Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

القديس يوحنا كاسيان وبدعة تشبيه الله بالإنسان Anthropomorphism

بخصوص مناظرة 10 عن “الصلاة” تساءل البعض عن بدعة تشبيه الله بالإنسان، وهي بدعة مادية ترى أن اللاهوت شبيه بالإنسان له جسد وأذرع ويدان ورجلان… وقد استقت هذه البدعة مبادئها من تفسيرها بعض نصوص العهد القديم تفسيرًا حرفيًا ماديًا خاطئًا مثل: “هل لك ذراع كما لله..” أي9:40؛ “شمَّر الرب عن ذراع قدسهِ” إش10:52.

تحدث المغبوط أغسطينوس عن هذه البدعة في عظاته على فصول منتخبة من العهد الجديد، إذ قال إن البعض يتصورون اللاهوت بصورة جسدانية حتى يُضخِّموا من شكله الجسدي.

هذه البدعة تختلف تمام الاختلاف عن تجسد الابن، الذي أخذ جسدًا فاتحد اللاهوت بالناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.

* يطالبنا الأب إسحق ألا تكون لنا النظرة اليهودية المادية التي حجبت عنهم معرفة شخص ربنا يسوع رغم رؤيتهم له بالجسد، فلم يدركوا أسرار لاهوته.

* سيأتي الرب يسوع في يوم الدينونة، فيراه الأشرار من جهة الجسد. “وستنظرهُ كل عين والذين طعنوهُ وينوح عليهِ…” رؤ7:1، لكنهم لا يستطيعون معاينة مجد لاهوته. أما الأبرار فهم وحدهم الذين يعاينون أمجاد اللاهوت المتحد بالناسوت اتحادًا أبديًا.

القديس يوحنا كاسيان وشبه البيلاجية [1]

أثارت المناظرة 13 للأب شيريمون عن “حماية الله” ضجة حول أرثوذكسية كاسيان، بسببها هوجم كاسيان من الأغسطينوسيين المتطرفين في بلاد الغال، خاصة بروسبر[2] Prosper of Acquitanus في كتابه Contra Collatorem [3]، متهمًا إياه بالبيلاجية. فقد بدأ الصراع مع فكرة “الاختيار” كضد لحرية الإرادة بالقديس يوحنا كاسيان. إذ ركزت المناظرة 13 للأب شيريمون على حرية الإرادة البشرية حيث يبدو أنه يعطيها أولوية على نعمة الله.

 يقول فيليب شاف: “على رأس جماعة شبه البيلاجية يقف يوحنا كاسيان مؤسس وأب الدير الذي في ماسيليا Massilia،… إنسان غني في الخبرة، ولا يٌشك في أرثوذكسيته[4].”

يمكننا معرفة سبب ذلك، إن عرفنا الظروف التي عاش فيها القديس يوحنا كاسيان. فقد قام الصراع بين المغبوط أغسطينوس وأتباع بيلاجيوس الذي قلل من أهمية النعمة الإلهية، مركزًا على حرية إرادة الإنسان وإمكانية خلاصه بجهاده الذاتي. وقد أدانت الكنيسة البيلاجية، هذا سبَّب حساسية مرهفة من جهة كل من يتكلم عن الأعمال، خشية أن يكون في طريق الانزلاق نحو البيلاجية، أو لئلا يقتطف البيلاجيون أية فقرة من حديثه ويعتمدون عليها في تأكيد بدعتهم.

ويمكننا أن نضرب لذلك مثلاً. إذا كتب إنسان في مقال عن الرب يسوع تعبير “الإنسان”، يُعتبر هذا اللفظ غير لائق ليس لأننا ننكر ناسوته، لكن لظهور البدع التي تنادي بعدم ألوهية ربنا يسوع، لهذا نردف مع كلمة “يسوع” لفظ “الرب” أو “إلهنا ومخلصنا”، حتى لا ينزلق أحد في عدم معرفة حقيقة شخص ربنا يسوع. هذا على خلاف ما كان حادثًا في القرون الأولي حيث كانت البدع، وخاصة المتسمة بسمات الفارسية أو الهندية، تنظر إلى المادة كعنصر ظلمة فلا يقبلون أن يكون للرب يسوع جسدًا لئلا يكون فيه عنصر ظلمة. لهذا نادت بدع كثيرة قائلة بأن السيد المسيح لم يأخذ جسدًا حقيقيًا، بل كأنه يحمل جسدًا وكأنه ينام وكأنه يتألم وكأنه يُصلب… وهذه البدع رفضتها الكنيسة الأولى مؤكدة ناسوت الرب يسوع.

هاجم المغبوط أغسطينوس البيلاجيين في كتاباته متحدثًا عن نعمة الله باستفاضة، لكن لم يكن الكل مستريحًا للمغبوط أغسطينوس، إذ في مقاومته للبيلاحية بالغ في الاتجاه المضاد حتى كاد يعتقد بتحديد المصير والاختيار الإلهي للإنسان متجاهلاً دور الحرية الإنسانية. اعتقد كثيرون أن أقوال المغبوط أغسطينوس في هذا الشأن تحطم كل رغبة في الجهاد الروحي والسلوكي، قائلين: إن كانت نعمة الله  تعمل في المختارين دون أن يبدأوا بخطوة جادة نحو التوبة، فما هي الحاجة لمحاولة الإنسان أن يسير في الطريق الحق؟

          أما موقف كاسيان في هذا الشأن فيتلخص في الآتي:

·    رفض كاسيان تمامًا فكرة أن النعمة الإلهية لا تُقاوم ولا تفقد، مؤكدًا حرية إرادة الإنسان الدائمة.

 ·  أكد أن حرية إرادة الإنسان قد ضعفت بسبب السقوط في الخطية لكنها لم تنتزع تمامًا. الإنسان مريض روحيًا لكنه ليس ميتًا. فهو بالحق لا يقدر أن يعين نفسه، لكنه يستطيع أن يشتهي ويطلب معونة الطبيب، وله أن يقبل المعونة ويمكنه أن يرفضها متى قدمت إليه. أيضًا علي أي الأحوال بينما يمكن للإنسان في بعض الأوقات أن يكون له الفكر والرغبة للصلاح بنفسه، ويمكنه بنفسه أن يجيب على الدعوة الإلهية، إلا انه لا يقدر أن يتمم الصلاح الذي يدركه ويرغبه ولا أن يفعل ما يدعوه إليه الله بدون النعمة[5].

·    إن أراد يلتزم أن يتعاون مع نعمة الله التي لا تعمل فينا قسرًا. فالابن الضال وزكا العشّار واللص اليمين وكرنيليوس قرروا التوبة.

 ·  يريد الله أن جميع الناس يخلصون، وليس مجرد مجموعة منهم. من ينكر هذا – في نظره – تجديف مرعب. لم يُخلق الإنسان لكي يعيش بلا إرادة، ولا لكي يكون عاجزًا عن ممارسة الخير. فإن رأى الله فينا مجرد شرارة صغيرة جدًا للرغبة أو الإرادة نحو الخير يقويها ويسندها بنعمته. إنه يرفض مطلقًا حتمية “المصير”، ويعتقد أن النعمة توهب للكل على الحياد، لكن حسن أو إساءة استخدامها يحدد خلاصنا أو دينونتنا[6].

·  إن الإنسان دون معونة من أية عطية خاصة بالنعمة يمكنه أن يمارس الخطوة الأولى في طريق خلاصه[7]، أي يمكننا نحن أنفسنا أن تكون لنا على الأقل بداية صالحة[8].

·    يطلب الله ويتوقع منا جهودًا سابقة قبل مساهمة نعمته[9].

·  يُدعى البشر بواسطته بطرق متنوعة، فالبعض مثل أندراوس وبطرس يدعون قبل أن يفكروا في ذلك، وآخرون مثل زكا يدعون بعد أن يكونوا قد تحولوا فعلاً نحو الله، وآخرون أيضًا مثل بولس يبدو كمن يُسحبون ملزمين[10].

·  إما أن يُدعى الإنسان بواسطة الله ويستنير بنوره، أو يستطيع بنفسه أن يؤمن ويكون له الإيمان[11]، إذ يقدر بكامل حريته أن يرفض أو يتبع النعمة الإلهية[12]. النعمة عند القديس يوحنا كاسيان هي كما كانت بالنسبة للإنسان الأول وهو في حالة البراءة عند أغسطينوس: فهي تدعونا وتسأل عنا وتحثنا ولكنها لا تلزم إرادتنا.

· المعونة الفائقة للطبيعة لازمة حتمًا لصنع الصلاح والمثابرة عليه. هنا كاسيان يخلص إلى أنه يجب ألا نقول بأن النعمة ليست مجانية، ولا انها على قدم المساواة مع المجهودات التي لا تقدم شيئًا بالمقارنة لعمل النعمة وعظم المكافأة[13]. ليتنا لا نقول مع البيلاجيين أن النعمة تمنح للإنسان لأنه مستحق لها، وحسب استحقاقه، وإنما على خلافهم يلزمنا ألا ننسب عمل الخلاص كله لحرية الإرادة، التي تقدم أقل مساهمة في هذا العمل، وأحيانًا لا تساهم نهائيًا[14].

·  مع ما قاله مخالفًا البيلاجيين فإن في ذهنه الكلمة الأخيرة في مشكلة الخلاص تعتمد على حرية الإرادة تمامًا. الحرية العاجزة عن أن يكون للإنسان إرادة أو أن يعمل ما هو صالح لنفسه لا تكون حرية أصيلة[15].

تبع كاسيان تلميذه Vincent، راهب في ليرن Lérins الذي أعلن أن تعاليم أغسطينوس جديدة.

يبدو أن كاسيان بدأ المناظرة 13 أولاً بما يتفق مع المغبوط أغسطينوس، وقد أضاف عبارة فريدة نزع فيها كل دعوانا من جهة الاتكال على جهاد الإنسان الذاتي، مضيفًا أنه وإن جاهد الإنسان بكل طاقته من أجل الثمرة الصالحة، لكنه لا يقدر أن يسيطر على ما هو صالح ما لم يطلبه ببساطة من جود الله وكرمه، وليس بجهاده الذاتي.[16]“، لكنه عاد ليقدم بكل دقة تعاليمه.

يمكن إدراك تطور فكر كاسيان في دير القديس بقطر بمرسيليا وغيره من الأديرة في Lérins بدراسة الرسالتين اللتين كتبتا عام 429 بواسطة بروسبر وهيلاري إلى أغسطينوس، فقد سمعا من الرهبان أسئلة تحمل عداوة لأفكار أغسطينوس في موضوع الخلاص، فجمعا هذه الأسئلة وقدماها لأسقف هيبو ليجيب عليها ويفندها. وردت هاتان الرسالتان مع مجموعة رسائل المغبوط أغسطينوس (رسالتا 225، 226). جاء فيهما:

·    تمنح النعمة للطبيعة التي هي بحق ساقطة وضعيفة، لكنها ليست عاجزة تمامًا عن أن تفعل صلاحًا[17].

·    نقول بدقة أن النعمة لا تسبق بل مجرد ترافق تصميم الإرادة وإتمام العمل المستحق المديح[18].

·    دائمًا يُفهم أن النعمة ضرورية لتعين الإنسان لكي يعمل ويتمم الأعمال الصالحة التي يدركها ويريدها[19].

·  النعمة مقدمة لكل البشر. الكل مدعوون بالقانون الطبيعي أو المكتوب أو الإنجيلي، لأن الله يريد خلاص الكل لذلك فإن هذا يعتمد على الإنسان ان كان يريد أن يخلص أم لا، إذ يستطيع دائمًا أن يتجاوب مع الدعوة الإلهية[20].

·    كل البشر يمكنهم أن يكونوا قد سبق تعيينهم حيث كل واحد في استطاعته أن يتأهل للاختيار أو عدم التأهل لذلك[21].

·    إن هذه النظرية لا يوجد فيها قط ما يدعو إلى اليأس ولا إلى التراخي، وأنها تحل المشاكل التي سببها الاعتقاد بحتمية “المصير”.

هذا هو مختصر للآراء التي سادت في الأديرة التي بجنوب بلاد الغال عام 429 حسب ما ورد في رسالتي بروسبر وهيلاري. اُعتبرت هذه الآراء فيما بعد في نظر اللاهوتيين شبه بيلاجية Semi – Pelagianism ، ويمكن اختصارها في ثلاث نقاط[22].

أ – الإنسان قادر بدون النعمة أن يرغب ويريد لكنه عاجز عن ان يتمم الأعمال الصالحة الفائقة للطبيعة. يمكنه أن يبدأ أن يؤمن لكنه لا يقدر أن يقدم لنفسه إيمانًا كاملاً.

ب- الله يريد أن الجميع يخلصون، مقدمًا للكل نعمة الخلاص. يمكن للكل أن يتعاونوا مع نعمته ويثبتوا فيها إن أرادوا.

ج – لا يوجد تحديد مصير مطلق، فتحديد المصير أو الرفض يُعتبر بالنسبة لله أنها نتيجة لسبق معرفته عن استحقاق أو عدم استحقاق لكل فرد، وتحسب بالنسبة للإنسان أنها نتيجة لسلوك البشر.

بين هذه النقاط الثلاث يبدو أن النقطة الأولى وحدها التي واجهها أتباع أغسطينوس بالرفض والرذل التام. أما النقطتان الثانية والثالثة فطلبوا مزايدًا من الإيضاح وصار من الصعب تفنيدهما[23].

بناء على طلب تلميذيه أجاب أغسطينوس على الاعتراضات التي أثيرت على آرائه في هذا الشأن، جمعها من مصادر مختلفة ووضعها في مقالين: De praedestinatione Sanctorum، De dono persevenatiae . وقد سندت إجابته تلميذيه وثبتت فكرهما، لكنها لم تقنع معارضيه، فنشأ صراع بين الأغسطينوسيين وشبه البيلاجيين في جنوب الغال. لم يعش المغبوط أغسطينوس ليرى نتيجة الصراع بل تنيح في 28 أغسطس 430م، واهتم تلميذه بروسبر بالدفاع عن آرائه[24].

هل كان كاسيان بيلاجيًا؟

لا يمكن اتهام كاسيان بالبيلاجية، فقد أعلن في كتابه “عن التجسد الإلهي ضد نسطور” أن البيلاجية هي أصل كل الشرور، وهي وراء بدعة نسطور.

يبرر البعض موقفه بأنه تأثر بالقديس يوحنا الذهبي الفم أكثر من المغبوط أغسطينوس[25]، فهو لن ينسى قط حث الذهبي الفم شعبه للاستمرار على الجهاد الشخصي والعمل. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه ليس الله ولا نعمة الله تمنع حريتنا في الاختيار[26].

أيضًا تشجيع كاسيان اليومي لرهبانه على السلوك في طريق بذل الذات والتضحية جعله غير قادر على قبول نظرة المغبوط أغسطينوس السلبية الذي يبدو كمن يقلل من شأن الإرادة البشرية متأثرًا بنظرته الخاصة نحو النعمة الإلهية. إن كان الله حقًا يفعل كل شيء لنا، فمن أين يأتي الاستحقاق للمكافأة؟ وإن كنا لن نقدر أن نفعل شيئًا بدون النعمة، فما هو موقف حريتنا؟[27]


[1] K.S. Latourette: A History of Christianity, 1953 p. 181-182.

[2] لاهوتي شاعر يتبع الأغسطينوسيين ترك بلده Acqiutania وذهب إلى جنوب الغال.

[3] Bruce, p. 166.

[4] Philip Schaff: History of Christian Church, vol. 3, p. 860.

[5] Conf. 13: 9.

[6] Conf. 13: 7,17; 17:25.

[7] Wand, p. 233.

[8] Conf. 13:9.

[9] Conf. 13:13.

[10] Conf. 13: 15,17,18.

[11] Conf. 13: 14.

[12] Conf. 13: 12,13; 3:19.

[13] Conf. 13: 13.

[14] Conf. 13: 16.

[15] Conf. 13:12.

[16] Conf. 13:1.

[17] Epistle 226:6.

[18] Epistle 225:5.

[19] Epistle 226:2,4.

[20] Epistle 225:3,4,6.

[21] Epistle 225:2,6; 226:4,5,7.

[22] Tixorent, History of Dogmas, vol. 3, p. 271.

[23] Tixorent, History of Dogmas, vol. 3, p. 271-272.

[24] Tixorent, History of Dogmas, vol. 3, p. 272.

[25] Ferguson, p. 180.

[26] Comm. in Math., hom 15:1, PG 58:471.

[27] Tixeront: History of Dogmas, vol. 3, p. 266.

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى