Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – صورة ونموذج

“وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا، وليتسلّط على الأرض كلها….. وخلق الله الإنسان على صورته. على صورته خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم” (تك 1: 26-27، انظر تك 5: 1 و9: 6، حكمة سليمان2: 23).

الإنسان مخلوق إذن على صوره الله المثلث الأقانيم. وهذا يعني وجوب معرفة الله من أجل الوصول إلى معرفة حقيقة ماهية الإنسان وطبيعته الخاصة، لأن الله هو نموذج الإنسان، ويعني أيضاً أن الإنسان ليس النموذج بل صورة له.

فإذا ازداد تعمق الإنسان في حياة الله المثلث الأقانيم، يستطيع أن يستجيب، في حياته، إلى حياة الثالوث القدوس بصورة أفضل. وإذا ازداد إنسانية، يستطيع أن يتجاوب بشكل أفضل مع طبيعته الإنسانية التي هي صورة الله.

وعلى العكس من ذلك، فإذا ابتعدنا عن الله، فلن نحيا بانسجام مع طبيعتنا، بل نتعارض معها. وهذا هو سقوط الإنسان وموته وإفساد صورة الله.

قال القديس ثيوفيلوس لأوتوليت الوثني: “ولكن إذا قلت لي أرني إلهك، فسأقول لك أيضاً: أرني إنسانك فأريك إلهي”. وأضاف احد آباء البرية: “إذا رأيت أخاك رأيت إلهك”.

ب – صورة الله الكلّي الحكمة والكلّي القدرة

الإنسان صورة الله الثلث الأقانيم. وهذا يعني انه في أعماق ماهيته، أي داخل صورة الله، يحسّ حضور الله ويميّزه. ففي داخل الإنسان تكمن إمكانيات وقوى هائلة، وموقعه في قلب الكون فريد في نوعه.

والعهد القديم يؤيد هذه الحقيقة ويظهر دعوة الله للإنسان إلى أن يكون محور الخليقة بأسرها وسيّد الطبيعة: النبات والحيوان والكون بأسره (تك 1: 28-30).

“وباركهم الله قائلاً: انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها” (تك 1: 28، 9: 1). “وأعطاهم سلطاناً على كل كائنات الأرض وألبسَهم قوةً بحسب طبيعتهم. وصنَعَهم على صورته، وألقى مخافة الإنسان على كل ذي جسد ليسلطه على الوحش والطير” (حكمة سيراخ 17: 2-4، انظر حكمة سليمان 10: 2، تك 9: 1-2).

لا تنحصر السلطة المعطاة للإنسان في استخدام المخلوقات لسدّ حاجته وحسب، بل ترتفع إلى مستوى روحي رفيع أيضاً. فقد أوصى الله الإنسان أن يعطي لكل حيوان، أي لمخلوقات الله كلها، اسماً مناسباً. “وأتى الله لآدم بجميع حيوانات البرية وجميع طير السماء ليرى ماذا يسّميها. فكل ما سماه به آدم من نفسٍ حيّة فهو اسمه. فدعا آدم جميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء بأسماء” (تك 2: 19-20).

ليست التسمية حدثاً بسيطاً أو قليل الأهمية. فإطلاق الاسم على حيوان أو شيء يعني عند العبرانيين تحديد الهدف الذي يدعى كل منهما إلى انجازه في نطاق نظام الكون. ووصيّة الله هي دعوة الإنسان إلى تحديد الهدف الخاص لكل حيوان بإعطائه الاسم الموافق. وبكلام آخر، هي تأكيد على انه مستحق أن يكون معاوناً إلهياً، أي انه مدعو إلى متابعة العمل في خليقة الله، والى أن يصبح شريكاً للخالق في عالم فيّاض بالجمال والانسجام، عالم وصفه الكتاب المقدس بأنه “حسنٌ جداً”.

ج – أعطى البشر علماً (حكمة سيراخ 38: 6)

يظهر ممّا سبق ذكره أن الإنسان، بما هو صورة الله الكلّي الحكمة والقدرة، قد نال قوى هائلة لينمّي الحضارة والعلوم في كافة مجالاتها.

إلاّ أن على الإنسان أن يكون قد سبق فنمّى تلك الملكات والقدرات التي أسبغها الله عليه، وعرف الحيوان معرفة حقيقية كاملة، حتى يستطيع إعطائه الاسم المناسب. وهذا هو فحوى وصيّة الله الذي قاد الحيوانات إلى آدم “ليرى ماذا يسميها” (تك 2: 19). والمعرفة العميقة لعجائب خليقة الله تفترض أن يتمِّم الإنسان وصيّة الله الثانية “وأخضعوها” (تك 1: 28، انظر حكمة سيراخ 17: 2-4، حكمة سليمان 10: 2).

وهذه السلطة المعطاة للإنسان، أي موقعه السيادي على سائر الخليقة، تقع داخل جمال العالم وانسجامه الكامل (تك 1: 30) لا خارجه. ويجب أن تتم ممارستها بالتوافق والانسجام مع مشيئة الله، لا بالتوافق مع صفات كل مخلوق على حدة. وتالياً، فإن تطبيق وصيّة الله هذه يفترض بحثاً علمياً ومعرفة الكائنات معرفة عميقة.

المعرفة والعلم ينسجمان تماماً مع تدبير الله الخالق، لأنه “هو الذي يعلّم البشر الحكمة” (مز 93: 10)، وهو “العليّ الذي وهب الناس العلم ليمجِّدوه في عجائبه” (حكمة سيراخ 38: 6). ولذا يطوّب “المرء الذي وجد الحكمة والرجل الذي نال الفطنة” (أمثال 3: 13). أو كما يقول سيراخ في حكمته: “أنصت إليّ يا بنيّ، وخذ العلم ووجّه قلبك إلى كلامي. إني أُعبِّر عن التأديب بتمييز وأُبدي العلم بتدقيق” (16: 24-25).

الإيمان لا يناقض التقدم العلمي مطلقاً، بل يدعو، لأسباب لاهوتية وإنسانية، إلى معرفة بشرية شاملة وسعي إلى اكتشافات لا حدود له. فالإنسان مدعو إلى استخدام طاقاته ليحسّن ظروف حياته. وقد اكتشف فعلاً، خلال سيرورته التاريخية، أدوات استطاع أن يهذِّب بها الخشب والحجر والحديد والمعدن، وأن يُخضع البخار والكهرباء والطاقة الذرية، وأن ينشئ المصانع الضخمة ويُقرِّب الأبعاد الشاسعة. ويمكننا اليوم فهم هذه الحقيقة أكثر من الأجيال التي سبقتنا، لأننا نحيا في عصر التقدّم العلمي والتقني.

ثمة كثيرون يتساءلون اليوم إذا كان وصول الإنسان إلى القمر يزعزع الإيمان بالكتاب المقدس. والحقيقة أن جواب هذا التساؤل موجود في مزمور داود: “أيها الرب سيّدنا، ما أعظم اسمك في كل الأرض….. إني أرى سمواتك عمل يديك والقمر والكواكب التي كونتها. ما الإنسان حتى تذكره وابن البشر حتى تفتقده؟ أنقصته عن الملائكة قليلاً وكلّلته بالمجد والكرامة. سلّطته على أعمال يديك، وأخضعت كل شيء تحت قدميه….. أيها الرب سيّدنا ما أعظم اسمك في كل الأرض” (مز 8: 2-10).

الخالق نفسه يكلِّل الإنسان إذن “بالمجد والكرامة” ويدعوه إلى أن يكون “حاكم أعمال يديه” وان يُخضع “تحت قدميه” الخليقة بأسرها، “السموات والقمر والنجوم” لا الأرض وحدها.

د – صورة المحبة الإلهية

لم تكن سلطة الإنسان على العالم وإمكاناته سلطة متعسفة أو ظالمة، ولم يمارسها بطريقة أنانية، فقد كانت سلطة مرتبطة بمسؤوليته عن خليقة الله كلها. “وغرس الرب الإله جنّة في عدن شرقاً، وجعل هناك الإنسان الذي جبله…. وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها” (تك 2: 8-15). كان دور الإنسان في الفردوس دوراً إبداعياً وليس تعسّفياً أو تخريبياً. وكان عليه أن يبقى أميناً على خليقة الله كلها، وحارساً عطوفاً وحامياً لها. ولم يستخدم الإنسان العالم بأنانية، بل كان منسجماً دائماً مع مشيئة الخالق. وهذا ما تظهره بجلاء وصية الله: “من جميع شجر الجنة تأكل، أمّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. فإنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك 2: 16-17، انظر رو 6: 23).

لم يكن في الفردوس خلاف في الأفكار والآراء والقرارات والأفعال بين الإنسان ومشيئة الله. وكان الإنسان بحريَّةٍ تامة ودون أي إرغام، يوّحد إرادته مع إرادة الله، ويدعو الله ليكون محور حياته، وكان هذا التصرف الإنساني طبيعياً في الفردوس، لأن الإنسان مخلوق على صورة الله المثلّث الأقانيم، وحياته متوافقة مع نموذجها ومثالها، أي متوافقة مع حياة الثالوث القدوس، فعاش في وحدة داخلية ومحبة وانسجام مع نفسه وإخوانه البشر والخليقة بكاملها.

وكان محور هذه الوحدة الدائم هو الله الذي قدّم له الإنسان ذاته ومحصلة أعماله والخليقة كلها بملء إرادته. وهكذا اتّحد الكل بانسجام، وكان كل شيء “حسناً جداً”. يقول يوحنا الدمشقي: “خلق الله الإنسان عديم الشر، مستقيماً، فاضلاً، خلواً من الحزن والهم، مزيّناً بلمعان كل فضيلة، ومزداناً بكل الصالحات. كأنه عالم ثانٍ. عالم صغير في وسط العالم الكبير [2]، وملاك آخر، وعابد مركّب، ومعاين للخليقة المنظورة، وعارف بأسرار الطبيعة العقلية، وملك على الأرضيات يسوسه الله العلي. إنه أرضيّ وسماويّ، زائل وأبديّ، منظور وعقلي، عظيم وصغير، روح وجسد. من روح لكي يبقى ثابتاً، ومن جسد لكي يحتمل ويتأدب مكرَّماً من عظمة الروح. خلقه الله كائناً يعيش وفقاً للتدبير الآني، أي الحياة الحاضرة، التي تنتقل إلى مكان آخر، أي إلى الحياة العتيدة. ولذا فهو يتألّه بطاعته الله واتحاده بالنور الإلهي، دون أن يتحوّل إلى إله بالجوهر. وخلقه كذلك في طبيعة عديمة الخطأ وحراً في إرادته. أقول عديم الخطيئة، ليس لأنه لم يكن قابلاً للخطيئة، إذ أن الله وحده غير قابل للخطيئة، بل لأن الخطيئة كانت وقفاً على إرادته. كان يملك قوة الثبات والتقدّم في الصلاح، بمؤازرة النعمة الإلهية. وكان يملك أيضاً قوة الانحراف عن الخير وارتكاب الشر، بسماح من الله، لأن لديه إرادة حرّة، وما يحصل بالقوة ليس فضيلة. نفس الإنسان حرة وذات إرادة وفعل. وهي متغيّرة، أي إنها تتغيّر وفق الإرادة، لأنها مخلوقة”.


حاشية مرتبطة مع عنوان الفصل “صورة الله المثلث الأقانيم” : راجع ( الرؤية الأرثوذكسية لله والإنسان ) ، و ( مدخل إلى العقيدة المسيحية ). و( الكنيسة الأرثوذكسية ، إيمان وعقيدة ) (الناشر )

[2] راجع الرؤية الأرثوذكسية للإنسان. الدكتور عدنان طرابلسي.. (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى