Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

كان على آباء الكنيسة أن يفسّروا مضمون الوحي المسيحي القائل بإله واحد في 3 أقانيم، ويوضحوا أنه ليس التوحيد الضيّق اليهودي ولا الشرك اليوناني الوثني (باسيليوس والدمشقي). وكانت اللغة اليونانية المشهورة بقابليتها لرد ظلام المعاني –كما قال بركلي- عاجزة عن أداء المقصود. فكان لا بد من نحت مصطلحات جديد الألفاظ الرئيسة هي:

1- جوهر ousia

 2- hypostasis

3- طبيعة physis

4- له وللآب الجوهر الواحد بعينه homoousios.

5- شخص prosopon.

هذه الألفاظ ذات المعاني المتعددة بحاجة إلى اختراع المعاني الجديدة لها انطلاق من الفوارق اللطيفة. المسألة عسيرة: إله واحد في ثلاثة أقانيم موجودين حقيقة في الواقع لا في الرؤية النظرية الصرفة. فالثالوث القدوس هو الله. وحين نذكر الله نعني الآب والابن والروح القدس (غريغوريوس اللاهوتي، الخطبة 45: 4 وسواه).

اللغة اليونانية لغة عقل وتجريدات عقلية. الفلسفة اليونانية فلسفة “ماهيات”، “ومقولات”. مؤسس الشخصانية الفيلسوف الروسي المعاصر نيقولا بردياييف المتوفي في 1948 قال : “لم يستطع الوحي المسيحي أبدأً أن يعبر عن نفسه فيما يخص الشخص، في مقولات الفلسفة اليونانية.” ووافقه على ذلك زميله في الشخصانية عمانوئيل مونييه الفرنسي (35).

الألفاظ الثلاثة الأولى متعددة المعاني، وتترادف أحياناً. وقد يختلف معنى اللفظة الواحدة بين المذاهب الفلسفية نفسها كما الأمر في ousia جوهر مثلاً. ولكن الاشتقاق اللغوي يسمح بتطوير كل منها على حدة.

تشتق لفظة physis طبيعة من فعل “ولد” ، “نما”.

تتألف لفظة hypistasis أقنوم (36) من مقطعين : hypo تحت و stasis وضع، موقف، حالة… من معاني hypistasis الوضع تحت، تسنيد، ما يوضع تحت، ما هو في العمق، أساس، قاعدة، نقل، راسب (جمعها رواسب كثفل القهوة مثلاً) … ووردت لدى أرسطو بمعنى دعامة (أي ركن، سناد، تكأة).

ووردت لدى أرسطو المنتحل وسواه بمعنى “جوهر“، (37)ماهية“، “ذات الشيء” (أي حقيقته لا خياله).

ووردت بهذا المعنى الأخير في الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم (المزمور 38: 6 أي 39: 5 في الترجمات العربية وسواها؛ الرسالة إلى العبرانيين 1: 3). ووردت لدى الأقدمين وفي بعض آيات الكتاب المقدس بمعنى “الضمانة“، “الكفالة” (راعوث 1: 12 وحزقيال 19: 5 والمزمور 38/39: 8/7؛ كورنثوس الثانية 9: 4 و11: 17 والرسالة إلى العبرانيين 3: 14 و11: 1).

أما لجهة الاشتقاق فهي تشتق من الفعل hyphistimi  الذي يحوي المعاني الواردة في الفقرة الأولى وسواها.

ومن معاني الموسَّعة: “وجد، كان، قام قواماً“. ويرد فلسفياً بمعنى “يعادل الله في الكرامة“، فيكون معناه “يعادل“.

فلفظة أقنوم تقبل، إذاً، التطوير نحو معانٍ لاهوتية ننحتها لها، كمعنى “الوجود الشخصي الحقيقي“. فيكون “الأقنوم” هو “الموجود في الحقيقة والواقع الذي يملك الجوهر أو الطبيعة كقضية له، يملكه كسيّد غير منازع، كسيّد مستقيل“.

هو الموجود existant. والجوهر الحقيقي موجود فيه. ولا وجود للجوهر خارجاً عنه.

الأقنوم كل غير قابل للتجزئة أو الانتقال أو الاستحالة.

ولكن ليس الأقنوم فرداً. مفهوم الفرد مرتبط بالأفراد. أفراد الجنس البشري متعددون. وكل منهم منفر عن الآخر. كل منهم كائن.

في الثالوث القدوس، الجوهر واحد والكائن واحد، لا 3 كيانات.

مفهوم الأقنوم = الشخص يقبل أن يكون الله كائناً واحداً.

مفهوم الفرد لا يقبل هذا.

الجوهر الإلهي هو الوجود الكلي الكمال للثالوث القدوس في وحدته (38).

 في الوقت نفسه الأقانيم الثلاثة وجوهرهم الواحد هو كائن إلهي واحد.

الأقنوم هو فقط المالك للوجود ومبدؤه وغايته.

المحتوى الحقيقي لوجوده هو الجوهر الحي. فلا يمكن أن نتكلم عن شخص إن لم يكن يملك مضموناً، محتوىّ.

وكل من الأقانيم يملك تمام الجوهر الإلهي. فلا يتجزّاً الجوهر فيما بينهم.

وبفضل وحدة الجوهر يسكن كل أقنوم في الأقنومَين الآخرين بدون امتزاج أو ذوبان (سر التدبير الإلهي 180-183).

جوهر:

أرسطو استعمل اللفظة كثيراً. عرفها في مقولاته (الفصل 5):

“نسمي أساساً، أولاً، بالمعنى الحقيقي، جوهراً ousia ما هو غير مقول في أي ذات وليس هو في أي ذات، مثلاً، هذا الإنسان أو هذا الحصان. نسمي جواهر ثانية الأجناس التي توجد فيها الجواهر الأولى مع الأنواع المقابلة، وهكذا” هذا الإنسان هو جنساً إنسان ونوعياً حيوان. إذاً، نسمي “الجوهر الثاني” الإنسان والحيوان. بكلام آخر، تعني الجوهر الأولى القوامات الفردية أي الفرد القائم. أما الجوهر الثاني فهي الجواهر: في المعنى الواقعي للفظة (39).

تعريف أرسطو لا يفرق بين الإنسان والحصان. كل منهما فرد لا شخص. وتعريفه الثاني يحد الإنسان بالنوع، إنما الإنسان حيوان بالجنس. نبقى في حدود التجريد لا كما قال لوسكي تماماً: “في المعنى الواقعي للفظة” (40). ولنا عودة إلى الموضوع.

طبيعة physis:

اشتقاقها النوعي يسمح بتطويرها نحو الدلالة على معانٍ تشير إلى الخصائص والأفعال. فلذا ربط أرسطو الفعل بالطبيعة، فجعل الطبيعة مبدأ الفعل (الفيزياء 2: 9 و10). ولكل طبيعة فعلها الخاص بها.

والعهد الجديد ينسب إلى الآب والابن والروح القدس أفعالاً واحدة بعينها. استنتج آباء الكنيسة من وحدة الفعل وحدة جوهر الثالوث لأن له فعلاً واحداً. واستنتجوا أيضاً ألوهة الابن والروح القدس بما أن الجوهر واحد كما آن الآب واحد.

قالوا أن الابن والروح لقد يفعلان كل ما يفعله الآب، وأنهما يملكان جوهره، لأن وحدة الفعل تعني وحدة الجوهر.

الآباء الكبادوكيون باسيليوس واخوه غريغوريوس النيصصي وصديقهما غريغوريوس اللاهوتي استعملوا كثيراً لفظة طبيعة physis بدلاً من لفظة جوهر للثالوث القدوس، فركزوا بذلك على أن وحدة الفعل التي تعني وحدة الطبيعة بين الآب والابن والروح القدس دليل على التساوي في الألوهة (41)، وبالاحرى على أن لهم طبيعة واحدة بعينها.

في لغة أرسطو نفسها: الفعل الواحد دليل على الطبيعة الواحدة. فذكر الدمشقي أن جميع الآباء قالوا ذلك.

فيستحيل القول بطبيعة لا فعل لها. لذلك نقول في المسيح أنه ذو طبيعتين لكل منهما فعل الطبيعي (سر التدبير 183-184). لا معنى لوجود طبيعة بدون فعل.

شخص prosopon:

نحت ترتيليانوس الضليع من اليونانية الألفاظ اللاهوتية اللاتينية. استعمل اللاتين لفظة شخص. ترجمتها الحرفية اليونانية prosopon. لفظة prosopon هذه تعني: وجه، قناع، دور مسرحي، مظهر…

وترجمة أقنوم إلى اللاتينية تعني جوهر substantia.

توهم الناطقون باليونانية أن اللاتين على بدعة ساباليوس القائل بأنَّ الله واحد يتراءى أحياناً في صورة الآب وأُخرى في صورة الابن وثالثة في صورة الروح القدس. وتوهَّم اللاتين أن اليوناني يقولون بثلاثة جواهر أي ثلاثة آلهة لأن احدية الله قائمة على احدية الجوهر.

اثناسيوس الكبير في مجمع الإسكندرية (362) صالح الشرقيين واستعمل عبارة “جوهر واحد في 3 أقانيم”، بينما كان يستعمل لفظة جوهر مرادفاً لأقنوم.

وتشكَّك ايرونيموس اللاتيني في برية فنّسرين (بين حماه وحلب شرقاً) من استعمال اليونان عبارة 3 أقانيم. وفي الأعوام 377-380 تقاربت روما وأنطاكية فتمَّ الصلح. فعقد البابا داماسوس في العام 380 مجمعاً رومانياً أعلن فيه وحدة الإيمان مع الشرق، وترادف لفظتي شخص و “أقنوم”. واعتبر غريغوريوس اللاهوتي المعركة على الفاظٍ معركةّ تافهة ما دام المعنى واحداً. وايّد ذلك النيصصي. وانعقد مجمع في أنطاكية في العام 382 ازال الإلتباس.

كان الغرب انذاك يسير لاهوتياً وراء الشرق. دي رينيون اعترف بذلك وقال أن اللاتين كانوا تلاميذ اليونان (سر التدبير، ص 24-27).

المتساوي في الجوهر homoousios:

الترجمة العربية عاجزة. المعنى في اليونانية هو أن الآب والابن الجوهر الواحد بعينه. اللفظة مركبة: omo نفسه، عينه. Ousios جوهري، مشتقة من جوهر. استعملها دستور الإيمان الذي سنَّه المجمع الأول المسكوني النيقاوي (325)، فقال: “وبالرب الواحد يسوع المسيح… المساوي للآب في الجوهر”. لفظة “مساوي” ضعيفة وكذلك “مماهي”. الصحيح: “الذي له الجوهر الواحد بعينه”.

فرد atomon:

الفلسفة اليونانية خالية من معاني الشخص. رأينا أعلاه أرسطو يعرّف الفرد. إنما في شجرة برفيريوس وشرها لتلميذه أمونيوس، وردت لفظة فرد. ورأينا لدى أرسطو أن الحصان فرد: هل الشخص البشري خروف في قطيع غنيم؟ (42) يبقيان في النهاية في عالم المجرَّد والسطحيات دون التوصل إلى المفهوم الشخصاني المسيحي أبداً. استعل باسيليوس الكبير عبارات تحاكي عباراتهما من بعض النواحي، إلا أن الفرق كبير جداً.

باسيليوس فرّق بين “الجوهر” و “الأقنوم”. أعطى الإنسان كمثال على ذلك: المشترك بين أفراد البشر هو الطبيعة البشرية. الخاص هو الأشخاص البشرية. المشترك هو “الجوهر”. الخاص هو “الأقنوم”. بطرس وبولس وسلوانوس هم أشخاص. وطالب باسيليوس بنقل هذا التفريق إلى الثالوث الأقدس (43).

الألوهة جوهرهم. إنها ousia. الأقانيم هم الآب والابن والروح القدس.

خاصة الابن الأقنوميّة هي عدم الولادة

خاصة الابن الأقنومية هي الولادة

خاصة الروح القدس الأقنومية هي الانبثاق.

هذه هي الخاصة الأقنومية. وما من شيء سواها يميز الأقانيم.

الباقي كله واحد. كل ما هو للآب هو للابن ما عدا الأبوّة، وبثَّه الروح القدس, نرى أن الكبادوكيين قد ساروا بالتاريخ نحو مفهوم شخصي عن الله، فدحرجوا أفلاطون وأرسطو وكل الفلسفة اليونانية. ركَّزوا على وجود الأقنوم فحطموا مقولات أرسطو.

رجال البدع حاولوا فهم المسيحية على ضوء العقل وأرسطو اليوناني. الكبادوكيون وكل أندادهم من محاربي البدع رفضوا أن يكون أرسطو حَكَماً في امور الدين وأن يُنزلوا الدين الملهم إلى مستوى المعادلات الرياضية. الدين إيمان بالإلهيات الفائقة العقل. لا عقلانية rationalisme. يوحنا الدمشقي قال أن أرسطو هو أبو الهراطقة. غريغوريوس اللاهوتي اتهم صديقه القديم أبوليناريوس اللاذقي بالأرسطوية. جان مايندورف لاهوتي أرثوذكسي معاصر أتهم ثيئوذوروس المصيصة وتلميذه نسطوريوس بأنهما حاولا أعطاء تفسير عقلاني للتجسد الإلهي. داليس d’Alès اتهمهم جميعاً بالأرسطوية (سر التدبير، ص185 و29). فعبثاً يحاول البعض تبرير نسطوريوس. فإنه لا يعترف بأمومة العذراء لله. ويقول إن أبوة الآب لجسد يسوع هي أبوة بالتبني. موقفه خطير جداً في الحالتين: نقول أن العذراء هي والدة الله بسبب وحدة الأقنوم. وبالمقابل نقول أن الآب هو أبو الأقنوم وبالتالي أبو اللاهوت والناسوت. رفض نسطوريوس، إذاً، أمومة العذراء لله وأبوة الآب لناسوت الابن، ففصل بين طبيعتي المسيح: هرطوقي كبير.

 

 


(35) Berdiaeff, 5 méditations sur l`Existence p,180-1.

Mounier, Le Personnalisme, p. 10et 13

 (36) لفظة أقنوم سريانية انتقلت إلى العربية.

(37) تظهر الحيرة في معاني “جوهر” في معجم المترادفات الذي اصدرته وزارة الثقافة في دمشق (ليس تحت يدي لأذكره بالتفصيل). يخرج منه المطالع –بع مطالعة عدة صفحات- لا يدري بدقة ما هو الجوهر.

(38) وبسبب وحدة الجوهر يكون المسيحيون موحِّدين لا مشركين كما يتَّهمهم اليهود. عقيدة الثالوث تفصل المسيحية جذرياً عن اليهودية كديانة جديدة تصرم علاقتها باليهودية وإن كان العهد القديم مشتركاً بينهما، مهما كان التلمود اليهودي بعيداً كلياً عن روح التوراة.

(39) عن لوسكي، ص 49. إلا أن باسيليوس الكبير استعمل لفظة “جوهر” بمعنى غير أرسطوي. تأثّر هنا بالافلاطونية الجديدة ذات الواقعية الدقيقة (سر التدبير، ص 224). مفهوم الجوهر لديه ليس تجريداً نظرياً عقلياً. فالجوهر موجود فعلاً وواقعياً في الأقانيم الإلهية. هذا ما لم ينتبه له لوسكي.

(40) كلام لوسكي هذا غير صحيح. يبقى أرسطو نظرياً بتقسيمه الإنسان إلى إنسان كنوع وإلى حيوان كجنس. والنوع والجنس من مقولات أرسطو النظرية. باسيليوس نسفها.

(41) استعملوا لفظة ousia إنما آثروا عليها لفظة physis. فجعلوا ال ousia  الكائن الصميمي لله، الغير المقترب منه وغير المدرك.

أما الطبيعة physis فهي الصفات.

وأما الأقنوم فلكيفيات الشخصية (سر التبدير، ص 204 الحاشية 1). ولنا عودة اخرى. وبعد هذه الإيضاحات استغرب قول كاليستوس وير: “يراد بجوهر الله آخِريته وغيريته، إنه غيرنا…” (معرفة الله 1: 18). هذا كلام أدب وشعر لا كلام لاهوت. الشطحات لديه عديدة. علينا أن لا نتهافت على كل كتاب فرنسي أو إنكليزي بلا وعي ونقد.

(42) مهما بدت الفلسفة اليونانية روحية أو عقلية تبقى مادية بنسبة غير قليلة طابعها تحليل لتكوين مفاهيم نظرية. أفلاطون يحرك العقل لا القلب.

(43) غريغوريوس اللاهوتي وكيرللس الإسكندري ضربا أيضاً البشر وطبيعتهم الواحدة مثلاً بدلاً من عادة التمثيل بالشمس والشعاع والحرارة.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى