Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

مقدمة

في موضعين مختلفين من إنجيل متى وردت عبارتان تختصان بالصلاة تبدوان كأنهما تناقض إحداهما الأخرى. ففي الموعظة على الجبل علّم الرب يسوع الجموع أن يصلوا “في الخفاء”، أي أن تكون الصلاة انفرادية، على حد قوله “أغلق بابك”: فيكون الإنسان في شركة مع الآب السماوي وحده (متى 6: 5). ولكن في موضوع آخر وفي مناسبة أخرى علّم الرب يسوع بضرورة الصلاة الجمهورية بقوله: “إذا اتفق اثنان منكم على الأرض في شيء يطلبانه فإنه يكون لهما” (متى 18: 19).

فهل من خلاف أو تناقض بين هاتين الطريقتين للصلاة؟ أو أنهما ممكنتان فقط معاً؟ الغرابة أن الواحدة ترفض وجود الأخرى. فعلى الإنسان أن يتعلّم كيف يصلي منفرداً، حيث يعرض حاجاته وضعفاته أمام الآب السماوي، ربنا وإلهنا، في حديث سري شخصي. والذين يعتادون هذه الصلاة الانفرادية يستطيعون دون سواهم أن يجتمعوا روحياً وأن يوحدوا طلباتهم بعضهم لأجل البعض الآخر. إن الصلاة الجمهورية تتطلب التدريب الانفرادي أولاً.

ومع ذلك فالصلاة الفردية ممكنة فقط بالنسبة إلى الجماعة. ليس إنسان مسيحياً بنفسه ولنفسه بل هو عضو في الجسد أو الكنيسة. وحتى في الخفاء، في “المخدع”، يصلي المسيحي كفرد من جماعة المخلّصين، لأنه في الكنيسة يتمرس على الخشوع والتعبد. وعليه فإن الطريقتين ضروريتان، إحداهما تكمّل الأخرى، وهما حالتان لا يمكن التفريق بينهما لكونهما ظاهرتين متلازمتين لعمل تعبّدي واحد، ومن الخطر الاكتفاء بإحداهما دون الأخرى.

فالصلاة الفردية قد تقود الفرد إلى التصوف الفردي والتقوى الانعزالية وعندما يحاول بعض هؤلاء الأفراد الذين لم يسبق لهم التروض على الصلاة أن ينضموا إلى غيرهم لا ينتج عن ذلك صلاة جمهورية بل صلاة قصدها الظهور والرياء. لذلك فإن نظام الكنيسة يتطلب من كل مؤمن أن يعد نفسه للصلاة الجمهورية أثناء صلاته الفردية “في المخدع”. يبدأ الفرد بالصلاة في بيته أولاً يم يذهب إلى الكنيسة ويشترك مع باقي الأخوة في تقديم الإكرام والتسبيح لله وطلب حاجاتهم.

إن تعبير “الصلاة الفردية” كما يستخدمه الناس في أيامنا الحاضرة هو خاطئ مضل وقد يؤدي بالإنسان إلى الظن أن الصلاة مسألة شخصية يتصرف بها كما يشاء، بينما هي بالحقيقة تمهيد لازم للصلاة الجمهورية، لا غنى عنها، تساعد الأفراد على أن يرفعوا تضرعاتهم معاً “بقلب واحد وفم واحد”. ولا شك أن الصلاة الفردية لا تقتصر على الاستعداد فقط، لأن الإنسان المسيحي حتى في مخدعه يجب ألا يصلي لأجل نفسه فقط، لأنه لا يجثو أمام الآب السماوي وحده، والآب السماوي ليس أباه وحده بل أبونا جميعاً. وعليه أن يتذكر أن هناك كثيرين غيره يجثون أمام الآب السماوي نفسه في وقت واحد. فليس له أن يتضرع من أجل حاجاته الخاصة فقط بل من أجل حاجات الآخرين أيضاً. فالصلاة الفردية في ذاتها يجب أن تكون جامعة شاملة. والقلب المنسكب أمام الله يجب أن يتسع بحيث يحتضن جميع حاجات الجنس البشري وآلامه. وفقط بهذه الروح يستطيع الأفراد أن يجتمعوا معاً كإخوة ويتفقوا معاً على أي شيء يطلبونه من الرب. ومن ناحية أخرى نستطيع القول أن الصلاة الجمهورية هي أيضاً واجب فردي ومسؤولية كل مسيحي يساهم في حياة المخلَّصين المشتركة. وقد سبق للقديس كبريانوس في شرحه الرائع للصلاة الربانية أن شدد على الميزة الجماعية لكل الصلوات والعبادات المسيحية.

