعمودية التي تقبّلها في الأردن، وإنما إلى موته على الصليب الذي كان حدث الأردن صورة عنه. وهذا ما يزيد قناعة البعض – وقناعتنا- فيفهمون العبارة(جئت لألقي نارا على الأرض) على أنها لا تدل(حصرا) على الدينونة، وإنما على توق السيد إلى سكب الروح القدس في اليوم الخمسين. ذلك أن مجيء الروح كان يتطلب قبلا أن يتمجد ابن الله على الصليب (يوحنا 7: 39). لقد اختبر يسوع شخصيا انسكاب الروح عليه في الأردن، وهو يشتاق أن يعمّد العالم بناره، هذا ما حاول أن يعبّر عنه يوستينوس الشهيد (القرن الثاني)، لمّا استخدم صورة النار في وصفه هذا الانسكاب، بقوله:” عندما نزل يسوع إلى الماء اشتعلت نار في الأردن”.

إن الكنيسة المقدسة، منذ العنصرة، تحيا بموجب هذه النار (الروح القدس)، وهي إياها النار التي اضطرمت في صدر تلميذي عمّاوس حين كانا يستمعان إلى كلام الرب القائم من بين الأموات (لوقا 24: 33)، هي نار التجليات التي تأتي بها عطيّة الروح وتمدّها بين البشر. وذلك أن الذين قبلوا الروح القدس، في حياتهم، وأُحرقت خطاياهم بناره وتجدّدوا بمواهبه، لا يترك الله مسافة بينه وبينهم، أي إنه يتم قصده فيهم وبواسطتهم، وقصده (رغبته) أن تلتهب “الأرض” بالقداسة. وتزيدنا قناعة، في اختيار هذا المعنى للعبارة (جئت لألقي نارا على الأرض)، ليتورجيا عيد العنصرة التي تربط بين الروح والنار، فتصف الروح القدس بأنه “نار من نار بارزة…نار مقسومة لتوزيع المواهب” (إينوس صلاة السَحَر).

إن يسوع جاء ليهبنا روحه القدوس، إنه المعزّي الذي يخزي “العالم على الخطيئة والبر والدينونة” (يوحنا 16: 8 – 11)، ويلهب أحباءه بناره المقدسة.

 

نقلاً عن نشرة رعيتي
الأحد 30 أيار 1999 / العدد 22

arArabic
انتقل إلى أعلى