Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

أ – شركة الرجل والمرأة

فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى” (تك 1: 27).

لقد أُبدع الإنسان على صورة الله، فكان منذ البدء زوجاً، أي رجلاً وامرأة. وكما أن الله المثلث الأقانيم لم يكن مفرداً (1)، فكذلك الإنسان، “لأن الخالق منذ البدء جعلهما ذكراً وأنثى” (متى19: 4). فعقيدة الثالوث القدوس التي يعبَّر عنها بوحدة في الجوهر وتثليث في الأقانيم، هي حقيقة أساسية تعبِّر عن حقيقة الإنسان أيضاً. وهذه الحقيقة الإلهية العظيمة والفريدة تشكِّل أساس حياتنا وقاعدة خلاصنا. لذلك نستطيع أن نؤكِّد، دون أي تردّد، أن هذه الآية الكتابية تشير إلى أن الإنسان قد خُلق على صورة الله المثلث الأقانيم، سواء من حيث الطبيعة أم من حيث الشركة مع الناس الآخرين. ولذا خُلق الإنسان منذ البدء زوجاً، أي رجلاً وامرأة.

ويشير الكتاب المقدّس مراراً عديدة إلى سرّ الزواج. ففي الأمثال نقرأ المرأة العاقلة “ميراث من الرّب” (أم19: 14). ويؤكّد النبي ملاخي أن الله نفسه الذي أبدع الرجل والمرأة معاً هو الشاهد على الرابطة الزوجية (ملا2: 14). وقد حارب المفهوم السائد في عصره ومفاده أن الهدف الوحيد للزواج هو إنجاب الأولاد وأن الطلاق ممكن بعد إنجاز هذا الهدف (أنظر حكمة سليمان4: 1-6، حكمة سيراخ16: 1-4)، وأكّد على أن جوهر السر يكمن في تحقيق الحياة المشتركة وفي حفظ رباط الزوجين غير المنفصل وتنميته، حتى يصبح الاثنان روحاً واحداً وجسداً واحداً (ملا3: 15، تك2: 24، متى19: 5، مر10: 8)، وذكر أن الله “يكره الطلاق” الذي يناقض هذا الهدف المبدئي للسرّ (ملا2: 16).

وهذا المعنى نفسه نجده في العهد الجديد: “من طلَّق امرأته إلاّ في حالة الفحشاء، عرَّضها للزنى، ومن تزوَّج مطلّقة زنى” (متى5: 32، 19: 9، لو16: 18)، “فإن الله سيدين الزناة والفسّاق” (عب13: 4).

وعلى هذا الأساس يمكن القول أن مصير الإنسان هو أن يشابه خالقه، أي أن يعيش ملء المحبة مع إخوانه البشر، حسب المثال الإلهي ووفقاً لمحبة الله المثلث الأقانيم. وبكلام آخر، أن هذا المصير مرتبط بشركة الجنسين في إنسانية واحدة.

ب – شركة محبة

إن الشركة بين الرجل والمرأة لن تكون متوافقة مع طبيعة الإنسان إذا تحقّقت خارج محبة الله، لأن محبة الله هي علّة الوحدة والمحبة في العالم ونبعهما. فعندما كان آدم ثابتاً في محبة الله، كان ينظر إلى حواء امرأته كفلذة منه (تك2: 23-24). ولكنه حين انقطع عن محبة الله، بفعل العصيان، اعتبر امرأته غريبة عنه وكأنها كائن مختلف، فألقى عليها كامل مسؤولية العصيان (تك3: 12).

إن خلق الإنسان ذكراً وأنثى، والزواج هما إحسان من الله إلى الإنسان ودليل عنايته الفائقة التي ستكون بعد السقوط أساس رجاء الإنسان في الخلاص. فإن الله، منذ اللحظة الأولى للسقوط، وَعَدَ الإنسان بالنهوض ولم يتركه إلى مصيره دونما أمل (تك3: 15). وقد تحقق هذا الوعد بتجسّد المسيح الذي “أخلى” ذاته وصار إنساناً ولم يتردَّد حتى في تقديم نفسه ذبيحة على الصليب من أجل شعبه المحبوب (فليبي2: 7). ولكن كيف يسع الإنسان الساقط أن يدرك محبة الله هذه؟ وكيف يمكنه أن يقبل مشيئة إله المحبة الهادفة إلى إقامة علاقة شخصيّة مع الإنسان؟ لذلك كان ضرورياً أن تترسَّخ الوحدة الكاملة بين الله والإنسان في شخص المسيح الإله المتأنِّس، أي في وحدة الطبيعة الإلهية مع الطبيعة الإنسانية. وكان الزواج هو النموذج والصورة المسبقة والدليل على خلاص الإنسان الصائر بتجسّد المسيح. أمّا محبة الله فهي منطلق الزواج ونهايته وهدفه في آن، لأن الزواج هو شركة محبة.

ج – سرّ المسيح والكنيسة

عندما يتحدَّث الكتاب المقدّس عن الزواج يشبِّهه بزواج المسيح بالكنيسة، ويربطه دوماً برباط المسيح والكنيسة. فيقول بولس الرسول: “إن الرجل رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مخلِّصها. وكما تخضع الكنيسة للمسيح فلتخضع النساء لأزواجهن في كل شيء. أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة وضحّى بنفسه من أجلها ليقدِّسها ويطهِّرها بماء الاستحمام وبما يتلى من الكلام ويزفها إلى نفسه كنيسة سنّية لا شائبة فيها ولا تغضن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة بلا عيب. وكذلك يجب على الرجال أن يحبّوا نساءهم حبهم لأجسادهم. مَن أحبّ امرأته أحب نفسه. فما من أحد يبغض جسده، بل يغذّيه ويعنى به شأن المسيح بالكنيسة…. أن هذا السرّ لعظيم، وأعني به سرّ المسيح والكنيسة” (أفسس 5: 22-32).

وهكذا يغدو الرباط الطبيعي بين الرجل والمرأة “سرّاً عظيماً”، لأن نموذجه هو الرباط بين المسيح والكنيسة. وفيه يتجاوز الإنسان نفسه، ويزول طابع الأنانية والفردية من حياته، وتنقله المحبة الزوجية إلى داخل الوحدة من جديد لذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرجل والمرأة “ظنّا أنهما منذ البدء اثنان، فانظر كيف اجتمعا مجدَّداً وأصبحا واحداً بواسطة الزواج”.

وهكذا يعود الإنسان إلى وحدة الرجل والمرأة التي ستكتمل في ملكوت الله، حيث لا يكون فيما بعد “لا ذكر ولا أنثى” بل يكون الجميع “واحداً في المسيح يسوع” (غلا3: 28)، “كالملائكة في السماء” (متى23: 30، مر 12: 25، لو20: 36). وهذه الحقيقة يتذوّقها الإنسان المسيحي فعلياً في سرّ الشكر، حيث يتّحد الجميع في جسد المسيح الواحد: الكنيسة.

د – الأطر الإفخارستية للسرّ المقدّس

إذا علمنا أن سرّ الشكر هو تذوّق مسبق للملكوت ولوحدة شعب الله النهائية نستطيع أن ندرك لماذا رُبط الزواج المسيحي في الكنيسة الأولى بسرّ الشكر الإلهي، ولماذا يكون سرّ الشكر الإلهي الشرط الأساسي لسرّ الزواج المقدّس. فقد أتى المسيح إلى عرس قانا الجليل، وهناك حقّق أولى معجزاته بتحويل الماء إلى خمر. فلم يكتفِ بقبول فرح العرس ومباركة حقيقة الزواج، بل رمز بمعجزته إلى سرّ الشكر الإلهي، أي تحويل الخمر إلى دمه والخبز إلى جسده، فأدخل بذلك الرباط الزوجي إلى داخل جسد الكنيسة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “عندما يتّحد اثنان بواسطة الزواج فإنهما لا يظهران فيما بعد كشيء أرضي بل كصورة الله نفسه”. وفي مكان آخر يشبِّه الزواج المسيحي بـ “كنيسة صغرى”. فالإنسان مدعو إلى أن يحيا بزواجه المسيحي “في شركة مع المسيح”، أي “مع المسيح والكنيسة” (أف5: 32). والمسيح حاضر دائماً مع الأزواج المسيحيين، حسب وعده أنه كلّما اجتمع اثنان باسمه يكون بينهما.

وهكذا نفهم لماذا يعتبر أحد آباء الكنيسة أن الزواج هو “بيت الله”، ولماذا يعلن لاهوتي معاصر أن ثلاثة “يتزوجّون” في سرّ الزواج: العريس والعروس والمسيح، والمقصود طبعاً الزواج “في الرب” (1كو7: 39).

هـ- الزواج خارج الكنيسة

يظهر بجلاء أن ثمة فرقاً شاسعاً بين الإتحاد الطبيعي لشخصين خارج الكنيسة وبين سرّ الزواج المقدّس. فالرباط الزوجي خارج الكنيسة يحصل بحسب ناموس الطبيعة، وخاصة طبيعة السقوط والفساد. والأمر نفسه يسري على ربط معنى الزواج بالأهداف الاجتماعية أو بالمسألة الديموغرافية. ففي جميع هذه الحالات لا يمكن أن يتجاوز الزواج حقيقة الموت، لذلك لا يمكن اعتباره سرّاً مقدّساً.

أمّا الزواج المسيحي الحاصل في الكنيسة بمباركة الله، فإنه يحوز كمال محبة الأزواج، وتكون هذه المحبة معناه الأوّل وهدفه النهائي، لذلك فإنها لا تتوقّف بالموت، بل تستمر إلى الأبد. وعلى حدّ تعبير القديس إغناطيوس: “كل ما تفعلونه حسب الجسد، فليكن روحياً، لأنكم تفعلون كل شيء بالمسيح يسوع”، أي أن الزواج المُقام في الكنيسة يكون روحياً، بما في ذلك الوحدة الجسدية.

و – هدف الزواج

هدف الزواج الأول أن يكون مسيرة متواصلة نحو ملء المحبة. وهو هدف يمكن أن يحقِّقه حتى الأزواج العاقرون (أنظر حكمة سليمان4: 1-6، حكمة سيراخ16: 1-5). إلاّ أن وجود الأولاد يضيف إلى الزواج عنصراً جديداً، ألا وهو وجود عنصر الأبوّة والأمومة، فإنه يجعل المحبة تفيض من الزوجين نحو الكائنات المولودة، حتى أن كلاً منهما يكون على استعداد لتقديم كل شيء من أجلهم، فيتجاوز ذاته ويستسلم بكليته إلى المحبة التي يبذلها من أجل الآخرين (أنظر1 كو11: 8-12، أفسس5: 20). فيكون بذلك قد تهيّأ لعيش تلك المحبة الكاملة التي يُدعى إلى عيشها في الدهر الآتي. وهذا الهدف المقدّس للزواج، أي تجاوز الذات بغية الوصول إلى ملء المحبة التي تبدأ بالمحبة الزوجية وتكتمل في ملكوت السموات، نراه في خدمة الزواج المقدّس المليئة بالرموز.

إن تبادل الخواتم يعني التساوي والتعاون، والكأس الواحدة تعني كمال الحياة المشتركة التي تكتمل باقتراب الزوجين من سرّ الشكر الإلهي والولوج إلى “شركة النفوس والأجساد” في ظل محبة الله التي تحفظهما.

وفي نهاية الخدمة المقدّسة يقول الكاهن: “وأنتِ أيتها العروس، يعظِّمك الله مثل سارة، ويسرِّك مثل رفقة، ولتكثري مثل راحيل مبتهجة برجلك هذا وحافظة حدود الشريعة، لأن الله هكذا ارتضى” (أنظر تث24: 5، أم 5: 18-19).

من الواضح أن هدف الزواج لا يتحقّق بمسعى الأزواج وحدهم، لأن بلوغ هذا الهدف موهبة من الله. والروح القدس، الفاعل في الكنيسة، يوزِّع المواهب على المؤمنين، ويمنح الأزواج المسيحيين نعمة الزواج (1 كو7: 7)، ولذا كان الزواج المسيحي أحد الأسرار السبعة المقدّسة.

والزواج المسيحي ليس شأناً يخص الأزواج وحدهم. فهو لا يغيِّر مركزهم في المجتمع وحسب، بل يخلق حالة جديدة داخل جسد الكنيسة، ولا سيّما الرعيّة التي ينتمي إليها العروسان الجديدان. لأنهما لم يعودا فردين منفصلين، بل صارا جسداً واحداً، ودُعيا إلى أن يعيشا كمال المحبة الزوجية “في الربّ”. وعليهما أن يعبِّرا عن هذا الرباط بكامل حياتهما في الرعيّة، وهذا ما يفسِّر سبب اعتبار الزواج المسيحي حدثاً في حياة الرعيّة، ووجوب إقامته في الرعيّة ذاتها، لا بعيداً عنها.

ز – أكاليل الزواج

ليس صدفة أن يُسمّى سرّ الزواج المقدّس في الكنيسة الأرثوذكسية “إكليلاً”. فنحن نعلم أن الأكاليل تخص الشهداء وقدّيسي كنيستنا، ولذا نراهم في الأيقونات مُتَوَّجين بالأكاليل المضيئة. ولكن الكنيسة تكلِّل العروسين الجديدين أثناء خدمة الزواج المقدّس. وبذلك ترمز إلى أن ارتباطهما برباط الزواج المقدّس بنقاوة وطهارة أشبه بنضال الشهداء الذين استبسلوا حتى النهاية فنالوا أكاليل الظفر لحفاظهم على الإيمان. والعروسان يدخلان أيضاً حلبة جهاد جديد، هي ساحة الصراع الروحي الذي خاضه شهداء كنيستنا. ولذا فإنهما يطوفان حول المائدة وأيدهما متشابكة، بينما تستدعي الكنيسة الشهداء القديسين منشدة بخشوع: “أيها الشهداء القديسون الذين جاهدتم حسناً وتكلّلتم…” و”المجد لك أيها المسيح الإله… بهجة الشهداء…) ثم تطلب من أجلهما: “يا الله. إلهنا، يا من حضر في قانا الجليل وبارك العرس الذي هناك، بارك أيضاً عبدَيْك هذين اللذين اتّحدا بعنايتك في شركة الزواج. وبارك مدخلهما ومخرجهما. وأكثر الخيرات في حياتهما. ارفع إكليليهما في ملكوتك. واحفظهما بغير دنس ولا عيب غير محتال عليهما على مدى الدهور”.


حاشية مرتبطة مع عنوان الفصل “نعمة الزواج”: راحع أيضاً “صورة المسيح في الزواج والأسرة” ، لكوستي بندلي، سلسلة “الإنجيل على دروب العصر” رقم6 ، و “العائلة… كنيسة” لبول إفدوكيموف وكوستي بندلي، سلسلة “تعرّف إلى كنيستك”، رقم7 ، منشورات النور.

(1) راجع: “مدخل إلى العقيدة المسيحية، الفصل السابع: االثالوث القدوس“، د. كوستي بندلي. و”حوار عن الثالوث مع دراسة لعقيدة الثالوث في الكتاب المقدس والآباء“، د. جورج حبيب بباوي. و”هل تؤمن المسيحية بإله واحد؟“…. د. جورج حبيب بباوي… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات القسم

وسوم الصفحة

انتقل إلى أعلى