الصليب هو أبرز سمات المسيحيّة ورموزها. ويفتخر المسيحيّون بالصليب ويضعونه في أعناقهم وعلى عتبات بيوتهم، ويرسمون الصليب على وجوههم عند صلاتهم ولدى اعتمادهم على الله، وتوكّلهم على كلّ عمل يقومون به كالأكل والخروج إلى العمل ومباشرتهم قيادة السيّارة… هذا هو الحال اليوم، ولكن كيف كان الحال خلال حكم الدولة ظالإسلاميّة لبلادنا، وكيف تعامل المسلمون مع المسيحيّين فيما يخصّ الصليب؟
كان المسلمون ينعتون المسيحيّة بأنّها “دين الصليب” والمسيحيّين بأنّهم “أتباع الصليب” و”عبّاد (أو عبَدة) الصليب”، لاعتقادهم أنّ الصليب وثن يُعبد كسائر الأوثان. وقد تمّ تخصيص بطريرك الروم الأرثوذكس بلقب “كبير الملّة الصليبيّة”، أمّا بعض الملوك والأمراء المسيحيّون فقد أطلقت عليهم ألقاب “جمال الطائفة الصليبيّة” و”ذخر الملّة الصليبيّة” و”كنز الطائفة الصليبيّة”…
تنسب كتب الفقه الإسلاميّ إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب الشروط المتشدّدة _ المعروفة بالشروط العمريّة – التي فرضها الشرع الإسلاميّ على النصارى كمثل منع إظهار الصليب في الأماكن العامّة. ولكنّ الدارسين يجمعون على القول بأنّ هذه الشروط وُضعت بعد عمر بزمان طويل ونُسبت إليه بسبب أهمّيّته في الإسلام، ويذخر التاريخ الإسلاميّ بالروايات التي تبرّئ عمر من هذه الشروط. فعندما مرّ خالد بن الوليد ببعض بلاد النصارى، عاهدهم على “أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة وعلى أن لا يضربوا نواقيسهم في أيّ ساعة شاؤوا إلاّ في أوقات الصلوات وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيّام عيدهم”. وقد نقل أبو الفرج الإصفهانيّ عن موت والدة الحارث بن أبي ربيعة (وهو مسلم) الرواية الآتية: “ولمّا ماتت حضر الأشراف جنازتها وذلك في عهد عمر بن الخطّاب، فسمع الحارث من النساء لغطاً فسأل عن الخبر فعرِّف أنّها ماتت نصرانيّة وأنّه وُجد الصليب في عنقها وكانت تكتمه ذلك فخرج إلى الناس فقال: “انصرفوا يرحمكم الله فإنّ لها أهل دين هم أولى بها منّا ومنكم” فاستُحسن ذلك منه وعجب الناس من فعله”. هذا الاستحسان إن دلّ على شيء فهو يدلّ على رجاحة الأخلاق وسعة النفوس وقلّة العداء للنصارى في العهد الأوّل للإسلام.
في الواقع، لم يكفّ النصارى عن الخروج بالصلبان في الأسواق والطواف بها خارج الكنائس خلال احتفالاتهم ببعض الأعياد كالشعانين والفصح. ولأبي نوّاس الشاعر المشهور قصيدة يقول فيها:
بمارت مريم وبيوم فصح وبالقربان بالخمر العتيق
وبالصلبان ترفعها رماح تلألأ حين تومض بالبريق
ولفظ “مارت” هو سريانيّ ويعني مؤنث “مار”، أي السيّدة.
وللثرواني قصيدة يقول فيها:
خرجنا في شعانين النصارى وشيّعنا صليب الجاثُليق
وكان مشهوراً أيضاً خروج النصارى المقدسيّين في عيد الشعانين وطوافهم في مدينة القدس بالقراءة والصلوات حاملين الصليب.
كان الخليفة العبّاسيّ المتوكّل (توفى 861 م.) هو أوّل مَن أصدر الأوامر للتضييق على المسيحيّين، ومن جملة نواهيه أن لا يظهروا في شعانينهم صليباً، كما منعهم أن يشمعلوا (لفظ سريانيّ يعني إشعال النار في الطريق). هذا بعد أن كان بعض الخلفاء كالمأمون وبعض رجالات الدولة يحضرون هذه الاحتفالات التي خلّدها الشعراء بذكرها في أشعارهم، كأبي نوّاس حين قال:
وأيّام الشعانين المفدّى وشمعلة النصارى في الطريق
والشاعر جحظة (وهو غير الجاحظ):
إذا نطق القسّيس بعد سكوته وشمعل مطران ولاح فتيل
والحاكم الثاني الذي اشتّهر عنه أنّه اضطهد المسيحيّين هو الحاكم بأمر الله الفاطميّ الذي أمر العام 4001 للميلاد بمنع النصارى “من إظهار زينة الكنائس في عيد الشعانين وتشدّد عليهم وضرب جماعة منهم”، والمقصود بزينة الكنائس ما فيها من صلبان وأناجيل وأيقونات وشموع وسائر الذخائر. ثمّ هو نفسه الذي منع إظهار الصليب علانيّة، وفي هذا يقول المؤرّخ يحيى بن سعيد الأنطاكيّ: “أمر الحاكم ألاّ يظهر صليب ولا تقع عليه عين ولا يُضرب ناقوس، فنُزعت الصلبان من الكنائس وطمس آثارها من ظاهر البيَع والكنائس والهياكل”.
سادت قبل الإسلام عادة تقلّد المسيحيّين الصليب في اعناقهم كشعار لهم وعنوان لإيمانهم، واستمرّت هذه العادة بعد الإسلام حيث اعتُبرت السمة التي تميّز النصارى عن غيرهم من سكان الدولة. فأبو نوّاس يقول:
قد أقام الصليب في الجيد إلفاً فهو يختاره على كلّ إلف
والإلف هو العشير والصديق الذي تألفه. كما وضع المسيحيّون رسم الصليب على كلّ مقتنياتهم، حتّى دنان الخمر، وفي هذا يقول الشاعر ابن حمديس:
معتّقة في يدي راهب على دنّها ختمة بالصليب
وظلّ الصليب في الأعناق بركة وفخراً إلى أن أذلّ الخليفة المتوكّل _ ومن بعده الحاكم بأمر الله – المسيحيّين بفرضه عليهم أن يجعلوا في أعناقهم، في كلّ مرّة يخرجون فيها من بيوتهم صليب خشب وزنه أربعة أرطال، وقيل خمسة أرطال على عهد الحاكم. كما أمر الحاكم بأمر الله بتكسير الصلبان وحرقها.
لقد لعبت أمزجة الحكّام المسلمين الدور الأكبر في جعل الصليب علامة لعلاقة احترام وودّ متبادل مع المسيحيّين أو علامة لعلاقة متوتّرة يعيبها الإذلال وعدم الاحترام. قدر المسيحيّين أن يكونوا على مثال سيّدهم المسيح الذي جعل الصليب أداة حبّ وبذل مجانيّ وعطاء بلا حدود، وبعد أن كان الصليب أداة لعنة أضحى بدم المسيح أداة لخلاصهم. حسب هؤلاء المسيحيّين المضطهَدين أن يقولوا مع الرسول بولس: “أمّا أنا فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح” (غلاطية 6، 14).
عن نشرة رعيتي
الأحد 9 ايلول 2001
العدد 36