العبادة الفردية

لقد أعدَّت الكنيسة الأرثوذكسية سلسلة من الصلوات الصباحية والمسائية ويُنتظر من كل فرد أن يمارسها. إن معظم هذه الصلوات قديمة وهي مجموعة في كتاب اسمه “كانونيكون”. هذا الكتاب هو قانون للصلاة لا يستوعب كل شيء، إنما هو مرشد بسيط يكمَّل بتضرعات أخرى طوعية. غير أن الهدف الأساسي ليس في تكرار القانون فحسب بل هو في فهم المعنى الروحي.

“عند نهوضك من النوم قبل أن تبدأ النهار انتصب بورع أمام الله الناظر كل شيء ثم ارسم إشارة الصليب قائلاً: باسم الآب والابن والروح القدس. آمين. وبعد أن تكون قد دعوت باسم الثالوث الأقدس إلزم الصمت لحيظة لكي تتحر أفكارك من كل أمر عالمي. ثم ردد الصلوات التالية بكل قلبك دون عجلة”. هذه مقدمة صلاة الصباح. ثم الصلوات التي تتبع هي منقاة ومنظمة بالترتيب لكي تذكِّر الفرد ببعض المواضيع التي يجب ألا يهملها في صلاته اليومية. وعند الضرورة يمكن اختصار هذه الصلوات.

وثمة تنبيه في نهاية قانون الصلاة الصباحية نورد نصه فيما يلي: “الأفضل أن تردد بعض الصلوات المدونة هنا فقط بانتباه وتأمل. لا ترددها جميعها باستعجال دون أي تئنِّ”. إن الصلاة ليست مجرد ترداد بعض العبارات الموضوعة بل إنها قبل كل شيء شركة مع الله الحي. ويُفترض في المسيحي ويُطلب إليه أن يمارسها. ولا شك أن هناك درجات للارتفاع التعبدي بل سلّماً ترتقي تدريجياً. وهذه بعض النصائح تتعلق بالصلاة موجهة إلى النساء العلمانيات من رجل عظيم عاش في القرن التاسع عشر هو الأسقف ثيوفانيس (1815-1894).

يقول أنه: قبل أن يرفع الفرد صلاته لله يجب أن يرددها لنفسه، فيقرأها ويتفهم معناها جيداً ثم يتأمل في كل كلمة فيها لكي يحيط بمعناها إحاطة تامة. وهذه لا تحسب صلاة بعد، بل مجرد تلاوة استعدادية. فيجب ألا يحيد عنها البتة. إن في الأمر نظاماً وطاعة وباستطاعة الفرد أن يختار صلاة قصيرة جداً غير أنه يجب أن يتقيد بها تماماً. ليشعر أولاً أنه بحضرة الله وما تتضمنه ليس الخوف والرعدة وحسب بل المحبة والعبادة أيضاً. مشكلة الصلاة هي الانتباه، هي الوقوف أمام الله وألا نلهى عنه بالهموم الدنيوية. يجب أن تتلى كلمات الصلاة بحيث تكون ذات أثر في النفس وإذا استرعت الانتباه كلمة خاصة فليتوقف المرء عندها ويصغي ولا يسرع إلى غيرها. وكل هذا ليس بالخطوة الأولى. إن كتُب الصلوات هذه قد وضعت للمبتدئين فقط. إنها بداية العبادة. فإذا تعلّمنا لغة من اللغات نتعلم الجمل ثم ندع الكتاب وقتاً ما وبعد ذلك نباشر الحديث بها. هكذا نتعلم الصلاة أيضاً، فإننا نتعلم بعض الأمثلة أولاً ثم بعد ذلك نبدأ بالتكلم إلى الله. ولا شك أن كتب الصلوات مفيدة ولا غنى عنها وخصوصاً للمبتدئين. أما الهدف الرئيسي فهو التحدث إلى الله. وليست الصلاة محصورة ببعض ساعات النهار بل على كل مسيحي أن يشعر في نفسه أنه في حضرة الله على الدوام. فهدف الصلاة هو الشركة مع الله وعندئذ يبدأ الروح القدس أن يتحدث إلى القلب بسرور وحرارة. ما أبعد هذا من الشكلية والتحجر الطقسي. فالصلاة هي أن ينشأ الإنسان الجديد روحياً في آدم القديم.

والقديس الروسي سيرافيم ساروفسكي الذي عاش في القرن الماضي كان يشدد أيضاً على ذلك في إرشاده بسطاء العلمانيين. إن هدف الحياة المسيحية الحقيقي الوحيد هو اقتناء الروح القدس. كان الأسقف ثيوفانيس عالماً وأستاذ لاهوت ومديراً لمعهد لاهوتي عالٍ لمدة سنتين. أما القديس سيرافيم فلم يذهب إلى المدرسة ولم يتلقَ أية ثقافة دنيوية بل حصَّل جميع معرفته من الكتب المقدسة ومن تقليد الكنيسة الطقسي وبالطبع من حياته التعبدية. إنهما كليهما يقولان قولاً واحداً.

وهذا ما قاله القديس سيرافيم: “إن هدف الحياة المسيحية الحقيقي هو اقتناء روح الله القدوس. إن الصلاة والصوم والسهر وجميع الأعمال المسيحية الأخرى مهما تكن صالحة بحد ذاتها لا تصل بنا إلى هدف الحياة المسيحية مع أنها واسطة أساسية لبلوغ ذلك الهدف. فيجب أن نبدأ بإيمان حقيقي بربنا يسوع المسيح ابن الله الذي جاء إلى العالم ليخلّص الخطأة، ثم بالحصول على نعمة الروح الذي يُدخل ملكوت الله إلى قلوبنا ويسهل أمامنا الطريق للحصول على بركات الحياة الآتية… الروح القديس نفسه يدخل إلى نفوسنا، ودخوله هو القدير إلينا، وحضور العزة المثلثة الأقانيم في روحنا، نعطاه فقط إن اكتسبنا بلجاجة الروح القدس الذي يهيئ في نفسنا وجسدنا عرشاً لحضرة الله الخالق الكل المستقرة في روحنا”.

الصلاة مستطاعة في كل مكان ولكل إنسان، غني أو فقير، نبيل أو بسيط، قوي أو ضعيف، صحيح الجسم أو مريض، بار أو خاطئ. عظيمة هي قوة الصلاة. إنها فوق كل شيء تجلب روح الله، وهي أسهل الرياضات ممارسة. حقاً في الصلاة يمنحنا إلهنا ومخلّصنا أن نتحدث معه. ولكن في هذا الحديث يجب أن نصلي فقط حتى يُنزل الله الروح القدس علينا بمقادير النعمة السماوية والمعروفة لديه. وإذا جاء مفتقداً فعندئذ يجب أن نتوقف عن الصلاة إذ كيف نطلب إليه: “هلمّ واسكن فينا وطهرنا من كل دنس وخلّص أيها الصالح نفوسنا”. بعد أن أتى ليخلصنا نحن الذين نثق به وندعو اسمه القدوس بالحق حتى نتقبل بالتواضع والمحبة المعزي في مخدع نفوسنا؟ عندما ينزل روح الله على الإنسان ويظلله بملء فيضه تمتلئ النفس البشرية بفرح يتعذر النطق به لأن روح الله يحوِّل كل ما يمسه إلى فرح.

وإذا أصغينا ثانية إلى القديس سيرافيم فإننا نسمع الصوت نفسه الذي ردده الأدب النسكي والتعبدي منذ القديم، صوت اقليمس الإسكندري، واوريجانيس، والقديس أثناثيوس الكبير، وآباء البرية، والقديس باسيليوس الكبير وغيرهم بما فيهم أعظم متصوف بيزنطي في القرن الحادي عشر القديس سمعان اللاهوتي الجديد.

