التناسخ عند بدعة العصر الجديد

التناسخ (أو التقمص) هو انتقال نفس الإنسان بعد موته إلى جسد آخر لكي يتمكّن من الارتقاء حتى يبلغ الألوهة. وهذا المعتقد سائد في ديانات الشرق الأقصى كالهندوسية والبوذية، كما كان معروفا قديما عند بعض الفلاسفة اليونانيين كفيثاغورس وأفلاطون وعند الغنوصيّين (وهم أصحاب المعرفة أو العرفانيون)، وعند بعض الفلاسفة والأدباء المعاصرين. والتناسخ يقوم أيضا على مبدأ الفصل في الإنسان بين الروح والجسد، إذ يُعتبر الجسد من العالم المادي الرديء الذي لم يصنعه الله، وهو ليس سجن للروح السامية التي تتوق إلى التحرر. وهذا يذهب ضد الإيمان المسيحي الذي يعتبر أن الجسد مقدّس وهو ” هيكل الروح القدس” (1 كورنثوس 6: 19 ) وليس سجناً له. ولا ننس في هذا السياق التذكير بأن الجسد هو الذي ينال المعمودية وهو الذي يتناول الأسرار المقدسة وهو الذي يُمسح بالميرون والزيت المقدس… الجسد إذاً ليس سجناً ولا مادة مدنَّسة بل هو مكان للتقديس ولسكنى الله.

ويؤْمن مَن ينتمون إلى التيار المعروف اليوم باسم ” العصر الجديد” (new age) بالتناسخ واستحضار الأرواح والسِحْر والتنجيم والتبصير والتأمُّل التجاوزي وغيرها من الممارسات الشاذة البعيدة عن الإيمان المسيحي. ويكتسب هذا الفكر مريدين يتكاثرون يوما فيوما، وبخاصة في الغرب، وعندنا أيضاَ. ما يعنينا، نحن المسيحيين، من هذا الموضوع أن غالبية أنصار مذهب التناسخ يحاولون أن يبنوا افتراضاتهم على استشهادات من العهد الجديد، أي أنهم يحاولون إضفاء الطابع المسيحي على بدعتهم، مع اعترافهم أن الكتاب المقدس لا يذكر صراحةً التناسخ. النص الأول الذي يستند إليه هؤلاء موضوع المقابلة بين ايليا النبي ويوحنا المعمدان، فالمسيح يقول عن المعمدان: “فإن شئتم أن تفهموا، فهو ايليا المنتظَر رجوعه” (متى 11: 10-14 ؛ انظر أيضا متى 17: 10-12؛ مرقس 6:14-15و9: 10-13 ). ويستخلصون من هذا الكلام أن يوحنا هو ايليا نفسه وقد وُلد ثانية. غير إن الموضوع هنا يتّصل بتواصل رسالة ايليا، لا بشخص ايليا، ورسالته هي دعوة إلى التوبة والاستعداد لاستقبال الرب، وهذا ما كان ينادي به يوحنا في البرّية، ” توبوا فقد اقترب ملكوت السموات“. المقابلة، إذاً، هي بين رسالتي ايليا ويوحنا وليس بين شخصيهما. كما يورد الإنجيلي لوقا، في السياق ذاته، اعتقاد بعض الناس بـ “أن نبياً من الأنبياء الأولين قام” (9: 8) وهذا دحض للتناسخ. من جهة أخرى، ليس في العهد القديم كلام عن التناسخ، بل فيه إشارات كثيرة إلى القيامة.

النص الثاني هو آية شفاء المولود أعمى في إنجيل يوحنا (9: 1- 9 ) والسؤال الذي طُرح على السيّد المسيح: “مَن أخطأ، هو أم أبواه، حتى وُلد أعمى؟”. لا بدّ من التذكير بأن التيارات اليهودية كانت متعددة في زمن يسوع. فمن اليهود مّن اعتقد بأن الجنين، وهو في رحم أمه، قادر على ارتكاب الخطيئة. ومنهم مَن اعتقد بأن المرأة تحبل خاطئة. ومنهم مَن اعتقد بالقضاء السابق، أي أن الله يرى الأمور مسبقا قبل حصولها، ويحكم تاليا على الإنسان… والسؤال أعلاه يعبّر عن إحدى هذه المعتقدات ولا يعبّر إطلاقاً عن إيمان بالتناسخ. ولكن الأهم هو جواب يسوع الذي يرفض كل هذه الادعاءات، ويركز على أهمية الخلاص وإظهار مجد الله من خلال شفاء الأعمى، إذ كانت الآيات والعجائب علامات تدلّ على اقتراب ملكوت الله. ولنا في جواب نيقوديُمس خير دليل على عدم إيمان اليهود بالتناسخ، فنيقوديمس تساءل قائلاً: “كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يعود إلى بطن أمّه ويولد؟” (يوحنا 3: 4 )، وذلك حين قال له الرب: ” ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا وُلد من علٍ” (يوحنا 3: 3 ). لو كان نيقوديمُس مؤمنا بالتناسخ لما سأل سؤاله هذا.

أما النصوص الأخيرة التي يستند إليها هؤلاء فهي النصوص التي تتحدث عن الولادة الجديدة بالماء والروح (يوحنا 3: 3؛ تيطس 3:5 و1بطرس 1: 23 )، والتي يعتبر البعض أنها تتضمن تعاليم عن الولادة الجديدة بمعنى التناسخ. غير أنه من الواضح أن هذه النصوص تتحدث في الواقع عن المعمودية. الولادة الجديدة ليست تناسخا، بل قيامة من بين الأموات يحياها المعتمِد. وهذا ما يتوسّع في شرحه الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية، حين يقول: “أوَ تجهلون إننا، وقد اعتمدنا جميعا في يسوع المسيح، إنما اعتمدنا في موته فدُفنّا معه في موته بالمعمودية لنحيا نحن أيضا حياة جديدة كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب؟” (6: 3-4 ). وفي تفسيره للآية:” ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا وُلد من الماء والروح ” (يوحنا 3: 5)، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ” كأن الله يريد أن يقول: قديماً خَلقتُ الإنسان من ماء وتراب، ولكن صُنعي لم يتحقق حسبما رجوتُ. الإناء انكسر، لهذا لن أُعيد صنعه بالماء والتراب، بل بالماء والروح “. الولادة الجديدة ليست تناسخا، بل خلقٌ جديد ينجزه الله بالمعمودية .

لا شكّ أن عدم الفهم لأصول تفسير الكتاب المقدس قد أدّى بمعتقدي التناسخ إلى الابتداع. ففي الكتاب كثير من الآيات التي تتحدث عن قيامة الموتى في اليوم الأخير لينالوا ثوابهم أو عقابهم. وهنا يجدر التذكير بما كتبه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: ” وكما أنه كُتب على الناس أن يموتوا مرّة واحدة، وبعد ذلك الدينونة، فكذلك المسيح قُرِّب مرة واحدة ليزيل خطايا جماعة الناس. وسيظهر ثانية، بمعزل عن الخطيئة، للذين ينتظرونه للخلاص” (9: 27-28 ). هذا يقودنا إلى القول إن الاعتقاد بالتناسخ يعني إنكار قيامة المسيح من بين الأموات وتاليا إنكار كلّ الإيمان المسيحي. وبذلك يضع المؤمن بالتناسخ نفسَه خارج الكنيسة وسِرّ التدبير الإلهي. فالرسول يقول: “فأن لم يكن للأموات مِن قيامة، فإن المسيح لم يقم أيضا. وإن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضا باطل” ( 1 كورنثوس 15: 13- 14 ). في الواقع، إذاً، لا يستطيع الإنسان أن يكون مسيحيا ويؤمن في الوقت عينه بالتناسخ.

عن نشرة رعيتي
الأحد 31 كانون الثاني 1999

نقلاً عن: نشرة رعيتي
أبرشية جبيل والبترون
الأحد 31 كانون الثاني 1999
العدد 5

arArabic
انتقل إلى أعلى