القسم الثالث: مواعظ لزمَن التريودي
غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع (هزيم) (*)
أحد الفريسي والعشار
اللهم أعطنا نعمة الواضع
الفرّيسي من هو؟ هو ذاك الذي إذا قيس بغيره من اليهود تميّز بمعرفته كتابه المقدس وإدراكه للنصوص الكتابية، ووعيه واجباته الدينية. فهو، إلى حد بعيد، معلّم الإيمان. والصفة (فرّيسي) كانت تُضْفي على الموصوف بها شرفاً وكرامة عظيمين. وهي بمثابة لقب (اللاهوتي) في أيامنا هذه. وباختصار فالفرّيسي هو الرجل الضالع بالشؤون الروحية، بشؤون الكنيسة.
الفرّيسي عاش خبرة فريدة، مرّ باختبار قد يمر به كل من يهتم بشؤون الدين وشؤون الحياة الروحية. عندما خاطب المخلّص الفريسيين قال لهم: (الويل لكم). وهذا الفرّيسي ينتمي إلى تلك الفئة التي وبّخها المخلّص بقوله: (الويل لكم) لأنكم تحبون صدور المجالس واحتلال المقاعد الأولى في الصالونات والكنائس وكل اجتماع. (الويل لكم) لأنكم تحبون أن يحييكم الناس في الطرقات والأسواق وأن يدعوكم (سيدي، سيدي). وهكذا الأمر مع الذين تدعونهم اليوم (سيدنا) فقد يوبخونكم إذا ما دعوتموهم (أبونا) لأنهم كذلك تعوّدوا أن يكرمهم الناس، وأن يكونوا هم محور اهتمام البشر. وفي المجتمع البشري العديد العديد يتوقعون أن يحتلوا صدور المجالس وأن يفرقهم الناس بتحياتهم وأن يلقبوهم بالسيد السيد.
بولس الرسول كان يعتز بقوله أنا يهودي، أنا فرّيسي لأنه كان يقصد أن يهوديته أصيلة، ومع ذلك فقد تجاوز فرّيسيته، تجاوز تلك الديانة إلى دين آخر.
في هذا اليوم عندنا صورة الفرّيسي الواثق من نفسه، الواثق من صحة إيمانه، (الأرثوذكسي) في يهوديته. هذا الفرّيسي يقف في (الهيكل)، نعم في (الهيكل)، وقد نسي أنه في (الهيكل) حيث تتغيّر الأمور. فكم من جاهل عظيم الجهل في العالم يغدو في الهيكل أقدس ألف مرة من أكبر متعلّم. خارج الهيكل الشهادة تأتيك من الناس وأمّ في الهيكل فمن الله يجب أن تأتي الشهادة. فالله يرى ما لا يراه غيره ويعرف ما لا يعرفه غيره. الثياب لا تغش الله وكذلك المظاهر واللياقات وحسن الكلام، تلك التي كثيراً ما نقع نحن البشر ضحايا لها.
نسي الفرّيسي قداسة الهيكل وقداسة الموقف. لم يعد الهيكل مقدّساً في نظره بحكم تعوّده الدخول إليه. لذلك لم يعد هنالك فرق بين الهيكل وغيره من الأماكن وغدا ما هو حسن خارج الهيكل حسناً في داخل الهيكل. وهكذا ظنّ الفرّيسي أنه حتى في الهيكل يمكنه مفاضلة أخيه العشّار والمزايدة عليه في القيام بالواجبات من صوم وصلاة وتطبيق وصايا.
الفرّيسي ظنّ أنه، إذا قام بواجباته، فمعنى ذلك أنه أتم كل شيء أمام الله تعالى. والحقيقة، يا أحباء، أن قلب الإنسان هو الأصل، وما يلفتني دائماً أننا غالباً ما لا نميّز بين طهارة القلب وطهارة المظهر. فالبعض طاهر المظهر ولكن قلبه بعيد عن الطهارة بعد الأرض عن السماء. والبعض الآخر مدنّس المظهر ولكن في قلبه براءة وطهارة نشتهيهما لأنفسنا ونعتبرهما من السمو بمكان.
نعم بين إخوتنا من يُنْعَت (بالناقص) قياساً واعتماداً على نظمنا الحياتية وقواعدنا الاجتماعية. بين الناس من ندينه، وقد يبدو لنا في الظاهر مستحقاً الإدانة، ولكن قلبه أطهر من قلوبنا، ونفسه أشد نقاء وصفاء من نفوسنا، وهو بالتالي أجدر منّا بأن يكون هيكلاً حيّاً لله.
الفرّيسي الذي ذكره المقطع الإنجيلي توقف فقط عند حد الطهارة الخارجية: غسل يدين، غسل وجه، مجيء إلى الكنيسة… عند هذا الحد من الطهارة توقف الفرّيسي. عند الاستقامة في العمل والصدق في القول ودفع العشور المنصوص عنها في الناموس. فهل هذا كل شيء؟ هذا الشخص الذي حدثنا عنه الإنجيلي رجل متديّن قد يكون فقيراً ولكنه يتمم كل ما هو مطلوب منه. ونحن في الكنيسة يمكن لكل مؤمن أن يتمم واجباته.
لننتقل إلى الصورة الثانية: العشّار، الجابي. وهو يذكرنا بزكا العشّار الذي لم تسعفه قامته على رؤية المسيح فاستعان بالشجرة واعتلاها ليراه ولو من بعيد. وأذكركم بأن مخلّصنا يسوع المسيح كان موضوع انتقاد شديد لأنه جالس الزناة والخطأة والعشّارين. فيمكنكم إذاً أن تتصوّروا إلى أي حد كان هذا الصنف من الأغنياء الظلمة مكروهاً.
العشّار، هذا الإنسان المكروه في مجتمعه وقف بعيداً. لم يفتش عن المقعد الأول بل وقف قرب الباب، ولكن ليس ليترك الهيكل ساعة يشاء، كما نفعل نحن في كثير من الأحيان، ولكنه وقف هناك لشعوره بأنه قد يدنّس الهيكل إن هو وطأه وأنه لا يستحق الاقتراب من القدسات. قال الكتاب: (وقف بعيداً ولم يجسر أن يرفع عينيه). والإنسان المذنب لا يجرؤ، عادة، على التطلّع إلى عيني الحاكم بل يطرق في الأرض. هذا الإنسان وقف بعيداً كسير النظرات وصلّى: (يا الله اغفر لي أنا الخاطئ). بعبارة واحدة اختصر كل التسابيح، كل الترانيم، كل الطقوس التي نقوم بها. (يا الله اغفر لي أنا الخاطئ)، (ارحمني أنا الخاطئ). إذا لم تكن هذه العبارة وراء تلك الترانيم والتسابيح والطقوس فإن الصلاة لا معنى لها.
المتكبّر، صيامه لا ينفعه وصلاته لا تفيده. الذي لا يقر بأنه إنسان ضعيف، الذي لا يشعر بأنه في حاجة إلى رحمة من الله مدرارة، ها الإنسان غير مؤمن. الإنسان الذي يأتي الكنيسة بأنفة وكبرياء وعنفوان، هذا الإنسان لا يؤم الكنيسة ولا يصلّي.
في الكنيسة نحني رؤوسنا للرب. هذا الرأس الذي صَمَّم للشر وحاك البائل الشيطانية هو نفسه يجب أن ينحني للرب، هذا القلب يجب أن ينكسر أمام الرب وإلاّ فصلاتنا وصيامنا تدجيل.
لنتقدم خطوة أخرى في حديثنا، أيها الأحباء، فعندما قال العشّار: (ارحمني أنا الخاطئ) كان لوقا الإنجيلي يفترض أننا نعرف النتائج العملية لصلاة إنسان ظالم، إنسان مستغل، جامع للأموال ويقول: (ارحمني أنا الخاطئ). في الواقع نحن لا نعرف النتائج العملية. ولنذكر زكا مجدداً. زكا، عندما اكتشف وجه المسيح الحقيقي ما عاد يفكر بالاقتصاد ولا بالاجتماع أو التوفير… يقول الكتاب أنه تبدّل، تبدّل في قلبه وتغيّر في كيانه. حصل فيه تعديل جذري، فما كان منه إلاّ أن أعلن بكل عفويّة وبساطة: (يا رب نصف أموالي أوزّعها على المساكين). لم يكتف باعتراف الفم وصلاة الفم. فقد شبع الناس ممّا يخرج من الفم، ولكنه عندما تحرك القلب استمال التحرك فعلاً: (يا ربي نصف أموالي أوزّعها على المساكين). بالضبط لأن هؤلاء هم الذين جَمَعْتُ أموالي منهم، إذاً فلتعد أموالهم إليهم. ثم زاد العشّار: (إن كنت قد ظلمت أحداً أردّ له أضعافاً مضاعفة).
هذا الحديث هو النتيجة الفعلية العملية لحضور المسيح في قلب إنسان. المسيح ليس كلمات، المسيح ليس لفظاً، المسيح حياة. والجسم الحي يعيش الحياة التي فيه ويتكيّف بالنسبة إليها. فإن ضعفت ضعف وإن قويت قوي وإن فارقته مات.
لا يمكننا أن نكون مسيحيين إذا كنا ظلمة ومستغلِّين. مدّ يدك إلى جيبك وأَخْرِج منه الظلم والاستغلال. يجب أن تمزّق هذا الجيب وتعيد مال الناس للناس. المسيح ليس مزاحاً، المسيح مغامرة عظمى في حياتك تربح بنتيجتها الحياة بالرب. إنه الشرط لولوجك الملكوت السماوي.
الفرّيسي والعشّار وقفا في الهيكل. ويقول الكتاب بأن الأول لم تُسمع طلبته: صُمْتُ، صلّيتُ، دفعت الصدقة. وأمّا الثاني، (أنا الخاطئ)، قالها بالقلب لا بالفم ولم يكتف بالقول فقط لكنه سلك مسلك التائب – والتوبة هي انقلاب كلّي فيك – فوجد المسيح فيه مكاناً وعاد هذا الإنسان إلى بيته مبرراً.
لوقا الإنجيلي يستعمل مرتين هذه الجملة: (من وضع نفسه ارتفع ومن رفع نفسه اتضع).
معنى ذلك أن الرفعة هي من الله وليس منك، ليس من البشر. فقد تكون عالي الشأن بين الناس ومرفوضاً من الله، وقد تكون مرفوضاً من الناس ومحتقراً ومكانك عند الله أرفع مما يتصوّره الناس. اللهم أعطنا نعمة التواضع. آمين.
{ ألقيت في اللاذقية سنة 1975}.