يوحنا المعمدان في الإسلام

القدّيس يوحنّا المعمدان هو، مع القدّيسة مريم والدة الإله، من أهمّ الشخصيّات المقدّسة التي عاشت في زمن الربّ يسوع. لذلك، تعيّد له الكنيسة العديد من المناسبات خلال السنة العباديّة كالحبل به ومولده واستشهاده ووجود هامته، وتذكار جامع له يقع في السابع من كانون الثاني. وتخبرنا الأناجيل عن أعماله وأقواله الداعية إلى التوبة والتهيّؤ لمجيء السيّد المسيح. أمّا هنا، فسنعرض لما يقوله القرآن في شأن القدّيس يوحنّا ورسالته (انظر ما تقوله الأناجيل عن القدّيس يوحنّا المعمدان في رعيّتي، العام 2002، العدد 25).

يرد ذكر يوحنّا المعمدان في القرآن مرّات عدّة تحت اسم “النبيّ يحيى”، وهو الاسم السائد ليوحنّا في الجزيرة العربيّة إبّان الدعوة المحمّديّة. ففي سورة الأنعام، الآيات 83-86، يرد اسم يحيى في اللائحة التي تذكر أسماء الأنبياء التوراتيّين مع نوح وإبرهيم وإسحق ويعقوب وداود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهرون وزكريّا وعيسى وإلياس وإسمعيل والْيَسَع (أليشع) ويونس (يونان) ولوط. ويعتبر القرآن أنّ كلّ هؤلاء الأنبياء الصالحين قد اصطفاهم الله لنشر رسالته، وهداهم إلى صراط مستقيم، وفضّلهم على العالمين، لذلك فقد رفعهم الله درجات عن سائر بني البشر.

يورد القرآن في ثلاثة مواضع منه قصّة الحبل بيحيى، وذلك بالارتباط بقصّة السيّدة مريم وحبلها بابنها عيسى (يسوع). ففي سورة آل عمران (الآيات (الآيات 38-41)، وبعد الحديث عن كفالة زكريّا لمريم وتربيته إيّاها بعد فقدها لوالديها، يطلب زكريّا إلى الله أن يهبه ولداً بهذه الكلمات: “هنالك (أي في المحراب) دعا زكريّا ربّه قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّيّة طيّبة إنّك سميع الدعاء”، فنادته الملائكة بهذا القول: “إنّ الله يبشّرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين”. يقول المفسّر القرآنيّ بشأن هاتين الآيتين إنّ الله يبشّر زكريّا بولد هو يحيى سيكون مبشّراً بمجيء كلمة من الله هو المسيح عيسى ابن مريم. وسيكون يحيى، بحسب المفسّر نفسه، سيّداً يسود قومه بالعلم والفضيلة، وحصوراً أي “لا يأتي النساء زهداً”، ونبيّاً صالحاً يؤدّي حقوق الله والناس، ومعصوماً من الذنوب.

ثمّ يورد القرآن تساؤل زكريّا المستغرب: “قال ربِّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر”، فيأتي جواب الله: “كذلك الله يفعل ما يشاء”. وعندما طلب زكريّا آية من ربّه ليصدّق، قال له الله: “آيتك ألاّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاّ رمزاً واذكر ربّك كثيراً”. طبعاً، آية الخرس الذي أصيب به زكريّا يرد ذكرها في إنجيل لوقا (1: 18-22)، ولكن ليس فقط لثلاثة أيّام بل طيلة مدّة الحبل بيوحنّا، وإنجيل لوقا لا يذكر أنّ زكريّا قد طلب إلى ربّه أن يهبه ولداً كما في الرواية القرآنيّة. وفي سورة الانبياء، 89-90، يستعيد القرآن حادثة الحبل بيحيى، فيقول: “وزكريّا إذ نادى ربّه ربِّ لا تذرني (أي لا تتركني) فرداً وأنت خير الوارثين. فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه (أي جعلنا زوجته ولوداً بعد أن كانت عاقراً)”.

سورة مريم هي السورة التي تكرّس المقطع الأكبر للحديث عن يحيى أي أربع عشرة آية (الآيات 2-15). هنا، يطلب زكريّا من الله أن يهبه “وليّاً” أي ولداً صالحاً، “يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربِّ رضيّاً (في أخلاقه وأفعاله)”، أمّا المقصود في الآية بالوراثة فليس المال بل النبوّة والصلاح. فيأتيه القول الإلهيّ: “يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً”، أي كما يقول المفسّر: “لم نسمِّ أحداً قبله بهذا الاسم، ولا شبيه له في الصلاح والورع”. عندها، كما في المقاطع الآنفة الذكر، يطلب زكريّا الآية فتأتيه آية الخرس. ثمّ يأتي الأمر الإلهيّ ليحيى بعد ولادته: “يا يحيى خذ الكتاب بقوّة (أي بجدّ واجتهاد) وآتيناه الحكم صبيّاً (أي أعطيناه القدرة على فهم أسرار التوراة صبيّاً قبل بلوغ سنّ الرجال)”.

ثمّ تتابع سورة مريم وصف شخصيّة يحيى على النحو الآتي: “وحناناً من لدنّا وزكاة وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً”. هذا يعني أنّ الله جعل يحيى ذا حنان (هنا لا بدّ من أن نذكّر بأنّ اسم “يوحنّا” بالعبريّة يعني “الله يحنّ”) ورأفة وعطف على الناس، وذا طهارة نفس من الآثام، وكان من أهل الطاعة وإخلاص العبادة، وكان كثير البرّ بوالديه واللطف إليهما، ولم يكن متكبّراً، ولا عاصياً لربّه. وتختم سورة مريم الحديث عن يحيى بالقول: “وسلام عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيّاً” (الآية 15). وهي الآية نفسها التي توردها سورة مريم فيما بعد على لسان السيّد المسيح قائلاً عن نفسه: “والسلام عليَّ يوم وُلدتُ ويوم أموت ويوم أُبعث حيّاً” (الآية 33). وهذا يعني، بالنسبة إلى المفسّرين المسلمين، أنّ الله يبشّر يحيى وعيسى بأنّهما سوف يقومان يوم القيامة. وهنا يبرز الخلاف الجذريّ بين المسيحيّين والمسلمين حول قيامة السيّد المسيح التي يؤمن المسيحيّون بأنّها قد حدثت حقّاً. هذا الخلاف لن نتطرّق إليه اليوم في هذه المقالة.

لا ريب في أنّ نقاطاً كثيرة مشتركة تجمع بين رواية القرآن عن يحيى وما يقوله التراث المسيحيّ عنه. وإن غابت عن القرآن حادثة معمودية يسوع في الأردنّ على يد يوحنّا وبشارته باقتراب ملكوت السموات وأمور أخرى عديدة، يبقى أنّ القرآن لا يقدّم عن يحيى صورة مغايرة عمّا نعرفه عنه. وما يمكن قوله، ختاماً، إنّ القرآن يقدّم صورة غير كاملة ومجتزأة عن يحيى على الرغم من اعترافه به نبيّاً عظيماً.

عن نشرة رعيتي 2004

arArabic
انتقل إلى أعلى