تمهيد
اليهودية سبقت المسيحية في الوجود. تنتسب إلى إبراهيم وولده اسحق وحفيده يعقوب ابي الأسباط الاثني عشر. إلا أنها لم تَحُز كياناً ذاتياً مستقلاً إلا مع النبي موسى. قبل الرحيل إلى مصر كان العبرانيون قوماً رحلاً. في مصر عملوا لدى المصريين، فكانت أيامهم الأخيرة فيها مذلات. أخرجهم موسى من مصر بمعجزة، وأدخلهم صحراء سيناء حيث تجولوا كالقبائل الرحل مدى 40 سنة. وأخيراً، أدخلهم يشوع بن نون فلسطين، فتفرقوا فيها كالرحّل. وأخيراً، وحدهم النبي داود وابنه سليمان. ثم شق ولدا سليمان المملكة إلى قسمين شمالي وجنوبي. وظهر الأنبياء تباعاً. أخيراً تكون لديهم على مراحل طويلة كتابهم المقدس الذي يسميه المسيحيون “العهد القديم”. وهو كتاب ديني يحوي العقيدة والطقوس إلى جانب قسم تاريخي وتشريعي. فاليهودية دين ودنيا. نسل داود الملكي ركن من أركانها.
القسم الروحي والنبوي والترنيمي هام جداً. آمال اليهود معلقة على ظهور المسيح الذي سيطرد الحكام الأجانب ويقيم لهم مملكة عالمية. عباداتهم تدور حول هيكل أورشليم. أي أنهم تعرضوا منذ القرن الثامن للمذلات على أيدي الفاتحين الأجانب: الأشوريون، البابليون، الفرس، اليونان، الرومان. وفي العام 70 هدم الرومان هيكل أورشليم وشتتوا اليهود. وتكررت النكبات حوالي العام 134 (؟)، فساحوا في الأرض معلقين آمالهم على ظهور مسيح يجمع شملهم ويبني هيكل عبادتهم.
ولكن المسيح ظهر فرفضوه. وأنبأهم بزوال هيكلهم إلى الآبد، وسوقهم إلى ديار الله الواسعة متشتتين. ومع هذا ازدادوا غياً وكفراً به، وصبوا عليه جام غضبهم، وذكروه وأمه مريم العذراء في كتبهم ذكراً قبيحاً، فاتهموا أمه بالزنى (*1).
وقبل مجيء المسيح نشأ لدى اليهود علم التفسير، فبلغ حين التدوين مجلدات معروفة باسم “التلمود”. تلمودهم شوّه معاني الكتاب. وقد وبخهم المسيح على ذلك مراراً. وعبثاً حاول ردهم إلى معاني الكتاب الأصلية. كان رؤساء الكهنة لا يؤمنون بوجود الروح والملائكة ولا بالبعث (متى 22: 23، مرقس 12: 18، لوقا 20: 27، اع 23: 8). إذاً: كانوا ماديين. وفي أعياد الفصح كانوا يحولون الهيكل إلى بازار حيوانات للتجارة بعواطف الناس الملزمين أن يضحوا. فطرد المسيح مرتين الحيوانات والصيارفة من الهيكل (يو 2: 13- 15، مرقس 11: 15-16، متى 21: 12).
وحصر المسيح بشارته باليهود تقريباً، لأن كتابهم خير دليل للوصول إلى معرفته. إلا أنهم قسوا قلوبهم، فعجزوا عن الاهتداء، بالرغم من سيل المعجزات وسمو التعاليم. وبلغ التوتر بين المسيح والسلطات الدينية اليهودية حداً فاحشاً. رؤساء الكهنة يرون فيه منافساً. الفريسيون القائمون على حفظ الكتاب المقدس وتفسيره يرون فيه معلماً خطيراً ينفس سنن الآباء التلمودية. في النهاية ألقوا القبض عليه وحكموا عليه بالموت، وساقوه إلى الوالي الروماني بونديوس بيلاطس، فقضى بصلبه.
لم يترك المسيح كتباً. تعليمه شفوي.
1- مصادر التعليم المسيح
العهد القديم اليهودي جزء من الكتاب المقدس المسيح. انطلق الرسل يبشرون أولاً اليهود معتمدين في المحاجّة على العهد القديم. وحين الرفض، كان المبشرون ينصرفون إلى الوثنيين. وكان اليهود منتشرين في أنحاء الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية. ففي يوم العنصرة، يذكر كتاب أعمال الرسل وجود يهود من حوض المتوسط الروماني ومن مادي وفارس والديلم والعرب ونواحي البحر الأسود (أعمال 2: 9- 11). وفي الإمبراطورية الرومانية (خارج فلسطين ومناطق اللغة الآرامية) كان اليهود يتلون كتابهم المقدس في ترجمة يونانية من القرن 3-2 قبل الميلاد. ولذلك كانت البشارة تتم باللغة اليونانية. نرى في كتاب أعمال الرسل المبشرين يستشهدون بالعهد القديم لهداية اليهود إلى المسيح. في يوم العنصرة اعتمد حوالي 3000 يهودي أو دخيل. الذين عادوا إلى الأرجاء نشروا الديانة المسيحية. ونعرف من إنجيل يوحنا اهتمام يهود الشتات بيسوع (الفصلان 7 و12).
مع انتشار المسيحية، كان لا بد من تدوين لحياة المسيح ولتعليم رسله. بحسب التواريخ نعلم أن الرسول متى هو أول من كتب باللغة الآرامية، لغة المشرق العربي الحالي. ولكن رجحان الثقافة اليونانية لدى المؤمنين فرض على الرسل الكتابة باليونانية. فدون الإنجيليون الأربعة فيها بشائرهم. وهي سيرة المسيح. وفي مسيرة البشارة طرق الرسل مواضيع الديانة الجديدة، فكانت كتاباتهم مقدسة. وأرَّخ لوقا الإنجيلي انتشار الدين، فأنشأ سفر أعمال الرسل. أما يوحنا الإنجيلي فانشأ سفراً نبوياً عن مصير الكنيسة في التاريخ وما سيصيبها من ظلم الرومان. وهكذا تكوّن كتاب مقدس جديد يسمى “العهد الجديد”. يدور قسم كبير منه على محاجة اليهود للتدليل على أن يسوع هو المسيح المنتظر، وعلى أن شريعة اليهود اكتملت بشريعة المسيح، إذ كانت ظلاً لها (العبرانيون 8-11).
المسيحية استلمت من اليهود العهد القديم وقلبته إلى سيف في بطن اليهودية يعلن نهايتها لأن الظل يبطل بظهور الحقيقة. الحقيقة هي المسيح. الجدلية المسيحية – اليهودية تقوم، إذاً، على التدليل من العهد القديم على زوال اليهودية بظهور المسيحية، لأن اليهودية مرحلة تهيئة ليسوع.
طبعاً، الصدمة كبيرة جداً. تضايق اليهود جداً من أقوال يسوع التي تشعر انه أعظم من إبراهيم (يو 8: 58 -59) وسواه (يو 6: 27 – 34) وانه مساوٍ لله آبيه (يو 5: 17 – 18). وهكذا دواليك (يو 10: 29- 33).
ويستطيع المرء أن يدرك عمق التناضح بين العهد القديم والعهد الجديد إن فحص بتدقيق طبعات الكتاب المقدس المسماة “المشوهدة”.
2- العهد الجديد
يتألف العهد الجدي من الأناجيل الأربعة ومن أعمال الرسل ومن 14 رسالة لبولس الرسول وأخرى ليعقوب واثنتين لبطرس و3 ليوحنا وواحدة ليهوذا ورؤيا يوحنا. هذه الأسفار كتبها رسل معروفون. متى ويوحنا وبطرس ويهوذا اخو الرب من الرسل الاثني عشر. مرقس تلميذ بطرس وبولس. لوقا تلميذ بولس. يعقوب اخو الرب في الجسد. أما بولس فعدو الكنيسة الذي اهتدى على مداخل دمشق. لا تحمل الرسالة إلى العبرانيين اسم صاحبها. هي مدينة لبولس بأفكارها. يرجح العلماء أنها بقلم أبولوس تلميذه وصديقه.
3- مفهوم الإلهام الإلهي
منشؤو العهد القديم جيش. بعد أكثر من 2000-4000 سنة، لا نستطيع أن ننبش أسماء أناس كتبوا خلال أكثر من 1200 سنة قبل الميلاد. ونحن اليوم في العام 1993، وغالباً 1997 بعد الميلاد.
نعرف العهد الجديد أكثر لأن الكنيسة احدث سناً من جهة، ولأنها تسلمت جل كتابها من فترة قصيرة لا تزيد عن 20-35 عاماً. وتناولته فوراً بالاستشهاد والتفسير والتلاوة في الصلوات والمنازل. فكتاب “تعليم الرسل” منشأ –بحسب آراء النقاد الأخيرين- بين العام 50 والعام 70 للميلاد. وهو يستشهد كثيراً بإنجيل متى. واغناطيوس الأنطاكي المتوفي في العام 107 للميلاد يستشهد كثيراً بالعهد الجديد. وهكذا دواليك اكليمندس روما ورسالة برنابا وسوى ذلك من الكتابات ألت تتراوح بين العام 50 – 150 للميلاد. ومع انتشار المسيحية استفحل استعمال العهد الجديد كمصدر الإيمان والتقوى والعبادة. وتُرجم باكراً إلى السريانية واللاتينية ثم إلى سواها من لغات الدنيا. فلا تخلو اليوم منه لغة.
أما العهد القديم فقد استمرت الكنيسة على استعماله في اليونانية، فتُرجم منها إلى السريانية واللاتينية. إلا أن القديس ايرينموس (جيروم) ترجمه في القرن الرابع من العبرية إلى اللاتينية، فشاع الأمر في الغرب. أما سواهم فبقي على اليوناني.
4- الإلهام في المسيحية
تعليم المسيحية في الإلهام واضح. بطرس الرسول قال أن الروح القدس حمل الكتبة على ذلك (بطرس الثانية 1: 20- 21). بولس الرسول قال: “الكتاب كله من وحي الله” (تيموثاوس الثانية 3: 16. انظر رومية 15: 4).
الروح القدس يحمل الكتبة الدينيين على الكتابة. فاتحة إنجيل لوقا تدل على أن كثيرين شرعوا في تدوين قصة الأمور التي نمت. وقد شرح هو في ذلك بتدقيق كبير. وذكر أن الشاهدين والخدام ليسوع سلموها إليهم. وهو يكتب إلى عزيزه ثيئوفيلوس ليتقن صحة ما تسلم من تعليم.
إذاً: لوقا نقب، وفحص، وسأل، ودقق، وأخذ الأمور عن مصادرها الأصلية. حمله الروح القدس على الكتابة، أما هو فوضع طاقاته وكفاءاته تحت تصرف الروح القدس. لم يُمل عليه الروح القدس إملاء. ليس العنصر البشري منفعلاً Passif، إنما هو فاعل. الروح القدس والرسل عملوا معاً، فأنشأوا العهد الجديد. الذين عاينوا أحداث حياة معروفون: مريم العذراء، الرسل، إجمالاً الرعيل الأول من معايني يسوع وخدامه. ثيؤفيلوس تلقى تعليماً. جاء إنجيل لوقا يؤكد له صحة ما تعلم.
فهناك التعليم الشفوي الذي تغلغل في كنائس المسكونة. على أساسه قررت الكنيسة الصحيح من المدسوس. يجب أن تثبت صحة نسبة الكتابة إلى رسول وان يكون الكتاب موافقاً للتعليم السائد في الكنيسة. الكنيسة هي القاضي. ما ترفضه فهو مرفوض وما تقبله فهو مقبول.
فهناك كتب كثيرة أطلقت الكنيسة عليها اسم “أبوكريفيا”. اللفظة يونانية. معناها “مستور، خفي، مجهول…” اسمها يدل عليها. طابعها خرافي. الطبعة الكاملة الجيدة المدرسة المدققة المنقودة تقع في 4 أجزاء باللغة الايطالية. من تسميتها يدرك المرء أنها مشبوهة وباطنية خطرة.
5- محافظة الكنيسة على كتابها
اليهود بالغوا في الحفاظ على كتابهم فأحصوا كلماته، وتفننوا في إتقان نسخه وحفظه. المسيحيون حافظوا على العهد الجديد. لديهم منه قصاصات ونسخ ناقصة ونسخ ناقصة ونسخ كاملة تعود إلى العام 300 فما قبله حتى 125 للميلاد. في خزائن أوروبا وأميركا ألوف النسخ. يرى المرء لائحة مختصر بها في الطبعات الأخيرة اليونانية المطبوعة في شتوتغارت بألمانيا لحساب جمعيات الكتاب المقدس المتحدة.
فضلاً عن ذلك، هناك طبعات عديدة لتصانيف آباء الكنيسة القدامى أشهرها طبعات باريس اليونانية واللاتينية والسريانية. قد تزيد مجلداتها الضخمة على 470 مجلداً. القسم اليوناني منها 161 مجلداً منه 96 مجلداً حتى وفاة يوحنا الدمشقي 749/750. كانت الكنيسة حريصة في كل مكان على نقاوة التعليم.
وقد استعمل اغناطيوس الأنطاكي وبوليكربس أزمير (المتوفي في 156) لفظة (كاثوليكي) اليونانية للكنيسة المستقيمة أي الأرثوذكسية الإيمان و العبادة. أما الشيع فاسمها “هرطوقية” لأنها اختارت أموراً انفردت بها عن الإيمان القويم. فجرى التمييز باكراً بين الكنيسة الكاثوليكية أي الأرثوذكسية المستقيمة (وبين) الذين يتفردون بتعليم خاص لم تتسلمه الكنيسة من الرسل. وعلى هذا الأساس أيضاً رفضت أناجيل وكتب الأبوكريفا.
ومنذ عهد الرسل نشأت البدع فانعقد في العام 49 مجمع الرسل والتلاميذ في أورشليم ضد المسيحيين من أصل يهودي الذين يقولون بضرورة الحفاظ على شريعة موسى. فقضى المجمع برفض مزاعمهم (أعمال الرسل 15 وبخاصة 15: 28).
وحافظة الكنيسة على هذا المبدأ، فعقدت المجامع المسكونية والإقليمية المحلية ضد البدع. أشهر هذه المجامع لدى الأرثوذكس والكاثوليك هي المجامع السبعة المسكونية التي ثبتت الإيمان الموروث وفرزت البدع وأصحابها. هذه المجامع إطار هام جداً للعقائد الأساسية. اللوثيريون يقبلون المضمون ولو لم يعترفوا على العدد 7. وتجاريهم بعض الفرق الأخرى الغربية وان كان حصرها عسيراً لأن عددها كبير ومعقد.
السريان والأقباط والأرمن والأحباش يقبلون الثلاثة المجامع الأولى. إنما في لقاءاتهم مع الأرثوذكس قبلوا مضمون المجامع الستة دون إعلان القبول بالعدد 6. وامتنع الأرمن عن توقيع بيان 1971 الصادر عن لقاء في دير البلمند الأرثوذكسي بلبنان. وحجتهم أنهم دين وقومية. ولكن رضي الجميع الآن بالسبعة. (*2)
(*1) هذا الاتهام لم يظهر إلا بعد فترة طويلة من الزمن -كما هو واضح من تسلسل الأحداث في السطر أعلاه- تتجاوز 200 عام بعد الصعود… (الشبكة)
(*2) يُرجى مراجعة “بين أفسس، واللصوصي، وخلقيدونية” للوقوف على رأي الكاتب في عام 2005 من هذه القضية…. (الشبكة)