Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – الولادة من فوق

قال المسيح لنيقوديموس: “ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت السماوات إلاّ إذا وُلد من فوق” (يو 3: 3). ولم يفهم نيقوديموس كلام المسيح، فسأله: “كيف يسعَ الإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ فأجاب يسوع: (الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلاّ إذا وُلد وكان مولده من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسداً ومولود الروح يكون روحاً. لا تعجب من قولي لك: يجب أن تولدوا ثانية….” (يو 3: 4-7، أنظر يو 1: 12-13).

الولادة العلوية التي يتحدَّث عنها المسيح هي “غسل الميلاد الثاني والتجديد الآتي من الروح القدس” (تيطس3: 5)، أي نيل الروح القدس بالمعمودية التي تتم على اسم الثالوث القدوس.

سأل الحشد المجتمع بطرس والرسل: “ماذا يجب علينا أن نعمل، أيها الإخوة؟” فقال لهم بطرس: “توبوا، وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح ولتُغفر خطاياكم، وينعم عليكم بالروح القدس” (أع 2: 38).

حضور الروح القدس هو الذي يجدّد ولادة الإنسان. وهذا الحضور يحصل داخل الكنيسة بواسطة سرّ المعمودية والأسرار الأخرى.

لم تكن المعمودية عملاً تعسفياً فرضه الرسل، بل كانت وصيَّة تلقوها من المسيح مباشرة (متى 28: 19) حين أكّد لهم “أن من آمن واعتمد يخلص، ومن لم يؤمن يُقْضَ عليه” (مر 16: 16).

بالمعمودية يتّخذ الإنسان جسد المسيح، ويبلغ جسد الرب الناهض. فعندما يُغطَّس ثلاث مرّات في جرن المعمودية يشارك في بقاء المسيح ثلاث أيام في الجحيم، ومتى خرج من الماء تكون طبيعة آدم القديمة قد ماتت فيه، ولبس الطبيعة الجديدة، طبيعة المسيح الناهضة (رو 6: 93)، فلا يبقى مواطن الأرض الصائر إلى الموت، بل يسجِّل مواطناً في السماء ويُكتب اسمه بين الأحياء (عب 12: 23).

ولو كنّا قادرين على أن نرى الإنسان الخارج من جرن المعمودية بعين روحية صافيّة، لأدركنا التحوّل والتبدّل الحاصلين بواسطة هذا السرّ، وتأكدنا أنه قد خلع بالمعمودية الإنسان القديم ولبس جسد المسيح الناهض والمتبدّل، أي أنه وُلد مجدّداً بطريقة روحية (يو 3: 4-7، 1: 12-13). ويصف بولس الرسول هذا الحدث في قوله: “أوَتجهلون أننا، وقد اعتمدنا في يسوع المسيح، إنما اعتمدنا في موته فدُفنا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب؟ فإذا اتَّحدنا به في موت يشبه موته، فكذلك تكون حالنا في قيامته. وإننا نعلم أن إنساننا القديم قد صُلب معه ليزول هذا الجسد الخاطئ، فلا نظل عبيداً للخطيئة، لأن الذي مات تحرَّر من الخطيئة. فإذا كنّا قد متنا مع المسيح، فإننا نؤمن بأننا سنحيا معه (رو 6-8).

ب – شـروط المعموديـة

قال المسيح أن الخلاص هو نصيب الإنسان الذي يؤمن ويعتمد (مر 16: 16)، أي أن شرط المعمودية هو الإيمان بشخص المسيح. وعندما نقول أن على الإنسان أن يؤمن، لا نقصد إيماناً مجرّداً أو مجّانياً، كما يحصل عندما يقول بعض الأشخاص: أنا أؤمن أن هناك قوة عليا! إننا نقصد إيماناً يكون الإنسان مستعداً أن يبذل في سبيله كل شيء حتى حياته نفسها إذا طُلبت منه.

هذا ما فعله شهداء كنيستنا، وهذا ما نحن مدعوون لفعله أيضاً: أن ننظر إلى إيماننا على أنه أثمن شيء نمتلكه، وألاّ نبادله بالمال ولا بصداقة الناس ولا بحياتنا نفسها (أنظر متى 16: 25، مر 8: 35، لو 9: 24، يو 12: 25).

ولا بدّ أن يتكوّن هذا الإيمان من ثلاثة عناصر رئيسية:

  • رفض الشيطان: بالابتعاد عن كل إيمان، أو فكرة، أو عمل شيطاني (يع 4: 7). وهذا ما يعجز عنه الإنسان بمفرده، لأنه خاضع لسلطة الشيطان (1 يو 5: 19، يو 12: 31، 14: 30). ولهذا السبب فإن كنيستنا قبل المباشرة بسرّ المعمودية تأمر الروح الشرير، باسم المسيح، أن يخرج من “جندي المسيح إلهنا الجديد” الذي خُتم بإشارة الصليب الكريم، ويبتعد عنه ولا يعود إليه مطلقاً. وبختم الصليب الكريم يؤمر الشيطان بالابتعاد عن ماء المعمودية المقدسة أيضاً، حتى يكون “ماء الفداء، ماء التقديس، تطهيراً للجسد والروح، حميماً لإعادة الولادة، تجديداً للروح، نعمة للتبنّي، سربالاً لعدم الفساد وينبوعاً للحياة” وأن يتجدد المعتمد فيه بعد أن يكون قد خلع الإنسان العتيق، إنسان الفساد، ولبس الإنسان “المتجدّد” على صورة خالقه لكي يصبح “مشتركاً” في موت المسيح وفي قيامته أيضاً.
  • الانتماء إلى المسيح: أي تحويل الأفكار والأعمال والمحبة والحياة بكاملها إلى المسيح والخضوع التام له (يع 4: 7).
  • السجود للمسيح وعبادته.

ج – معمودية الأطفال

كان الناس في الكنيسة القديمة يتنصّرون كل بمفرده، فيقْبِلون على المعمودية في سن متأخرة، بعد أن يكونوا قد تلقّوا من الإرشاد والوعظ ما يثبِّت إيمانهم بالمسيح. وهكذا وِجِدَتْ في الكنيسة فئة خاصة هي فئة الموعوظين، وما تزال آثار وجودها باقية حتى اليوم في القداس الإلهي، وتحديداً في القسم الأول منه، وهو مؤلف من السلاميات والأنتيفونات والقراءات وينتهي بأدعية من أجل الموعوظين، ويدعى باسمهم: قداس الموعوظين.

لكن هذا الأمر لا يعني أن الكنيسة المقدّسة كانت تمنع معمودية الأولاد، أو حتى الأطفال أنفسهم، لأن هذا المنع يعني حرمانهم من الخلاص (يو 3: 5)، ولأن المسيح نفسه دعا الأطفال الصغار إليه، ووضع يده عليهم، فباركهم ونقل إليهم نعمة الروح القدس، قائلاً أن لمثلهم ملكوت السموات (متى 19: 14-15، مر10: 13-16، لو18: 15-17).

وكان الرسل يعمدّون أعضاء العائلات التي تهتدي إلى الإيمان كلهم ودون تمييز (أع 16: 15-33، 1 كو1: 15). ونرى أن الكتاب المقدّس يُظهر الختان كصورة للمعمودية (كول 2: 11-12)، وهو كان يتمُّ في اليوم الثامن لولادة الطفل (تك 17: 12، لاويين 12: 3).

وهكذا يظهر أن معمودية الأطفال كانت عادة متّبعة في الكنيسة القديمة. أمّا تأجيل المعمودية إلى سن أبعد فهي عادة متأخرة. وقد ذكر القديس إيريناوس (150 م) هذه العادة الكنسيّة، بينما لاحظ القديس قبريانوس (250 م) أنه “إذا كان المسنّون الذين سقطوا في خطايا كبيرة يستحقون نعمة المعمودية المقدّسة، فكم بالأحرى يستحقها الأطفال الذين لم يخطأوا بطبيعتهم، بل هم مشاركون في الخطيئة الأصلية وحدها، وهي غريبة عن إرادتهم”. أمّا القديس غريغوريوس اللاهوتي فقال إنه ينبغي أن يعتمد الأولاد في سن الطفولة، “حتى يتقدَّسون ويكرَّسون منذ نعومة أظافرهم”.

د – أهميّة المساهمة الشخصيّة في المعمودية المقدّسة

قد يتساءل البعض: هل يستطيع الطفل أن يدرك هذا السرّ المقدّس؟ والواقع أن إدراك السرّ لا يتوقف على مقدرة الإنسان الذهنية بل على محبة الله. لذا يقول نيقولا كاباسيلاس: “نحن لم نطلبه (الله) بل هو طلبنا. فالشاة لا تطلب الراعي بل الراعي يطلب الشاة، ولا الدرهم يطلب ربّ البيت، بل ربّ البيت يطلب الدرهم. كل شيء يأتي من الله. وما على الإنسان سوى أن يقبل آثار النعمة الإلهية، ولا يضع العراقيل أمامها. وهذا ما يفعله الطفل الصغير بطريقة أفضل كثيراً، لأنه لا يقدر أن يضع العراقيل أمام نعمة الله أو أن يقاومها نفسيّاً.

