أ-عالم الأهواء والخطايا
يتحدّث الكتاب المقدس مراراً عن العالم، مشيراً إلى الحال التي وصل إليها بعد سقوط الإنسان وفقدان الانسجام الكوني: “إن العالم كله وطأة الشرير” (1 يو5: 19، أنظر يو12: 31، 14: 30، 16: 11)، أي أن العالم خاضع لسلطة الشيطان. لذلك يظهر في حياة المؤمن تناقض بين عالم “الجسد” وعالم “الروح” (رو8: 1-13).
يقول الرسول بولس: “أشعر في أعضائي بشريعة أخرى تحارب شريعة عقلي وتأسرني بشريعة الخطيئة، تلك الشريعة التي هي في أعضائي. ما أشقاني من إنسان! فمن لي بمن ينقذني من هذا الجسد الذي يصير بي إلى الموت؟ الحمد لله بربّنا يسوع المسيح!” (رو7: 23-25). ولكن هذا لا يعني أن بإمكاننا وصف الجسد الإنساني، أو المادة كلها، بالشر. فنحن نعلم أن الإنسان قد خُلق “على صورة الله” (تك1: 27). وهذه الآية لا تشير إلى الروح وحسب، بل إلى الإنسان بكامله، لأنه وحدة روحيّة-جسديّة، أو كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس: “لا نعني بالإنسان روحاً وحسب، ولا جسداً وحسب، بل الروح والجسد معاً. وعنهما كليهما نقول إنهما خُلقا على صورة الله”.
ولكن الإنسان لم يلبث في حالته الطبيعية بعد السقوط. لقد وقع جسده تحت تأثير الأهواء، فأسماه الكتاب المقدّس “جسداً” و”إنساناً عتيقاً” (أف4: 22، كول3: 9، رو6: 6)، أي نقيض “الروح” و”الإنسان المخلَّص” في المسيح (غلا5: 16-19). إلاّ أن الكنيسة لا تحتقر الجسد. فما تحاربه هو أهواء الجسد لا الجسد نفسه. لذلك يقول نسّاك البرّية: “نحن لم نتعلّم قتل الأجساد بل قتل الأهواء”. أي أن المسيحيين لا يسعون إلى قتل أجسادهم بل إلى إماتة الرغبات و”أعمال الجسد” (غلا5: 19) والاهتمامات الجسديّة (كول2: 23، أنظر 1يو2: 14-17): “أميتوا إذاً أعضاءكم التي في الأرض بما فيها من زنى ودعارة وشهوة وهوى فاسد وطمع وهو عبادة الأوثان، فإن تلك الأشياء أسباب لغضب الله” (كول3: 5-6، أنظر غلا5: 19-21). “إن الذين هم خاصة المسيح قد صلبوا جسدهم وما فيه من أهواء وشهوات” (غلا5: 24).
ب – تحوّل الجسد
تقدِّر الكنيسة الجسد الإنساني تقديراً كبيراً. ويشهد على ذلك تجسّد المسيح، أي قاعدة خلاص الإنسان والعالم بأجمعه. ويوضح الرسول بولس: “ففيه يحلّ كمال الألوهية حلولاً جسدياً” (كول2: 9، أنظر فيل2: 5-11، عب2: 13-18، أش8: 18، 41: 8-9). وقد اختبر التلاميذ ذلك على جبل التجلّي وبعد القيامة. فجسد الربّ لم ينحلّ داخل القبر، بل أنهض ولمسه الرسل حتى الجروح (مز15: 9-10، لو24: 39، يو2: 21، 20: 27، أع2: 31-32، رؤ5: 6).
في خليقة المسيح الجديدة يصير الجسد الإنساني “عضو المسيح” و”هيكل الروح القدس” (1كو6: 15-19) ويُدعى الإنسان إلى تمجيد الله “بجسده” (1كو6: 20) وإلى صون الجسد “في القداسة والحرمة” (1 تس4: 4)، والى تقديمه “ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله” (رو12: 1) “لكي تظهر في أجسادنا حياة المسيح أيضاً” (2كو4: 10). فإنسان الخليقة الجديدة هو “ذريّة الله” (أع17: 28) و”مساهم في مجد الله الذي يعكسه بجسده” (2 كو3: 18).
حرب الكنيسة إذاً ليست ضد الجسد بل ضد أهوائه. فإذا تحرّر إنسان الخليقة الجديدة من أهوائه الفاسدة، صارت حواسه وكامل جسده نقيّة منيرة، وشعّ كل شيء حوله بمحبة الله ومجده. وفي سيّر قدّيسي كنيستنا أمثلة على التحرّر من عبوديّة الأهواء. فقد روى القديس يوحنا السلّمي أن أحد النسّاك القدّيسين دُعي مرة ليعمّد إحدى الشابات. فلمّا رأى جمال الحسم البشري، امتلأ إعجاباً بمحبة الله، وسكب دموعاً غزيرة ومجّد الله المبدع، بسبب ذلك. وأضاف القديس يوحنا: “إنه لأمر مثير للحيرة والعجب، أن يكون الجمال نفسه سبباً لهلاك الإنسان المُستعبد للشهوات، وسبب غبطة وتمجيد عند الإنسان العفيف محبّ الفضيلة العائش. منذ الآن وقبل موته، القيامة وحال عدم الفساد”.
ج -إكرام الذخائر المقدّسة
يقول القديس غريغوريوس بالاماس: “نسجد أيضاً للذخائر المقدّسة، لأنها لم تتجرَّد من القوة المقدّسة، كما أن الألوهة لم تنفصل عن جسد الربّ في موته الثلاثي الأيام”.
هذه القوة المقدّسة هي نتيجة علاقة القديسين مع المسيح، وهي علاقة لا تقتصر على المجال الروحي، بل تشمل الأجساد أيضاً. فالقديسون يصيرون مقدّسين “بكاملهم”، وتحفظهم نعمة الله “منزهين عن اللوم، سالمين روحاً ونفساً وجسداً يوم مجيء ربّنا يسوع المسيح” (1 تس5: 23) “الذي يبدّل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد بما له من قدرة يخضع بها كل شيء” (فيل3: 21).
الجسد الذي سنحصل عليه يوم مجيء الربّ هو جسده الناهض، المتحوّل، المتألّه. وما ذخائر القديسين سوى تصوير مسبق لهذا الحدث. فقوة الذخائر التقديسية نابعة من علاقتها بجسد الربّ الذي لبسه القديسون بالمعمودية المقدّسة (غلا3: 3: 27)، وحافظوا عليه بلا لوم حتى آخر حياتهم (1 تس5: 23). وهذه القوّة هي ثمرة الأفعال الإلهية غير المخلوقة.
وقد أوضح القديس سمعان اللاهوتي الحديث سبب إكرام ذخائر القديسين: “إن النفس التي استحقت أن تصير مساهمة بالنعمة الإلهية، بسبب قداستها، لا بدّ أن تستمر في تقديسها الجسد كله. فهي التي تحافظ على الجسد وتتواجد في جميع أعضائه. لذلك تسكن نعمة الروح القدس في جسدها، كما تسكن فيها. وما دامت النفس موجودة في الجسد، فإن الروح الكلّي قدسه لا ينقل مجده الكامل إلى الجسد، لأن إرادة النفس يجب أن تستمر في سعيها حتى الموت، أي أن تظهر أنها تحيا بحسب نعمة الروح القدس.
وعندما تأتي ساعة الرقاد وانفصال النفس عن الجسد، تتوقف المعركة وتنتصر النفس وتهجر الجسد وهي مكلَّلة بإكليل عدم الفساد. وبانتهاء جهاد النفس تحلّ نعمة الروح القدس في الجسد الذي سكنته النفس وتقدِّسه بالكلّية. ولذا فإن عظام القديسين العارية هي ينبوع شفاء وإبلال من كل مرض.
عندما تنفصل النفس عن الجسد بالموت تصير وحيدة أمام الله “دون جسد” وتُعطى النعمة الإلهية فتتألّه. ويصير الجسد أيضاً وحيداً أمام الله، فيظهر للناس الأفعال الإلهية والمعجزات. فحينئذ لا يبقى الجسد عائقاً للنفس في عملها، ولا منفصل عنها، ولا النفس عائقاً للجسد، فيتخلّص من الحاجات الجسدّية كالجوع والظمأ وما شابه.
وبما أن الإثنين معاً قد أُعتقا من كل حاجة وقيد نابعين من العلاقة بينهما، فإن النعمة الإلهية تفعل في كل منهما دون عائق، وكأنهما قد صارا كلاهما في الله وحلّت فيهما الحياة الإلهية، من جرّاء السيرة الإلهية التي اختبراها في العالم عندما كانا معاً. ويكتسب الجسد في القيامة العامة حال عدم الفساد التي يهبها الله للنفس السابق تقديسها”.
