لا نعرف سوى القليل من المعلومات عن حياة القدّيس هيبوليتُس الرومانيّ الذي استشهد حوالى العام 235. ولا يسعنا تحديد تاريخ ميلاده، أمّا ما نستطيع تأكيده فهو أنّه كان تلميذاً للقدّيس إيريناوس أسقف مدينة ليون، ومعاصراً للعلاّمة اللاهوتيّ أوريجانس الذي سمعه يعظ في رومة سنة 212. وهو يونانيّ في لغته وفكره، وقد يكون من أصل شرقيّ، وهو آخر مَن كتب باليونانيّة في الغرب المسيحيّ، حيث سادت كلّيّاً من بعده اللغة اللاتينيّة في الأوساط الكنسيّة والأدبيّة.
وضع هيبوليتُس العديد من المؤلّفات اللاهوتيّة والتعليميّة والتفسيريّة والوعظيّة. من أهمّ هذه المؤلّفات كتاب “دحض جميع الهرطقات”، حيث يبيّن الكاتب، على غرار القدّيس إيريناوس في كتابه الشهير “ضدّ الهرطقات”، فساد التعاليم التي تبنّاها هراطقة عصره. كما يحاول هيبوليتُس أن يبرهن على أنّ الهراطقة استقوا عقائدهم من الفلسفة اليونانيّة وليس من الكتاب المقدّس، لذلك هم ليسوا مسيحيّين. كما وضع هيبوليتس دراسة عن “المسيح الدجّال” يعرض فيها المؤلّف للطريقة التي سيأتي فيها “الدجّال” وكيف سيقيم الاضطهاد على الناس جاعلاً نفسه كالإله، ثمّ يختم بالحديث عن مجيء الربّ يسوع وظهور ملكوت الله. ويدعو هيبولتس المؤمنين إلى الالتجاء إلى الكنيسة حيث الخلاص من حيل الشيطان، فيقول: “الكنيسة، كسفينة في عرض البحر، تهزّها الأمواج ولكنّها لا تغرق. فالمسيح هو ربّانها، والصليب صاريها، والعهدان هما دفّتاها… أمّا البحّارة الذين يقفون عن اليمين وعن اليسار، فهم الملائكة الحرّاس”.
واشتغل هيبوليتس في تفسير الكتاب المقدّس، فبيّن أنّ العهد القديم هو أيضاً كتاب مسيحيّ، لكونه يعرض رموزاً ونبوءات تحقّقت في العهد الجديد. وقد وصلنا نتف من بعض شروحه حول سفر دانيال ونشيد الأناشيد والأمثال… ودونكم، مثلاً، ما قاله في تفسيره للآية: “هلمّوا كلوا من خبزي واشربوا من الخمر التي مزجتُ” (الأمثال 9: 5): “هذه الآية لا تدلّ إلاّ على جسد المخلّص الإلهيّ الذي يعطينا إيّاه لنأكله، ودمه الكريم الذي يعطينا إيّاه لنشربه لمغفرة خطايانا”. اللافت هنا أنّ التفسير الذي يقدّمه هيبوليتس هو تفسير عملانيّ وليس نظريّاً على الإطلاق، إذ يهدف إلى بناء المؤمنين على أساس الحياة السليمة في المسيح.
لم يصلنا من عظات هيبوليتس سوى النزر اليسير، منها عظة فصحيّة فُقدت، لكن لدينا عظة لاحقة لا شكّ أنّها نسخة عن عظة قدّيسنا، نجد فيها إعلاناً للتدبير الإلهيّ للخلاص. كما وصلتنا عظة يبيّن فيها هيبوليتس أنّ العهد القديم يجد اكتماله في العهد الجديد، فيقول في هذا الصدد: “داود الحقيقيّ (المسيح) قد أتى. فقضى على الموت، وحرّر العالم من الخطيئة، وسحق بالعود (الصليب) رأس الحيّة، وخلّص آدم من عمق الجحيم كما تخلَّص نعجة من الموت”.
كما ترك لنا هيبوليتس أهمّ شهادة مكتوبة على الحياة الجماعيّة والعباديّة في الكنيسة الأولى، هي كتاب “التقليد الرسوليّ” الذي فُقد نصّه الأصليّ، لكنّه حُفظ في ترجماته القبطيّة والعربيّة والحبشيّة واللاتينيّة. ويمثّل هذا الكتاب، بعد الذيذاخي . أهمّ وثيقة ترقى إلى ذلك العصر في شأن التنظيم الكنسيّ. يتضمّن “التقليد الرسوليّ” قوانين ترعى انتخاب الأسقف ورسامته، ورسامة الكهنة والشمامسة… وقوانين تخصّ العلمانيّين، ومنها المهن التي لا يجوز للمسيحيّين ممارستها كصنع تماثيل الأصنام والتنجيم (التبصير) وتفسير الأحلام والشعوذة والمصارعة وسواها. كما يحتوي الكتاب على شرح للطقوس الكنسيّة: كسر الخبز والصوم وساعات الصلوات اليوميّة وإشارة الصليب… تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هيبوليتس الرومانيّ لا يرى أنّ ثمّة سلطة معطاة لأسقف رومة (البابا) مختلفة عن سلطة الأساقفة الآخرين أو أنّ له عصمة عن الخطأ.
كان هيبوليتس من أوائل مَن تحدّثوا عن دور السيّد المسيح في تألّه الإنسان. فالتألّه، بالنسبة إليه، هو التحرّر من الشهوات وكلّ الشرور. ويتابع قدّيسنا قائلاً في هذا السياق: “فالمسيح، الإله التامّ، هو الذي قرّر أن يغسل خطيئة البشر، ويجدّد تجديداً كاملاً الإنسان القديم؛ فمتى اقتديتَ بصلاح مَن هو صالح، تصير شبيهاً به وتنال منه الإكرام، فالله لا يفتقر عندما يجعلك إلهاً لمجده”. هكذا، يتألّه الإنسان بالإيمان بالإله الحقيقيّ، فيكون له “نصيب في الخلود”، ويكون “في ملكوت السموات، رفيق الله ووارثاً مع المسيح”.
على الرغم من بعض الأخطاء اللاهوتيّة التي نجدها هنا وثمّة في كتابات هيبوليتس، والتي رفضتها الكنيسة بعد مغادرته هذه الدنيا، تكرمه هذه الكنيسة المقدّسة نفسها في الثلاثين من شهر كانون الثاني، لكونه شهيداً، وشهادة الدم هي الشهادة القصوى التي ما بعدها شهادة.