Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

          تُعتبر أُسس النظم الرهبانية التي وضعها القديس يوحنا كاسيان من أكمل النظم في أيامه[23]. وقد سبق لنا الحديث عنها أثناء عرضنا لكتاباته، سواء من الجانب الروحي أو الطقسي أو التنظيمي.

الرهبنة حياة مسيحية مثلى

 يتطلع القديس يوحنا كاسيان إلى الحياة الرهبانية بكونها ممارسة للحياة المسيحية، ترجع أصولها إلى العصر الرسولي[24]، وأن المجتمع الرسولي المبكر كان المثل الأعلى لهذه الحياة[25]، إذ يقول: [الأديرة هي امتداد للحياة الكنسية الأولى في أورشليم مجتمعة حول الرسل. المؤمنون الذين يحتفظون في داخلهم بغيرة الرسل يتركون المدن لكي يمارسوا الحياة الرسولية المثالية بعيدًا عن دنس العالم[26].]

         لا يقدم الرهبان شيئًا جديدًا للمسيحية، إنما يجدون جذور حياتهم الرهبانية في تقليد العصر الرسولي، الذي من أساسياته جحد الرغبة في الامتلاك، مع صلب الإرادة خلال الطاعة، وتكريس الإنسان كل كيانه بالكامل لله بعفة الجسد ونقاوة القلب.

الراهب هو ذاك الذي يعيش على حافة الموت كل يوم[27]، مجاهدًا بجدية بالنعمة الإلهية، ومترقبًا أبديته بفرح.

نظاما الشركة والتوحد

خلال الخبرة التي عاشها القديس يوحنا كاسيان في أديرة مصر وبين آباء البرية، خاصة في طيبة حيث النظام الباخومي [نسبةً للقديس باخوميوس… (الشبكة)] للشركة مع نظام التوحد، والاسقيط حيث نظام الجماعات مع نظام التوحد، يميز كاسيان بين نوعين من الحياة الرهبانية: حياة الشركة Cenobites وحياة التوحد Eremitic life لهما مميزاتهما، لكن الطريق الأخير أكثر كمالاً[28]، ولا يجوز لأحد أن يختاره. بل يتدرب على الإفراز والطاعة قبل أن يقود نفسه دون السقوط في خطر الأوهام[29].

يسلك السالكون في حياة الشركة تحت قيادة الجماعة الرسولية، متشبهين بهم. أما السالكون في حياة التوحد فيتشبهوا بالقديسين الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس ويتبعون تعاليم السكندريين، الذين يرون في النبي إيليا في العهد القديم والقديس يوحنا المعمدان في العهد الجديد مثالين لهم.

          حياة الراهب هي تلاق بين الكلمة الإلهية الموحى بها بالروح القدس وخبرته اليومية التي تتحقق بقيادات ذات الروح. في كتاب المناظرات قدم كاسيان الحياة الروحية الرهبانية لا بطريقة نظامية رتيبة، لكنه قدم تساؤلات مع إجابات تعتمد على نصوص الكتاب المقدس وتقليد الآباء مع الخبرة الشخصية اليومية العملية. الروح القدس الذي أوحى بالكتاب المقدس هو نفسه سيد الحياة الداخلية، ولا يناقض نفسه.

          الحياة الرهبانية تبدأ بالخروج بناء على دعوة من الله[30]. أما شريعة الخروج فهي دعوة إلى الزهد مع التبعية لله. فالرهبان هم قبل كل شيء أولئك الذين يجدون أنفسهم.” فلكي يعلنوا عن رغبتهم في التحول إلى الله يلزمهم أن يبدأوا بجحد العالم[31]“.

          يصحب جحد العالم الخارجي المادي جحد للعادات الشريرة والرذائل أيضًا. حياة الراهب هي معركة روحية ضد أعمال الإنسان الجسداني وضد هجمات الشيطان وحيله، لكي يبلغ إلى الكمال الإنجيلي. التطهر من الرذائل يتحقق جنبا إلى جنب مع نوال الفضائل التي تهرب من أمامها الرذائل وتهب نموًا وانتعاشًا للطهارة. هذا يدفع الراهب إلى التأمل في الإلهيات والتمتع بنقاوة القلب والسلام والهدوء الداخلي.

          هذه هي علامات الطريق الكامل في حياة الشركة والتي تهيئ الراهب لينطلق في رحلة طريق الوحدة، حيث ينعم بالصلاة الدائمة والدهش مع الفرح الذي لا ينطق به. فالنفس تمتلئ بالثمار الروحية وتلتصق بالله خلال الصلاة الدائمة[32].

