صلاة الغروب

هي أول صلاة في ترتيب الخدم التسبيحية اليومية.

لا نملك اي شهادة على وجود خدمة خاصة للغروب في الكنيسة الاولى منفصلةً عن سر الشكر ومائدة المحبة. مع ذلك، كانت فكرة تقديس المساء بصلوات خاصة مألوفة في الكنيسة الاولى، وقد عبّرت عنها ببعض الاشكال الطقوسية البسيطة المعروفة في كنائس “البيوت” التي يذكرها بولس في رومية 4 :16.

كان الرسل يهودا. وقد حافظوا، وتلاميذهم ايضا، على العبادة في هيكل اورشليم وفي المجامع. ولم ينفصل المسيحيون الأوائل عن هذه العبادة الا في وقت لاحق، وبقوا، رغم ذلك، محافظين على الصلوات كما كانت تقام في الهيكل والمجامع.

يرى الباحثون ان اساس صلاة الغروب هي في طقس إضاءة النور في التقليد اليهودي للعبادة. ففي العهد القديم، وفي كتاب الخروج تحديدا، نرى ان كل يهودي كان يُطلب منه ان يؤدي خدمة مساء خاصة في خيمة الاجتماع (خروج 30 :8؛ لاويين 24 :1-4). كان العنصر الرئيسي في هذه الخدمة إضاءة سراج ووضعه “خارج خيمة الشهادة في خيمة الاجتماع”. وكان السراج يضيء “من المساء حتى الصباح امام الرب باستمرار”. بعد دمار الهيكل في اورشليم، لم يتوقف اليهود عن هذه العادة. ولما صار بعضهم مسيحيا لم يهملوا هذا التقليد. بل اعطوه معنى جديدا مؤسَّسا على قاعدة البشارة الرسولية: المسيح المخلص دعا نفسه “نور العالم” (يوحنا 8: 2). واصبحت إضاءة النور عند المساء تذكارا للذي هو “النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم” (يوحنا 1: 9).

وقد حظي طقس إضاءة النور هذا بقبول المسيحيين اياه في حياتهم اليومية حيثما حلوا. واصبح فيما بعد جزءا من عبادتهم العامة. وارتبط اساسا بالموائد المسائية العامة، التي كانت تدعى “موائد المحبة”. يقول ترتليانوس (القرن الثالث) في وصفه احدى الموائد المسيحية: “بعد غسل الأيدي وإدخال الأنوار، يُطلب من كل شخص ان يقف وينشد نشيدا لله على حسب استطاعته”. وتشير نصوص اخرى من القرون الاولى ان مزامير واناشيد تناسب النور كانت تُرتل عند ادخال الشموع الى مكان الاجتماع. ولعلّ ترتيلة “يا نوراً بهيا” التي نقولها اليوم في صلاة الغروب واحدة من هذه الأناشيد. فالقديس باسيليوس الكبير (القرن الرابع) يذكرها ويصف كلماتها بأنها قديمة. ويقول البعض انها تعود الى القرن الثاني او الثالث. هكذا، نجد، في القرن الثالث، ان تقليد الشكر على نور المساء قد أصبح طقسا في الكنيسة. وقد اتخذ شكلا طقوسيا يناسب تمجيد ابن الله، يسوع المسيح، الحاضر مع المسيحيين في اجتماعهم للصلاة.

في ترتيبنا الحالي، اختفى طقس إدخال النور من صلاة الغروب في الأيام العادية، لكنه لا يزال ممارسا في صلاة الغروب المرتبطة بالقداس السابق تقديسه في الصوم. ففي هذه الخدمة يخرج الكاهن، بعد تلاوة القراءات، حاملا شمعة مضاءة، وقائلا: “نور المسيح مضيء للجميع”. وما المحافظة على هذا الطقس في ايام الصوم الا دلالة على اصالته في الخدمة، وقدم عهده، اذ هو اساسها. كل المزامير والصلوات الاخرى ترتبط بهذا الطقس، وتجد معناها فيه بشكل عميق. فالمزمور 103، “باركي يا نفسي الرب” الذي به نبدأ خدمة الغروب الحالية، ولئن كان موضوعه الخَلْق، الا ان التشديد فيه هو على ان خلق العالم تم بحكمة، اي بنور، ومن هنا ارتباطه “بخدمة النور”. والنور في المفهوم السامي هو الترتيب والنظام في الأشياء على عكس الظلمة التي تشير الى الخواء والفوضى. الله هو الذي فصل الأزمنة والأوقات، وجعل كل شيء في ترتيبه. فلم تبقَ الظلمة اذ ذاك مخيفة بعد ان اصبحت في نطاق خلق الله الحاصل في النور. والنور، في نهاية المطاف، هو يسوع المسيح الذي به خلق الله كل شيء.

يعبّر عن هذا القديس كبريانوس اسقف قرطاجة ( بين 200 و210 – 258 ) في كلامه عن صلاة الغروب اذ يقول: “ايضا، عند غروب الشمس، وانتهاء النهار، ينبغي بنا ان نرفع صلاة المسيح الشمس الحقيقية والنهار الحقيقي. عند رحيل شمس هذا العالم، اذا صلينا وطلبنا ان يعود الينا النور من جديد، فنحن انما نصلي لمجيء المسيح، الذي يعطينا نعمة النور الذي لا يغرب … وعندما يعود الليل، ويتكرر منتصرا، حسب قوانين هذا العالم، فلن يكون هناك أذىً ينبع من ظلمة الليل على اولئك الذين يصلّون، لأن اولاد النور لهم نهار حتى في الليل. فهل هنالك وقت، يا ترى، يكون فيه بلا نور ذاك الذي يحمل النور في قلبه؟ وهل هناك وقت لا يكون فيه شمس ونهار لمن له المسيح شمس ونهار؟”.

صلاة الغروب كما نمارسها اليوم تحمل عناصر كثيرة كانت موجودة في ترتيب الخدمة كما كانت في القرون الاولى. تتألف هذه العناصر، كما في صلاة السحر، من مزامير، وصلوات، واناشيد هي اساس الخدمة، وهي التي تعود في اصلها الى الممارسة العبادية في المجامع اليهودية كما عرفها الرسل والمسيحيون الاوائل. حتى القرن الرابع كانت هذه العناصر تشكل صلاة الغروب، مع بعض الاختلافات في التفاصيل والممارسات من كنيسة الى اخرى.

في ممارستنا الحالية، تُفتتح صلاة الغروب بعبارة ” تبارك الله الهنا”، هذه لم تكن عبارة الافتتاح منذ البدء، بل كان يقال عوضاً عنها “مباركة هي مملكة الآب…”، وذلك لأن صلاة الغروب كانت مقدمة للقداس الذي كان يُقام عندالمساء. لما انفصل القداس عن صلاة الغروب، صارت تفتتح كسائر الصلوات العادية.
بعد الافتتاح يُتلى مزمور الغروب، 103 “باركي يا نفسي الرب”، الذي يتكلم عن خلق الله للعالم ووضعه في ترتيب تام. هذا المزمور كان جزءاً من خدمة الغروب منذ العهود الاولى، ويعتقد البعض انه مأخوذ من صلاة المساء في المجامع اليهودية. اضيفت اليه مزامير اخرى اهمها المزامير 140، 141، 129 “يا رب اليك صرخت” وما يليها، وكانت هذه المزامير ترتل بشكل تناوبي. ومع نشوء الحركة الرهبانية في القرن الرابع ازداد عدد هذه المزامير في الاديرة. وقُسِّم كتاب المزامير على ايام الاسبوع، بحيث صار لكل يوم مزاميره التي تتلى فيه. ولا تزال عادة تلاوة هذه المزامير معروفة اليوم في الاديرة.

بعد تلاوة مزمور “يا رب اليك صرخت”، ترتل قطع خاصة باليوم الذي تُقام فيه صلاة الغروب. هذه القطع لم تكن معروفة قبل القرن السابع. ظهرت مع ازدهار كتابة الاشعار الدينية في الاديرة، وخصوصاً في دير القديس سابا في نواحي اورشليم، والذي ضمّ كباراً من المؤلفين الكنسيين امثال البطريرك صفرونيوس (+644)، ويوحنا الدمشقي (+749)، وثيوفانس (+850).

الجدير ذكره في هذه المرحلة انه اثناء تلاوة مزمور الغروب يقرأ الكاهن صلوات تسمى “صلوات النور”. هذه لم تكن لتُتلى بصوت منخفض دون ان يسمعها الشعب. هي عنصر اساسي وقديم في صلاة الغروب، مرتبط بمعناها كخدمة للنور. وقد كانت هذه الصلوات في الممارسة القديمة تعقب مجموعات المزامير والطلبات التي كانت تتلى في بداية صلاة الغروب. يتراوح عددها بين الستة والسبعة على حسب الممارسة، وهي تقترب في معناها من المزامير التي كانت ترافقها.

بعد الانتهاء من تلاوة القطع، يخرج الكاهن من الهيكل حاملاً مبخرة، تتقدمه شمعة مضاءة، ويطوف في صحن الكنيسة ثم يدخل الهيكل مرّة اخرى متمما ما يسمى “دخولاً”. هذا كان الدخول الحقيقي للاسقف والشعب الى الكنيسة الذي كان يترافق وادخال النور المتمثل بالشمعة المضاءة. بعد الدخول ترتل “يا نوراً بهياً” وهي ترتيلة عريقة في القدم تحمل كل معنى الغروب. يُظهر “الدخول” الطابع الاحتفالي للخدمة، وهو لا يُتمَّم اذا كان الغروب عادياً.

في الخدمة الاحتفالية، وفي اعياد القديسين، تصير هنا قراءة مقاطع كتابية من العهد القديم، وهي بدورها عنصر قديم في اجتماعات المسيحيين للعبادة.

يلي ذلك طلبات، وقد كانت الطلبات في ترتيب الخدمة القديمة امراً اساسياً بحيث أُتممت مطوّلة كما تظهر لنا الوثائق القديمة (كتاب التنظيمات الرسولية، وايثيريا). بعض ما تحويه هذه الوثائق لا يزال موجوداً في خدمتنا الحالية مع اختلافات بسيطة في التعابير.

في صلوات الغروب الاحتفالية يتم في بعض الكنائس في هذه المرحلة ما يُسمّى “زياح الليتين”. بعد الطلبات يخرج الكاهن، والاسقف، من الهيكل في زياح يتبعه الشعب ويتوجهون كلهم الى النارثكس، او مؤخرة الكنيسة، حيث تُتلى قطع وطلبات، وتذكر المناسبة المعيَّد لها. اصل هذه الخدمة في كنيسة اورشليم حيث كان الاسقف مع الشعب يخرجون من الكنيسة بعد الانتهاء من صلاة الغروب، ويتوجهون الى الاماكن المقدسة. هذه العادة انتقلت الى الكنائس الاخرى، ولكن، بدل الخروج خارج الكنيسة، صاروا يذهبون الى النارثكس ويتلون صلوات. وقد تطوّرت هذه الخدمة في الاديرة، اذ دخلت اليها عناصر كثيرة اهمها تبريك الخبزات الخمس التي نقيمها اليوم في بعض الاعياد المهمة. حين كانت تقام سهرانيات طويلة في الاديرة، كان يبارك خبز وخمر ويقدمان للرهبان، في هذه المرحلة، ليساعداهم على الاستمرار حتى النهاية. وقد حفظنا نحن هذه العادة منفصلة في احيان كثيرة عن زياح الليتين.

بعد الليتين يُقرأ ما يسمى “الابوستيخن” او “ما يسبق القطع”، وهو عبارة عن آيات من المزامير تتلى قبل بعض القطع المتعلقة بالمناسبة. بعدها تُقال “الآن تطلق عبدك”، وهي قديمة في خدمة الغروب تأتي على ذكر النور. ثم تختم الصلاة.

صلاة الغروب كما نمارسها اليوم اذاً، عبارة عن جمع تقاليد مختلفة تكوّن بعضها لدى المسيحيين الاوائل بتأثرهم بعبادة المجمع، وبعضها في الاديرة بعد القرن الرابع. بالاضافة الى عناصر اخرى دخلت من ممارسات الكنائس المختلفة. ليست الخدمة رهبانية الاصل كما يدعي البعض، دون ان ننكر ان بعض العناصر فيها تشكل في جو رهباني. وقد كانت صلاة الغروب ممارسة في الكنيسة الاولى معظم ايام الاسبوع مع الصلوات اليومية الاخرى. هدف هذه عندهم كان تقديس الزمان بتقديمه دوما الى الله من خلال الصلاة المشتركة. وكان لصلاة الغروب معنى خاص، وهو حقيقة وجود المسيح في الكنيسة، برمزية النور. من هنا ايضا ان صلاة الغروب هي صلاة الكنيسة مجتمعة وليست صلاة فردية. بها تتقبل الكنيسة النور الحقيقي الذي هو المسيح، وتمجد الله في خلقه الحسن.

تحرير وتجميع الشبكة
عن نشرة رعيتي 1994 و1998

arArabic
انتقل إلى أعلى