لا شك أن مساهمة الطفل في المعمودية ضئيلة، ولكن ليس لهذا الأمر أهميّة كبيرة، لأن القدرة الإدراكية لدى البالغ يمكنها أيضاً ألاّ تنسجم مع نتائج هذا السرّ المقدّس، غير المدرَك وغير الموصوف.

لهذه الأسباب تعمِّد الكنيسة الأرثوذكسية الأطفال وتؤمن أن هذا العمل صحيح وموافق لإرادة المسيح (متى19: 14–15).

هـ – مسؤولية الأهل والعرّابين

يتّضح في حال اعتماد الأطفال أن مسؤولية تعليم الإيمان وتنميته لدى عضو الكنيسة الجديد تقع على عاتق أهله وعرّابه.

فما هو قوام هذه المسؤولية؟ وبماذا يتعهّد العرَّاب، أو الموعوظ نفسه إذا اعتمد وكان بالغاً، كما يجري في بلاد الإرساليات؟ والواقع إننا نجد الجواب في الخدمة المقدّسة التي تُقام للموعوظ قبل المباشرة بسرّ المعمودية: يدير الكاهن الموعوظ إلى الغرب ويسأله إذا كان يرفض الشيطان ويتخلى عن كل شيء يتعلق به وبأعماله وعبادته فيجهر الموعوظ ثلاث مرّات برفضه الشيطان. فيكون فد أقام عهداً مقدّساً مع الله والكنيسة، بأنه قد قطع كل علاقة بالشيطان وأعماله: “نعم رفضت الشيطان!” يردِّدها ثلاث مرّات معلناً تخلّيه النهائي عنه.

وهنا يدعو الكاهن الموعوظ -أو عرابه- إلى عمل رمزي، فيقول: “أبصق على الشيطان!”، فيبصق ثلاث مرّات باتجاه الغرب، معلناً أنه لم يقطع علاقته بالشيطان وحسب، بل إنه يشعر أيضاً بكراهية واشمئزاز نحو كل ما يتعلق به، ولذلك يبصق في وجهه. ثم يوجّه الكاهن الموعوظ نحو الشرق ويسأله: “أرفضت الشيطان؟”، أي هل أنت مع المسيح؟ فيعلن الموعوظ رغبته في أن يصير عضواً من أعضاء المسيح وأن يدخل كنيسته، قائلاً: “رَفضتُ الشيطان”. ويسأله الكاهن ثلاث مرات: “أوافقت المسيح؟” فيؤكد الموعوظ الرغبة نفسها قائلاً: “وافقتُ المسيح!” ويستمر هذا الحوار المؤثر بين الكاهن والموعوظ -أو عرّابه- حتى يتأكد الكاهن أن الموعوظ قد ترسَّخ في الإيمان الأرثوذكسي، فيسأله: “وهل تؤمن به؟” فيصرخ ا لموعوظ: “أؤمن أنه إله وملك” (أنظر يو 20: 28). ولكن الكاهن لا يكتفي بذلك، بل يطلب من الموعوظ أن يؤكّد إيمانه بكل العقائد الأرثوذكسية التي صاغتها المجامع المسكونية، فيطلب منه أن يتلو دستور الإيمان بصوت مرتفع، حتى يسمعه جميع أعضاء الكنيسة الذين يقيم معهم في تلك عهداً مقدساً. وهكذا يعلن الموعوظ أمام شعب الله أن إيمانه هو إيمان الكنيسة الأرثوذكسية، أي الإيمان بإله واحد مثلَّث الأقانيم، وبالكنيسة الواحدة المقدّسة الجامعة الرسولية التي تعترف “بمعمودية واحدة لغفران الخطايا” وتترجّى “قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي”.

يلي رفض الشيطان إذاً “موافقة المسيح” والاعتراف بالإيمان الأرثوذكسي، ولا بدّ بعد ذلك من السجود لله المثلّث الأقانيم والخضوع التام لمشيئته والتوكّل على رحمته العظمى، لذلك يقول الكاهن: “أُسجد له” فيقول الموعوظ: “أَسجد للآب والابن والروح القدس، ثالوث متساوٍ في الجوهر وغير منفصل!” (أنظر يع 4: 7).

