Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

يظهر لنا يوم الأربعاء العظيم صورتين مختلفتين تدلان على أوضاع نفسية متضاربة: صورة المرأة التي دفقت الطيوب على رأس يسوع في بيت عنيا وصورة التلميذ الذي خان معلّمه. وقد توجد بعض الصلة بين هذين الفعلين، إذ أن التلميذ نفسه كان قد احتج على كرم المرأة الظاهري.

نحتفل مساء يوم الثلاثاء أيضاً، بعد صلاة النوم الكبرى، كما فعلنا في اليومين السابقين بخدمة (الختن). وتشير التراتيل مراراً إلى (التلميذ العادم الشكر) و (الامرأة الزانية). لكن إنجيل السحر (يو17:12- 50) لا يتعلق بحادثة بيت عنيا، بل يقول لنا كيف طلب يسوع من الآب، خلال أحد أحاديثه الأخيرة مع الشعب: (مجّد اسمك). (إن هذه العبارة نموذج ومثال للصلاة البنوية، المحبة، الواثقة). وسُمع إذ ذاك صوت من السماء يقول: (لقد مجّدت وسأمجّد). إن هذا التمجيد الجديد سيكون في آلام يسوع وقيامته. وكذلك تشير بعض مقاطع هذا الإنجيل بوضوح إلى هذه الآلام: (الحق الحق أقول لكم إن حبة الحنطة… إن لم تمت فإنها تبقى وحدها، وإن ماتت أتت بثمار كثيرة… قد حضرت دينونة هذا العالم الآن يُلقى رئيس هذا العالم خارجاً، وأنا إذا ارتفعت عن الأرض جذبت إليّ الجميع).

ونتابع في قداس البروجيازماني قراءة نبوءة حزقيال (3:2- 3:3): يأمر الله النبي أن يذهب إلى الناس بدون خوف وينقل إليهم ما سمعه من الفم الإلهي. نتابع أيضاً قراءة سفر الخروج (11:2- 22)، حيث يهرب موسى إلى أرض ميديان بعد قتله لمصري كان يضرب أحد العبرانيين، وكيف تزوج هناك. وأخيراً نتابع قراءة سفر أيوب (1:2- 10): يطلب الشيطان من الله أن يسمح له بأن يجرِّب أيوب في جسمه بالذات، لكن أيوب المثقل بالجروح، يأبى، رغم تحريض امرأته، أن يلعن الرب. يسرد الإنجيل (متى6:26- 16) رواية دهن رأس يسوع بالطيوب في بيت عنيا من قبل امرأة (34). فأنّبها أحد التلاميذ (35) قائلاً: (لماذا هذا الإسراف ؟ لماذا لم يبع هذا الطيب… ويُعط للمساكين ؟). أمّا يسوع فيجيب مادحاً المرأة وقائلاً: (فإن المساكين عندكم في كل حين، أمّا أنا فلست عندكم في كل حين… إنما حفظته ليوم دفني…). عندها ذهب يهوذا الاسخريوطي، وكان واحداً من الاثني عشر، إلى الكهنة وقال لهم: (ماذا تعطوني وأنا أسلمه لكم). فوافق الكهنة أن يدفعوا ليهوذا مبلغ ثلاثين من الفضة (36).

أثنى يسوع على عمل المرأة لأن هذا العمل كان أولاً تكريماً مسبقاً مقدماً لموته ودفنه، ومن ثم لأنه تعبير عن محبة كبيرة ليسوع كان من الجائز والشرعي للمرأة أن توجهه له بدل المساكين في هذه الفترة القصيرة التي كان مستمراً في قضائها بين البشر. لكن هل يمكننا أن نجد في كلام يسوع هذا توجيهاً واضحاً لعملنا ؟ يبدو أن ذلك ممكن. بارك يسوع من جهة كرم المرأة لأسباب معيّنة: وجوده المنظور بين البشر وقرب دفنه. لكن هذه الأسباب لم تعد اليوم قائمة، فيكون الواجب بالتالي مختلفاً. وبدون أن ندين استعمال الغنى والجمال لخدمة الله، لا بد أن يسخَّرا خصوصاً في خدمة أعضاء جسد المسيح المتألمين. بناء الكنائس الفخمة بينما الفقراء يموتون جوعاً هو عمل مشين بالنسبة لله (37). لكن لحادثة بيت عنيا، من جهة ثانية، مغزى أعم من تقدمة الطيوب. يمكن لنا أن نظهر كرمنا ليسوع بأن نكرس له ليس فقط أموراً مادية بل أموراً غير منظورة، كحياة صلاة، حياة نسك وحياة تأمل، وتضحيات صعبة الخ… سيحتج العالم كما فعل التلاميذ في بيت عنيا: لماذا هذا الإسراف وهذا التبذير؟ أليست الحياة العادية في خدمة البشر أنفع وأجدى ؟ لكن يبقى تقدير (قيمة البذل) عصب كل دين حيّ. إذا كان لا بد لنا أن نفضل مساعدة الضيقات الموضوعية الصارخة على الترف الثقافي مثلاً، فلنا الحق أيضاً في أن ندفق على رأس يسوع طيباً غير منظور، أي أن (نخسر) من أجله (بالفعل أن نربح) أحسن ما يوجد في حياتنا. قلبنا هو أول قوارير الطيوب التي يجب كسرها أمامه، ومن أجله.

لا نتجاسر على تفسير وضع يهوذا لكثرة ظلمته وفظاعته. لكن فلنعد إلى ما يقال في خدمة الختن، يوم الأربعاء العظيم: (إن التلميذ العادم الشكر، إذ كان موعباً من نعمتك رفضها…). يستحيل رفض النعمة بعد أن نكون قد امتلأنا منها. كم من المسيحيين لم يقولوا خلال حياتهم للهوى الأكثر تسلطاً عليهم – الجسد، المال، التكبر -: (إني على استعداد أن أبيعك يسوع. قل لي ما هي الملذات التي ستمنحني إياها وأسلمه لك ؟)

وفي العديد من الكنائس يمنح سر مسحة المرضى بعد ظهر الأربعاء أو مساء اليوم لكل المؤمنين الذين يودون تقبل عزاء روحي وجسدي.


(34) يثير هذا المقطع تساؤلات عديدة. أولاً هل كان هناك أكثر من مسحة واحدة قامت بها امرأة ليسوع في آخر أيام حياته الأرضية ؟ يتكلم متى ومرقس عن مسحة حصلت (يومين قبل الفصح). أمّا يوحنا (1:12) فيوحي أن المسحة تمت (ستة أيام قبل الفصح). لكن، إذا قرأنا بانتباه نص يوحنا، نرى أن (الستة أيام) تتعلق بوصول يسوع إلى بيت عنيا، وليس بالضرورة بالعشاء الذي مُسح يسوع خلاله. يمكننا إذاً الاستنتاج – بدون دحض إمكانية حصول مسحة ثانية – أننا بصدد مسحة واحدة حصلت لأربعة أيام بعد موعد وصول يسوع إلى بيت عنيا وليومين قبل الفصح. ثانياّ من كانت الامرأة التي مسحت يسوع ؟ لا يعطي متى ولا مرقس أي اسم، بينما يؤكد يوحنا أنها مريم، أخت مرتا ولعازر. ثالثاً مريم هذه هل هي نفسها مريم المجدلية التي (خرج منها سبعة شياطين) (لو2:8) ؟ والمجدلية ! هل هي المرأة الخاطئة نفسها التي غسلت رجلي يسوع أثناء العشاء عند سمعان الفرّيسي ؟ (لو7) ؟ لقد طال النقاش حول هذا الموضوع. إن المعطيات الإنجيلية لا تسمح بإعطاء الجواب القاطع. يمكن القول بأن الإنجيل الرابع يرجح دون أن يؤكد كون مريم أخت لعازر ومريم المجدلية والمرأة الخاطئة شخصاً واحداً وأن النسوة الثلاثة هي المرأة نفسها في ثلاث مراحل مختلفة من حياتها. بعكس الرواية (المغلوطة حتماً) القائلة أن مريم أخت لعازر قدمت إلى بلاد الغال مع مرتا ولعازر، يعتبر تقليد يوناني أنها ذهبت إلى أفسس، وأنها ماتت هناك وأن رفاتها نقلت إلى القسطنطينية في القرن الرابع.

(35) لا يسمّي متى أياً من التلاميذ، لكن يوحنا (4:12- 7) ينسب كلمات الاحتجاج هذه ليهوذا الاسخريوطي بن سمعان الذي كان (مزمعاً أن يسلمه)، ويزيد: (نال هذا لا لعطفه على الفقراء، بل لأنه كان لصّاً وكان أمين الصندوق، فيختلس ما يودع فيه).

(36) ذكرت الثلاثون من الفضة في إحدى النبوءات. سنعود إلى هذا الموضوع عند بحثنا قراءة زكريا التي تُقرأ في خدمة الساعة الأولى ليوم الجمعة العظيم.

(37) يركز القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا الموضوع بمهارة رائعة، ويوبّخ بعض المؤمنين الأغنياء لتزيينهم هياكل الكنائس في الوقت الذي يهملون فيه الفقراء، تلك الهياكل الحيّة المنتصبة في كل شارع. (كان يجب أن نفعل هذا دون إهمال ذلك). وكان يقول للأغنياء، مشدداً على حضور المسيح في الفقراء: (اقبل المسيح على الأقل في إسطبلك).

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين الصفحة

محتويات القسم

الوسوم

arArabic
انتقل إلى أعلى