هناك تقليد ولكنه تقليد حي، فهو استمرار لخبرة واحدة. علينا ألا ننسى أن هذه النصائح التعبدية لم تكن للمتوحدين في عزلتهم بل للعلمانيين العاديين لأن طلب الروح القدس ممكن في العالم أيضاً. إن الزهد الروحي بهذا العالم لا يعني لزوماً الانفصال الخارجي أو الانعزال بل بالعكس إن اكتساب الروح واسطة لتقديس الحياة بأسرها. ليس من ركود في صوفية التعبد هذه. إن طلب الروح يجب أن يقترن بالعمل الجدي. إن البطالة رذيلة كبرى وخطيئة. ومع ذلك يجب ألا نأخذ بتعليم بيلاجيوس. فالأعمال الصالحة ليست طريقاً للخلاص. إنها لا تعطي أجراً بل بالحري ثمرات الطاعة والإستسلام الكامل لله ومقاصده. إنها واجب وليست أجراً. إنها جواب الشكران لنعمة الإله الحي المخلصة ورحمته التي أعلنت لنا وأٌفيضت علينا بيسوع المسيح رب الجميع ومخلّصهم.

إن الروحانية الأرثوذكسية لا تقر أي تفريق لهذه الجهة. فهي تقول بالمساواة الأساسية بين المؤمنين والهدف واحد للجميع، الرهبان والعائشين في العالم من كهنة وعوام: المساواة في الشركة الشخصية مع الله بيسوع المسيح بقوة الروح القدس. إنك تبدأ بدرس نص الصلوات الموضوعة ثم ترددها أمام الله ممعناً في كل كلمة منها. ثم لا بد من يوم يحل فيه الروح القدس نفسه ويستوقفك أثناء الصلاة ويشفع فيك “بأنّاتٍ لا توصف”. وعندئذ يجب أن تنقطع عن الكلام وتصغي إليه. يجب أن يزول الهدف الذاتي من الصلاة الفردية ويصبح ناقلاً للروح. ولا يعني ذلك أن يدمر الإنسان شخصيته بل أن يرفعها إلى مستوى أعلى بواسطة الشركة الكاملة مع الله. وهذا مثال لصلاة عظيمة وضعها فيلاريت متروبوليت موسكو (1782-1876):

“يا رب، إنني لا أعلم ما يجب أن أطلب إليك: أنت تعلم حاجاتي الحقيقية كلها. وأنت تحبني أكثر مما أعرف كيف أُحب. ساعدني كي أرى حاجاتي الحقيقية المحجوبة عني. أنا لا أجسر أن أطلب صليباً أو تعزية. بل أستطيع أن أتكل عليك. إن قلبي مفتوح لك فاقبل إليّ وساعدني من أجل رأفتك. اضربني واشفني. اطرحني ثم أقمني. أنني أعبد بصمت مشيئتك المقدسة وطرقك البعيدة عن الاستقصاء. إني أقدم لك نفسي ذبيحة وعليك أتوكل ولا رغبة لي إلا أن أصنع مشيئتك. علمني كيف أصلي. صل أنت نفسك فيّ”.

هكذا ليست الصلاة توسلاً وتضرعاً وحسب فهناك درجات ومستويات. فيبدأ الفرد صلاته بالتضرع والشفاعة وبتعداد حاجاته وضعفاته أمام الله. هذه صلاة الابتداء. غير أن الله يعرف ضعفاتنا وأحزاننا أكثر مما نعرفها نحن، وهو على استعداد دائم لمساعدتنا وذلك قبل أن نطلب إليه. عندئذ يكون الشكر للمحبة الإلهية، إنه مستوى أعلى يقودنا بالنهاية إلى التسبيح الزاهد وعبادة الله إذ نقابل بهاءه ومجده وجهاً لوجه ونسبحه لعظمته التي لا يسوغ النطق بها، عظمة محبته الفائقة كل علم وكل فهم. عندئذ يلتقي الجوق البشري بأجواق الملائكة الذي لا يتوسلون ولا يشكرون بل يسبحون على الدوام لأجل مجده الأبدي وعظمته وبهائه. إن ثمة ارتقاء طبيعياً من التوسل البشري إلى الرؤيا.

العبادة الجماعية

الصلاة الشخصية مدخل لسر الكنيسة. إن هذا السر معلن عنه ومبسط في العبادة الجماعية الأسرارية للكنيسة. إنه سر. هو سر مزدوج، سر المسيح الكامل رأساً وجسداً، سر الرب وسر الجماعة. سر الشكر إعلان حقيقي عن المسيح، صورة عمله الفدائي. هو يضع أمامنا بمقالات وإشارات رمزية حياة الرب كلها من بيت لحم إلى جبل الزيتون والجلجلة مع قيامته وصعوده وطعم سابق لمجيئه الثاني. إن الإشارات الرمزية والكلمات المختلفة تذكرنا بالكل ولكنها ليست فقط ذكرى بل استحضار أي تجعل الأمور الماضية حالية من جديد. إن مظهري هذا السري يجب أن يحافظ عليهما معاً. سر الشكر أعظم شهادة مسيحية، إنه شهادة للشركة المسيحية بين الجماعة المفدية والفادية. وما دام السر متمماً فكنيسة المسيح تشهد لربها ومعلمها. ولكن ثم غير الشهادة الإنسانية المحضة بكثير. تعال وأنظر. ومن أتى بقلب منفتح وإيمان قويم يقدر أن ينظر الرب نفسه ويلمسه وهو أبداً حاضر وساكن في أسراره المباركة، حاضر ومنظور ومحسوس -منظور بالطبع بالبصيرة الروحية. إن القول بالاستحالة ليس نظرية لاهوتية أو تفسيراً وحسب بل العكس إنه الشهادة المباشرة، شهادة عيان في البصيرة الروحية. إن حلول الرب ليس منحصراً في العناصر التي تتقدس وتستحيل حقيقة.

المسيح نفسه حاضر شخصياً كالخادم الأوحد للسر بوصفه الكاهن العظيم الأوحد والأبدي للعهد الجديد. ليس سر الشكر ما نصنعه ونقدمه بل هو قبل كل شيء ما يصنعه الله لأجلنا. هو المسيح يأتي إلى المؤمن. سر الشكر إنما هو أساساً العشاء السري ممتداً ومكملاً. هذا الانطباق الأساسي تؤكده الخدمة كلها في الكنيسة الشرقية وقد بين ذلك بوضوح القديس يوحنا الذهبي الفم في وعظه. ليس ثمة من تكرار وليس التكرار ممكناً. إن سر الشكر واحد ولكنه معاد دوماً لأن ذبيحة المسيح كلية الشمول. إن الاشتراك يعني بالتدقيق مساهمة في العشاء السري نفسه، أي يُذهب بنا إلى العلّية حيث أسس السر أولاً ومنحه المخلص نفسه. نحن نعود إلى حضرته. السر واحد أبداً كما أن الذبيحة واحدة، المائدة أبداً واحدة. لا يذبح اليوم حمل وآخر أمس، ليس واحد هنا وآخر هناك بل هو هو دائماً وفي كل مكان، حمل الله نفسه الحامل خطايا العالم، الرب يسوع نفسه. المسيح حاضر ككاهن وضحية. المسيح نفسه يقيم السر وباذل لأعضائه نفسه وجسده ودمه الكريمين، كغذاء الفداء والحياة الأبدية. وما على الكنيسة إلا أن تقبل العطاء. ومع ذلك ليست الكنيسة فقط منفعلة حتى في تقبلها عطاء الفداء، فليس المسيح في السر منفصلاً عن جسده. هذا هو سر الكنيسة. إن المسيح يسكن في المؤمنين وإنهم بالإيمان يسكنون فيه. إن الكنيسة تكمل خدمة الفداء أو بالحري إن المسيح يكمله بالكنيسة وفيها. وقد دعي المسيحيون ليتبعوه. عليهم أن يسيروا في خطاه.

هذا ليس فقط وصية خلقية. إنه يتضمن انطباقاً كيانياً بين الأعضاء والرأس. من حيث هي سر الكنيسة، الأفخارستيا هي تحقيق الكنيسة. الكنيسة حقيقية بالقدر الذي تكون فيه مجتمعة في السيد، عندما يكون كل أعضائها داخلين حقاً في جسده وحياته الناهضة، عندما يتغذون من الطعام الروحي الواحد ويمتلئون بالروح من الحياة الناهضة نفسها. إن وحدة الكنيسة تؤلفها فقط وحدة الروح وما الإيمان سوى وعاء للنعمة. نحن جسد واحد لأننا نشترك بخبز الحياة الواحدة، بالطعام السماوي الواحد. هكذا الكنيسة هي الملء النامي للمسيح. إنها تنمو بالأسرار. هذا يعني أن وحدة الكنيسة هي عطاء الله وليس عملاً إنسانياً أو مأثرة إنسانية.

ومع ذلك فهي تتضمن وتفرض مساهمة وجواباً فاعلاً من المفدى. ومن حيث هي خدمة مقدسة فالافخارستيا عمل العبادة المشتركة، اتفاق حقيقي بين كثيرين ليمكثوا ويصلوا معاً. إن لفظة “ليتورجيا” نفسها تعني بالضبط عملاً مشتركاً. هي عمل وليست فقط كلمة. وجدير بالذكر هنا أن كل الصلوات الشكرية موضوعة بالجمع. وصلاة الاستحالة نفسها يتلوها الكاهن بصيغة الجمع لأنه يقدم صلوات باسم المؤمنين كافة ولأجلهم. ليس باسمه يقيم الكاهن الخدمة بل باسم الشعب كما أن القرابين مقدمة وموضوعة على المائدة للاستحالة باسم الشعب. بالطبع للكاهن وحده أعطي سلطان تقديم العبادة المشتركة أو التكلم باسم الجميع. وهذا السلطان أعطي له ليس من الشعب بل من المسيح نفسه الخادم الحقيقي للأسرار كافة.

ولا يمثل الخادم الطائفة فقط بل المسيح، هو فوق كل شيء الخادم الحقيقي للشعب بالوساطة البشرية. يعمل الخادم ليس فقط كمندوب عن الكنيسة بل قبل كل شيء كمندوب عن المسيح. إن السلطان أعطي للخادم ليس من قبل الطائفة بل من أجل الطائفة كموهبة من مواهب الروح العديدة. وباسم الكنيسة جمعاء يقول الكاهن: نطلب. إن هذا ال “نحن” في الصلاة الطقسية له معنيان: أولاً يرمز إلى وحدة الكنيسة المجتمعة، الشركة المسيحية غير المنقسمة القائمة بين سائر الذين يصلون. “لقد منحتنا الآن أن نقدم لك العبادة باتفاق…” (صلاة ليوحنا الذهبي الفم) وهذا الاتفاق ليس مجرد تركيب من صلاة خاصة ومنفردة. إن الاتفاق الحقيقي يفرض التطابق بين الذين يجتمعون ويتفقون. على المرء أن يصلي لا كفرد متحفظ بل بالضبط كعضو في الجسد، في الشركة السرية في المسيح. إن صلاة التقديس تسبقها في الطقس الشرقي دعوة: “لنحب بعضنا بعضاً لكيما بعزم واحد نعترف مقرين: بآب وابن وروح قدوسٍ ثالوثٍ متساوٍ بالجوهر وغير منفصل”. إن المحبة المسيحية هي الوسيلة الوحيدة للانسجام الروحي، ليحصل الناس على عزم واحد. وفقط بانسجام عقولنا ندنو من سر الوحدة الإلهية الأعظم ونعترف به: أقانيم ثلاثة وإله واحد، كائن واحد كامل. إن سر الثالوث هو بالضبط سر وحدة كاملة لكثيرين. إن هذا السر يُعكس على المستوى البشري.

الكنيسة كشركة منسجمة بين كثيرين هي الصورة الوحيدة للوحدة الإلهية. الكنيسة التي أسسها المسيح هي الوجه الجديد للحياة البشرية، وجهها “الجامع” المضاد لكل فردية أنانية ومجزئة. المحبة في المسيح وحدها تؤهل الناس أن يقدموا قرابينهم عن استحقاق وحقيقة. ليس فقط لأن نقصان السلام والمحبة إفلاس شخصي ولكن لأننا نحن الشعب كله يجب أن نكون واحداً. وعلى حد قول القديس كبريانوس: “إذا صلينا فلا نصلي لواحد بل للشعب كله لأننا نحن، الشعب كافة، واحد” (في الصلاة الربية: 3). ومن جهة ثانية فصيغة الجمع الطقسية، ال “نحن” الطقسية، ذات معنى أعمق. إنها تشير إلى الملء الجامع ووحدة الكنيسة. لأن كل خدمة إلهية تقام بالاشتراك مع الكنيسة الجامعة وباسم الكنيسة كلها.

وروحياً في كل خدمة الكنيسة كلها تساهم بصورة غير منظورة ولكنها فعّالة: “الآن قوات السماوات يخدمون معنا بحال غير منظورة”. والكنيسة على الأرض تردد نشيد السيرافيم المجيد. نردد تلك اللهليلويات لأن الكنيسة الملائكية وكنيسة البشر صارتا واحداً في المسيح يسوع. على هذا الغرار لا انقسام بين الأحياء والراقدين لأن قوة الموت قد ديست وأُبطل الموت نفسه بقيامة الرب المجيدة، والرب رأس جسده. لا انفصال نهائي بين السماء والأرض بعد المسيح. هذا هو الجو الروحي الجديد في الكنيسة. “وإذا ما وقفنا في هيكل مجدك نحسب أننا في السماء واقفون… لأنك أنزلت السماء إلى الأرض بتنازلك العجيب”. بوحدة جسد المسيح فقد الموت قدرته على التجزئة.

المنتقلون تقام ذكراهم في كل خدمة. إنها ليست مجرد ذكرى، ليست فقط شهادة ودّنا الإنساني ومحبتنا، بل نظر ثاقب في شركة المؤمنين السرية، الأحياء والمنتقلين في المسيح ربنا الناهض المشترك. بهذا المعنى يكون الشكر سر الكنيسة أو بالحري سر المسيح الكامل. في سر الشكر تعي الكنيسة وحدتها الأخيرة وتذوق مسبقاً كمالها الأخير في الدهر الآتي. سر الشكر ليس تعبيراً عن شركتنا البشرية وأخائنا البشري ولكنه قبل كل شيء التعبير عن سر الفداء الإلهي. هو قبل كل شيء صورة عن الصنعة الإلهية. هو سر المسيح يفتدي الكل ويوحدهم ويتعدى حدود الزمان والمكان والسن والعنصر. ما أُقيمَ سر الشكر إلا لنشهد لتلك الوحدة الكاملة ونعيشها، تلك التي شرعها ودشنها الرب المتجسد الناهض. ونصلي باسم البشرية كلها، كل الذين دعوا ولبوا الدعوة. نصلي ككنيسة. الكنيسة جمعاء تصلي معنا وفينا. وإذن ملء الحياة تذكر في الصلاة الشكرية، ملء الوجود البشري يقدم ويكرس لله في المسيح. عناية الله كلها تذكر ويعترف بها مع شكران روحي.

وهكذا صلاة التقديس إطارها قصة الخلاص. فنحن نشهد لمقاصد الله الفادية ونرسمها خلال كل أطوار تحقيقها التدريجي المسجل في تاريخ التوراة المقدس.

وأيضاً نقول إن الذكرى الطقسية لها صفة وآفاق كونية. هي تتضمن العالم بأسره، ملكوت الخليقة بأسرها: “نقرب لك هذه العبادة الناطقة من أجل المسكونة كلها ومن أجل الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية”. وتكمل الصلاة فيذكر اسم من قُدِّمت لأجله والاسم يعني الشخصية.

وهكذا ذكرى أعضاء الكنيسة بأسمائهم في تقدمة سر الشكر، تشير إلى أن لكل شخص مكانته في اكتمال الجسد. نحن نسأل الله أن يساعد حافظتنا الضعيفة. “أما الذين لم نذكرهم نحن لنسياننا أو لجهلنا إياهم ولكثرة الأسماء فاذكرهم أنت يا الله العالم بسن كل واحد واسمه” (قداس باسيليوس). وهكذا من جديد يصلي الشعب كله للشهادة: لقد عمل الله أولاً ليخلص الجنس الساقط. “أنت أخرجتنا من العدم إلى الوجود وما برحت صانعاً كل شيء حتى أصعدتنا إلى السماء ووهبت لنا ملكك العتيد”. سر الشكر قبل كل شيء شهادة تعليمية وبالتالي اعتراف بنعمة الله. الطقس كله موجّه نحو الله… إن قصة الفداء لم تكتمل بعد ولا يزال المسيحيون يحيون بالانتظار. إن سر الخلاص يكتمل في الدهر الآتي. ومع ذلك، فالكنيسة هي إشارة إلى هذا الكمال العتيد، وهي تصلي من أجل هذا الكمال. “وكما أن الخبز المكسور هذا كان مبعثراً على الجبال وبعد أن جُمع صار واحداً هكذا فلتجتمع كنيستك كلها من أقصى الأرض ملكوتك” (تعليم الرسل 9: 4).

———————————————-
الأب جورج فلورفسكي
تم طبع هذا الكتاب في شهر حزيران 1982
مطبعة النور
———————————————-

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى