Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

أ – نموذج الصليب في العهد القديم

تكرِّم الكنيسة المقدّسة الصليب الكريم، ولكنها تكتشف له رموزاً حتى في العهد القديم. فآباء الكنيسة لم يكتفوا بتشبيه المسيح بآدم والعذراء بحواء، بل ربطوا عود الفردوس، الذي صار رمز الدمار، بعود الصليب المحيي الذي يرمز إلى الغلبة على الحيّة. وشبَّهوا قوة الصليب المُحيية بعصا موسى التي حولّت الماء المر إلى ماء عذب (خر15: 25): “بعود قد صار الماء المر عذباً، حتى تعرف بذلك قوته” (يشوع38: 5).

ويشير الرسول بولس إلى هذا الحدث مؤكِّداً أن الإسرائيليين الذين شربوا من هذا الماء كانوا يتناولون “الشراب الروحي” الذي انبجس من “الصخرة الروحية التي كانت تتبعهم” ويضيف: “والصخرة كانت المسيح” (1كو10 4). وعندما نكرِّم نحن الصليب الكريم، فإننا لا نشرب من الماء المر ولا نشير إلى أداة الموت، بل نذوق “الشراب الروحي” المنبجس من “الصخرة الروحية”، أي من الربّ الظافر والمنتصر على الموت. وهذه الحقيقة هي نبع قوة لجميع المؤمنين ومؤازرة لهم ضد الشيطان الذي يحمل قوة الموت (عب2: 14)، وضد الموت نفسه، آخر أعداء الإنسان (1كو15: 26).

وثمة إشارة أخرى إلى قوة الصليب الكريم المحيية، ألاّ وهي الحيّة النحاسية التي رفعها موسى، حسب وصيّة الله، وكانت تشفي كل من ينظر إليها من لدغات الأفاعي السامة (عدد21: 8). وقد وصفت هذه الحيّة النحاسية بـ “رمز الخلاص” (حكمة سليمان16: 6). ومن يكرِّم الصليب الكريم فإنه يغرف قوته من النبع نفسه: “وكما رفع موسى الحيّة في البرّية، فكذلك يجب أن يُرفع ابن الإنسان لينال الحياة الأبدية كل من يؤمن به” (يو3: 14-15).

ولا شك في أن الصليب المحيي هو رمز النصر والظفر الذي رآه النبي حزقيال حين أمر “الرجل المرتدي البهاء” أن تُرسم “علامة” على جباه أولئك الذين ينوحون على أرجاس المدينة وخطاياها (حز9: 4، أنظر رؤ7: 3-4). وهكذا يتّضح أن إشارات العهد القديم المسبقة لا تدل على حدث صلب المسيح وحسب، بل على علامة الصليب نفسها، أي “علامة ابن الإنسان” التي ستكون محدَّداً راية النصر عند مجيء الربّ المظفر (متى24: 30).

ب – قوة الصليب

“افرح أيها الصليب الحامل الحياة، يا ظفر التقوى غير المغلوب، يا باب الفردوس وسند المؤمنين وسور الكنيسة. الذي به بادت اللعنة وأُلغيت، ووطئت قوة الموت، وارتفعنا من الأرض نحو السماء. أيها السلاح غير المقهور، وخصم الشياطين، ومجد الشهداء الأبرار، والزينة الحقيقية، وميناء الخلاص، والمانح العالم الرحمة العظمى” (في أحد السجود للصليب).

يعبِّر هذا النشيد عن أهمية موقع الصليب الكريم في حياة الكنيسة، وحياة كل مؤمن. فهو لم يعد رمز الموت والخزي والعار (تث21: 23)، بل نبع الحياة الأبدية. ولذلك اختفت اللعنة وبادت، وتزعزع رئيس الموت، الشيطان، وصار الصليب سلاح الكنيسة غير المقهور، وخصم الشياطين الرهيب، ومجد شهداء الكنيسة وقدّيسيها، وميناء الخلاص وحلية المؤمنين المرتِّلين: “استمعت يا ربّ إلى صوت قوة صليبك، وكأن الفردوس قد فُتح بواسطته”.

صليب الرب تعبير عن محبة الله غير المحدودة، وعن قيمة الإنسان غير المحدودة في آن، فما من تعبير عن محبة الله أعظم من الصليب، وما من ارتقاء للإنسان أعظم من ارتقائه إلى حقيقة الصليب (يو15: 13، رو5: 8)، أي إلى أنه عظيم جداً في عين الله، حتى ارتفع الله نفسه على الصليب ليخلِّصه، والى أن الصليب هو الضمانة الأكيدة لرحمة الله غير المحدودة ولدالّة الإنسان أمام عرش الله.

موت المسيح على الصليب يعني موت العالم القديم وقيامته وبدء زمن التحوّل الجديد، أي زمن خلاص العالم بأسره. فبالصليب حصلت المصالحة بين الإنسان والله، ووُلد “إنسان جديد” في المسيح، على حد تعبير الرسول بولس الذي يضيف: “لقد قضى على العداوة بصليبه” (أف2: 15-16)، فـ “صرنا واثقين بأن لنا سبيلاً القدس بدم يسوع” (عب10: 19).

وإذا تأمّلنا النص المقدّس بإمعان نجد أن الربّ يصف صعوده على الصليب بأنه ارتفاع ومجد وانتصار على الخطيئة والموت: “لقد أتت الساعة ليتمجد ابن البشر. الحق الحق أقول لكم: أن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُتْ، تبقى وحدها. وإذا ماتت، أخرجت حباً كثيراً… الآن نفسي قلقة، فماذا أقول؟ (أأقول): يا أبتِ، نجني من تلك الساعة؟وما بلغت إلى تلك الساعة إلاّ من أجل ذلك. يا أبتِ مجِّد اسمك. فإذا صوت من السماء يقول: قد مجَّدته وسأمجِّده. فقال الجميع الذي كان حاضراً وسمع الصوت: هذا دويّ رعد. ومنهم من قال كلَّمه ملاك. فقال يسوع: لم يكن هذا الصوت لأجلي، بل لأجلكم اليوم دينونة هذا العالم. واليوم ينبذ سيّد هذا العالم. فإذا رفعت من هذه الأرض، جذبت إليّ الناس أجمعين. وأشار بذلك إلى الحال التي عليها سيموت” (يو12: 24-33، أنظر أيضاً يو13: 31-38، لو24: 26).

لا تدل هذه الأقوال على حقيقة الآلام ومعاناة الصليب وحسب، بل تظهر أيضاً أن الصلب هو “ارتفاع” و”مجد” لـ “ابن الإنسان”، ومنطلق ومحور لمجد الجنس البشري.

لا يوجد فوق الصليب رجل ضعيف، أو إنسان محتاج إلى مؤازرة ومساعدة، بل يسوع الإله-الإنسان الذي انحدر إلى الجحيم ظافراً وغالباً، فأبطل ملكوت الموت والجحيم، وحرّر الإنسان من رباطات الموت وأدخله ملكوت الحياة. ويصف الكتاب المقدّس موت الربّ كأنه “رقاد أسد” يحتفظ بقوته الرهيبة حتى أثناء نومه. ولهذا السبب لا يجرؤ أحد على إيقاظه: “جثم وربض كأسد ولبوة، فمن ذا يقيمه؟” (تك 49: 9).

قال الربّ يسوع: “اليوم دينونة هذا العالم” (يو12: 31)، فجعل الصليب بمثابة محاكمة عالمية، ومقياس لانتصار البشر أو هزيمتهم، حسب نظرة كل منهم إلى الصليب الكريم. وهذا ما حصل فعلاً بالنسبة إلى اللصّين اللذين صُلبا مع السيّد، فإنهما لم يحاكما على أساس أعمالهما السابقة بل على أساس موقفهما من الإله-الإنسان المصلوب.

لقد اعترف الأوّل بالمسيح ملكاً ورباً وإلهاً، فطلب رحمته، ولم يعتبره مصلوباً كلص. وهكذا غدا “لاهوتيا” حقاً وقدِّيساً، بل أول قدّيس في كنيستنا. فدلّنا جميعاً إلى طريق الروحانية الحقّة، وإلى سبيل الخلاص الذي هو درب الصليب.

أمّا اللص الجاحد فنظر إلى المسيح نظرته إلى إنسان عادي، واعتبر صليبه رمزاً للاحتقار والهزء، و”جدّف عليه” (لو23: 39) دون أن يطلب أو يرجو شيئاً منه. كان لصّاً في السابق وبقيّ لصّاً على الصليب. لكنه لم يُلعن بسبب أعماله الأولى، بل لأنه لم يضع خلاصه على ذلك الذي ارتفع على الصليب ليجذب إليه جميع اللصوص المعترفين: “بين لصّين، كميزان عدل وُجد صليبك. فأمّا الواحد فقد أحدره إلى الجحيم ثقل تجديفه. وأما الآخر فقد انتشلته من عمق الذنوب إلى معرفة اللاهوت، أيها المسيح الإله، فلك المجد” (إحدى الترانيم الأرثوذكسية).

