العوامل المؤدية للحروب الصليبية

الحروب الصليبية
1098-1204

الخطر التركي: وانطلق الأتراك السلاجقة من فدافد أسية الوسطى. ثم قُدّر لزعيمهم طغرل بك (الأمير الصقر) أن يفرض نفسه في السنة 1055 على الخليفة العباسي القائم بأمر الله وأن يبطن الخلافة العباسية بالسلطة السلجوقية ثم أن يستبدل الأمبراطورية العربية بأمبراطورية تركية ثم أن يأخذ على عاتقه الصمود في وجه الروم والحرب ضدهم. وكان العرب قد كفّوا عن هذه الحرب منذ زمن بعيد. ولقيت طبيعة الأتراك المحاربة مجالاً فسيحاً للفتح.

فسقطت أرمينيا في يد الأتراك في السنة 1064 واكتسح ألب أرسلان (الأسد المظفر) الموقف في موقعة ملاذ كرد في السنة 1071 وأسر الفسيلفس رومانوس وشتت جيشه. وكان هذا الاندحار من أسوأ الكوارث لأن البلقان كانت قد أصبحت صقلية واليونان كانت قد خلت من السكان وافتقرت ولأن آسية الصغرى وحدها كانت معقل الهلينية فمنها كان الفسيلفس يجمع جيوشه وفيها كان يجد أكبر قواده وأنشط ضباطه. واحتل الأتراك ما بين السنة 1078 والسنة 1081 مدناً داخلية كأيقونية وثغوراً متطرفة كأزمير وسبحوا خيولهم في مرمرا وارتقبوا الفرص للعبور إلى تراقية أوربا. وأسوأ ما كان في الأمر أن هذا الغزو الجديد لم يقتصر على السياسة والسلطة بل تعداهما إلى استملاك الأرض فحل القروي التركي محل القروي اليوناني فأضاعت الهلينية قواعدها ومكانتها.

وتوفي ألب أرسلان بطعنة خنجر في السنة 1072 وخلفه ابنه ملكشاه واستمر ازدهار الدولة الفتية بفضل الخوجة حسن نظام الملك. ثم خرَّ نظام الملك صريعاً في السنة 1091 على يد الحشاشين ولحق به ملكشاه فاضمحلت عظمة الدولة السلجوقية وتفككت أواصرها ولكن سيل السلاجقة ظلَّ يتدفق على آسية الصغرى وظل خطرهم يحدق بدولة الروم ويهددها بالانهيار.

ضيق وانتهاك المقدسات: (1095) وكان اقليمس الثالث لا يزال يطالب بالسدة الرومانية وكان الامبراطور هنريكوس الرابع لا يزال يدعمه فرأى البابا اوربانوس الثاني أن يجمع مجمعاً للنظر في هذا الشقاق فدعا الأساقفة إلى الاجتماع في بياتشنزا Piacenza في آذار السنة 1095 لمعالجة الانشقاق contra schismaticos.
وكان اوربانوس لا يزال يولي الكنيسة الجامعة اهتمامه فيرعاها بعناية. وكانت اتصالاته بالقسطنطينية قد لطّفت الجور وقرَّبت القلوب. وكان الكسيوس الفسيلفس يوالي اتصالاته بهذا الحبر الصالح وينقل إليه مخاوفه من تفاقم الشر في آسية الصغرى وتزايد عدد الأتراك فيها وانتشارهم في سهولها ووديانها.

وبعد وفاة ملكشاه تنازع أولاده محمود وبركياروق ومحمد وسنجر السلطة فعمت الفوضى العراق وسورية وفلسطين. وانطلق رعاع التركمان وأمثالهم يقتلون وينبهون. وكانوا يدخلون الكنائس في أثناء الصلوات ويضجون. وقد يجلسون على الموائد المقدسة ويهينون الكهنة ويرتكبون كل ما اقتضاه طبعهم! وقد يخربون بعض الكنائس وقد يحولون بعضها إلى مساجد. وشاهد الحجاج الغربيون هذه الاعمال وخبروها بأنفسهم واضطروا في بعض الأحيان أن يقاتلوا للوصول إلى القبر المقدس. وكان ملكشاه قد أمر أخاه تتش أن يطرد الفاطميين من أورشليم وسائر فلسطين ففعل. فثار أهلها على السلاجقة فكانت مذبحة قبة الصخرة (1067). فعاد الفاطميون إلى النزاع. فأصبحت أوروشليم هدفاً لنزاع مستمر بين الأتراك والسلاجقة وبين الفاطميين. واقطع تتش أورشليم ليمينه أرتق ابن أكساب. فلما توفي أرتق (1091) تنازع السلطة ابناه سقمان وغازي فحلّ ضيق شديد بالمسيحيين. فاضطر البطريرك سمعان الأورشليمي أن يفرَّ إلى قبرص مع كبار رجال الاكليروس. وعاد الحجاج إلى بلدانهم وشكوا. وأصغى رهبان كلوني إلى هذه الشكاوي فرفعوها بدورهم إلى المقامات العالية إلى روما نفسها.

مجمع بياتشنزا: ووافق اجتماع الأساقفة في بياتشنزا وصول لجنة عسكرية بيزنطية إلى إيطالية لتشويق المسيحيين وحضهم على الدخول في خدمة الفسيلفس للذود عن الكنيسة وصمودها في وجه الأتراك السلاجقة. وعلم اوربانوس بقدومهم فدعاهم إلى بياتشنزا ليخطبوا في الآباء المجتمعين ويبينوا لهم الخطر الذي يهدد الكنيسة في الشرق. ووصلت اللجنة إلى بياتشنزا وارتقى أعضاؤها منبر المجمع فنقلوا إلى الأساقفة ما كان يعانيه المسيحيون من ضيق واضطهاد وما كان يحدق بالمسيحية من خطر. فأعارهم الأساقفة آذاناً صاغية ووعوا كلامهم فخشعت أبصارهم وخفقت قلوبهم خشيةً ورقّة.

وكان المغبوط اغسطينوس قد أجاز “الجهاد” في سبيل الله (على أيامه وقعت الدولة الرومانية في يد الجرمانيين وعلى أثرها كتاب كتابه “مدينة الله” [ليحمي] الإيمان من الضياع) فتبعه البابا لاون الرابع (847-855) فأكد الثواب لمن يسقط مدافعاً عن الكنيسة وجاء يوحنا الثامن (872-882) فاعتبر المجاهدين شهداء. وأباح البابا نيقولاوس الأول (858-867) حمل السلاح في وجه الكفرة لكل من أخطأ ووقع تحت الحرم. ولم يعبأ الآباء الغربيون باجتهاد باسيليوس الكبير وامتناعه عن مناولة المحاربين ثلاث سنوات متتالية فحضوا المؤمنين على حمل السلاح في وجه المسلمين. ومنح البابا الكسندروس الثاني الغفران (1061-1073) لجميع المجاهدين في اسبانية. وشجّع غريغوريوس السابع في السنة 1080 حملة غوي جوفرا على اسبانية. وحذا حذوه اوربانوس الثاني فحض حجاج القبر المقدس على استبدال الحج بالعمل المثمر لتحرير اسبانية من المسلمين وإعادة بنائها.

وهكذا فإنه عندما دعا الوفد البيزنطي الآباء إلى التعاون في سبيل الدفاع عن الكنيسة الجامعة في الشرق كانت فكرة الحرب المقدسة قد ظهرت إلى حيّز الوجود في الغرب وكانت الكنيسة الغربية قد باركتها ونشطتها. فوقع نداء الشرق في نفس اوربانسو الكبير موقعاً جليلاً. وأطرق يفكر فمرت مواقف أسلافه أمام عينيه مرور البرق فصمم أن يقدم للمسيحية في الشرق أكثر بكثير مما طلب وفد اليكسيوس الثاني.

مجمع كليرمونمجمع كليرمون: (1095) كان من المقرر عقد مجمع في كليرمون Clermont الفرنسية للنظر في شؤون كنيسة فرنسا وغير ذلك من الأمور الروحية. فقام اوربانوس الثاني إلى فرنسا بلاده الأم في آخر صيف السنة 1095. فاستقبله مواطنوه بمنتهى الحفاوة والإجلال. وزرا جنوب فرنسا منظماً مصلحاً موبخاً ومادحاً وأصغى إلى ما قاله رهبان كلوني عن شؤون الحج والحجاج. ولعله اتصل بريمون كونت تولوز ثم قام إلى كليرمون فوصلها في تشرين الثاني وعقد فيها مجمعاً بين الثامن عشر والثامن والعشرين من هذا الشهر نفسه. فحرم الملك فيليب لعلة الزنى وقطع أسقف كامبري لعلة السيمونية وأعاد النظر في حدود أبرشية ليون. ثم خصص جلسة السابع والعشرين لبيان هام وأباح الحضور للجمهور. فأقبل المؤمنون زرافات زرافات وأقيم للبابا منصة خارج الكاتدرائية. وكان أربانوس جليلاً وقوراً وخطيباً مفوهاً. فذكر الأتراك السلاجقة وما ارتكبوه من الفظائع في الشرق. وأظهر قدسية أورشليم وأوجب المحافظة عليها وتأمين وصول الحجاج إليها. وحض الأغنياء والفقراء على (الجهاد) في سبيل الله و(أكد) الغفران للشهداء المجاهدين. فلاق كلامه آذاناً صاغية وقلوباً دامية فهتف الناس Deus le volt ومعناه هذا ما يريده الله. وأعلن اوربانوس حماية الكنيسة لعائلات المجاهدين وأملاكهم وأوجب حمل شارة الصليب بقماش أحمر على كتف المجاهد أو صدره. وجعل القسطنطينية ملتقى المجاهدين وحدد موعد الانطلاق من الغرب فجعله يوم عيد رقاد العذراء الخامس عشر من آب سنة 1069.

وكان الأسقف أديمار Adhemar راعي أبرشية لوبوي Lepuy أول الصليبيين. فإنه ما كاد اوربانوس ينتهي من ندائه في كليرمون حتى تقدم الأسقف منه فجثى أمامه ونذر نفسه للخدمة المقدسة. وتبعه في ذلك مئات المؤمنين. ثم تلا الجميع صلاة الاعتراف.

وأراد اوربانوس العظيم أن يجعل الحملة كنسية فعيّن أديمار قائداً أعلى وزعيماً أوحد وخوّله البت في جميع الاختلافات التي قد تنشأ بين الصليبيين. وكان أديمار شريفاً من أشراف فرنسا يجيد الخطابة ويحسن السياسة هادئاً لطيفاً واسع الأفق بعيد النظر. وكان قد حج قبل عشر سنوات فأضاف إلى مؤهلاته العامة خبرة في أمور الشرق ومعرفة لسكانه. وأعلن اوربانوس في كليرمون أيضاً موقفه من كنائس الشرق فأوجب إعادة جميع أوقافها إليها واحترام جميع حقوقها. ويرى بعض رجال الاختصاص أن البابا اعتبر منذ اللحظة الأولى جميع ما قد يتم من فتوحات في الأراضي المقدسة فتحاً باباوياً.

جيوش خمسة: وجاب بطرس الناسك الفرنسي البلاد وخطب في الناس وحضهم على الحرب المقدسة. وكان حاد الذكاء قوي الإرادة طلق اللسان ضئيل الجسم طويل اللحية براق العينين. وكان يرتدي الصوف الخشن ويركب حماراً حقيراً كاشف الرأس حافي القدمين. فقوبل بحماس شديد والتف حوله ألوف من المحاربين. وجاء موسم السنة 1096 جيداً. فتفاءل الناس خيراً واعتبروه رضاً ربانياً. وتساقطت النيازك بكثرة فاعتبرها أسقف ليزيو Lisieux إشارة سماوية تنبئ بزحف الجماهير على الأراضي المقدسة.

وكان كبار الملوك آنئذ على خلاف مع البابا فلم يشترك أحد منهم في الحملة الصليبية الأولى. وشاء فيليب ملك فرنسا ألا يُحرم من شرف الانتماء إلى هذا العمال المقدس فأوعز إلى أخيه فرمندوا Hugues de Vermandios أن يحمل شارة الصليب ففعل. وتألف جير من أهل اللورين ورينانية وشمال فرنسا بقيادة غودفروا ده بويون Godefory de Bouillon وأخويه أوستاش الثالث كونت بولونية Eustace de Bologne وبودان (بردويل) Bauduin. وتزعم روبير أمير الفلمنك Robet de Flandre وروبير دوق نورمندية واسطفانوس كونت بلوا جيشاً آخر. وقاد ريمون الرابع كونت تولوز وسان جيل Toulouse et saint – Gittes جيشاً رابعاً والتف حول بوهيموند ابن غيسكار النورمندي فرسان نورمنديون وإيطاليون. وعاون بوهيموند ابن عمته تنكريد.

arArabic
انتقل إلى أعلى