Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – الكهنوت الخاص في العهد القديم

اختار الله إسرائيل وميزه عن سائر الأمم ليكون كهنوتاً ملوكياً وشعباً مقدّساً (خر 19: 5-6، تث 14: 2، 26: 19). ثم أقام في وسط شعبه مصفّاً كهنوتياً محدّداً وأسند إليه خدمة خاصة. وكان هذا الكهنوت وقفاً على هارون وأبنائه، الذين عينهم موسى، لمّا صب على رأسهم من دهن المسحة، بعد أن غسلهم بالماء وألبسهم الحلل الكهنوتية (خر 28: 1، 28: 37: 39، 29: 9، 30: 30، 40: 11-13، لاو 8: 1-13).

ونرى في العهد القديم تكريس اللاويين لهذه الخدمة الخاصة، وعدم السماح لأحد بأن يعارض الرتبة التي أوكلها الله نفسه إليهم. وأوضح دليل على ذلك هو الحادثة التي عوقب فيها قورح. فإنه مع انتمائه إلى سبط اللاويين وإقامته الخدمات المقدسة في خباء الربّ، ثار في وجه موسى وهارون قائلاً: “كفى! أن الجماعة كلهم مقدّسون والربّ فيما بينهم، فما بالكما تترفعان على جماعة الربّ” (عد 16: 3). وحاول موسى عبثاً إقناعه أن الرب نفسه يختار الكهنة (عد 16: 5-11، أنظر لاو 8: 1 الخ. .) وأن مؤامرته ليست ضد البشر بل ضد الله نفسه، “أمّا هارون فما هو حتى تتذمرون عليه؟” (عد 16: 11)، أليس هو الذي اختاره الله؟

وكان عقاب هؤلاء العصاة قاسياً: “فعند فراغه من هذا الكلام انشقت الأرض التي تحتهم. وفتحت الأرض فاها فابتلعتهم هم وبيوتهم وكل إنسان لقورح وجميع المال. فهبطوا هم وجميع ما لهم أحياء إلى الجحيم وأطبقت الأرض عليهم وبادوا من بين الجماعة” (عد 16: 31-33، انظر عد 17: 16-21، سيراخ 45: 6-22).

وحاول الملك عزيا فيما بعد أن يستغل السلطة الكهنوتية، فكان عقابه قاسياً أيضاً، فقد ظهر البرص في جبهته وبقي أبرص إلى يوم وفاته (أخبار الأيام الثاني 26: 16-21، أنظر 1 أخ 13: 9-10).

ب – “أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق”

يشير بولس الرسول إلى آية: “أقسم الربّ ولن يندم، إنك كاهن على رتبة ملكيصادق” (مز 109: 4) وأوضح أن ملكيصادق كان ملكاً على شاليم وكاهناً لله العلي (تك 14: 18)، وأن اسمه يعني ملك العدل والسلام “وليس له أب ولا أم ولا نسب، وليس لأيامه بداءة ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله…ويبقى كاهناً إلى الأبد” (عب 7: 3).

ويؤكّد الرسول أيضاً أن إبراهيم، بالرغم من كونه رجل مواعد لله، لم يبارك ملكيصادق، بل تبارك منه (تك14: 19) وقدّم له العشر من الغنائم التي استولى عليها (تك 14: 20). وهذا يعني أن إبراهيم، وهو رئيس لنسل كهنوتي على رتبة هارون، يعترف بكهنوت ملكيصادق الفريد (تث 14: 22-23).

ويذكر الرسول: “ومما لا خلاف فيه أن الأصغر يتلقى البركة من الأكبر” (عب 7: 7).

والمسيح، مثل ملكيصادق، لم يكن على رتبة هارون، ولم يتحدّر من سبط اللاويين بل “ينتمي إلى سبط آخر لم يقم أحد منه بخدمة المذبح. فمن المعروف أن ربنا خرج من يهوذا، من سبط لم يذكره موسى في كلامه على الكهنة” (عب 7: 13-14). فلا يمكن أن يُدرج إذن بين كهنة العهد القديم، لأنه كاهن “لعهد أفضل” (عب 7: 22). “أولئك الكهنة كان يقام منهم عدد كثير لأن الموت يحول دون بقائهم، وأمّا هذا الذي يبقى إلى الأبد فله كهنوت لا يزول. وهو قادر على أن يخلّص الذين يتقرّبون به إلى الله خلاصاً تاماً لأنه حيّ باق ليشفع لهم. أجل، هذا هو الحبر الذي يلائمنا قدّوس بريء لا عيب فيه ولا صلة له بالخاطئين، جُعل أعلى من السموات، لا حاجة به إلى أن يُقرّب كالأحبار كل يوم ذبائح كفارة لخطاياه أولاً ثم لخطايا الشعب، لأنه فعل ذلك مرّة واحدة، حين قرّب نفسه. أن الشريعة تقيم أناساً ضعفاء أحباراً، أمّا كلام القسَم الآتي بعد الشريعة فيقيم الابن وقد جُعل كاملاً إلى الأبد” (عب 7: 23-28). “ودخل قدس الأقداس مرّة واحدة… بدم نفسه، فكسب لنا فداء أبدياً” (عب 9: 12).

ويتعمق الرسول أكثر في نصوص العهد القديم فيشير إلى الآية التالية: “ذبيحة وتقدمة لم تشأ، لكنك هيّأت لي جسداً. ولم تطلب المحرقات ولا ذبائح الخطيئة. حينئذ قلت ها أنذا آت. فقد كُتب عني في درج الكتاب، لأعمل يا إلهي بمشيئتك” (مز 39: 7-9). ثم يذكر أن صاحب المزامير يشير إلى “تقدمة جسد الرب يسوع المسيح التي قدَّسنا بها مرّة واحدة وإلى الأبد” عب 10: 5-14). “ولما كنّا واثقين، أيها الإخوة، بأن لنا سبيلاً إلى القدس بدم يسوع، سبيلاً حيّة فتحها لنا في الحجاب وهي جسده، وأن لنا كاهناً عظيماً على بيت الله، فَلْنَدْنُ بقلب صادق وإيمان كامل، وقلوبنا مطهّرة من سوء النيّة وأجسادنا مغسولة بماء طاهر، ولنتمسك بما نشهد له الرجاء ولا نحد عنه، لأن الذي وعد به صادق، ولينتبه بعضنا إلى بعض للبحث على المحبة والأعمال الصالحة. ولا تنقطعوا عن الاجتماع كما اعتاد بعضكم أن يفعل، بل حثّوا بعضكم بعضاً وبالغوا في ذلك على قدر ما ترون أن اليوم يقترب” (عب10: 19-25).

وهكذا يظهر أن ثمة رئيس كهنة وحيد في العهد الجديد، أنه المسيح الحاضر دائماً في كل اجتماع مسيحي (متى 28: 20) ولو اقتصر على شخصين أو ثلاثة (متى 18: 20). وهو راعي الرعية الواحدة (يو 10: 16)، راعي نفوسنا وحافظها (1بط 2: 25)، راعي الخراف العظيم (عب 13: 20)، “رئيس الرعاة” (1بط5: 4) و”رئيس الكهنة العظيم” (عب4: 14) الذي “دخل قدس الأقداس مرّة واحدة… فكسب لنا فداء أبدياً… وقرّب نفسه إلى الله بروح أزلي قرباناً لا عيب فيه، حتى يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحيّ” (عب9: 12-14، أنظر خر 34: 15-24، 37: 24).

لا توجد ثغرات إذن في تاريخ الكنيسة، فحيث يجتمع “اثنان أو ثلاثة” باسم المسيح (متى 18: 20)، في اجتماع شُكري عبادي، فإن رئيس الكهنة العظيم والوحيد يكون بينهم. والأمر نفسه يحصل عندما يُكرز بالإنجيل أو يجتمع المؤمنون للقيام بأعمال المحبة وإحياء الرابطة الأخوية، لأن “المقرِّب والمقرَّب” يجعل “الكل في الكل” (كول 3: 11، 2 كو 13: 3).

ج – الخبز الحي المنحدر من السماء

“قال الرب لموسى: ها أنا ممطر لكم خبزاً من السماء فليخرج القوم ليلتقطوه، طعام كل يوم في يومه” (خر 16: 4). “اضرب الصخرة، فإنه يخرج منها ماء فيشرب الشعب” (خر 17: 6، عد 20: 7-11).

حصل هذان الحدثان للشعب الإسرائيلي في العهد القديم، ولكن بولس الرسول أشار إليهما: “إن آباءنا كانوا كلهم تحت الغمام… وكلهم أكلوا طعاماً روحانياً واحداً، وكلهم شربوا شراباً روحانيا واحداً، فقد كانوا يشربون من صخرة روحانياً ترافقهم، وهذه الصخرة هي المسيح” (1 كو 10: 1-5).

فالمسيح هو الذي تبعه الشعب السائر نحو أرض الميعاد عبر البرّية. وهو الذي أعطى الشعب مَنّا ليشبع، وماء ليطفئ ظمأه. وأعلن الربّ نفسه، بعد تجسّده، أن هذه الأحداث التي حصلت إبان العهد القديم كانت مثالاً وصورة لـ “خبز الحياة” أي للإفخارستيا الإلهية: “فقال لهم يسوع: “الحق الحق أقول لكم أن موسى لم يعطيكم خبز السماء بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة”. فقالوا له: “سيّدي، أعطنا من هذا دائماً وأبداً”. فأجابهم يسوع: “أنا خبز الحياة. من يأتني فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش أبداً. على أني قلت لكم: تروني ولا تؤمنون. كل ما أعطانيه الآب يجيء إليّ، ومن جاء إليَّ لا ألقيه في الخارج. فما نزلت من السماء لأتمّ مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. ومشيئة الذي أرسلني ألاّ أهلك شيئاً ممّا أعطانيه، بل أقيمه في اليوم الأخير”. فتذمَّر اليهود عليه لأنه قال: أنا الخبز الذي نزل من السماء، وقالوا: “أليس هذا يسوع ابن يوسف؟ ونحن نعرف أباه وأمه، فكيف يقول الآن: إني نزلت من السماء؟” فأجابهم يسوع: “لا تتذمّروا فيما بينكم. ما من أحد يستطيع المجيء إليَّ إلاّ إذا اجتذبه الآب الذي أرسلني. وأنا أقيمه في اليوم الأخير. كُتب في أسفار الأنبياء: كلهم سيكونون تلامذة للربّ. فمن سمع الآب وتعلم منه جاء إليّ، لا لأن أحداً رأى الآب، بل من أتى من لدن الآب، هو الذي رأى الآب. الحق الحق أقول لكم: من آمن فله الحياة الأبدية. أنا خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في البرية وماتوا. هوذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي أبذله ليحيا العالم”. فأخذ اليهود يجادل بعضهم بعضاً، وقالوا: “كيف يستطيع هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟” فقال لهم يسوع: “الحق الحق أقول لكم: إذا تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فلن تكون فيكم الحياة. من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي طعام حقاً. ودمي شراب حقاً. من أكل جسدي وشرب دمي، أقام فيّ وأقمت فيه. وكما أنا بالآب الحي الذي أرسلني، فكذلك يحيا بي من يأكلني. هوذا الخبز الذي نزل من السماء، غير الذي أكله آباؤكم ثم ماتوا. من يأكل هذا الخبز يحيّ إلى الأبد”. قال هذا وهو يعلّم في مجمع كفرناحوم. فقال كثير من تلاميذه لمّا سمعوه: “هذا كلام عسير من يطيق سماعه؟” فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمّرون، فقال لهم: “أهذا يبعث الشك فيكم؟ فكيف لو رأيتم ابن الإنسان يصعد إلى حيث كان قبلاً. إلاّ أن الروح هو الذي يحيي، وأمّا الجسد فلا يجدي نفعاً، والكلام الذي كلّمتكم به روح وحياة، ولكن فيكم من لا يؤمنون” (يو 6: 32-64)”.

يشهد هذا المقطع الإنجيلي أن المسيح، رئيس الكهنة الوحيد، قدّم وما يزال يقدّم إلى المؤمنين خبز الحياة الحقيقي، أي جسده نفسه. وهذا ليس جسداً مائتاً نتناوله نحن بواسطة أجسادنا المائتة. فالحقيقة أن التلاميذ لم يدركوا معنى أقوال الربّ، لذلك قال لهم أن الجسد المائت لا يفيد شيئاً، لكن الخبز الذي يقدِّمه المسيح ممتلئ من الروح الذي يحييه ويجعله نبع الحياة الأبدية. فليس المقصود إذاً جسد الربّ في حالة مائتة، بل جسده الناهض المتأله. وهذا ما يصير إليه الخبز في سرّ الشكر الإلهي.

د – الكهنوت في الكنيسة

ورد في العهد الجديد أن وعد الله لإبراهيم: “لنسلك أُعطي هذه الأرض” (تك 12: 7) يشير إلى المسيح (غلا 3: 16-17) وإلى “أبناء الله في الإيمان بيسوع المسيح” وفي المعمودية المقدّسة (غلا 3: 26-27، أنظر 3: 7-9). فهؤلاء هم أحفاد إبراهيم الحقيقيون (تك 21: 12، رو 9: 6-8). ولا يوجد أي اختلاف بينهم، فهم جميعاً متساوون في الكرامة، لأنهم “إنسان واحد في المسيح يسوع” (غلا 3: 28، 1 كو 12: 13، كول3: 11). ما يختلف فيهم هو الخدمة التي يؤديها كل منهم في الجسد الواحد، أي تنوع المواهب التي منها تتشكل وحدة جسد الكنيسة الواحد.

وهذا ما يصفه بولس الرسول بقوله: “إن المواهب على أنواع وأمّا الروح فواحد، وإن الخدمات على أنواع وأمّا الربّ فواحد، وإن الأعمال على أنواع وأمّا الله الذي يعمل كل شيء في جميع الناس فواحد. لكن كل واحد ويتلقى من تجليات الروح لأجل الخير العام” (1كو 12: 4-7).

ذكرنا سابقاً أن المسيح هو “راعي الخراف” و”المعلّم” الوحيد. ولم يكن مسموحاً أن يدعى أحدا “معلِّماً” (متى 23: 8) أو “أباً” بالمعنى الذي نسمّي به الله أبانا (متى 23: 9). ولكن الله جعل خِدمَتيْ “الراعي” و”المعلِّم” بين المواهب التي يوزِّعها بنفسه “ليجعل القدّيسين أهلاً للقيام بتلك الخدمة التي ترمي إلى بناء جسد المسيح” (أف 4: 11-12، 1كو 12: 27-29).

وقد اعتُبر الرسل أنفسهم آباء روحيين لأولئك الذين جدَّدتهم نعمة الله بواسطة بشارتهم (1كو 4: 15، 2كو 6: 13، 12: 14، غلا 4: 1، فيلمون 10، 3 يو 4، أنظر أيضاً الملوك الرابع 2: 12،6: 1، 13-14). وأوصوا بإكرام العمّال الروحيين وطاعتهم (1كو 16: 16، فيليبي 2: 29-30، 1تس 5: 12-13، عب 13: 17).

ونلاحظ في الذبيحة الفريدة التي قدّمها رئيس الكهنة الوحيد “مرة واحدة وإلى الأبد” (عب 7: 27)، إن الربَّ يؤكِّد لتلاميذه أن الخبز والخمر، المباركين في العشاء السرّي، قد تحوّلا إلى جسده ودمه نفسيهما (متى 26: 26-28، مر 14: 12-24، لو 22: 19-20)، وأنه جعل مساهمة الإنسان في الحياة الأبدية وقفاً على تناول جسده ودمه (يو 6: 48-49). ولهذا السبب أوصى تلاميذه أن يقيموا هذا السرّ الخلاصي (لو 22: 19، 1كو11: 24-25).

ولا شك في أن إقامة هذا السرّ تعني تذكاراً وإعلاناً لذبيحة الربّ الوحيدة (لو 22: 19، 1 كو 11: 26). ولكن أهميته لا تقتصر على التذكار، كما يدَّعي الهراطقة، ففي هذا السرّ المقدّس يتم فعلاً تحوّل الخبز إلى جسد الربّ، والخمر إلى دمه. ولم يكن لدى الرسل والكنيسة الأولى أي شك في هذه المسألة: “أليست كأس البركة التي نباركها مشاركة في المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك إلاّ خبز واحد، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد” (1كو 10: 16-17). ولذا أوصى القديس بولس مسيحيي مدينة كورنثوس أن يعتبروا الرسل “خدماً للمسيح ووكلاء أسرار الله” (1كو4: 1).

ولكن الربّ أعطى تلاميذه، إضافة إلى سلطة إقامة سرّ الشكر الإلهي، القدرة على حل خطايا البشر أو ربطها (متى 18: 18، يو 20: 21-23). وفي عرف الكتبة أن الله وحده يملك هذا الحق. وبإمكاننا نحن أن نقبل عرفهم بسهولة، غير أن المسألة تكمن في عدم قبول الكتبة للاهوت المسيح. لذلك ادّعوا أنه قد جدّف لمّا نسب هذا الحق إلى نفسه (متى9: 3، مر2: 7).

هذا لا يعني أن المسيح يتخلّى أو يتنازل لأحد عن كهنوته الفريد. فهو يبقى “كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكيصادق” (مز109، عب 7: 21). لكن كل مسيحي يصير عضواً في جسد الرب الواحد الوحيد، بالمعمودية المقدّسة، ويشترك في قداسة المسيح فيتقدّس شخصياً، بمساهمته في حياة الكنيسة، فيكون كهنوت البشر اشتراكاً في كهنوت المسيح. وعلى هذا المنوال يغدو الرسل وخلفاؤهم صوراً منظورة لحضور المسيح داخل الكنيسة، فيحققون وحدة جسده.

السلطة الرسولية ليست سلطة شخصية للبشر الذين دعاهم المسيح ليصيروا أدوات نعمته، بل سلطة خدمة ترتبط داخلياً بالكنيسة التي هي “ملء المسيح”. ونرى في الكتاب المقدّس إشارة إلى هذه السلطة المرتبطة بالمسيح والكنيسة كلها، فقد قال الربّ لتلاميذه: “كما أرسلني الآب أرسلكم” (يو20: 21). و”من قَبِلَكُم وسمع كلامكم فقد قَبِلَني وسمع كلامي” (متى10: 40، أنظر لو10: 16، يو13: 20).

لم يشك الرسل مطلقاً في أن الربّ هو “الذي يعمل كل شيء في جميع الناس” (1كو12: 6). ويقول الرسول يوحنا بوضوح “إذا اعترفنا بخطايانا فإنه (المسيح) أمين عادل يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم” (1 يو1: 9، أنظر أمثال 28: 13). وإذن فإنهم لم يقولوا كلاماً خاصاً بهم، بل كانوا يكرزون بكلام المسيح، و”بفمه” (أنظر متى10: 40، 28: 20)، ويتحدّثون بما يمليه عليهم الروح القدس (1كو2: 13، أع15: 28). ولم تكن سلطتهم ذاتية بل سلطة المسيح نفسه (1 يو1: 9)، لذلك فإنهم فعلوا كل شيء باسم المسيح. أو كما قال بولس الرسول: “وأمّا نحن فلنا فكر المسيح” (1كو2: 16). فكهنوت الرسل كان اشتراكاً في كهنوت المسيح، ووجودهم ضماناً لحضور المسيح وفعاليّة الروح القدس داخل الكنيسة (1كو12: 3). وهذا هو سرّ حضور الكنيسة العظيم.

هـ – موقع الأساقفة في الكنيسة

في الفترة التي تلت العصر الرسولي انتقل موقع الرسل في الكنيسة، كما حدَّده الكتاب المقدّس، إلى الأساقفة. وقد ذكر إقليمس أسقف روما في أواخر القرن الأول أن الرسل بشَّروا “بملكوت الله” وعمّدوا كل من آمن ببشارتهم، ونظّموا الكنائس فأقاموا فيها “أساقفة وشمامسة”. وأضاف: “وهذا ليس بجديد. فمنذ سنوات عديدة كُتب في شأن الأساقفة والشمامسة: إنهم رتّبوا أساقفتهم بالعدل وشمامستهم بالإيمان”.

الآية التي يستشهد بها اقليمس موجودة في سفر أشعياء النبيّ الذي تحدَّث عن مجد أورشليم الجديدة، أي الكنيسة التي ستغدو “فخر الدهور وسرور جيل فجيل” (أش 60: 17)، لأن الله يقول: “سأجعل وُلاتكِ سلاماً ومسخَّريكِ عدلاً. فلا يسمع من بعد بالجور في أرضك، ولا بالدمار والحطم في تخومك، بل تدعين أسوارك خلاصاً وأبوابك تسبيحاً” (أش60: 17-18).

وشهادة اقليمس ليست الوحيدة في الكنيسة الأولى. فبعد سنوات قليلة يكتب القديس إغناطيوس أن الأساقفة يقومون “مقام الله” ويحاطون بالشيوخ “الكهنة” الذين يطلق عليهم اسم “مجمع الله” لأنهم “في مقام مجمع الرسل”: “أيها الأساقفة اعتنوا بالكهنة والشمامسة… اقتدوا بيسوع المسيح مثلما اقتدى هو بأبيه”.

كانت سلطة الأسقف في الكنيسة الأولى سلطة المسيح والكنيسة ولم تكن سلطة شخصيّة. وكما أن الرسل كان لديهم “فكر المسيح” (1كو2: 16)، والقرارات التي كانوا يتّخذونها في المسائل الكنسية تتم بإرشاد الروح القدس (أع15: 28) وليس من لدنهم، فإن القديس إغناطيوس يعتبر أن الرسل كان لديهم “رأي يسوع المسيح”، أي أنهم لم يفرضوا وجهات نظرهم الذاتيّة بل أظهروا دائماً رأي يسوع: “احرصوا إذاً على أن تثبتوا تعليم الرب والرسل، لكي يتوّج بالنجاح كل ما تصنعونه”.

إن الأسقف المُقام داخل جسد الكنيسة لا يعبِّر عن رأي المسيح وحسب، بل يُظهر أيضاً الأسقف الوحيد غير المنظور، يسوع المسيح، ويكون ضمانة لهذا الظهور. فهو الذي يُظهر المسيح الربّ في أسرار الكنيسة، وفعاليّة نعمة الروح القدس داخل الكنيسة كلها. لذا يقول القديس إغناطيوس: “حيثما يظهر الأسقف فهناك يكون الشعب، وحيثما يكون المسيح فهناك تكون الكنيسة الجامعة”. ويضيف أن الشيء الوحيد الثابت والمضمون إنما هو “الإكليل الروحي”، أي سرّ الشكر الذي يقيمه الأسقف أو من يكلِّفه بذلك من الكهنة.

لكن امتيازات الأسقف لا ترفعه فوق الكنيسة، بل يبقى دائماً في داخل شعب الله الذي يشكل، مع المسيح، الكنيسة بأجمعها. ويذكر أحد اللاهوتيين الأرثوذكسيين المعاصرين أن حقيقة الأسقف هي حقيقة الكنيسة، وأن خدمته هي خدمة داخل الكنيسة. فالأسقف والمؤمنون يشكِّلون وحدة عضويّة لا يمكن أن تنفصم: “من دون الأسقف لا يوجد مؤمنون أرثوذكسيون، ومن دون المؤمنين الأرثوذكسيين لا يوجد أسقف”. أمّا القديس كبريانوس فيقول: “إن الأسقف يكون في الكنيسة، والكنيسة تكون في الأسقف”، ويكتب إلى كهنة كنيسته ذاكراً لهم أنه لا يصنع شيئاً من دون استشارتهم وبغير موافقة الشعب، فيذكِّرنا بتلك العبارة الجميلة الواردة في أعمال الرسل: “كانت جماعة المؤمنين “في الكنيسة الأولى” قلباً واحداً ونفساً واحدة” (أع 4: 32).

من هذه الأقوال كلها نخلص إلى أن الأسقف مدعو دائماً إلى إدراك علاقته بجسد الكنيسة، ولا سيَّما بالمسيح الذي هو رأسها، حتى يكون دائماً “في رأي يسوع المسيح” (إغناطيوس الإنطاكي، أنظر1كو2: 16، أع 15:28)، أي رجل محبة وخادماً للجميع على مثال المسيح (متى 20: 26-28، 23: 11، مر9: 35، 10: 43-44، لو22: 27). لأنه “إذا كنت أنا الربّ والمعلِّم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلتُ لكم من نفسي قدوة لتصنعوا ما صنعت إليكم” (يو 13: 14-15).

الأسقف مدعو إذاً إلى أن يكون، في عمله الأسقفي، خادماً للجميع، فيأخذ بيد الإنسان الضعيف الذي يعاني ويصير أباً له. فأسلحته وقواه ليست على غرار مثيلاتها عند سلاطين هذا العالم. لأنه مدعو إلى أن يسيطر بالمحبة والإقناع الشهادة. “ارعوا قطيع الله الذي وُكِّل إليكم واحرسوه طوعاً لا كرهاً، كما يريد الله، لا رغبة في مكسب خسيس بل لما فيكم من حميَّة. ولا تتسلطوا على الذين هم في رعيَّتكم، بل كونوا قدوة للقطيع. ومتى ظهر راعي الرعاة تنالون إكليلاً من المجد لا يذوي” (1 بط5: 2-4، أنظر حز 34: 1-31).

أثناء رسامة الأسقف يبتهل مترئس الخدمة: “… أنت، أيها المسيح، اجعل هذا أيضاً مدبِّراً لنعمتك الكهنوتية. اجعله مقتدياً بك أنت الراعي الحقيقي، واضعاً نفسه من أجل خرافه. ليكون قائداً للعميان ونوراً للذين في الظلمة ومربِّياً للأيتام ومعلماً للأطفال وكوكباً في العالم… لأن لك أن ترحمنا وتخلِّصنا يا الله…”.

و – التسلسل الرسولي

إذا كان الأسقف ضمانة لحضور المسيح داخل الكنيسة، فهذا يعني نظاماً دائماً وليس حضوراً آنياً وحسب. لأن المسيح يبقى معنا “إلى انقضاء الدهر” (متى28: 20). ولكن، ما هو المقياس الذي يؤمِّن استمرار الرتبة الأسقفية ويمنع كل زيف في هذا المجال؟ إنه التسلسل الرسولي، أي كون الرسامة الأسقفية حاصلة دائماً على أساس الرسل. وهذا ما يمكن تسميته هيكل الكنيسة التي يبقى المسيح باستمرار رأساً لها.

التسلسل الرسولي هو الوسيلة التي تحافظ، عبر الدهور، على هوية جسد الكنيسة وعلى وحدته. وهذا التسلسل ليس ابتداعاً متأخراً، بل يمثِّل إرادة المسيح والرسل، كما يظهر في كتاب العهد الجديد، حيث نرى الرسل يبشِّرون في مناطق مختلفة ويعمِّدون كل من يؤمن ببشارتهم، وينظمون حياة الكنائس التي يؤسِّسون، فينتخبون من بين المؤمنين شخصاً قادراً ومؤهلاً، ويجعلونه على رأس الكنيسة المحلّية. ثم يوصونه أن يختار بدوره عدداً آخر من المؤمنين المؤهلين، فيقيمهم “كهنة وشمامسة”. وهكذا اختار بولس الرسول تيطس وأقامه على كنيسة كريت، ثم كتب إليه: “تركتك في كريت لتتم فيها تنظيم الأمور وتقيم كهنة في كل بلدة كما أوصيتك” (تيطس1: 5). ثم يعدِّد له الشروط التي ينبغي أن تتوفَّر في كل أسقف (تيطس1: 6…). أمّا تيموثاوس فتركه الرسول في أفسس، ثم نبَّهه إلى أن “يحيي الهبة التي جعلها الله له بوضع اليد (يد بولس)” (2 تيم 1: 6، أنظر 1 تيم 4: 14).

إذن فقد أقام الرسل في الكنائس المحلّية أشخاصاً مسؤولين، وأوكلوا إليهم العناية بالمؤمنين ورعايتهم. وقد أقاموهم بالرسامة التي تمنح “نعمة الله”، وتفرض على المرسوم أن ينقلها بدوره إلى الآخرين بالطريقة التي تعلَّمها من الرسل: “كما أوصيتك” (تيطس1: 5). وهذه الرسامة لم تكن احتفالاً بسيطاً، بل كانت لها صفة النعمة الأسرارية، لذلك يطلب بولس الرسول من تيموثاوس: “لا تُعجِّل في وضع يدك على أحد” (1 تيم5: 22، أنظر أع14: 23، 20: 28).

التسلسل الرسولي هو نقل “نعمة الله” من الرسل إلى رؤساء الكنائس، ومنهم إلى الآخرين، على أساس سلسلة متواصلة لم تنقطع حتى اليوم. وهكذا فإن كهنوت أساقفة كنيستنا الأرثوذكسية الحاليين وسائر الإكليركيين يعود إلى الرسل، ومنهم إلى المسيح نفسه. فوحدة الكنيسة قائمة على سمات وعلامات منظورة، ممّا يؤكِّد استمراريتها وعدم وقوعها في خطر الضلال عند ظهور البدع والهرطقات.

الأسقف شخص محدَّد حقيقي يمكن لكل إنسان أن يتأكَّد من اتحاده بالكنيسة عبر القرون والأجيال، لأنه يشهد على ظهور المسيح المتواصل وعلى وحدة الكنيسة الدائمة. فإذا علمنا من هو الأسقف نستطيع أن نعرف أين هي أسرار الكنيسة المقدَّسة، وأين هي الكنيسة الحقيقية.

وكما أن المسيح قد وضع الرسل إلى جابه، فإن الأسقف، الذي هو صورة المسيح المنظورة، يكون محاطاً بالكهنة والشمامسة. وبهم يتّحد شعب الله كله في وحدة لا تنفصم، فتتألّف الكنيسة منهم جميعاً، ويكون المسيح على رأسها.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى