حرب الأيقونات

717-787

لاوون الثالث الأسوري: (717-740) وأنجب الروم في إبان محنتهم لاوون الأسوري فأنول بالمسلمين هزيمة بالغة وردهم عن القسطنطينية. فكانت محاولتهم هذه الأخيرة من نوعها في تاريخ الخلفاء الأمويين.

وعُني لاوون بالتشريع فرأى أن القوانين والأنظمة ترجع إلى عهد يوستنيانوس الكبير قد أصبحت تفتقر إلى إعادة نظر وتعديل. رأى الناس يؤثرون العرف حتى على بعض شرائع يوستنيانوس، كما رأى بعد تقلّص الأمبراطورية من جراء الحروب الإسلامية وتغلب الصقالبة والبلغار على جزء كبير من البلقان، أن اليونانية قد أصبحت اللغة الوحيدة التي يفهمها السكان وبالتالي لا بد من تشريع باليونانية خلاف تشريع يوستنيانوس الموضوع باللاتينية. فانتقى في السنة 726 لجنة من كبار رجال القانون أسند إليها إعادة النظر فظهرت الأكلوغة Eclogo ومعنى هذا اللفظ المنتخبات. وتضمنت الأكلوغة في أقسامها الثمانية عشر الحقوق المدنية والأحوال الشخصية. ولم تبحث في الجزاء إلا قليلاً. وجاءت الأكلوغة مسيحية أكثر من الديجستا.

وثمة ثلاث قوانين أخرى تعود إلى عهد الأسوريين أيضاً وأشهرها قانون المزارعين. ويرى العالم الروسي بنشنكو أن هذا القانون مستمد من العرف الذي ساد الأوساط الريفية والذي لم تشمله الأكلوغة. ونجد في بعض نسخ الأكلوغة الخطية ملاحق تتضمن قانونين آخرين أحدهما بحري والآخر عسكري.

الأيقونات: والأيقونة لفظ يوناني معناه الصورة أو الرسم. وهو يستعمل في المصلحات الدينية للإشارة إلى صور القديسين. والأيقونات في عرف الكنيسة نوعان: منها العادي ومنها العجائبي. وحرب الأيقونات تنقسم إلى مدتين: الأول السنة 726 حتى السنة 780 وهي سنة انعقاد المجمع المسكوني السابع، والثانية تمتد من السنة 813 حتى السنة 843 وتنتهي بإرجاع الأرثوذكسية إلى حالتها الأولى. {ولأن هذه الحقبة أسميناها حقبة المجامع المسكونية، فلن نأتي على ذكر الفترة الثانية في هذا القسم ولكنك  ستجدها في القسم اللاحق “حتى القرن الثاني عشر – من التباعد إلى الانشقاق”… (الشبكة)}

وأسباب حرب الأيقونات لا تزال غير واضحة ولا ثابتة لأن ما نعلمه عنها مأخوذ في معظمه من أقوال أحد الخصمين. فقد ضاعت مصنفات الذين حاربوا الأيقونات. وما بقي منها جاء في معرض الردود التي كتبها الخصوم. وهو والحالة هذه غير صالح للأخذ به لما ينقصه من العدالة. وما يصح من هذا القول على المصنفات العامة يصح كذلك على قرارات المجمعين اللذين بحثا أمر إكرام الأيقونات فمقررات مجمع السنة 754 قد وردت في قرارات المجمع المسكوني السابع.

والباحثون في أسباب هذا النزاع يختلفون في الرأي. فبعضهم يرى أسبابها دينية وغيرهم يراها سياسية. فالمؤرخ اليوناني الحديث باباريغوبولو يرى في كتابه تاريخ الحضارة اليونانية أن حرب الأيقونات كانت في أساسها حرب إصلاح سياسي اجتماعي وأن لاوون الثالث ومن خلفه من أسرته أراد أن يحرر التعليم والتربية من سيطرة الاكليروس وأن العناصر المستنيرة المتحررة في الدولة وبعض كبار رجال الدين والجيش قد أيدوا هذه الحركة الإصلاحية وأن إخفاق هؤلاء أجمعين نتج عن تمسك العناصر الجاهلة من النساء والرهبان بكل قديم. ويرى المؤرخ الفرنسي لومبار في كتابه قسطنطين الخامس أن حرب الأيقونات كانت حركة إصلاحية دينية ترمي إلى تطهير المسيحية من أدران الوثنية وأنها جاءت في الوقت نفسه الذي جرت في محاولات أخرى للإصلاح. ويرى لويس براهيه الفرنسي أيضاً أن محاربة الأيقونات ذات وجهين فثمة مشادة حول إكرام الأيقونات وثمة بحث دقيق إذا كان يصح الرمز إلى ما فوق الطبيعة بالرسم والتصوير. ويرى اوسبنكي الروسي أن السبب الحقيقي الذي دفع بلاوون وخلفائه إلى خوض غمار هذه الحرب إنما كان خوفهم من ازدياد ثروة الرهبان وتزايد نفوذهم. فالمشادة كانت زمنية سياسية في مستهل أمرها فجعلها الرهبان دينية ليوغروا صدور المؤمنين ويحضوهم على مقاومة سياسة الحكومة.

والواقع أن الاعتراض على الأيقونات لم يكن ابن ساعته ففي بدء القرن الرابع حرَّم مجمع ألفيرة Elvira المحلي في اسبانيا إقامة الصور في الكنائس. ورأى افسابيوس مؤرخ الكنيسة أن إكرام صور السيد وبطرس وبولس كان من “عادات الأمم” وفي القرن الرابع نفسه أيضاً مزّق ابيفانيوس القبرصي ستاراً في إحدى كنائس فلسطين لأنه كان يحمل صورة السيد وأحد القديسين. وفي القرن الخامس اعترض خينائياس أسقف منبج (488) على الأيقونات قبل سيامته. وفي القرن السادس جاهد اغاثياس (582+) في حماية أيقونة مار ميخائيل ضد المعترضين وقبيل نهاية هذا القرن نفسه في السنة 599 حرم سيرينوس أسقف مرسيلية إقامة الأيقونات في الكنائس فكتب إليه القديس غريغوريوس بابا رومة يثني على عدم التعبد لما هو من صنع البشر ويذكّر في الوقت نفسه بالمؤمنين الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون وبضرورة إعانتهم على النظر إلى ما لا يمكنهم أن يقرأوه في الكتب. ويجب أن لا يغيب عن البال أن اليهود لم يرضوا قط عن شيء من هذا وأن القرآن علَّم بأن الأنصاب رجس من عمل الشيطان (سورة المائدة) وأن المانوية بثوبها البولسي استنكرت إكرام الأيقونات.

لاوون والأيقونات: وأخلص لاوون للدين والدولة وتوخى مناهج الرشد فأصلح القضاء والإدارة والمال. ولم يُغفل حدوده الجنوبية طرفة عين فراقب المسلمين واستقرى أحوالهم. وترصد البولسيين المنتشرين في ولاياته الجنوبية وسورية الشمالية وقيليقية وذكر موقفهم من الصليب المقدس والسجود لهم. ولم ينسَ اليهود وأحقادهم وما قالوه في الأيقونات فرأى أن مصلحة الدولة تقتضي بمعالجة هذه القضية معالجة جدّية.

ويرى “شارل ديل” أن لاوون نشأ في جو عائلي أسيوي يمقت الأيقونات ويرى في إكرامها خروجاً عن العقيدة القويمة وأنه رغب في الإصلاح السياسي الاجتماعي الاقتصادي فرأى أنه إذا حارب الأيقونات يضرب الرهبان ضربة مكينة فيصيب عصفورين بحجر واحد. ويلمس كار شينك في شخص لاوون الثالث ورعاً وتصوفاً شديدين جعلاه يعتبر بما حلّ بالدولة من ويلات فيعزي ذلك إلى إكرام الأيقونات. ويقول كارل شفارتز لوزي بشيء من هذا ويضيف أن لاوون كان جندياً خشناً لا يتذوق الفن وأن تربيته العائلية واحتكاكه باليهود والمسلمين دفعاه إلى تحطيم الأيقونات ولا سيما وأنه كان يعتبر نفسه رئيساً زمنياً وروحياً في آن واحد.

يزيد والأيقونات: (723) ويرى رجال الاختصاص أن القرآن حرم الأصنام والأنصاب ولكنه سكت عن الصور والرسوم وأن تحريم هذه جاء في الحديث فقط. ويرون أيضاً أن الأمويين زينوا بعض قصورهم بما مثل الكائنات الحية. وأنهم لم يتورعوا عن التداول بالعملة البيزنطية التي كانت تحمل رسوم الأباطرة وأن محاربة رسوم الكائنات الحية بدأت في عهد عبد الملك ابن مروان. وهم يرون أيضاً في خلو فسيفساء الجامع الأموي -الكنيسة سابقاً- من رسوم الأحياء دليلاً على بدء محاربة الرسوم في أوائل القرن الثامن.

وشملت محاربة الأيقونات الكنائس والمعابد والبيوت فأمر عبد الملك بن مروان بتحطيم جميع الصلبان. ثم جاء يزيد الثاني (720-724) فقرَّب يهودياً من طبرية وأصغى إليه. فأشار عليه هذا بتحطيم جميع الصور والصلبان حيثما وجدت وذلك ليطول عمر الخليفة وعهده. فأمر يزيد بذلك فتوفي في السنة التالية. وجاء في كتاب الخطط للمقريزي (جـ 2 ص 492-493) أنه لما توفي يزيد كان أسامة ابن زيد التنوخي متولي الخراج على النصارى في مصر فاشتد عليهم وأوقع بهم. “ثم هدمت الكنائس وكُسِرت الصلبان ومحيت التماثيل وكُسّرت الأصنام جميعها”. وجاء أيضاً في تاريخ أبي فرج الملطي أن يزيداً “أمر أن تنزع صورة كل حي من الهياكل والجدران والأخشاب والحجارة والكتب” وأن لاوون مائله في ذلك.

أساقفة آسية الصغرى: وخاض الناس في خبر يزيد وانتشر بريده في آسية الصغرى فتلقاه قسطنطين أسقف نقولية Nocotia برُحب صدره فأطلق لسانه في هذا الموضوع. فاعترضه رئيسه متروبوليت سنادة Synnada فقام قسطنطين إلى القسطنطينية يبحث موضوع الخلاف بما جاء في الفصل العشرين من سفر الخروج: “لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي. لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من أسفل ولا مما في المياه تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهم لأني أنا الرب إلهك إله غيور”. وكان المتروبوليت قد كتب إلى البطريرك في ذلك أيضاً. فأسكت البطريرك الأسقف وكتب إلى المتروبوليت ودفع برده هذا إلى الأسقف طالباً أن يوصله إلى رئيسه. فعاد الأسقف إلى نقولية واحتفظ برسالة البطريرك فاغتاظ المتروبوليت. وعلم البطريرك بذلك فكتب إلى الأسقف يهدده بالقطع. وجارى قسطنطين كل من توما أسقف كلوديابوليس وثيودوسيوس رئيس أساقفة أفسس. فكانت مشادة وكان انطلاق في سبيل تحطيم الأيقونات.

بسر السوري ولاوون: (723). وقد جاء في حوليات ثيوفانس أن لاوون أحب مارقاً سورياً اسمه بسر وأن بسراً هذا كان بطلاً مغواراً فأحبه لاوون وعطف عليه. ووقع بسر أسيراً في يد العرب فدخل الإسلام ونال حظوة عند يهودي طبري كان يزيد الخليفة قد قربه من شخصه. وجاء أيضاً أن بسراً عاد إلى القسطنطينية في السنة 723 واتصل بلاوون فجعله بطريقاً فقتل في ثورة الارتفزدة في السنة 740.

ويعلق بعض رجال البحث أهمية على اتصال بسر بلاوون فيشيرون إلى أن لاوون أعلن موقفه من الأيقونات في السنة نفسها التي اتصل بها ببسر. وهو في نظرنا استنتاج ضعيف لا يركن إليه. فمجرد وقوع الحادثين في سنة واحدة لا يبرر الاستنتاج بأن أحد الحادثين سبب الأخر. ويعلق هؤلاء أهمية أيضاً على اللقب “الشرقي” الذي أُلصق لاوون فيما بعد فيربطون هذا اللقب وبين أثر المسلمين في سياسته الدينية. ويسهو عن بال هؤلاء أن عدالة الرواة الذين ألصقوا هذا اللقب غير ثابتة.

بركان سنتورينة: (726) وثار بركان جزيرة سنتورينة في السنة 726 وغارت جزيرة صغيرة بالقرب منها وظهرت جزيرة جديدة فوق سطح المياه فرأى لاوون في هذا كله غضباً ربانياً فدعا الناس في العاصمة وخطب فيهم منذراً موجباً التعبد لله وحده والتندم على ما فرط منهم في إكرام الأيقونات. فدمدم الحضور وهمهموا فأكد الأمبراطور أنه لا يقصد التهاون بالأيقونات ولا الاستهانة بها وإنما يرغب في رفعها إلى محلات عالية في الكنيسة كي لا يؤدي لمسها وتقبيلها إلى اتلافيها.

أيقونة خالكة: (727) ثم أطلق لاوون لنفسه عنان هواه فأمر في مطلع السنة 727 بإنزال أيقونة السيد المخلص من مكانها فوق أحد مداخل قصر خالكة. فاضطرب سكان العاصمة وهجم بعضهم يمنع إنزال الأيقونة. فصدَّهم رجال الأمن فاصطدم الفريقان ووقعت بعض الضحايا. فألقي القبض على المتظاهرين وجُلد بعضهم وشوّه البعض الآخر ونفي غيرهم.

ولم تلقَ دعاية لاوون آذاناً صاغية بين أساتذة جامعة القسطنطينية فغضب لكرامته وشوش عليهم. ولعله أقفل هذه المؤسسة. ولا صحة فيما يظهر لما جاء في بعض المراجع المتأخرة من أن لاوون أمر بإحراق مكتبة الجامعة.

واستوقدت دعاية لاوون في هذه السنة نفسها غضب الجند في ثيمة هيلاذيكي في بلاد اليونان نفسها فركبوا البحر وأقلعوا إلى القسطنطينية فوصلوا إلى مياهها في الثامن عشر من نيسان السنة 727. ولكنهم لم يقووا على النار الإغريقية فأخفقوا فأمر الأمبراطور برؤسائهم فذبحوا ذبحاً.

البطريرك والبابا: وكان لاوون يقظ الفواد لا يغفل عن النظر فيما أهمه. فظلّ حتى السنة 730 يتحين الفرص ويفاوض. ففي السنة 728 فاوض جرمانوس البطريرك المسكوني في أمر الأيقونات وزعم أن جميع البطاركة والأباطرة ضلوا سواء السبيل بما قاموا به من إكرام واحترام للأيقونات. ثم هول وأفزع فصفحه جرمانوس وخيّب أمله.

وكتب لاوون في هذه الأثناء رسالة إلى بابا رومة غريغوريوس الثاني واعداً وعداً كريماً في حال الموافقة على تحريم الأيقونات متوعداً بالخلع إن هو خالف الرغبة الملكية. فأنذر غريغوريوس المؤمنين بطغيان الأمبراطور وتيهه وحرزهم منه.

ويستدل مما تبقى من نصوص هذه الرسائل أن لاوون تذرع بالتوراة لتحريم الأيقونات فاستشهد بالفصل الثامن عشر من سفر الملوك الثاني فذكر “كيف أزال حزقيا المشارف وحطم الأنصاب وسحق حية النحاس التي كان موسى صنعها لبني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يقترون لها وسموها نحوشتان” وادعى أنه إنما يقتضي أثر هذا الملك الصالح. ومما احتج به لاوون في هذه الرسالة أنه اعتبر نفسه كاهناً وامبراطوراً. أما غريغوريوس فإنه عاب على لاوون اقدامه على ما فعل بدون مشاورة السلطات المختصة وأكّد له أن ما ورد في التوراة إنما جاء ليردع اليهود عن التعبد للأوثان.

ويلاحظ هنا أن اعتراض الثقاة على صحة هذه الرسائل وأصالتها قد تلاشى بعد ظهور البحث الدقيق الذي قام به العلامة جورج اوستروغورسكي أستاذ تاريخ الروم في جامعة بلغراد.

وفي أواخر السنة 729 أعاد لاوون الكرّة فبحث موضوع الأيقونات مرة ثانية مع جرمانوس وتصنع له في المودة وتملقه ولكن جرمانوس أصرّ على الاباء. فأصغى إليه الأمبراطور ولكنه حال عن مودته وسئم ألفته.

تحريم الأيقونات: وتوثَّق لاوون من أمره فدعا السيلنتيون Silention إلى جلسة قانونية في قصر دفنة في البهو ذي التسعة عشر سريراً في السابع عشر من كانون الثاني سنة 730. والسيلنتيون مجلس أعلى يضم أعضاء مجلس الشيوخ وكبار رجال الدولة والكنيسة. وكان لاوون قد أمر بإعداد بيان رسمي بتحريم الأيقونات. فلما اكتمل الحضور طلب الأمبراطور إلى البطريرك جرمانوس أن يوقع هذا البيان. فرفض البطريرك ورفع الأوموفوريون وقال إلى الأمبراطور: “أنا يوناني اطرحوني في البحر. لا يمكنني أن أعترف إلا بالدستور الذي أقرّه المجمع المسكوني” وخرج إلى بيت أبيه وأكمل أيامه فيه. وجاء أنه طُرد من البطريركية وأجبر على الإقامة في أحد الأديار ولكنه قول ضعيف.

واعتبر لاوون الكرسي القسطنطيني شاغراً فأوعز بارتقاء انسطاسيوس السنكلوس. فانتُخِب هذا بطريركاً مسكونياً في الثامن والعشرين من الشهر نفسه ودعا المجمع القسطنطيني إلى الانعقاد وحرَّم استعمال الأيقونات. وأرسل الرسائل السلامية ووجه إحداها إلى غريغوريوس الثاني بابا رومة وأعلمه بما فعل. فاعترض أسقف رومة وألحّ عليه بوجوب العودة إلى الأرثوذكسية.

وضيّق الأمبراطور والبطريرك الجديد على من أيّد الأيقونات وعذّبا عدداً كبيراً من المؤمنين وشوّها وأعدما. ولكن المراجع الأولية لا تمكننا من تعيين شهداء هذه الفترة. وجاء في سيرة اسطفانوس الأصغر أن سكان العاصمة فرّوا زرافات زرافات وأن والدي اسطفانوس الأصغر أودعا ابنهما هذا ناسكاً فنشأ راهباً.

موقف كنيسة أنطاكية: وكانت كنيسة أنطاكية لا تزال ميتمة لا راعي لها. ولكن ابنها البار يوحنا الدمشقي هبَّ للدفاع عن الدين القويم فصنّف رسائل ثلاثاً ردَّ بها على لاوون وأتباعه فأتحف الكنيسة الجامعة بحجج لاهوتية منطقية دامغة أصبحت فيما بعد حجة الكنيسة الرئيسية. ويعتبر بعض الثقات رسائله هذه أفضل ما صنّف لأنه أثبت فيها مقدرة في الاجتهاد فاق بها جميع أقرانه من علماء القرن الثامن. ولم يكتفِ قديسنا بقول بولس الرسول: “تمسكوا بالتقاليد التي تعلمتموها إما بكلامنا وإما برسالتنا” بل ذهب إلى أبعد من هذا فاعتبر الأيقونة رمزاً وسيطاً بالمعنى الأفلاطوني الجديد ثم ربط تكريمها بسر التجسد الإلهي وسر الخلاص مؤكِّداً أن من يحارب الأيقوناف ينكر حرمة شكل الإله المنظور ويهدد سرّ التجسد بالانهيار.

ويرى بعض رجال الاختصاص أن يوحنا الدمشقي تكلم في هذا الموضوع باسم يوحنا الخامس بطريرك أورشليم وزعيم كنيستي أورشليم وأنطاكية آنئذ وأن هذا ما جعله يهدد لاوون باللعنة والقطع. ومما يذكر لهذه المناسبة أن قديسنا اعترض على تدّخل لاوون في أمور العقيدة واعتبر البحث فيها من خصائص الكنيسة الجامعة وحدها.

وأدّى اهتمام لاوون بالدين إلى سلخ أبرشيات أسورية عن كنيسة أنطاكية وضمها إلى كنيسة القسطنطينية. فخسرت كنيستنا أربعة وعشرين أسقفاً ومتروبوليتاً. ولعل الظرف السياسي الحربي قضى بهذه التجزئة. فإن أسورية أصبحت بعد الفتح الإسلامي بعيدة عن أنطاكية خاضعة لأمبراطور الروم.

البابا غريغوريوس الثالث: (731-741) ودعا غريغوريوس الثالث إلى مجمع محلي في روما في أول تشرين الثاني من السنة 731. فحرم هذا المجمع كل من قاوم احترام الأيقونات وإكرامها. فحرم لاوون بدوره أسقف رومة من دخل أوقافه في كلابرية وصقلية ورفع سلطته الروحية عن الكنائس اليرية وكلابرية وسردينية وألحقها كلها بالبطريركية المسكونية. فبذر بعمله هذا شقاقاً في الكنيسة أدّى فيما بعد إلى عواقب وخيمة.

قسطنطين الزبلي: (740-775) وتوفي لاوون في السنة 740 فتسلم قسطنطين الخامس أزمة الحكم في القسطنطينة. وهو الذي أُطلق عليه لقب الزبلي Kopronymos لأنه أفرز في جرن العماد حين المعمودية. ويروى أيضاً أنه لُقِّبَ بالزبلي لأنه كان يحب الخيل. وما كاد يستوي على عرشه حتى انتزع المُلك منه صهره آرنافزدوس زوج أخته حنة. فاضطر قسطنطين أن يحاصر العاصمة واستولى عليها عنوة وقلع عيني صهره وأعين ابنيه ونفي الثلاثة معاً.

وتبنى قسطنطين مقاومة الأيقونات وقال قول رجال هذه المقاومة فأكّد استحالة تمثيل الله بواسطة المادة لأن المادة زائلة والله دائم. وقال إن ما يصح عن الله ينطبق على العذراء والقديسين لأنهم أصبحوا عند الله. فإذا ما مُثلوا بالمادة نزع عنهم شرف وجودهم أمام الله. وأضاف أن المسيح هو صورة الآب فإذا ما مثلناه بالمادة نزعنا عنه طبيعته الإلهية وأصبحنا من النساطرة. ويقول البطريرك نيقوفوروس أن قسطنطين صنّف رسالة في هذا الموضوع أكد فيها استحالة تمثيل طبيعتي المسيح الإله وأوجب اعتبار الافخارستيا صورة السيد الوحيدة. وهام قسطنطين في ضلاله فاستبدل اللفظ “ايبوستاسيس” الذي أقرّه الآباء في المجامع باللفظ “بروسيتون” فجارى بذلك من قال بالطبيعة الواحدة. ومن هنا قول ميخائيل السرياني اليعقوبي أن الخلقيدونيين نبذوا قسطنطين وأقواله لأنه استصوب بملء إرادته التحديات التي أقرّها الأرثوذكسيون أي اليعاقبة.

قسطنطين والصليب: ثم شرع الزبلي في اضطهاد الكنيسة فسخر بكل قديس وبالاحتفال به. ومنع الأعياد والأصوام. وحطّم الأيقونات وطلى جدران الكنائس بما يطمس الصور والرسوم. ولكنه احترم الصليب فزين به كل حنية ورسمه مكبراً على سقوف الكنائس وحفره في المسكوكات والأختام.

وجاء صليب هؤلاء المحطمين عريض الأطراف شبيهاً إلى حد معين بصليب فرسان مالطة. وظهر في بعض الأحيان في المصكوكات والأختام قائماً فوق مدرج صغير. وبدا أحياناً أخرى في مجموع من الأغصان المورقة متأثراً بشكل صليب النصر القسطنطيني. ولعل علاقة الصليب بالنصر كانت هي الدافع لاستمساك المحطمين بالصليب وإبقائهم عليه.

هيرارخية أنطاكية: وأنكر الأرثوذكسيون الأنطاكيون على لاوون وابنه بدعتهما وقبّحوا عملهما وكتب يوحنا الدمشقي رسائله في نقض هذه البدعة وتحريمها وأيّده في ذلك البطريرك الأورشليمي يوحنا الخامس كما سبق وأشرنا فكان خلاف ظاهر ملموس بين امبراطور الروم وبين كبار رجال الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية في بطريركيات أنطاكية وأروشليم والاسكندرية. فشفع هذا كله عند هشام ابن عبد الملك وضعفت ريبته في رعيته من الأرثوذكسيين فرخص لهم بالرجوع إلى حقوقهم القديمة بإقامة بطارقة لهم من أحبارهم البلديين. فانتخبوا راهباً أعزه هشام وأجلَّه فرقي السدة الأنطاكية في السنة 742 باسم اسطفانوس الرابع.

واشتد الجدل في هذه الآونة بين علماء المسلمين وبين الآباء المسيحيين فتخاصموا وتغالبوا في المناظرة يريد كل واحد إقحام خصمه. وتدخل بطرس متروبوليت دمشق في هذا الجدل وأيّده اسطفانوس الرابع البطريرك الأنطاكي الجديد فغضب الوليد الثاني خليفة هشام (743-744) لكرامة الإسلام والمسلمين فأمر باسطفانوس فقطع لسانه وتوفي في السنة 744. ثم أمر ببطرس فقطع لسانه أيضاً ونفي إلى “العربية السعيدة”. ونجا ثيودوروس أبو قرة أسقف حران ولعلّ السبب في ذلك أنه جادل أصحاب المشيئة الواحدة والطبيعة الواحدة.

وفي السنة 745 رضي مروان الثاني عن الكاهن الأرثوذكسي ثيوفيلكتوس ابن قنبرة الصائغ الرهاوي فأوعز بانتخابه بطريركاً على أنطاكية. فانتخب وتسلم عكاز الرعاية. وحرر الرسائل السلامية فوجهها إلى زملائه رؤساء الكنائس الخمس. واضطر أن يدافع عن سلامة العقيدة فضيق على الباقين من رهبان بيت مارون في منبج وفي وادي العاصي.

وكان بطرس القصار قد أباح للكرجيين (جورجيا اليوم، إحدى دول الإتحاد السوفييتي سابقاً) في النصف الثاني من القرن الخامس أن ينتخبوا كاثوليكوساً (بطريرك جورجيا يدعى الكاثوليكوس.. الشبكة) عليهم شرط أن تتم سيامته على يد البطريرك الأنطاكي. فلما تمّ الغزو الإسلامي وانقطعت العلاقات بين الكرسي الأنطاكي وبلاد الكرج شغر الكرسي الكاثوليكوسي كما شغر الكرسي الأنطاكي. وفي السنة 745 جاء وفد كرجي يفاوض ثيوفيلكتوس البطريرك في أمر الرئاسة. فدعا البطريرك الأساقفة إلى مجمع محلي وسمح للكرجيين أن ينتخبوا رئيسهم وأن يرسموه مستقلين شرط أن يذكروا البطريرك الأنطاكي ويؤدوا له مالاً سنوياً. وبقي الحال على هذا المنوال حتى السنة الألف تقريباً حينما حلّ البطريرك الأورشليمي محل البطريرك الأنطاكي في نظام الكنيسة الكرجية.

مجمع هييرية: (754) وطوى الزبلي فؤاده على عزيمة ماضية فراح في حوالي السنة 753 يستمزج الرعايا في أمر العقيدة التي كان قد عقد نيته عليها فأمر الولاة والمطارنة بعقد الاجتماعات لهذه الغاية. وبعد أن لاحت أشراط الفوز دعا الأساقفة إلى مجمع في قصر هييرية بالقرب من خلقيدونية في العاشر من شباط سنة 754. فالتأم في هذا الموعد ثلاث مئة وثمانية وثلاثون أسقفاً. ولم يظهر بينهم أي ممثل لكنائس رومة والإسكندرية وأورشليم وأنطاكية. وتوفي انسطاسيوس البطريرك القسطنطيني قبيل انعقاد هذا المجمع فتولى الرئاسة فيه ثيودوروس متروبوليت افسس. وكان قد اشتهر بعدائه للأيقونات. وعاونه في تسيير أمور المجمع كل من سيسينيو أسقف برجة وباسيليوس أسقف أنطاكية بسيدية.

وبحث الآباء المجتمعون أمر الأيقونات فتبنوا قول لاوون وابنه وأوجبوا نزعها. وأكّدوا أن تصوير المسيح بالمادة يعني واحداً من اثنين أما القول مع نسطوريوس بإمكانية فصل الطبيعتين وتصوير واحدة منهما وهي البشرية أو مجارة المونوفيسيين والقول معهم بطبيعة واحدة هي الإلهية. وأبى الآباء أن يتقبلوا شيئاً من آراء الزبلي الخصوصية. فأننا نراهم يؤكدون أن مريم هي والدة الإله وأنها أسمى المخلوقات تشفع مع سائر القديسين من أجل البشر. ومنع الآباء كل تخريب في الكنائس وكل تحطيم بدون موافقة البطريرك والأمبراطور.

وفي منتصف شهر آب من السنة 754 قدم الزبلي البطريرك الجديد قسطنطين سيلايون إلى الآباء المجتمعين. ثم أعلنت في السابع والعشرين خلاصة أعمال هذا المجمع مشفوعة بإرادة امبراطورية تقضي بالتنفيذ وتؤدي بقطع كل من جرمانوس القسطنطيني وجاورجيوس القبرصي ويوحنا الدمشقي. وانتحل الآباء المجتمعون الصفة المسكونية لهذا المجمع فاعتبروه المجمع المسكوني السابع.

تضييق واضطهاد: وتقوى قسطنطين الخامس الزبلي بقرارات هذا المجمع فاندفع في محاربة الأيقونات أكثر من ذي قبل وصب غيظه وبلاءه على الرهبان. فكم عين قلع وكم يد وأذن قطع فضلاً عن قتلهم. وأكره طائفة منهم على الزواج إكراهاً. واستعرض مرة فئة منهم في ميدان الهيبودروم موجباً على كل منهم أن يمسك بيد امرأة في أثناء العرض. ويقول ثيوفانس أن حاكماً من حكام آسية الصغرى (ميخائيل لاخانوذراكون) جمع رهبان ولايته وراهباتها فأمرهم بأن يرتدوا الأبيض ويتزوجوا حالاً ومن لم يطع فتسمل عيناه ويقصى إلى قبرص. فهنأه الزبلي قائلاً: لقد وجدت في شخصك رجلاً يحب ما أُحب وينفذ جميع رغباتي. وصادر الزبلي أملاك الأديرة وضمها إلى أملاك الدولة. وهكذا فرّ عدد كبير من الرهبان إلى إيطالية وجنوب روسيا وشاطئ لبنان وفلسطين. ويقدر الأستاذ اندريف الروسي عدد الذين فروا إلى إيطالية بخمسين ألفاً. وأشهر الشهداء في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة اسطفانوس الأصغر ومن هنا في الأرجح كان رأي الأستاذ اوسبنسكي الروسي أن المؤرخين ورجال اللاهوت في حرّفوا الحقائق وشوهوها عندما رأوا في هذه الحوادث حرباً ضد الأيقونات Iconomachia لأن الواقع أنها كانت حرباً ضد الرهبان Monachomachia.

موقف روما: وكان من جرّاء العنف الذي لجأ إليه لاوون وابنه قسطنطين أن نفرت رئاسة الكنيسة الغربية من حكومة رومة فتقربت من ملوك الغرب لتستعين بهم على دفع شر الاضطهاد. فأفتى البابا زخريا (741-752) في السنة 751 بخلع كليريك ملك فرنسة وتنصيب بيبينوس. وفي السنة 755 أقدم بيبينوس بجيش إلى إيطالية يحارب اللومبارديين فجعل البابا اسطفانوس الثالث (752-757) سيداً على كل ولايات الروم في إيطاليا. ولمّا طالب قسطنطين الزبلي بولاياته هذه أجابه بيبينوس أنه وهبه لكرسي رومة على عن حب لبطرس الرسول كيما تغفر له خطاياه. من هذا التباعد بين الفسيلفس والبابا وهذا التقارب بين البابا وبيبينوس زرعت بذور الإنشقاق في الكنيسة، البذور التي أدّت فيما بعد إلى الانشقاق العظيم.

arArabic
انتقل إلى أعلى