اهتمّ المؤرّخون المسلمون وشعراؤهم بذكر أهمّ الديارات (جمع دير) في البلاد التي خضعت للحكم الإسلاميّ. ويحدّد ياقوت الحمويّ الدير بقوله: “الدير بيت يتعبّد فيه الرهبان، وهو يكون في الصحارى ورؤوس الجبال، وإن كان في المصر (أي المدينة) كان كنيسة أو بيعة” (معجم البلدان)، ويضيف المقريزي: “الدير عند النصارى يختصّ بالنسّاك المقيمين به. والكنيسة مجتمع عامّتهم للصلاة”. وقد اهتمّ هؤلاء النَقَلة بوصف أبنية الديارات ورسومها وهندسة قلاليها ومعابدها، وما يحيط بها من حدائق وبساتين ودور ضيافة ومتنزّهات، كما وصفوا زيّ الرهبان والاحتفالات التي كانت ترافق بعض الأعياد، والنذور للاستشفاء من الأمراض والعاهات. من أشهر تلك الكتب التي دوّنت عن الديارات: كتاب “الديارات” لأبي الفرج الإصفهانيّ (صاحب كتاب الأغاني)، وكتاب “الديارات” للشابشتي، وكتاب “الديارات” لأبي الحسن السُمَيْساطي، و”ذكر ديارات النصارى” في كتاب الخطط للمقريزي، إلخ.
لقد استرعى انتباه هؤلاء المؤلّفين أن تكون الديارات كلّها في ضواحي المدن تطلّ على أنهر وحدائق، أو في قمم الجبال والروابي، حتّى سمّي أحد تلك الديارات ب”الدير الأعلى” لأنّه يقع في أعلى جبل مطلّ على نهر دجلة. ومن أحسن الشعر الذي قيل في الديارات العالية ما نظمه الشهاب العمريّ الدمشقي في وصف دير السيق القريب من القدس:
وأشرقَ في سود الغمام، كأنّما تشقّقَ ليلاً عن جلابيبه الفجرُ
وقام على طودٍ عليٍّ، كأنّما مصابيحه، تحت الدجى، الأنجم الزهر
وزُفَّت إليه الشمس من جنب خدرها، وناغاه جنح الليل في أُفقه البدر
وكانت الديارات تحصَّن بالأسوار الشاهقة وأبواب الحديد خوفاً من اللصوص وقطّاع الطريق الذين، على الرغم من كلّ هذه التحصينات، كانوا ينجحون في اقتحامها ونهبها وقتل رهبانها، وممّا رواه صاحب مرآة الزمان: “صعد عشرون رجلاً من الغُزّ (جنس من الأتراك) إلى دير النصارى في ميافارقين فيه أربعمائة راهب فذبحوا منهم مائة وعشرين واشترى الباقون نفوسهم بستّ مكاكي (جمع مكّوك وهو جزء من الدرهم) ذهب وفضّة”. وكانت القباب، وبخاصّة البيزنطيّة الطراز، تعلو بعض الديارات، كقباب دير يوسف بالموصل، وعُرف بعضها الآخر بالبهاء ونفاسة البناء كدير الرصافة الذي قال فيه ياقوت: “رأيته وهو من عجائب الدنيا حُسناً وعمارة”، وكان يتردّد على هذا الدير الخليفة الأمويّ هشام بن عبد الملك. وياقوت نفسه يروي أنّ النصارى كانوا يتبارون في الديارات وزينتها، فبنوا دياراتهم في “مواضع النزهة الكثيرة الشجر والرياض والغدران. وجعلوا في حيطانها الفسافس (الفسيفساء) وفي سقوفها الذهب والصور”. وكان دير سرياقُس في مصر ثريّاً “بفضّة قناديله وذهب صلبانه”.
كما أورد الكتّاب ولع الشعراء بذكر الصور، وهي كانت إمّا محفورة وإمّا مرسومة بأزهى الألوان. فذكروا ديراً في جوسية (حمص) كان فيها “هيكل مفروش بالمرمر وصورة (السيّدة) مريم في حائط منتصبة كلّما ملت إلى ناحية كانت عينك إليها”. واشتهرت أيضاً في دير القُصَيْر (مصر) “صورة مريم في حجرها المسيح في غاية إتقان الصنعة”. وقال فيها الشاعر محمّد بن عاصم:
صورةٌ من مصوّر فيه ظلّت فتنةً للقلوب والأبصار
أطربتنا بغير شدوٍ، فأغنت عن سماع العيدان والمزمار
ومن نفائس الصور أيضاً صورة دير الباعوث على شاطئ نهر الفرات التي كانت في هيكله “دقيقة الصنعة عجيبة الحسن. يقال إنّ لها مئتين من السنين لم تتغيّر أصباغها ولا حالت ألوانها”. ولمّا زار العمريّ دير المصلّبة بظاهر القدس، رأى فيها صوراً يونانيّة في غاية من محاسن التصوير. للأسف، لقد ضاعت تلك الصور واندثرت، بسبب إحراقها وتلفها إبّان الفتن وعصور الاضطهادات والمظالم.
وتناول هؤلاء الكتّاب القلالي والصوامع في وصفهم، فيقول الخفّاجي: “القلاّية وجمعها قلايا هي بناء مرتفع كالمنارة تكون لراهب ينفرد فيها”. وكانت لكلّ راهب قلاّية خاصّة يفصلها عن الدير وعمّا جاورها بستان فيه أصناف الأشجار والثمار والبقول والرياحين، يهتمّ الراهب بزراعتها ويرتزق منها. ويحكى عن دير قُنّى قرب بغداد أنّه كان فيه مائة قلاّية لرهبانه والمتبتّلين فيه.
في الواقع، تنازع الكتّابَ المسلمين صنفان من الميول، فمنهم مَن هجا الرهبان، ومنهم مَن أحبّهم ومدحهم، فوصفوهم بالتقشّف والزهد والانقطاع عن الدنيا للصلاة والعبادة. كما أثنوا على علمهم وأدبهم وفلسفتهم وحفظهم للنحو والشعر والطبّ والألحان، مع خفّة أبدان وأرواح وأخلاق أصفى من الراح (أي الخمر). وهذا ما ردّده الشاعر الخالديّ في أبيات مدح فيها رهبان دير مرّان الأرثوذكسيّ بدمشق حين قال:
أقمتُ فيه إلى أن صار هيكله بيتي، ومفتاحه للحسن مفتاحي
منادماً في قلاليه رهابنة راحت خلائقهم أصفى من الراح
قد عدّلوا ثقل أديان ومعرفة فيهم بخفّة أبدان وأرواح.
عن نشرة رعيتي 2001