          يرتبط الفرح الروحي بطهارة الروح إيجابيًا، ويحرر النفس من كل رباطات لكي تنطلق إلى العرس السماوي[33].

الحاجة إلى مرشد مختبر

 

تحدث القديس كاسيان في الكتاب الرابع الفصلين 9 و 10 عن  التزام الحديثين في الرهبنة ألا يعتمدوا علي تمييزهم الشخصي، ولا يخفون شيئاً من أفكارهم عن الشيخ المختبر الذي يتعهدهم. بهذا لا يقدر الشيطان أن يدمر الشخص الحديث اللهم إلا إذ أغواه بالكبرياء وإخفاء أفكاره. وأن تكون طاعة الرهبان الحديثين كاملة، حتى أنهم لا يستطيعوا مغادرة قلاليهم ولا الذهاب لقضاء احتياجاتهم الطبيعية بدون إذن. يطيعون بثقة ويقين وبلا تردد كما لو كان الأمر صادرًا من السماء.

جاء في بستان الرهبان[34]:

[قال أنبا قسيانوس:

          إن أنبا موسى أوصانا بأن لا نكتم أفكارنا، بل نكشف لمشايخ روحانيين لهم معرفة وتمييز وليس لمن طال عمره وشاب شعره، لأن كثيرين قصدوا أهل كبر السن، وكشفوا لهم عن أفكارهم، وحيث أنه لم يكن عندهم معرفة فعوض العلاج طرحوهم في اليأس. هذا ما حدث لأخ من البارزين في الجهاد، إذ أنه لما تأذي بالزنى نتيجة كثرة القتال الواقع عليه، ذهب إلى أحد الشيوخ، وكشف له أفكاره، وكان الشيخ غير مختبر، فضجر منه، وقال: “أيها الشقي إذ تدنست حواسك بهذه الأفكار فعلي أي شئ تتكل؟” فلما سمع الأخ قوله، حزن جدًا ويئس من خلاصه، وترك قلايته، ومضى قاصدًا العالم. لكن حدث بتدبير من الله أن التقى به شيخ آخر، فلما رآه عابسًا مضطربًا سأله عن حاله قائلاً :”ماذا بك يا ولدي؟” فقال له الأخ: “يا أبي إني تأذيت بأفكار الزنا، فمضيت إلى الشيخ فلان، وكشفت له أمري، فبحسب جوابه ليس لي رجاء في الخلاص”.

          فلما سمع الشيخ قوله، أخذ يسكن من روعه ويشجعه وابتدأ يعيد إلى نفسه الرجاء في التوبة، قائلاً: “لا يهمك هذا الكلام. ولا تيأس نفسك من الخلاص، فها أنا بالرغم مما بلغته من هذا السن وهذه الشيبة كثيرًا ما أتأذى من هذه الأفكار، فلا تحزن من أن جهادنا في الأمر لم يبلغ مقدار ما يأتينا من رحمة الله ومعونته، لكن هب لي يومك هذا وأرجع إلى قلايتك”. فأطاع الأخ كلام الشيخ ورجع إلى قلايته، أما الشيخ الذي رده إلى قلايته فأتى إلى ذلك الشيخ الذي قاده إلى اليأس ووقف خارجها وسأل الله بدموع كثيرة قائلاً:

           “أنا أطلب إليك يا ربي وإلهي أن تصرف هذا القتال عن هذا الأخ، وتسلطه على الشيخ الذي قاده إلى اليأس، ليجرب في شيخوخته ويتعلم في كبر سنه ما لم يتعلمه في طول زمانه، ليشعر بآلام المجاهدين المقاتلين فيتألم لآلامهم، وبذلك يحصل على منفعة نفسه”.

فلما أتم الشيخ صلاته، نظر إذ بجيش واقف قرب قلاية الشيخ وهو يصوب نحوه سهاما ويجرحه، وإذ بالشيخ يقوم لساعته سكرانًا، وخرج من قلايته، واندفع من قلايته يجول، فسلك الطريق التي سلكها الشاب الذي قطع منه رجاء التوبة مريدًا أن يعود إلى العالم، فلما علم الشيخ المختبر بما عزم عليه الشيخ الآخر استقبله وقال له: “إلى أين أنت ذاهب أيها الأب، وما سبب هذا الاضطراب الذي اضطرك للخروج من قلايتك؟” أما هو فتوهم أن الشيخ قد عرف بحاله، ومن الخجل لم يرد عليه جوابًا، فقال له ذاك: “أرجع إلى قلايتك، ومن الآن كن عارفًا بضعفك، واعلم بأنك إلى هذه الغاية لم تجرب بعد، إما لأن الشيطان كان غافلاً عنك، أو لاستهانته بك، لم يتجرد لقتالك، ولذلك نجوت، وها قد ظهر الآن أنك غير أهل لأن تُعد من المجاهدين، لأنك لم تقدر أن تصارع يوما واحدًا. فما أصابك كان نتيجة لتصرفك مع ذلك الشاب الذي أتاك، وقد أذاه عدونا كلنا، فبدلاً من أن تعينه وتشجعه، ألقيته في اليأس، ولم تفكر فيما قاله الكتاب: “خلصوا المسوقين إلى الموت، شجعوا صغيري النفوس”.]

سبق لنا الحديث عن التزام  الراهب بعمل اليدين لأجل بنيانه الروحي. جاء في بستان الرهبان:

[قال كسيانوس الرومي[35]:

أنه أمر فظيع وقبيح بنا أن العلمانيين يتعبون ويعملون ويعولون أولادًا ونساء ويدفعون خراجا وضريبة ويحسنون إلى فقراء ومحتاجين حسب طاقتهم ويحملون إلى بيت الله باكورات وقرابين، أما نحن فلا نقتني من أتعابنا حتى ولا حاجتنا اللازمة لنا، بل نحبس أيدينا داخل ثيابنا، ونستجدي أتعاب غيرنا، ولا نصغي إلى الرسول القائل: “إن هاتين اليدين قد خدمتا حاجاتي وحاجات الذين هم معي”، وقوله: “إن الرب أعطى الطوبى للمعطي أكثر من الآخذ”. وقوله أيضًا :”نحن نوصيكم يا اخوتنا باسم ربنا أن تتجنبوا كل أخ عديم النظام، لا يسلك حسب التقليد الذي سلمناه لكم، بل لنعطيكم أنفسنا مثالاً. لأني وقت أن كنت عندكم، قد أوصيتكم بهذا. أن من لا يشاء أن يعمل فلا يأكل، فقد سمعنا الآن أن فيكم قومًا يسيرون بعدم نظام ولا يمارسون عملاً. فنحن نوصي هؤلاء ونسألهم باسم يسوع المسيح أن يعملوا عملهم بسكون، ويأكلوا خبزهم”.

قيل عن أنبا قاسينوس أنه أخذ مرة تليسا، ومضى إلى البيدر مع الحاصدين، وقال لصاحب البيدر: “أعطني قمحًا”. فقال له: “لماذا لم تأت لتحصد، فكنت تستحق أن تأخذ؟” فقال له الشيخ: “هل إذا لم يحصد الإنسان لا بأخذ أجرة؟” فأجابه: “لا يأخذ”. فما كان من الشيخ إلا أن انصرف، فقال له الاخوة الذين عاينوا ما حدث: “لماذا فعلت هكذا يا أبانا؟” فقال لهم: “سُنة وضعتها لنفسي وهي إن لم يعمل الإنسان ويتعب، فلن يأخذ أجرة من الله”.


[23] J.C. Guy: Jean Cassien: Vie et doctrine spirituelle, Paris, 1961.

[24]  Lossky: The Mystical Theology of the Eastern Church, London, 1957, p.236.

[25]  Lossky: In the Image and Likeness of God, N.Y, 1967, p.196.

[26] Confer. 18:5.

[27] The Institutes 5:41.

[28] Institutes 5:36.

[لا نستطيع أن نقول أنها أكثر كمالاً، لأن كلا النمطين مطلوب كما في الجبل المقدس، آثوس. وفي الكنيسة الأرثوذكسية لم يعد هناك حياة توحد كاملة، إذ يجب على الراهب أن يشارك الجماعة الرهبانية في يوم الأحد… ومنعت الكنيسة الأرثوذكسية على الراهب أن يحيا التوحد بدون موافقة الأب رئيس الدير لأن من كان وحيداً كيف يكون أخراً؟ وإن سقط من يُنهضه؟ إلخ… (الشبكة)]

[29] Conference,19.

[30] Conferences, 3:3-5.

[31] Institutes 4:1.

[32] Conferences, 4:2.

[33] Conferences, 10:7.

[34] بستان الرهبان.

[35] بستان الرهبان.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى