أ – استحالة معرفة جوهر الله
يقول بطرس الرسول في رسالته الثانية: “إن القدرة الإلهية أوْلتنا كلّ ما يؤول إلى الحياة والتقوى. ذلك بأنها جعلتنا نعرف الذي دعانا بمجده وفضله فمنحنا بهما أثمن المواعد وأعظمها، لتصيروا شركاء الطبيعة الإلهية في ابتعادكم عمّا في الدنيا من فساد الشهوة” (2 بط 1: 3-4).
أن عبارة القديس بطرس الأخيرة لا تعني أن الإنسان قد يتمكن من معرفة جوهر الله، أي ما يميّز طبيعته الإلهية عن سائر المخلوقات، لأنه إذا تمكن الإنسان من إدراك الطبيعة الإلهية، أي معرفة سرّها، يصبح هو نفسه إلهاً، ولا يكون بالتالي ثمة إله واحد بل آلهة كثيرون. ولهذا خاطب الله موسى: “أمّا وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني إنسان ويعيش” (خر 33: 20، انظر 1 تيمو 6: 16).
ب – معرفة الأفعال الإلهية
(إن الله لم ينظر إليه أحد، فإذا أحببنا بعضنا بعضاً، أقام الله فينا وتَّمت محبته فينا، ونعرف أننا نقيم فيه وأنه يقيم فينا، بأنه وهب لنا من روحه) (1 يو 4: 12-13).
لا اقتراب من جوهر الله ولا مشاركة فيه، ولكنه مع ذالك فعال، لأن محبة الله تقترب من الإنسان استجابةً لمحبته لأخيه ولمحبته لخالقه نفسه (يو 14: 23). أن اتجاه محبة الله إلى الإنسان هو إشعاع الطبيعة الإلهية الذي يجعل المرء (مسكناً لله في الروح) (أفسس 2: 22، انظر 1 كو 3: 16). ينبغي أن نميّز إذاً بين جوهر الله وبين أفعاله الإلهية. فالإنسان لا يستطيع أن يعرف جوهر الله، إنما بإمكانه أن يعرف أفعاله أو قدراته التي لا تنفصل عن جوهره. ولهذا شبّهها الآباء بشعاع الشمس الذي يعمل خارج نطاقها (الشمس) مع انه غير منفصل عنها. أو على حد تعبير القديس باسيليوس: (إن الأفعال الإلهية تنحدر إلينا، أمّا جوهر الله فلا يدنى منه). فالله يحضر إذاً بأفعاله التي هي مظهر من مظاهر طبيعته الإلهية. إنه يعتلن للناس بواسطة أفعاله الإلهية داعياً إياهم أن يصيروا (شركاء في الطبيعة الإلهية) فيساهمون في الأفعال الإلهية المنحدرة من الجوهر الإلهي، لا في الجوهر نفسه.
إن مجد الله المثلث الأقانيم الذي يظهر في الكائنات وفي حياة البشر بواسطة النور الإلهي غير المخلوق يجعل القديسين في الكنيسة مشاركين في المجد الإلهي.
ج – أزلية الأفعال الإلهية
إن اعتلان الله بواسطة القوى والأفعال الإلهية ليس مرتبطاً بخلق العالم، ,وهو منفصل تماماً عن الحدث، ولذا نقول إن الأفعال الإلهية غير محلوقة وإنها أزلية، مثل قولنا أن مجد الله المثلث الأقانيم أزلي وغير مخلوق.
وهكذا ندرك أن حدث الخلق العالم، مثل سائر حوادث ظهور الله في العالم بالأفعال الإلهية، لم يسبِّب أي تحوّل في الحياة الإلهية، بل كان نتيجة محبة الله التي يعتلن الله للكون بواسطتها عن طريق القوى الأخرى.
الله ثابت لا يتحول أي (دون تبدّل فيه ولا شبه تغيير) (يع 1: 17، انظر مز 101: 28)، غير أن مجده يملأ ويحيي الإنسان والخليقة كلَّها.
د – آثار الله في الخليقة
تعمل أفعال الله، غير المخلوقة، في العالم وتترك آثارها على الخليقة. والإنسان الذي ينظر إلى المخلوقات يستطيع أن يشعر بوجود الله، أي أن يكتشف مجده في الخليقة.
يقول بولس الرسول: “إن ما يُعرف عن الله أُظهر لهم، فقد أظهره الله لهم. فمنذ خلق العالم لا تزال صفاته الخفية، أي قدرته الأزلية وألوهته، ظاهرة للبصائر في مخلوقاته. فلا عذر لهم” (رو 1: 19- 20). أمّا النبي حبقوق فقد صلىّ قائلاً: (جلاله غطّى السموات، والأرض امتلأت من تسبيحه. وضيائه كالنور وله من يده شعاع، وهناك تستتر قدرته) (حبقوق 3: 3-4، عدد 14: 21). ويعلن كاتب المزامير الحقيقة نفسها فيقول: (السموات تُحدِّث بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه. النهار يخبر النهار والليل يعلم الليل. إنها ليست أقوال ولا توجد كلمات، وصوتهم لا يسمع. إلى كل الأرض وصلت بلاغتهم والى أقصى المسكونة كلامهم…… ناموس الرب كامل، يُعيد الحياة. وعد الرب صادق، يجعل البسيط حكيماً. أوامر الرب مستقيمة، تفرح القلب. وصايا الرب واضحة، تنير العيون”. (مز 18: 1-9، انظر حك 13: 3-9 وحكمة سيراخ 43: 11-33).
لا يقتصر هذا القول على المظاهر الخارجية لحضور الله في العالم، بل يتعداها إلى حضور الأفعال الإلهية في قلب الإنسان والى اتحاد الإنسان بالأفعال الإلهية غير المخلوقة، نتيجة لحضور النعمة الإلهية في قلب الإنسان. فما ينكشف للإنسان في الخليقة هو مجد الله ومحبته وحكمته. إنها أشعة المجد الإلهي التي ترسل إلى الخليقة بأسرها فتحييها. وعندما يشعر الإنسان بأشعة المحبة الإلهية المحيية، يشعر كذلك بحضور الله الذي يرسل قواه الإلهية، ويتحد بأفعال الله القادرة، فيصبح إناءً للنعمة الإلهية ومشاركاً للطبيعة الإلهية و”لقداسة الله” (عب 12: 10، 1 بط 1: 4).
حاشية مُرتبطة مع العنوان “الأفعال الإلهية “:
راجع أيضاً (الرؤية الأرثوذكسية لله والإنسان ) للمطران جورج خضر. (الكنيسة الأرثوذكسية إيمان وعقيدة ) تيموثي وير ،منشورات النور ( الناشر )