الرد على رافضي التقليد

يتلخص تعليم الكنائس البروتستانتية بشأن الكتاب المقدس بما يلي: “ان كلام الله المتضمن في العهد القديم والجديد هو القانون الوحيد الإلهي المعصوم للإيمان والعمل” ويعنون بهذا:

  • 1.”أن أسفار العهدين هي كلام الله المكتوب بالهام الروح القدس، وأنها لذلك معصومة من الغلط ولها سلطان إلهي.
  • 2.انها تتضمن كل ما أعلنه الله دستوراً دائماً للكنيسة وللإيمان والعمل.
  • 3.انها واضحة حتى يقدر الشعب أن يفهم منها كل ما هو ضروري للخلاص باستعمال الوسائط المعهودة وبمعونة الروح القدس دون احتياج مفسّر أرضي معصوم”.

معنى هذا الكلام الرفض الضمني للتسليم وتجريده من أية سلطة وفائدة، وهو ما يتعارض مع تشديد الكتاب المقدس على أهمية التسليم كأساس ومصدر، بحسب ما أوضحنا. وكذلك مع سلطان الكنيسة المؤسسة من الرب يسوع والمقادة من الروح القدس أي قواعد الإيمان والعمل حين تدعو الحاجة.

وبخصوص الكنيسة، فلأن البروتستانت يعتقدون بعصمة الكتاب وحده، وأنه كاف ليفسر نفسه بنفسه، يعتقدون بمبدأ تفوق الكتاب على الكنيسة. ويبررون ذلك بأنه لو قلنا العكس لخفضنا من قيمة كلمة الله أمام الكنيسة أي من قيمة الله أمام البشر.

وللجواب على الفكرة الأخيرة نقول أنه لا مجال للحديث عن مفاضلة من هذا النوع بين الكتاب والكنيسة ولا حتى للحديث عن الكتاب خارج الكنيسة، لأن ما أعلن عنه الكتاب يحيا في اطار شركة جسد المسيح أي في الكنيسة، ولأن الكنيسة هي السلطة التي كتبت الكتاب، والسلطة التي انتخبت بواسطة آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهد الجديد من بين كثرة من الكتب المتداولة في ذلك الحين، مؤكدة صدق فحواها وحقيقة كتابتها مباشرة من الرسل والإنجليين، والسلطة التي سهرت دائماً على نقاء التعليم واستقامته، لأن الروح الذي فيها هو بالضبط الروح الذي نطق بالأنبياء والرسل والهم كتّاب العهد الجديد. وهنا نذكر بان المسح آتى لكي يؤسس كنيسة، وبالتالي فالكتاب جعل من أجل الكنيسة، وليس العكس.

ومن الواضح أن البروتستانت رفضوا سلطة الكنيسة التي يتكلم فيها الروح، لأنهم كانوا في صراع مع كنيستهم الكاثوليكية التي أعثرتهم بتجاوزاتها وتسلطها. ولا ضطرارهم أن يقبلوا بشهادة كنيسة القرون الأولى عن قانونية الأسفار المقدسة، فيتحججون بأنهم لم يأخذوا قانون الكتاب المقدس من كنيسة رومية التي كانت في القرن السادس عشر ولا المعاصرة لهم، وبأن وظيفة الكنيسة بشأن الأسفار المقدسة تنحصر في المحافظة عليها والشهادة لها ولا تمتد إلى العصمة في تفسيرها. ولكن المشكلة الكبرى هنا أن البروتستانت يحددون سلطة الكنيسة بالطريقة التي تلائمهم ويرفضون منها ما لا يعجبهم كما يجعلون سلطانها وعصمتها يسريان على القرون الأولى، ثم يخفّان و يتوقفان بالنسبة للقرون التي تلتها بحجة ضلاله وانحرافها. فإذا قبلنا بوجهة النظر هذه، أي أن كنيسة المسيح ككل ضد ضلت بعد القرون الأولى، ألا يعني هذا أن أبواب الجحيم قد قويت عليها (متى 16: 18)؟ وأن المسيح قد تركها وتخلى عنها (متى 28: 20)؟ وأنها لم تعد عمود الحق وقاعدته (1تي 3: 15)؟ وأن الروح القدس قد عجز عن إرشادها ومساعدتها (يو 14: 17 و16: 13)؟ وأن الله قد سحب من الكنيسة السلطة التي أعطيت لها (متى 28: 18-20 ويو 20: 21-23 وأف 3: 21)؟؟؟

ولكي نتخلص من تناقض هذه الأسئلة الواضح مع إعلان الكتاب الذي يحتكم إلي البروتستانت الا يكون من الأجدى  أن نسأل: الا توجد كنائس آخرى على الأرض غير كنيسة الغرب البابوية؟ وأليس من الممكن أن تكون من بين هذه الكنائس من حافظت على استقامة رأي الكنيسة الأولى؟؟؟ ولعل من أسباب تركيز المصلحين البروتستانت المتطرف على الكتاب وحده، هو اهمال كنيسة القرون الوسطى الغربية له، ومنعها الشعب عملياً من قراءته، لسماحها بطباعته فقط في اللغة اللاتينية التي لا يفهمها. وفي هذا اختلفت أيضاً الكنيسة البابوية عن كنيسة الشرق الأرثوذكسية التي كانت دائماً تحبذ وتشجع شعبها على قراءة الكتاب المقدس. والدليل أنه كان عادة، وكتاب يترجمه مرسلوها إلى لغات الشعوب المتنصرة حديثاً.

أما من جهة وضوح الكتاب المقدس وقدرة الشعب على فهم كل ما هو ضروري لخلاصه بمعونة الروح القدس، فالكتاب نفسه يشهد أن في أسفاره أشياء عسرة الفهم يحرّقها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب لهلاك أنفسهم (2 بطر 3: 16). وبما أنه يوجد كثيرون من غير العلماء وغير الثابتين، ويوجد في الكتاب الكثير من الأشياء العسرة الفهم، ترجع ليس فقط إلى صعوبة أساليب بعض كتّابه، وإلى الجهل بالبيئات والظروف التي كتبت فيها أسفاره بل وإلى السمو اللامتناهي للحقائق الإلهية التي يعلنها. فمن البديهي أن يقول أي قارئ للكتاب المقدس مع الخصي الحبشي عندما سأله الشماس فيليبس: “العلك تفهم ما أنت تقرأ، فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد” (أع 8: 31).

بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسة، التسليم القويم وتعليم الرسل والمعبر عنه عبر العصور بمختلف الأساليب المتلائمة مع احتياجات المؤمنين هو مفسر الكتاب ومكمله، وبالتالي فهو مرشد كل راع وكل مؤمن، إلى معرفة أسرار الخلاص بمعونة النعمة الإلهية التي تعطى عبر الحياة (حياة الإيمان والجهاد) في الكنيسة الحاملة لمواهب الروح القدس.

وأكبر برهان على عدم كفاية الكتاب المقدس لتفسير نفسه بنفسه، وأن الإنسان يخطئ فعلاً في فهمه دون إرشاد سليم ودون حياة روحانية كنسية أصيلة، هو خلاف الفرق البروتستانتية فيما بينها في تفسيره، ليس فقط على امور ثانوية، بل على قضايا أساسية تتعلق بالخلاص مثل التعيين والمسبق وغيره. هذا عدا عن الهرطقات الخطيرة التي وقعت فيها بعض الفرق والتي يصفها البروتستانت انفسهم بالبدع كالسوسينيين والمورمون وشهود يهوه إلخ… كما أن اضطرار الفرق البروتستانتية لاتخاذ دساتير إيمان منذ البداية وهو ما يتعارض مع مبدأ الحرية في تفسير الكتاب المقدس لهو دليل آخر على أن الكتاب بحاجة لمرشد في التفسير، وإلا لما استمرت هذه الفرق ذاتها في الوجود. وهو ما يحدث فعلاً، حين يبطل التشدد عن فرقة ما في المحافظة على دساتير إيمانها، فتعطي الحرية أكثر للأفراد في التفسير فتنشأ فروع جديدة لهذه الفرقة، وهو ما يفسر التوالد غير المتوقف لفرق وشيع جديدة عند البروتستانت.

arArabic
انتقل إلى أعلى