ج – إشارة الصليب

في حديثنا عن صليب الربّ لا نعني حدث الصلب وحسب، بل خشبة الصليب الكريم أيضاً. فـ “بملامسة جسد الربّ الكريم تقدّست خشبة الصليب أيضاً، على حد تعبير القديس يوحنا الدمشقي. ولذا فإننا نكرمها ونسجد لها. ويقول القديس غريغوريوس بالاماس: “ليس الكلام على الصليب والسرّ وحسب، بل على الشكل أيضاً، لأنه إلهي ومسجود له. فهو ختم تقوى مقدَّس ومكمل لجميع الخيرات العجيبة غير الموصوفة الآتية من لدن الله.

إننا نوضح هذه الأمور كلها لأن ثمة “أعداء الصليب” (فيل3: 18) ما زالوا موجودين حتى يومنا هذا. ولا بدّ أن يعرف كل مؤمن أن صليب الربّ ليس “خزياً” (أنظر تث21: 23) بل “مفخرة” (غلا6: 14). وكما قلنا سابقاً فإن فخرنا ليس بحدث الصلب وحسب، بل بخشبة الصليب أيضاً. فالصليب هو إشارة إلى صورة المسيح المصلوب، ويستمدّ قوته ونعمته من آلام المسيح. لذلك تشكِّل إشارة الصليب العلامة الخارجية لجميع أسرار الكنيسة المقدّسة، دون استثناء. ولا نعني بذلك أن لهذه الإشارة قوّة سحريّة، بل أن فيها تكمن قوة الأفعال الإلهية المحيية. وهذه القوة لا تنبع من الإشارة ب “ذاتها”، ولكن من علاقة هذه الإشارة بشخص المسيح.

والأمر نفسه حصل في العهد القديم، فإن الملتفت إلى الحيّة النحاسية “يخلص لا بهذه الالتفاتة بل بك يا مخلِّص الجميع. وبذلك أُثبتَ لأعدائنا أنك أنت المنقذ من كل سؤ” (حكمة سليمان16: 7-8). ولكن الإسرائيليين تجاهلوا هذه الحقيقة وأرادوا عبادة الحيّة النحاسيّة، فلم يتردد حزقيّا، الملك الورع الذي كرّس نفسه لله الحقيقي وحده، في سحق الحيّة النحاسيّة التي فقدت علاقتها بالله الحقيقي في ضمير الشعب المتمرِّد العاق، وحلّت محلّه (4 مل 18: 4).

تعبّر إشارة الصليب عن حضور الربّ في حياة المؤمن والكنيسة، وهي رمز النصر والغلبة على الخطيئة الموت (أف 2: 16)، أي على الشيطان وأفعاله: “أيها الربّ، لقد أعطيتنا صليبك سلاحاً ضد الشيطان، لأن الصليب صار رهيباً ومخيفاً للشياطين، ولم تعد قوته باطلة، فقد أنهض الموتى وأبطل الموت. لذلك نسجد لدفنك وقيامتك” (ستيخن من ابنوس الآحاد باللحن الرابع).

الصليب الكريم هو “علامة” الخلاص لأبناء الله، و”علامة ابن الإنسان” (متى24: 30). لذلك تؤكِّد الرؤيا أن الذين يحملون علامة الله سيخلصون في الأزمنة الآتية: “ثم انتشر من الدخان جراد على الأرض، فأُعطي سلطاناً كسلطان عقارب الأرض، وأُمر بألاّ يؤذي العشب ولا شيئاً أخضر ولا شجراً، بل يقتصر على الناس الذين ليس على جباههم خاتم الله” (رؤ9: 3-4، أنظر أيضاً7: 2-4، حز9: 4-6). لأجل هذا يصلّي المؤمن الأرثوذكسي: “بقوّة، صليبك، أيها المسيح ثبِّت ذهني في تسبيح وتمجيد قيامتك الخلاصيّة”.

إشارة الصليب ليست عادة متأخرة لدى المسيحيين، ولكنها تعود إلى التقليد الرسولي. وقد تكلّم عليها القديس يوستينوس (150 م) وترتليانوس (200 م) الذي قال: “إننا معشر المسيحيين، نرسم إشارة الصليب في كل رحلاتنا وتحركاتنا، في ذهابنا وإيابنا. عندما نرتدي الثياب والأحذية، وفي الحمام وعلى المائدة. عندما نشعل المصابيح وعندما نجلس للراحة. وعلى العموم في جميع أفعالنا اليومية وحياتنا. وقد استندت هذه العادة أصلاُ من التقليد الكنسي ثم توطَّدت بالعادة ويجب أن تُحفظ بالإيمان”.

د – كيف نرسم إشارة الصليب

تتضمن إشارة الصليب لاهوت الكنيسة وجوهر الإيمان الأرثوذكسي. وتتمّ على الشكل التالي: يضمّ المؤمن أصابعه الثلاثة (الوسطى والسبابة والإبهام) ويضعها على جبينه أولاً، ثم ينقلها إلى البطن، فإلى الكتفين، من اليمين إلى اليسار. فالأصابع الثلاثة ترمز إلى الإعتراف بإله واحد في ثلاثة أقانيم. ووضعها على البطن يرمز إلى الابن الذي وُلد من الآب بل الدهور، وانحدر إلى الأرض ووُلد من العذراء مريم. أمّا وضعها على الكتفين فيرمز إلى الروح القدس الذي هو “ذراع” (يو12: 38) الربّ و”قوته” (لو24: 49، أع1: 8).

وبضمّ الأصبعين الآخرين “الخنصر البنصر” إلى راحة اليد نرمز إلى التجسّد وخاصة إلى اتحاد الطبيعتين، الذي به أنقذ المسيح البشريّة ورفعها حتى التألّه. (1)

هـ – سلاح الصليب الكامل

تدل إشارة الصليب أيضاً على الحياة الجديدة لكل إنسان وُلد من جديد “في المسيح”. وبها نختم أعضاء الجسد الرئيسيّة ونكرِّسها لله، لكي يجعلها “أعضاء” المسيح والثالوث القدوس. ونختم أذهاننا وقلوبنا وجميع قوانا معبِّرين عن تكريس ذواتنا لله، بقولنا مع رسم الإشارة: “باسم الآب والابن والروح القدس، آمين”.

وأخيراً، فإننا بإشارة الصليب نصبح مساهمين في آلام المسيح وقيامته، فنُميت الإنسان القديم وكل ما يتعلّق بأعمال الشيطان، وننهض مع المسيح إلى حياة جديدة. لأن “صليب المسيح يعني إبطال الخطيئة”، على حدّ تعبير القديس غريغوريوس بالاماس. ولهذا ردّ أحد الآباء المتوشّحين بالله على ملحد سأله عمّا إذا كان مؤمناً بالمصلوب: “نعم، أؤمن بالذي صلب الخطيئة”.

وهكذا ندرك لماذا يكون الصليب سلاحاً كاملاً للمسيحي. فهو سلاح المسيح الذي يُرهب الشياطين ويخيفها. ولذا يرسم المسيحي إشارة الصليب في كل مكان: عندما يصلّي أو ينام أو يستيقظ، وعندما يشرع في أي عمل، وعندما ينتهي منه. عند استعداده للسفر وعند خروجه من الكنيسة المقدّسة، وفي كل مناسبة. ولكن الصليب، كما ذكرنا آنفاً، ليس أداة سحريّة في تصرّف الإنسان، بل يتطلب بالضرورة مساهمة داخليّة من المؤمن نفسه. لذلك يجب أن نرسم إشارة الصليب على أجسادنا بصدق ودون تهامل، وفقاً لنظام كنيستنا، بضم أصابعنا الثلاثة كأننا نرفع الصليب نفسه على أجسادنا.

ولا بدّ أن يرافق هذه الإشارة إيمان مطلق بالثالوث القدوس، وبحقيقة تجسّد المسيح وموته على الصليب وقيامته المحيية، أي إيمان بكل عقائد كنيستنا الخلاصية، التي نعلنها برسم إشارة الصليب. إضافة إلى الرجاء المطلق بمحبة الله غير الموصوفة ورحمته، وعزم لا يتزعزع على أن نصلب ذواتنا الخاطئة وأهوائنا، لكي يسعنا أن نقبل نعمة الله، ونحيا ضميريّاً حياة التجدّد والتحوّل الداخليين.


(1) هناك تفسير آخر لرسم إشارة الصليب، ولكنه لا يخرج عن كون الرسم يحمل فيه العقيدتين الأساسيتين، الثالوث القدوس والتجسد الإلهي. ولكن يختلف في معنى الانتقال من الكتف الأيمن إلى الأيسر. إذ يقول التفسير الثاني أن هذا الجهة اليُمنى تدل على صعود السيد وجلوسه عن يمين الآب والانتقال لليسار يرمز إلى ضم العالم بأسره، أي أن الخلاص الحاصل على الصليب للعلم أجمع، وإرسال الروح القدس وسكناه في قلوب المختومين بسر الميرون… (الشبكة)

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى