تحيي الكنيسة الأرثوذكسيّة تذكار القدّيس الروسيّ أندره روبليف، رسّام الأيقونات، أو كاتب الأيقونات، كما يحلو للبعض أن يقول، في الرابع من شهر تمّوز. ولد حوالى العام 1360، ويُظنّ أنّه عاش لفترة في بيزنطية حيث تعلّم فنّ الأيقونات على يد الرسام الشهير ثيوفانس اليونانيّ. نسك في دير “المخلّص الرحيم” في موسكو، كما قضى فترة من حياته الرهبانيّة في دير الثالوث “اللافرا”. رسم العديد من الأيقونات وجداريّات الكنائس الشهيرة ببهائها إلى اليوم. ورقد قدّيسنا سنة 1427 بعد حياة قضاها في حبّ الله وإبراز جمال صنائعه من خلال موهبته الفنّيّة. أعلن المجمع المقدّس للبطريركيّة الروسيّة قداسة أندره روبليف عام 1988، لمناسبة الألفيّة الأولى لمعموديّة الروس. غير أنّه كان قد بدئ بتكريمه قدّيساً منذ القرن السادس عشر في دير اللافرا.
لا شكّ في أنّ أشهر أيقونة رسمها أندره روبليف إنّما هي “أيقونة الثالوث الأقدس” . وهذه الأيقونة المحفوظة في غاليري تريتياكوف في موسكو فريدة من نوعها، من حيث إنّها الأيقونة الوحيدة المقبولة كنسيّاً للثالوث الأقدس*. لقد اتّخذ روبليف من واقعة حدثت في العهد القديم هي زيارة الثلاثة الملائكة لإبراهيم عند بلّوطات ممرا (سفر التكوين، الفصل 18)، فيضفي عليها تفسيراً أرثوذكسيّاً ينوجز في أنّ الملائكة ليسوا سوى رمز للثالوث الأقدس. وقد درجت، قبل روبليف، عادةٌ حميدة تتمثّل في رسم أيقونة “ضيافة إبراهيم”، يظهر فيها إبرهيم مع سارة زوجته يخدمان ثلاثة ملائكة جالسين على مائدة.
تفسير روبليف لضيافة إبرهيم كونها ظهوراً للثالوث تندرج في سياق تقليد تفسيريّ قديم. أمّا عند الآباء فتعدّدت التفسيرات للحديث عن الثلاثة الملائكة مَن يكونون. فمنهم، كأصحاب التراث الأنطاكيّ والسريانيّ، مَن رأى في ظهور الملائكة ظهوراً لله نفسه. ومنهم، كالآباء الكبادوكيّين، مَن رأى فيهم ظهوراً لـ”كلمة الله”، المسيح المتجسّد فيما بعد. ومنهم، كالقدّيسين امبروسيوس أسقف ميلانو وأوغسطينس أسقف هيبو، مَن قال في هذه الواقعة أنّها ظهور للثالوث الأقدس نفسه مع التأكيد على وحدته. من هنا، يحذف روبليف من أيقونته إبرهيم وسارة ليذكّر المتأمّل فيها بأزليّة السيّد المسيح القائل: “قبل أن يكون إبرهيم أنا كائن” (يوحنّا 8: 58).
لم يبتدع أندره روبليف، إذاً، موضوعاً جديداً للأيقونة. فرسمُ الله محظور في الكنيسة، وواضحة الوصيّة الإلهيّة الآمرة: “لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة…” (خروج 20 :4) غير أنّ روبليف لم يرسم الله نفسه، بل واقعة ظهور الملائكة التي نظرها إبرهيم وسارة بعينيهما وعاشا أحداثها. كما أنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ ينطلق من قول الربّ يسوع: “مَن رآني فقد رأى الآب” (يوحنّا 14: 9) ليشرّع الأيقونة، ويشرّع رسم الربّ يسوع “ضياء مجد الله وصورة جوهره وضابط الجميع بكلمة قوّته” (عبرانيّين 1 :3). هكذا نستطيع القول إنّ روبليف لم يجازف برسم الثالوث نفسه: الآب والابن والروح القدس، بل رسم حادثة ورد ذكرها في الكتاب المقدّس. وبدل أنّ يفسّر الحادثة بالكلام، ككلّ الآباء، فسّرها بالخطوط والألوان.
يعبّر روبليف في أيقونته عن وحدة الثالوث الأقدس بتشابه الثلاثة الملائكة، وبالدائرة الواحدة التي تمّ رسمها حول رؤوس الثلاثة. الملاك الأوّل، ملاك اليسار المرسوم لثلاثة أرباع الوجه، يشير إلى الآب “غير المدرك” الذي لا نعرف عنه شيئاً. لذلك تمّ تصويره بلباس غير واضح، حتّى لا نقول بلا لون تقريباً، وذلك للإشارة إلى الإبهام الذي يحيط به، ولكن أيضاً لأنّنا لا نعرف شيئاً عن الآب إلاّ ما كشفه لنا الربّ يسوع: “الله لم يره أحد قطّ. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر” (يوحنّا 1 :18).
الملاك الثاني، ملاك الوسط، الذي يواجهنا ويظهر لنا بشكل واضح، يرمز إلى الابن المتجسّد، يسوع المسيح. لباسه بلون صاف وجليّ، أزرق وبنّي. الأزرق يرمز إلى السماء والألوهة، أمّا البنّي الداكن فيرمز إلى الأرض والبشريّة. ووراءه ترتفع شجرة جذورها في الأرض وأغصانها تمتدّ نحو السماء. هذه الشجرة ترمز إلى عود الصليب الذي صار بواسطة يسوع شجرة الحياة في الجنّة، السلّم المصعدة إلى السماء، والذي بواسطته اجتمعت السماء والأرض، فانعدمت الحدود بينهما.
الملاك الثالث، ملاك اليمين المرسوم أيضاً لثلاثة أرباع الوجه، يرمز إلى الروح القدس المانح الحياة الذي ينمي ويوجد جميع الكائنات. لذلك تمّ تصويره باللباس الأخضر، لون الحياة وفرحها. الهالة المستديرة في الأيقونة تكتمل ولا تنغلق، وهي تنفتح على الكأس المقدّسة الموجودة في وسط الأيقونة على المائدة. هنا الإشارة واضحة إلى القدّاس الإلهيّ، أي إلى الكنيسة مجتمعةً، حيث يتمّ الدخول إلى حضن الآب والسكنى معه منذ هذا الدهر الحاضر. الملكوت السماويّ والحياة الأبديّة يبدآن من هذه الحياة الدنيا ويمتدّان إلى ما لا نهاية.
لقد رسم روبليف أيقونة الثالوث الأقدس، فتقدّس هو وغيره ممّن تشدّد إيمانهم بالتأمّل فيها والصلاة أمامها. هذه الأيقونة ترفعك عن الأرض لتضعك في حضرة الله الدائمة، لأنّها لم تُرسم إلاّ لكي تكون صلاةً ومناداةً بالإيمان وعبادةً. ولا يسعنا في ختام قولنا عن القدّيس أندره روبليف إلاّ أن ننضمّ إلى جوق المنشدين: “طوبى للذين يحبّون جمال بيتك يا ربّ”.
تُعيد له الكنيسة في 4 تموز.