د – الذخائر المقدّسة في سِيَر شهداء المسيحية الأولى
إكرام ذخائر القديسين ليس عادة متأخرة لدى المسيحيين، وإنما يعود إلى الأزمنة المسيحيّة الأولى. وهو تقليد مستمر في كنيستنا. ففي سيرة استشهاد القديس بوليكاربوس (156م) نقرأ: “عندما رأى الشيطان الشهيد وهو يتكلّل بإكليل عدم الفساد، حاول منعنا من أخذ جسده، على رغم رغبة الكثيرين في القيام بذلك، تقرّباً من جسده المقدس. فدفع نيكيتا، أبا هيرودس وأخا آليكس، إلى مقابلة الحاكم والطلب إليه ألاّ يسلم الجسد، زاعماً أننا قد نترك المصلوب ونشرع في عبادته. وكان كلامهم بتحريض من اليهود الذين راقبونا وخافوا أن نخطفه من النار. ولم يعلموا أننا لا يمكن أن نترك المسيح الذي تألَّم من أجل خلاص العالم كله، حتى الأثمة، ولا أن نعبد أحداً سواه. فالذي نسجد له هو ابن الله، أمّا الشهداء، تلاميذ المسيح المقتدون به، فنحبهم بسبب محبتهم غير المحدودة لملكهم ومعلمهم…. وأمام إلحاح اليهود وضع كنديريوس الجسد في وسط الساحة وأحرقه حسب العادة. فجمعنا عظامه التي هي أكرم من الحجارة الكريمة وأثمن من الذهب، ووضعناها في مكان مناسب، راجين أن يساعدنا الربّ على الاجتماع فيه كلّما استطعنا، لكي نحتفل، فرحين ومبتهجين، بتذكار شهادته، حتى يكون أولئك الذين جاهدوا قبلنا بمثابة معلِّمين ومدرِّبين لكل من سيجاهد في المستقبل”.
وهذا المقطع واضح تماماً ولا يحتاج إلى تفسير. فهو يشهد أن تقليد كنيستنا القاضي بإقامة القداس الإلهي على مائدة تضم ذخائر مقدَّسة، هو تقليد مسيحي قديم جداً.
هـ – أريج الروح القدس
تفوح من الذخائر لبعض القديسين رائحة زكيّة لا توصف. ونقرأ في السنكسار أن جسد العظيم في الشهداء القديس ديمتريوس المفيض الطيب “كان ينضح بكثرة، إلى حدّ أن السكان المحلّيين وأشخاصاً آخرين قادمين من أمكنة بعيدة كانوا يأخذون منه دون أن ينضب، والأحرى أنه كان يزداد بشفاعة القديس. وكانت لهذا الطيب قوّة العلاجات والأشفية العظمى”.
وكذلك حال عدد من القديسين، مثل القديس نكتاريوس أسقف إجيّنا، والقديس سيرافيم ساروفسكي. فمن أين يأتي هذا العبق غير الموصوف؟
إن “عبير المسيح” (2 كو2: 10) ونعمة الروح القدس، يحلاّن على القديسين أبان حياتهم الأرضية ويملأن أجسادهم. وهذه هي معموديّة النار و”ختم موهبة الروح القدس”، كما نقول في سرّ المسحة المقدّسة. وتستمر المعموديّة في القديسين فتجعلهم يحسّون بحرارة لا يعبَّر عنها وبشذا غير موصوف، وهما من ثمار الروح القدس. ولهذا السبب يُحضَّر الميرون في الكنيسة الأرثوذكسية من عناصر عطرية.
وفي حوار موتوفيلوف مع القديس سيرافيم ساروفسكي داخل الغابة، نقرأ هذا الفصل المؤثِّر: “سألني الأب سيرافيم: بماذا تشعر أيضاً، يا محب الله؟
– بحرارة غير عادية.
– ولكن كيف ذلك يا أخي ونحن جالسان في الغابة، والفصل شتاء والثلوج تحت أرجلنا، وعواصف الجليد تحيط بنا، وقطع الثلج تسقط من السماء
– إنها مثل حرارة الحمّام.
– والعطر؟ أهو أيضا مثل عطر الحمّام
– كلا ! فليس فوق الأرض ما يشبه هذا العبق. لقد كنت في شبابي أحب الرقص وأرتاد المراقص. وكانت أمي تعطرني بعطور اشترتها من أفضل محلات قازان. ولكن الروائح العطرية لا تطلق مثل هذا العبير.
فابتسم الأب سيرافيم وقال لي: “إني أعرف ذلك، والأمر كما تقول. ولكنني سألتك عمداً حتى أعرف ما إذا كنت تشعر به أنت أيضاً. والحقيقة يا محبّ الله أن ليس ثمّة رائحة مبهجة في الأرض يمكن أن تقارَن بالعبق الذي تشمَّه الآن. فما يحيط بنا هو عبق روح الله القدوس. وما من شيء يمكن أن يشابهه”.
و -عجائب الذخائر المقدّسة
ذكرنا التفسير اللاهوتي للقدرة العجائبية الكامنة في الذخائر المقدّسة. ونجد في الكتاب المقدس دلائل على تكريم ذخائر القديسين، حتى في العهد القديم. فقد ورد فيه أن عظام يوسف الصدّيق حُفظت بعناية واهتمام (يشو 49: 15). وهذا أمر غريب فعلاً. ففي العهد القديم اعتُبرت ملامسة جسد الإنسان الميت “نجاسة” (لا21: 19، حز44: 25). ولكن الإسرائيليين نقلوا عظام يوسف باحترام عظيم، ولم يتنجَّسوا (تك50: 25، خر 13: 19).
ويروي الكتاب أيضاً أن أحد “رجال الله” ضلّ ولم يحافظ على الوصايا، فعوقب على ذلك بأن لقيه أسد وهو خارج من بيت إيل على ظهر حماره، فقتله. و”بقي ملقى على الطريق، والحمار مقابله، والأسد قائم إلى جانب الجثّة”. أي أن الوحش المفترس الذي صار أداة للعدل الإلهي، لم يمزِّق جسد رجل الله بل تصالح مع الحمار ووقف بقربه يحرس الذخيرة المقدّسة. ثم مرّ بعض الناس من هناك ورأوه، فأسرعوا إلى المدينة وأذاعوا النبأ. أمّا النبي الشيخ الذي تسبَّب في ضلال رجل الله فذهب إلى ذلك الموضع “فوجد جثّته ملقاة على الطريق والحمار والأسد قائمان بجانب الجثّة، ولم يأكل الأسد الجثّة ولا افترس الحمار. فأخذ النبي جثّة رجل الله وجعلها على الحمار ورجع بها. ودخل النبي الشيخ المدينة ليندبه ويدفنه، ووضع جثّته في قبره، وندبوه قائلين: أواه يا أخي. وبعد أن قبره كلّم بنيه قائلاً: إذا متّ فادفنوني في القبر الذي دُفن فيه رجل الله، بجانب عظامه ضعوا عظامي” (1مل13: 15-31).
يشهد هذا المقطع على ثقة ذلك النبي بالقوة العجائبية الكامنة في ذخائر الإنسان القديس، ولو خالف وصايا الله برهة، فعوقب. وكذلك موقف الحمار والأسد اللذين صارا أداة في يد الله فوقفا بإكرام وورع إلى جانب الذخائر.
وفي قصة النبي أليشع شهادة مماثلة. ويروي الكتاب المقدّس أن أحد الأموات أُلقي في قبر النبي، فما أن “لامس جسد الميت عظام أليشع حتى عاد إلى الحياة ووقف على قدميه” (2مل13: 21، أنظريش48: 14).
وتذكر سِيَرْ القديسين عدداً كبيراً من العجائب التي حصلت بواسطة الذخائر المقدّسة. ونقرأ في سيرة القديس نكتاريوس الحادثة التالية: “يوم رقاد القديس الطاهر أمسك أحد الأشخاص بيمينه، وكان عديم الإيمان والتقوى، إلاّ أن زوجته كانت إمرأة ورعة. فما أن أمسك بها حتى شعر أنها حارّة وطريّة، فتعجب كثيراً ثم تاب وغدا، بنعمة القديس، مؤمناً ورعاً”.
ز – القوّة العجائبية للأشياء الماديّة
يعلّمنا الكتاب المقدّس أن قوّة الربّ العجائبية تكمن حتى في ثيابه (متى9: 20-22، مر5: 25-34، لو8: 44-48). ويروي الإنجيليون أن سكان جنيسارت أحضروا مرضاهم أمام الربّ طالبين منه أن يلمسوا هدب ثوبه. فكان “أن كل من لمسه برئ” (متى14: 35-36، مر6: 56، متى9: 20-22).
ونقرأ في أعمال الرسل أن “الله كان يجري على يدي بولس معجزات غريبة، حتى صار الناس يأخذون ما مسّ بدنه من مناديل أو مآزر ويضعونها على المرضى فتزول الأمراض عنهم، وتذهب الأرواح الخبيثة” (أع19: 11-12). أمّا بطرس فكان ينقل قوة المسيح الشفائية بـ “ظلِّه” (أع5: 16). وقد حصل ما يشبه هذه المعجزات في حياة عدد من القديسين وبعد انتقالهم. ففي يوم رقاد القديس نكتاريوس “وبينما جثمانه الطاهر لا يزال في المستشفى، أُلقيت قطعة من ثيابه بالصدفة على مريض مجاور فشفي للحال”.
ح – “أنا صورة مجدك الذي لا يوصف”
ما ذكرناه آنفاً يوضح لنا سبب وضع الشموع أمام أجساد إخوتنا الراقدين أثناء خدمة الجناز، على غرار وضعها أمام الأيقونات المقدّسة. فجسد المسيحي هو “صورة مجد الله الذي لا يوصف” على الرغم من أنه “يحمل آثار الزلاّت”.
ط – تحوّل الخليقة
إن إكرام القديسين والأيقونات والذخائر لا يعبّر عن مجد العالم النهائي، فهو ليس سوى عربون التحوّل النهائي للإنسان والطبيعة بأسرها في الأزمنة الأخيرة. لقد أُخضعت الخليقة كلها للباطل، ولذلك “تئن وتتمخض حتى الآن” (رو8: 20)، ولكنها “ستعتق أيضاً من عبوديّة الفساد لتشارك أبناء الله حريتهم ومجدهم” (رو8: 21). ولهذا السبب تعيّد الخليقة كلها لتحريرها في شخص يسوع المسيح: “الملائكة مع الرعاة يمجِّدون. والمجوس مع الكواكب يسيرون”. فالجميع يأتون ويقدِّمون هداياهم في ميلاد السيد: “الملائكة (يقدِّمون) التسبيح. والسموات الكواكب والنجم. والمجوس الهدايا. أمّا نحن فأُمّاً عذراء”. وفي ليلة القيامة: “يمتلئ الكل ضياء. السماء والأرض والجحيم تعيّد كلها معاً لقيامة المسيح التي بها تتثبت”.
تنطلق تسابيح كنيستنا من روح الكتاب المقدّس الذي يبشِّر بهذا الفرح المطلق للخليقة أمام حدث الخلاص. ففي سفر أشعياء نقرأ أن أبناء الله “يبتهجون بفرح” وينالون “أسماً جديداً”: “لأن المضايق الأولى قد نسيت وسترث عن عينيّ. لأني ها أنذا أُخلق سموات جديدة وأرضاً جديدة. فلا تُذكر السالفة ولا تخطر على بال” (أش65: 14-17، أنظر2 بط3: 13، رؤ21: 1). “فإنكم بفرح تخرجون، وبسلام ترشدون، والجبال والتلال تندفع بالترانيم أمامكم، وجميع أشجار الصحراء تُصفِّق بالأيادي” (أش55: 12).
الخليقة كلها تساهم بفرح في “حرّية أبناء الله” لأنها تشارك في هذه الحرّية (رو8: 21). والكنيسة الأرثوذكسية تتذوّق مسبقاً تحرّر الخليقة المطلق من نير العبوديّة، وتعبِّر عنه بطريقة فريدة في ليتورجيتها وهندسة كنائسها وشكل المذبح المقدّس أو عرش الأسقف والمنبر المقدّس، وجميع الأدوات التي تستعملها في العبادة، كالأواني المقدّسة والشموع والبخّور والزيت والقربان وسواها. فهذه الأشياء الماديّة كلّها من مخلوقات الله ومن هباته للإنسان. وينبغي أن يعيدها الإنسان ويقرّبها إلى الله، على غرار الخبز والخمر في سرّ الشكر الإلهي. وهكذا يتحوّل الخشب والألوان إلى أيقونة مقدّسة، وتغدو الجدران هيكلاً لله الحيّ، وتصير الشموع واللبان صلاة (أنظر1 أخ29: 10-16). فالصلة بالمسيح وبجسده الإلهي تجعل هذه الأشياء الماديّة مشاركة في نعمة المسيح وتحوّلها إلى ينبوع لمواهب الروح القدس، لأنها تحاط بالروح وتتقدّس بواسطته. فنلمسها ونقبِّلها باعتبارها شيئاً مقدَّساً.
يُقرأ في السنكسار قصة الشهيد أحمد (1) الذي استحق أن يتنسّم رائحة نعمة الله غير المخلوقة في القربان الذي تأكله الجاريّة العائشة معه، وهو القربان الذي أحضرته لها إحدى النسوة المسيحيات: “عندما كان يحدث ذلك (أي عندما تأكل الجاريّة القربان) وأحمد إلى جانبها، كان يشمّ رائحة زكيّة تخرج من فمها. فيسألها عمّا تتناوله عندما تفوح الرائحة من فمها. غير أنها لم تكن تدري سبب ذلك، فكانت تجيبه أنها لم تأكل شيئاً. ولكنها، أمام إلحاحه، قالت له أخيراً إنها لم تأكل سوى ذلك الخبز الذي كانت تحضره إليها المرأة وهي عائدة من كنيسة المسيحيين.
فأحسّ أحمد حينئذ برغبة في أن يرى كيف يتناول المسيحيون هذا الخبز، وأن يشاهد طقوس الكنيسة. فارتدى ثياباً كما يرتدي المسيحيون وذهب إلى كنيسة البطريركية العظمى حيث تابع الخدمة الإلهية. وهناك أضاف سيّد الكل، العالم بخفايا نفوس البشر، معجزة جديدة إلى المعجزة الأولى، وقاده إلى معرفة الحقيقة. فبينما هو في الكنيسة والكاهن يسير إلى الباب الملوكي، رآه أحمد يرتفع فوق الأرض وكله نور. ثم رأى نوراً يشعُّ من أصابع البطريرك وهو يبارك الشعب، وأشعة تنتقل إلى رؤوس المسيحيين فتضيئها. أمّا رأسه فلم يرَ عليه نوراً في المرّات الثلاث التي جرت فيها المباركة. امتلأ هذا المغبوط إيماناً، وللحال دعا الكاهن إلى تجديد حياته بالمعموديّة المقدّسة. فصار مسيحيّاً. ولكنه لم يعلن ذلك للملء بل أخفى انتماءه إلى الكنيسة. إلى أن حضر في أحد الأيام اجتماعاً عاماً، وهناك سأله المترئس: ما هو أعظم شيء في العالم. فقال أحمد بأعلى صوته: أن أعظم شيء في العالم هو الإيمان المسيحي. وهكذا اعترف بإيمانه. وقد استشهد بقطع رأسه في الثالث من شهر أيار، عام 1682”.
ي – العناصر تمجّد اسم الله
تشدّد العبادة الأرثوذكسية على عنصر المحبة والعلاقة الشخصيّة التي يقيمها الله مع الخليقة كلها. وهي بإيمانها بإله واحد مثلّث الأقانيم (إله المحبة)، وألوهة المسيح المتأنس، فالله محبة، ومحبته الظاهرة بالأفعال الإلهية غير المخلوقة تشمل الخليقة كلها دون استثناء، لأنه بإبداعه العالم أقام علاقة شخصية معه، وبتجسٌّده دخل قلب العالم. لذلك تحيط الكنيسة الأرثوذكسية بالاحترام والمحبة كل شيء خلقه الله، وكل شيء تحوّل بنعمته، ولا تعتبر أعمال الله أوثاناً، بل تعبِّر عن الإكرام والورع والعبادة الواجبة لله الذي أبدعها كلها. فكل شيء يجب أن يُفعل “لمجد الله” (1كو10: 31) لكي “يمجَّد الله في كل شيء بيسوع المسيح” (1 بط4: 11).
وتعبِّر الكنيسة عن ذلك الأفشين التالي: “… لكي بالعناصر، والملائكة، والبشر، والأشياء المنظورة وغير المنظورة، يُمجَّد اسمك الكليّ التقديس، مع أبيك وروحك القدّوس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين، آمين”.
عندما تنقطع العلاقة بين العالم والمسيح، ويسقط العالم في حالة الفساد الموت، لا يجوز إكرام أشياء هذا العالم، لأن هذا الإكرام سيكون عبادة وثنيّة محضة. ولكن، إذا ترسَّخت علاقة العالم بالمسيح، وبجسده الذي هو الكنيسة، وصار متحوِّلاً ومتحرِّراً من عبودية الشيطان، عندئذ نكرِّم أشياء هذا العالم المتحوّل “في المسيح”، لأن عالم المسيح هو ينبوع البركات (1كو10: 4، سيراخ38: 5)، ويكون الإكرام والورع مقدَّمين إلى المسيح نفسه، ينبوع الخلاص والتقديس (1كو10: 4، حكمة سليمان16: 7).
لا تتوجَّه الليتورجيا الأرثوذكسية إلى مجرَّد، غير شخصي، غريب عن الإنسان والعالم، بل إلى الإله الواحد المثلَّث الأقانيم، إله المحبة الذي دخل العالم بواسطة ابنه فحوَّله إلى عالم جديد. ولهذا أيضاً فإننا لا نعبد الله خارج العالم أو “بذاته” كما يدَّعي بعض أصحاب البدع، إنما نعبده داخل هذا العالم الذي يتحوّل ويتطوّر في جسد المسيح وداخل الكنيسة. وهذا التعليم يؤكِّده الكتاب المقدَّس بشكل قاطع، حين يتحدّث عن حضور مجد الله في العالم. وكثيرة هي الحالات التي تدلّ على أن مجد الله المثلّث الأقانيم ظهر في العالم، وقد ذكرنا بعضها سابقاً، ونشير الآن إلى العلّيقة غير المحترقة (خر3: 2…) والسحابة المنيرة التي قادت الشعب الإسرائيلي (خر13: 21) وإشراق الجبل (خر24: 17) ومحيّا موسى (خر34: 29-30) وهي بعض من أحداث كثيرة تحدَّث عنها الكتاب.
“ألستُ مالئ السموات والأرض؟ يقول الربّ” (إرم23: 24، أنظر أيضاً مز138: 7-8). “إن في كل شيء روحك الذي لا فساد فيه” (الحكمة12: 1)، “لأن روح الربّ ملأ المسكونة” (حك1: 7، أنظر أع2: 2). تظهر هذه الآيات أن خليقة الله، أي الكائنات بأسرها، متوشّحة بمجد الله، كما خاطب الله موسى: “ولكن حيّ أنا، ولتمتلئ الأرض كلها من مجد الربّ” (عد14: 21). ويسبِّح السيرافيم أمام عرش الله المثلَّث الأقانيم: “قدّوس، قدّوس، قدّوس ربّ الصباؤوت، الأرض كلها مملؤة من مجده” (أش6: 3، أنظر مز71: 19، 18: 1-7). وقد أظهر المجد الإلهي ذاته على جبل ثابور (متى17: 2) وفي حياة قدّيسي كنيستنا (أع7: 55، 9: 3، 22: 6-11).
إن ظهور مجد الله في العالم لا يسمح بعبادة الله “لذاته”، أي بالانفصال عن الخليقة “المملؤة من مجده” (أش6: 3). ولذا تعبد الكنيسة الأرثوذكسية في الله كل شيء “يسكنه” و”يملأه” الروح القدس، لأنه يكون قد صار أداة لسكب نعمته المقدّسة على العالم، وإظهار مجد الله، كالعذراء مريم، القدّيسين، الإنجيل المقدّس، الصليب الكريم، الذخائر الشريفة، الأيقونات المقدّسة وكل ما يُستعمل في الخِدَم الإلهية، ماء التقديس، زيت المسحة، القناديل المقدّسة وجميع كائنات الله المتحوّلة. وهذا هو “الإيمان القويم”، أي الطريق القويم إلى عبادة الله المثلَّث الأقانيم. ومن يسلك هذا الطريق يكون عضواً في الكنيسة المستقيمة الرأي.
ك – تقديس المياه
نقرأ في العهد القديم حادثة جميلة تُظهر عمل الأفعال الإلهية في مياه الأردن، وشفاء نعمان السرياني قائد جيش ملك آرام: “وإن قوم آرام خرجوا غازين، فسبوا من أرض إسرائيل فتاة صغيرة، فكانت بين يدي زوجة نعمان. فقالت لمولاتها: ليت مولاي (المريض بالبرص) حضر أمام النبي أليشع، فإنه كان يبرئه من برصه” (2 مل5: 2-3). “فأقبل نعمان بخيله ومراكبه ووقف على باب أليشع. فبعث إليه أليشع رسولاً يقول له إمضِ واغتسِلْ في الأردن سبع مرّات فيعود إليك لحمك وتطهر. فاستشاط نعمان غيظاً، ومضى وهو يقول: كنت أحسب أنه يخرج ويقف ويدعوا باسم الربّ إلهه ويردّد يده فوق الموضع ويبرئ الأبرص. أليس أبانة وفرفر نهرا دمشق خيراً من جميع مياه إسرائيل؟ أفلا أغتسل فيهما وأطهر؟ وانصرف راجعاً وهو مغضب. فتقدّم إليه عبيده وخاطبوه وقالوا: يا أبانا لو خاطبك النبي بأمر عظيم، أما كنت تفعله، فكيف بالحريّ وقد قال لك اغتسل واطهر؟ فنزل وانغَمَسَ في الأردن سبع مرات كما قال رجل الله، فعاد لحمه كلحم صبيّ صغير وطهر. فرجع إلى رجل الله هو وجميع موكبه، وأتى ووقف بين يديه وقال: ها أنذا قد علمت أن ليس في الأرض كلها إله إلاّ في إسرائيل” (2 مل5: 10-16).
لقد أدرك نعمان أن ليس لمياه الأردن صفات سحريّة، وأنه قد شُفي بواسطة الأفعال الإلهية غير المخلوقة، التي ميّزت بحضورها مياه الأردن عن مياه نهرَيْ دمشق، فصارت للأولى قوّة شفائيّة. ولهذا اعترف نعمان بفرادة إله إسرائيل (أنظر لو4: 27).
وهذه القوّة الشفائيّة نفسها تظهر في مياه بركة بيت حسدا التي اضطربت حين نزول ملاك الربّ إليها: “فكان الذي يسبق إلى النزول بعد فوران الماء يُشفى مهما تكن علّته” (يو5: 4، أنظر9: 7). ويقول أحد أناشيد كنيستنا إن “طبيعة المياه” قد تقدَّست بمعموديّة المسيح في الأردن: “اليوم قد تقدّست طبيعة المياه، فاقشعرّ الأردن وكفّت مسايلها نفسها عن الجريان، لأنها رأت السيّد نازلاً إليها”. وفي نشيد آخر: “يا نهر الأردن، امتلئ حبوراً. ويا أيتها الأرض والبحر والآكام والجبال وقلوب البشر، ابتهجوا الآن لأن النور قد سطع عليكم”.
إن مياه الأردن لم تقبل المسيح وحسب. بل أن أمراً أكثر أهميّة قد حصل، وهو أن المسيح قبل في أحضانه المياه وجميع عناصر الطبيعة فقدَّسها، كما قَبِلَ في جسده المعلَّق على الصليب الخليقة بأسرها فحرَّرها من قيود الشيطان.
ماء التقديس المتحوِّل في الكنيسة التي هي جسد المسيح، ليس ماء عالم السقوط الموجود في الطبيعة. صحيح أنه لا يختلف عنه بطعمه أو صفاته الأخرى، ولكن تقديسه في الكنيسة يجعله “شراباً روحيّاً” منبجساً من “الصخرة الروحية” التي هي المسيح (1كو10: 4)، فيصير ينبوع البركة والنعمة (خر15: 25).
ولهذا السبب تقول إحدى الترانيم الرائعة: “يا ربّ، يا من قبلت أن تتعمَّد في الأردن وتقدِّس بذلك المياه، أمل أذنك واستمع إلينا، وباركنا جميعاً، الذين بإحناء رؤوسنا نظهر صورة العبد. أهّلنا أن نمتلئ من نعمتك المقدَّسة، شاربين قليلاً من هذا الماء ونضحه علينا. ليكون صحّةٌ للنفس والجسد معاً. لأنك أنت الذي تقدِّس نفوسنا وأجسادنا. ولهذا نرفع لك تمجيدنا واعترافنا بالجميل وسجوداً، مع أبيك الذي لا بدء له وروحك الكلّي قدسه الصالح والمحيي، الآن وكل أوان، وإلى أبد الآبدين آمين”.
(1) المقصود هنا هو القديس الشهيد أحمد الخطاط… (الشبكة)