تشير هذه الطقوس إلى المسؤولية العظمى التي تترتب على الأهل والعرّابين عندما يأتون بأطفالهم إلى الكنيسة ويقبلون أن يكونوا عرّابيهم بعد خروجهم من جرن المعمودية المقدّس. فهم يقيمون عهداً مقدّساً ويتعهّدون أنهم سيعلمون أولادهم الإيمان الأرثوذكسي، ويدخلونهم تدريجياً في كامل حياة الكنيسة. وإنها لمسؤولية عظيمة حقاً!

وبعد إتمام هذا العهد مع الكنيسة، يمجِّد الكاهن اسم الله من أجل هذا الحدث العظيم: “مبارك الله الذي أراد أن الكل يخلصون والى معرفة الحق يقبلون، الآن وكل أوان والى دهر الداهرين!” وتختتم الصلاة على الموعوظ بدعاء جميل فيبتهل الكاهن إلى الله أن يدعو الموعوظ “إلى النور المقدس” وأن يؤهله لمواهب الروح القدس العظيمة: “إنزع عنه العتاقة وجدّده للحياة الأبدية. إملأه من قوة روحك القدوس، لكي يتّحد مع مسيحك، فلا يكون فيهما بعد ابناً للجسد بل ابناً لملكوتك”.

و – مؤازرة الكنيسة

إن الأهل والعرّابين لا يقومون وحدهم بإتمام هذا الواجب المقدّس، لكن الرعيّة الأرثوذكسية التي ينتمون إليها تؤازرهم في ذلك، عن طريق خدماتها الروحيّة وحياتها الكنسيّة وتعليمها الديني، التي تقدّمها في كافة المناسبات. وتقوم المدرسة الأرثوذكسية أيضاً بدورها في هذا المجال، بتقديمها التعليم الديني المنظَّم، إضافة إلى كتب الأطفال والمجلاّت الأرثوذكسية التي تساعد في مسيرة التعليم الديني وإدخال الأطفال في حياة الكنسية.

وهذه المساعدات، وخاصة مؤازرة الكنسية، ليست تدخلاً في واجبات الأهل، بل على العكس من ذلك. فالأهل الذين يأتون بأطفالهم إلى الكنيسة حتى يعتمدوا، يعلنون بعملهم هذا عن رغبتهم في إدخال أولادهم إلى حياة الكنيسة، وهي شركة في حياة المسيح وليست تقوى خاصة لكل منهم بمفرده. ولهذا السبب، فإن إبعادهم عن الحياة الليتورجية والتعليم الديني، يكون إخلالاً بالوعد المقدس الذي قطعوه مع الله والكنيسة، عندما قادوا أولادهم إلى المعمودية المقدسة.

إن الأهل والعرّابين هم كفلاء الطفل المعتمد الذي تبنّوه بالمعمودية المقدسة، وعليهم أن يهتمّوا بإدخال عضو الكنيسة الجديد إلى كامل حياة الكنيسة. وإذا لم يحثّوه على الانتماء إلى حركة التعليم المسيحي في الرعيّة، ويأخذوه بأنفسهم إلى الكنيسة، فإنهم يخونون إيمانهم أمام الله والكنيسة.

وهذه هي الخلاصة التي يمكن استنتاجها من خدمة (الصلاة على الموعوظ) الجميلة والمؤثرة.

ز – سلاح الروح القدس

بالمعمودية المقدّسة ينتمي الإنسان إلى جسد المسيح، أي إلى الكنيسة، ويغدوا شريكاً في الخليقة الجديدة. ولكن المسيح ذكر لنيقوديموس أن على الإنسان أن يولد “من الماء والروح” (يو 3: 5)، وفي مكان آخر: “من كان عطشان فليأتني، ومن آمن بي فليشرب. فقد قال الكتاب: ستجري من جوفه أنهار من الماء الحيّ” (يو7: 37-38). وأكّد يوحنا الإنجيلي أن يسوع “أراد بذلك الروح الذي سيتلقاه المؤمنون به، فما كان الروح يومئذ قد أُعطي بعد” (يو 7: 39، أش 55: 1).

