شرح صلاة السحر

يبدأ اليوم الليتورجي في كنيستنا اعتباراً من صلاة الغروب في اليوم السابق. وتتوزع الصلوات على مدار اليوم وتنقسم إلى سبع صلوات تسبيحية يومية بالإضافة إلى صلاة النوم والصلوات الفردية الشخصية. إن كل هذه الصلوات ما هي إلا تهيئة للقداس الإلهي، تسبيح التسابيح. ولا تزال هذه الصلوات ممارسة في كنائس الأديرة يُضاف إليها العديد من القوانين التضرعية الرائعة التي يسكب فيها المرء ذاته أمام الله بتواضع وانسحاق تعبيراً عن محبته وشكره له.

يمكن اعتبار صلاة السحر أكثر الصلوات اليومية التصاقاً بالقداس الإلهي وأكثرها تهيئة له، خاصةً في كنائس الرعية ذلك لأن صلاة السحر فيها تسبق القداس الإلهي مباشرة.

تتلى صلاة السحر في الصباح الباكر كما نستدل من اسمها وفيها نقدم لله أولى نشاطاتنا الذهنية والجسدية والقلبية كباكورة أعمالنا.

بالنسبة إلى العهد القديم تشير صلاة السحر إلى خلق الله للنور ولذلك تنتهي بترتيل المجدلة: “المجد لك يا مظهر النور” وفي الأديرة تتزامن هذه المجدلة مع ظهور أولى خيوط النور. وهذا يذكرنا أيضاً بساعة قيامة الرب يسوع حين حضرت النسوة حاملات الطيب إلى القبر وكان “سحراً باكراً”. وبما أن نهار الأحد مخصص في الدور الكنسي الأسبوعي لقيامة الرب يسوع فإن صلاة السحر في هذا اليوم تتكرس للقيامة المقدسة سواءً بتمجيد المسيح الناهض من القبر أو بالتأمل بعظمة حدث القيامة.

تبدأ صلاة السحر بتمجيد الثالوث القدوس، ثم تقرأ ستة مزامير تسمى مزامير الدينونة يقف فيها المصلي وكأنه أمام عرش الرب في ساعة الدينونة الرهيبة. وفي أثناء ذلك يتلو الكاهن سراً 12 افشين (صلاة) تزخر بالتماجيد الشكرية إزاء رحمة الله ومحبته وعنايته بنا، فهو الذي يصنع كلَّ شيءٍ لخير حياتنا، ويرسل معونته إلى الذين يلتمسونه، ويصلي الكاهن باسم الحاضرين فيقول: “أيها السيد يا من قال “ليشرق من الظلمة نور” وبدافع حنوه الخاص أراحنا بنوم الليل، وأنهضنا إلى تمجيد صلاحه، والتضرع إليه، اقبلنا الآن أيضاً ساجدين لك، وشاكرين إياك على قدر طاقتنا…”.بعد ذلك نرتل ممجدين حضور المسيح المخلص إلينا “الله الرب ظهر لنا، مبارك الآتي باسم الرب” ثم نرتل طروبارية القيامة وأخرى لوالدة الإله وبها نشدد على قيامة الرب يسوع ومجيء الخلاص إلى العالم، ونمدح البتول التي منها ورد المسيح إلينا.

نقرأ قطع نتأمل بها في قيامة الرب يسوع ونستعرض عظمة آلام الرب الخلاصية التي جلبت لنا الفرح، ونمجد غلبته على الموت والجحيم وإقامته للمائتين مبطلاً بذلك الخوف من الخطيئة بقوة صليبه. بعد هذه القطع نرتل التبريكات الخاصة بالقيامة وتدعى بهذا الاسم بسبب تكرارنا لعبارة: “مبارك أنت يارب علمني حقوقك”. تعتبر هذه القطع من أجمل ما نرتله لتمجيد قيامة الرب يسوع وهي تنقلنا إلى قبر الواهب الحياة مع النسوة حاملات الطيب لنختبر معهن فرح إعلان هذا الخبر فترتكض قلوبنا فرحاً يعبر عنه اللحن الخامس الفرِح الذي نرتل به هذه القطع.

بعد إعلان القيامة الذي جرى في ترتلينا للتبريكات تقرأ قطعة “الايباكويي” التي تعني باللغة العربية “الطاعة” وترمز إلى طاعة النسوة حاملات الطيب لأمر الملاك لهن بإعلان بشرى قيامة الرب للتلاميذ. وبعدها يتلو القارئ ما يسمى “الأنافاثمي” وتعني باللغة العربية “المراقي” وكانت تقرأ بالتناوب مع آيات المزامير (119-133) التي كان اليهود يتلونها وهم يصعدون درج الهيكل، وهي تقرأ قبل إنجيل السحر كدلالة على ارتقاء النفس إلى هيكل الله السماوي لذلك فهي مفعمة بالشوق الإلهي أي حنين المؤمن إلى السكنى في بيت الرب إلهنا “لقد ابتهجت روحي بالقائلين لي: لنسع إلى ديار الرب وفرح قلبي جداً وصليت صلاة دائمة”. كما يزينها تمجيدنا للروح القدس الذي هو ينبوع كل حكمة ومنبع الحياة والكرامة فهو الذي يكلل الشهداء ويتكلم بالأنبياء ويصون الخليقة كلها. في نهاية هذه القطع نرتل البروكيمنن وهو آية من المزامير تتكلم عن انتصار الله وبالتالي عن قيامة الرب يسوع مثل: “استيقظ يا ربي وإلهي بالأمر الذي أوصيت ومجمع الشعوب يحوط بك، قم يا ربي وإلهي لأنك تملك إلى الأبد”.

كما ذكرنا سابقاً، فإن قطع “المراقي” هيأت بالكلام عن ارتقاء النفس نحو الله كما مهد البروكيمنن لإعلان قيامة الرب يسوع. وهكذا يأتي إنجيل السحر الخاص بيوم الأحد ليعلن لنا قيامة الرب يسوع ومن ثم ظهوراته لتلاميذه بعد قيامته من بين الأموات. هذه الظهورات كثيرة العدد وقد استمرت مدة 40 يوماً، ذكر الإنجيليون بعضها وعددها 11. تنقل لنا هذه المقاطع خبرة لقاء الكنيسة مع عريسها الناهض من الموت وما تحمله من فرحٍ.

يتميز إنجيل سحر الأحد أن الكاهن يقرؤه من داخل الهيكل واقفاً في الجهة اليمنى من المائدة في حين يقف الشماس في الجهة المقابلة بشكلٍ يذكرنا بوقوف الملاكين عند قبر الرب يسوع “فرأت (مريم) ملاكين بثياب بيض جالسين حيث وضع جسد يسوع، أحدهما عند الرأس والآخر عند القدمين”. بعد إعلان القيامة هذا يقرأ المتقدم قطعة من صلوات عيد الفصح: “إذ قد رأينا قيامة المسيح فلنسجد للرب القدوس يسوع البريء من الخطأ وحده، لصليبك أيها المسيح نسجد ولقيامتك المقدسة نسبح ونمجد، لأنك أنت هو إلهنا وآخر سواك لا نعرف وباسمك ندعو. هلموا يا معشر المؤمنين نسجد لقيامة المسيح المقدسة. لأنه هوذا بالصليب أتى الفرح لكل العالم، فلنبارك الرب في كل حين ونسبح قيامته لأنه إذ احتمل الصلب من أجلنا أباد الموت بالموت”. وبعدها نصلي المزمور الخمسين ويترافق معه خروج الكاهن بالإنجيل لكي يقبله المؤمنون ويتبركوا منه قائلين كلَّ واحد في نفسه “المجد لقيامتك المقدسة يا رب”. إن خروج الكاهن بالإنجيل يذكرنا بخروج البشارة السارة بقيامة الرب إلى كل العالم. فما الإنجيل سوى إعلان المسيحية أن المسيح صلب وقام ومنح الخلاص للبشر.

بعد المزمور الخمسين تتلى طلبة “خلص يارب شعبك” التي نذكر فيها أسماء عدة قديسين من مختلف الأزمنة والأماكن وذلك شهادة على استمرارية الكنيسة على مر العصور. هؤلاء القديسون هم الكنيسة الظافرة التي تلتف حول الرب يسوع القائم من بين الأموات، وهم يحيطون بنا ويراقبوننا لكي يشجعونا، ويشهدون على جهادنا نحن الذين على الأرض كما يقول الرسول بولس: “لذلك نحن أيضاً إذ تحيط بنا مثل هذه السحابة من الشهود فلنطرح بسهولة كلَّ ثقلٍ والخطيئةَ المحيطة بنا، ولنسابق بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع” (عبر1:12-2).

بعد طلبة “خلص يارب شعبك” نقرأ القنداق وهو قطعة مديح أو تقريظ للعيد أو لصاحب العيد. كان القنداق في السابق يتألف من عدة قطع 20-30 كما هو الحال في أبيات المديح التي تتلى في الصوم الكبير. لكن مع الوقت اختصر القنداق إلى قطعة أو قطعتين تظهر معنى العيد. إن كلمة قنداق في اللغة اليونانية مشتقة من كلمة “قصير” وهو اسم الخشبة التي كانت تلف عليها أوراق البردي. بعد ذلك نرتل “الكاطافاسيات” وهي قطع معينة خاصة بالأعياد السيدية التي تسبق أو تتبع تلك الفترة. تسمى بهذا الاسم الذي يعني باللغة اليونانية “قطع النزول” وذلك لأن الأسقف يعتلي العرش عند ترتيلها في حين ينزل المرتلون عن كراسيهم الخشبية. قطع الكاطافاسيات تربط العهدين القديم والجديد فهي من جهة أولى مرتبطة بتسابيح من الكتاب المقدس وهي: تسبحة النبي موسى عندما اجتاز مع شعبه البحر الأحمر فمجد الله قائلاً “لنسبح الرب لأنه قد تمجد” (خر1:15-19)، تسبحة موسى النبي عندما كتب الناموس (تث1:32-43)، تسبحة حنة النبية أم صموئيل النبي لما حل عقرها فقالت “قدوس أنت يارب ولك تسبح روحي” (1مل1:2-10)، تسبحة حبقوق النبي لما عاين تنازل الكلمة وهتف “المجد لقدرتك يارب” (حب2:3-19)، تسبحة أشعياء النبي التي قال فيها “أنت إلهنا ولا نعرف آخر سواك” (أش9:26-20)، تسبحة يونان النبي عندما كان في جوف الحوت فقال “من جوف الجحيم صرختُ فاستجبت لي يارب” (يو3:2-10)، تسبحة الفتية الثلاثة التي رتلوها في أتون النار “مبارك أنت يا إله آبائنا وإلهنا” (دا26:3-56)، التسبحة الثامنة هي أيضاً للفتية الثلاثة “سبحوا الرب وارفعوه إلى الأدهار” (دا57:3-88)، وأخيراً من العهد الجديد هناك تسبحتان الأولى هي تسبحة والدة الإله (لو47:1-55) والتي نرتل معها “يامن هي أكرم من الشاروبيم” وكذلك تسبحة زكريا النبي (لو68:1-79). إن هذه التسابيح تستعرض لنا مراحم الله الغزيرة تجاه المؤمنين الذين يتكلون عليه، إنها خبرة البشرية مع أبيها السماوي من الخروج من عبودية مصر ولغاية الخروج من عبودية الموت الذي افتتحه تجسد الكلمة من العذراء مريم.

عن رسالة مطرانية حلب

arArabic
انتقل إلى أعلى