ونحن نعلم أن هذا الأمر قد تمّ في اليوم الخمسين، حينما امتلأ “الرسل كلهم من الروح القدس” (أع 2: 4). لكن الروح القدس يأتي في سرّ المسحة بالميرون على كل إنسان بمفرده فيحيه. ويشهد الكتاب المقدس أن المعمودية ليست كافية لـ “ملء” الإنسان من الروح القدس. لذلك نرى الرسولين بطرس ويوحنا يذهبان إلى السامرة ليضعا أيديهما على رؤوس المسيحيين ناقلين الروح القدس إليهم (أع 8: 15-17)، ونرى الرسول بولس يقوم بالعمل نفسه من أجل مسيحيي أفسس (أع 19: 5-7). ثم يقول لهم: “وفيه (المسيح) أنتم أيضاً، وقد سمعتم كلام الحق أي بشارة خلاصكم وآمنتم، خُتمتم بروح القدس الموعود عربون ميراثنا” (أف1: 13-14، أنظر 1 يو 2: 20).

في المعمودية يتّحد الإنسان بالمسيح، ويشترك بموته وقيامته. لكن المسحة المقدسة، أي خُتم الروح القدس، هي “العربون” (أف 1: 14، 2 كو 1: 22) أو بداية ملكوت الله. أمّا اشتراك الإنسان في الحياة الإلهية فيتم بسرّ الشكر الإلهي. وقد أقامت الكنيسة الأرثوذكسية وحدة داخلية بين هذه الأسرار المقدّسة فلم تحرّمها حتى عل الأطفال.

يُقال في أفشين المسحة المقدّسة: “أنت يا من رضيت الآن أن تجدّد ولادة عبدك المستنير جديداً بالماء والروح، والذي وهبته غفران الخطايا التي فعلها طوعياً أو كرهياً، أنت ايها السيّد الرحيم، ملك الكل، أعطه أيضاً ختم موهبة روحك الكلّي الاقتدار والمسجود له وتناول جسد مسيحك المقدّس ودمه الكريم. إحفظه داخل قداستك الذاتية، وأمّن له طريق الإيمان القويم. نجِّه من الشرير ومن جميع حيله. احفظ نفسه بخوفك الخلاصي ضمن الطهارة والعدالة، ليرضيك بكل قول وعمل، لكي يغدو ابناً ووارثاً لملكوتك السماوي”.

“ختم موهبة الروح القدس” هو الذي يحقِّق قدرة المؤمن على النضال ضد قوات الشيطان. ولا بدّ أن يشعر الإنسان بـ “الخوف الخلاصي” وأن يحفظ في “الطهارة والعدل” لكي يرضي الله “بكل قول وعمل” ويصبح “ابناً ووارثاً لملكوت السموات”. وهذا ما عنيناه بقولنا أن المسحة المقدّسة هي “عربون” هذا الملكوت.

ولا بدّ أن يضع الإنسان في جهاده ضد الشيطان الذي يهاجمه بعد المعمودية، سائر إمكاناته الجسدية والروحيّة، حتى ينتصر عليه. ولذلك ينبغي أن يتقدّس بكلّيته وأن يُختم ككنز لله ومسكن وهيكل للروح القدس (1 كو 3: 16-17، 6: 19، حز 36: 26-27).

وكنيستنا الأرثوذكسية تفعل ذلك عندما تَختم بالميرون المقدّس سائر أعضاء الجسد، حتى تنتقل مواهب الروح القدس إليه وتجعله بكلّيته “كائنا موهوباً” ومستعداً للحياة الجديدة “في المسيح”. وهذه هي الأسلحة المقدّسة التي تهيئها الكنيسة لكل عضو جديد فيها.

ح – هجمات العدو بعد المعمودية

بالمعمودية يتجدّد الإنسان ويولد من جديد، أو كما تقول أفاشين السرّ المقدّس: “يتشكّل” المسيح في داخله، و”يُبنى” ثم “يُزرع” في الكنيسة، مرتدياً “ثياب عدم الفساد” والرداء المنير”.

وهنا يُطرح سؤال: إذا كان الشيطان قد خرج من قلب الإنسان، ولن يعود إليه البتة، بعد ولادته الروحية، وإذا كان المسيح نفسه أصبح حياً في داخله، فكيف يُخطئ هذا الإنسان بعد المعمودية إذن؟

يقول آباء الكنيسة إن الشيطان يخرج من الإنسان بالمعمودية، لكنه يستمر في تجربته من الخارج بواسطة الحواس التي تولد الأهواء. ولذا تدعو الكنيسة في سرّ المعمودية المقدّس، أن يثبِّت الربُّ المستنير الجديد في الإيمان القويم، وأن يحفظه من الشرير ومن جميع حبائل الشيطان، وأن يجعله “مناضلاً لا يُغلب” في حربه ضد قوات العدو الخبيثة.

ط – المناضل في سبيل المسيح

تشهد هجمات الشيطان أن المرء يدخل بعد المعمودية حلبة روحية، ويُدعى إلى أن يناضل طوال حيلته ضد قوات الظلام التي تستخدم حواسه لكي تولد في داخله الأهواء المختلفة، وتحوِّل قلبه وتميته روحياً.

ولذا يقول الرسول: “فتشدّدوا أيها الأخوة، في الربّ وفي قدرته العزيزة. تسلَّحوا بسلاح الله لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس، فلسنا نكافح أعداء من لحم ودم…. فتسلّحوا بسلاح الله لتستطيعوا المقاومة في يوم الشر. فإذا أتممتم جميع ما عليكم تظلوا ثابتين” (أف 6: 10-13). أمّا يشوع بن سيراخ فيقول: “يا بنيّ أن أقبلت لخدمة الربّ الإله فأثبت على البرّ والتقوى وأعدّ نفسك للتجربة” (2: 1).

لا شك أن الخلاص هبة من الله (أف 2: 8، 1 كو 3: 7) ووقف على إرادة الله (رو 9: 16)، إلاّ أن على الإنسان أن “يفتح الباب” (رؤ 3: 20). فيجب أن نكون مساعدين لله (أنظر 1كو 3: 8) وأن نعمل لخلاصنا “بخوف ورعدة” (فلي 2: 12).

الإنسان مدعو إذاً إلى تقديم إرادته وعرقه وتعبه وخوفه ورعدته. أو كما يقول القديس مكاريوس المصري: “لا تتأخر إرادتك ولا تهمل ما يفعله الله أيضاً”. ويضيف الأنبا أشعيا أنه ولو كان الله هو يهب الفضائل، فإن الإنسان مدعو إلى أن يقدِّم له عرق كل فضيلة. “الويل للقلوب الهيّابة وللأيدي المتراخية…. ويل لكم أيها الذين فقدوا الصبر” (يشوع بن سيراخ 2: 12-14)، أو كما يقول أحد أناشيد القانون الكبير: (لأنه بدون مشاق، لا تستطيع النفس أن تحقق عملاً ولا نظراً”.

إرادة الإنسان المشتاق إلى الخلاص تدفعه إلى الجهاد الروحي حتى يتغلب على أهوائه ورغباته الخاصة، ويخضع لمشيئة الله، فيكون قد فتح باب نفسه على مصراعيه فيدخل المسيح المخلِّص (رؤ 3: 20). لذلك تشدِّد الكنيسة الأرثوذكسية على أهمية النسك في حياة كل مؤمن. “كونوا زاهدين وساهرين، فإن إبليس خصمكم كالأسد الزائر يرود في طلب فريسة له، فقاوموه وأنتم راسخون في الإيمان” (1 بط 5: 8-9، أنظر أف 6: 10-13). فالخطر قائم إذن، حتى بعد المعمودية المقدّسة، و المسيحي مدعو إلى أن يكون مناضلاً “لا يُغلب” أمام هجمات المعاند وحيله، وأن يضع نصب عينيه أقوال الربّ: “إن الروح النجس إذا خرج من الإنسان، هام في القفار يطلب الراحة فلا يجدها، فيقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت. فيأتي فيجده خالياً مكنوساً ومزيناً. فيذهب ويستصحب معه سبعة أرواح أخبث منه، فيأتون ويقيمون فيه، فيكون ذلك الإنسان في حالته الآخرة أسوأ منه في حالته الأولى” (متى 12: 43-45).

فعلينا أن نتنبه جيّداً، لأن هذا الأمر قد يحصل لأيٍ منّا.


حاشية مرتبطة بعنوان الفصل “انضمام الإنسان إلى الكنيسة”: راجع الفصل المتعلق بالمعمودية في كتاب “مدخل الى العقيدة المسيحية” لكوستي بندلي ومجموعة من المؤلفين، منشورات النور، و”الكنيسة الأرثوذكسية، إيمان وعقيدة” لتيموثي وير ، سلسلة “تعرف الى كنيستك” منشورات النور ( الناشر ).

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى