Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
Email
☦︎
☦︎

أنا بنعمة الله إنسان ومسيحي، وأما بأعمالي فخاطئ كبير و(سائح) من أدنى المراتب، دائم التجوال من مكان إلى مكان. مالي كناية عن خبز يابس في كيس على ظهري، والكتاب المقدس في قميصي: هذا كل متاعي.

دخلت الكنيسة يوم الأحد الرابع والعشرين بعد العنصرة لأصلي، أثناء القداس الإلهي، وكان ذلك عند قراءة فصل من رسالة القديس بولس إلى أهل تسالونيكي، وفيه يقول الرسول: (صلوا بلا انقطاع). سرت هذه العبارة حتى الأعماق فيّ وتساءلت كيف يمكن أن نصلي بلا انقطاع وعلى كل منا أن يقوم بأعمال عديدة ليتدارك احتياجات عيشه. ففتحت الكتاب المقدس وقرأت بأم عيني ما سمعته حرفياً: (ينبغي أن تصلوا بلا انقطاع) (1 تس 16:5)، و(صلوا بالروح في كل حين) (أفسس 18:6)، (وارفعوا في كل مكان أيدي نقية) (1 تي 8:2). وعبثاً ركزت فكري فلم أستطع البت في الموضوع.

وفكرت: ما العمل؟ أين يمكنني أن أجد مَن بإمكانه أن يوضح لي معنى تلك الكلمات؟ سأمضي إلى الكنائس حيث يعظ رجال ذاع صيتهم، فربما وجدت لديهم ما أبحث عنه.

سمعت الكثير من العظات البليغة عن الصلاة، غير أنها كلها كانت تبحث في الصلاة عامة: ما هي الصلاة، ولماذا يجب أن نصلي أو: ما هي ثمار الصلاة، ولكن لم يقل أحد شيئاً عما ينبغي القيام به حتى يتوصل المرء إلى أن يصلي صلاة فعلية. وسمعت عظة عن الصلاة الداخلية والصلاة الدائمة، إلا أن الواعظ لم يشر بشيء إلى كيفية التوصل إلى هذه الصلاة. وهكذا، لم تجدني مواظبتي على استماع الوعظ نفعاً في ما كنت أسعى إليه، فانقطعت عن سماع الوعظ وعقدت النية على البحث، مستعيناً بالله، عن إنسان عالم خبير بوسعه أن يشرح لي غوامض هذا الأمر، وقد شغل بالي وانصرفت إليه بكل جوارحي.

ولطالما سرت في الطرقات أقرأ الكتاب المقدس وأسأل الناس عما إذا كانوا يعرفون معلماً روحياً أو مرشداً حكيماً خبر الحياة، إلى أن قيل لي، ذات مرة، أن (سيداً) (1) يعيش هناك في قرية من أمد بعيد ويسعى لخلاص نفسه. في بيته كنيسة صغيرة. لا يغادر منزله مطلقاً ولا ينفك يصلي أو يقرأ الكتب الروحية. فلم أعد أسير، عند سماعي هذا، بل جعلت أركض نحو تلك القرية. ولما بلغتها، قصدت ذلك السيد. سألني: ماذا تريد مني؟ فأجبته: علمت أنك رجل تقي حكيم، لذا أسألك بحق الله أن تبين لي ما يعنيه قول الرسول هذا: (صلوا بلا انقطاع)، وكيف يمكننا الصلاة على هذا النحو. هذا ما وددت فهمه، إلا أنني عجزت عن إدراكه.

فأطرق السيد ثم نظر إلي وقال: إن الصلاة الداخلية الدائمة هي جهد الروح المستمر للتوصل إلى الله، فإن أردنا أن نفلح في مسعانا هذا الخيّر، كان علينا أن نكثر من طلبنا إلى الله أن يعلمنا أن نصلي بلا انقطاع. صل كثيراً وصل باندفاع، تفهمك الصلاة من تلقاء ذاتها كيف لها أن تصبح مستديمة، وإنما يستلزم ذلك وقتاً طويلاً.

وبعد قوله هذا أمر فقدم لي الطعام، وأعطيت زاد الطريق، ثم افترقنا دون أن أقف منه على جديد.

وتابعت المسير أفكر وأقرأ وأتأمل، حسبما تيسر لي. فيما قاله لي ذلك السيد إلا أنه كان من المحال علي أن أفهم، بالرغم من أن رغبتي في الفهم كانت عظيمة إلى حد جعل ليالي تمضي دون رقاد. وبعد أن قطعت مسافة مئتي فرسخ (2)، وصلت حاضرة ولاية ولمحت فيها ديراً، قيل لي في الفندق أن رئيسه تقي محسن مضياف. فذهبت إليه، فأحسن استقبالي وأجلسني ثم قدم لي الطعام، فقلت له:

– أيها الأب القديس، أنا لست بحاجة إلى طعام الجسد بل إلى غذاء روحي. أريد أن أعرف كيف يحقق الإنسان خلاصه (3).

– كيف تنال الخلاص؟… احفظ الوصايا وصل إلى الله تخلص. فقلت: أنا أعرف أنه ينبغي أن نصلي بلا انقطاع، ولكني لا أدري كيف تتيسر لي الصلاة باستمرار، بل إني لا أفهم حتى ما تعنيه الصلاة الدائمة. فهلا تفضلت، يا أبتي، بشرح هذا الأمر لي.

– لست أدري، أيها الأخ كيف أوضح لك الشرح. ولكن مهلاً! لدي كتيب يتناول هذا الموضوع.

وأخرج كتاب (المرشد إلى الحياة الروحية) (4) للقديس ديمتري قائلاً: خذ! اقرأ هذه الصفحة! فقرأت ما يلي:

(إن قول الرسول هذا: ينبغي أن تصلوا بلا انقطاع ينطبق على الصلاة الفكرية. فالفكر، في الواقع، يمكنه أن يكون دائم الاستغراق في الله، يصلي إليه دون انقطاع).

قلت: أوضح لي كيف يمكن أن يكون الفكر دائم الاستغراق في الله، لا يغفل، بل يصلي دون انقطاع. أجاب رئيس الدير: إنه أمر يعسر على مبتغيه إذا لم يعط ذلك من لدن الله. لكن هذا الجواب لم يزدني فهماً.

وقضيت ليلتي في ضيافة رئيس الدير. وفي الصباح، شكرته على حفاوته ثم تابعت سيري لا أعرف لي غاية أمضي إليها. وكنت حزيناً بسبب عدم فهمي، فكان عزائي قراءة الكتاب المقدس.

سرت هكذا مدة خمسة أيام أضرب في الطرقات إلى أن التقيت ذات مساء بشيخ على سيمائه شيء من ملامح رجال الدين. ولما سألته عن حاله أجابني أنه راهب وأن الدير الذي يعيش فيه مع بعض الأخوة يقع على عشرة فراسخ من الطريق. ودعاني إلى التوقف عندهم قائلاً: (نحن إنما نستقبل السائحين، وليس لدينا ما يسمح لنا بالعناية بهم، لذلك ننصحهم بالمبيت في الفندق).

ولم تكن لي قط رغبة الذهاب إلى الفندق فقلت له: (راحتي لا تتوقف على المسكن بل على تعليم روحي، ولست أبحث عن طعام، فمعي الكثير من الخبز الجاف في كيسي.

– عن أي تعليم تبحث؟ وما الذي تريد فهمه؟ تعال، تعال عندنا أيها الأخ العزيز، فبيننا (ستارتس) (5) ومرشدون ذوو خبرة بإمكانهم توجيهك روحياً وهديك سواء السبيل على ضوء كلمة الله وتعاليم الآباء.

– كنت، يا أبتي، منذ قرابة العام، أحضر القداس الإلهي. فإذا بي أسمع وصية الرسول القائلة: صلوا بلا انقطاع. ولكني لم أفهم ما تعنيه هذه العبارة فأخذت أقرأ الكتاب المقدس، فوجدت فيه أيضاً، وفي مواضيع متعددة منه، وصية الله بأن نصلي بلا انقطاع، كل حين، في كل سانحة وفي كل مكان، لا خلال أعمالنا اليومية فحسب، ولا في يقظتنا فقط بل أثناء نومنا أيضاً: (إنني نائمة ولكن قلبي مستيقظ) (نشيد الأنشاد 2:5). فاشتدت حيرتي وما قدرت أن أفهم كيف يتيسر للمرء أمر كهذا وما الوسائل الكفيلة بأن تقودنا إليه. وثارت فيّ رغبة عنيفة وفضول، ولم تعد هذه العبارة تفارقني ليلاً ونهاراً. ولذا أخذت في التردد إلى الكنائس… وسمعت عظات كثيرة عن الصلاة، ولكنها على كثرة ما سمعته منها لم تفدني قط كيف أصلي بلا انقطاع. فقد كان الوعاظ يتكلمون دائماً في الاستعداد للصلاة أو في فوائدها، دون أن يعلّموا كيف يصلي المرء بلا انقطاع وما تعني هذه الصلاة. وكثيراً ما قرأت الكتاب المقدس، فوجدت فيه ما كنت أسمعه، غير أني لم أتوصل إلى فهم ما كنت أريده. وأنا، منذ ذلك اليوم، ما زلت متحيراً قلقاً.

فرسم الراهب علامة الصليب وقال: أشكر الله، أيها الأخ الحبيب على أنعامه عليك بميل شديد إلى الصلاة الداخلية المستديمة. تأكد أنه نداء الله وهدئ من روعك إذ ترى توافق إرادتك وكلام الله، فقد أتيح لك أن تدرك أن ما يقود إلى النور السماوي – أي الصلاة الداخلية المستديمة – ليس حكمة العالم ولا رغبة في المعرفة باطلة، ولكنما توصل إليها مسكنة الروح والخبرة العاملة ببساطة القلب. فليس من المستغرب إذن أنك لم تسمع أبداً شيئاً عميقاً عن الصلاة وأنك لم تستطع أن تتعلم كيف تمارسها باستمرار. إن الوعظ عن الصلاة كثير حقاً، وكثيرة أيضا الكتب التي أُلّفت مؤخراً فيها، لكن كافة أحكام مؤلفيها تقوم على البحث العقلي النظري، على مفاهيم العقل الطبيعي، لا على الاختبار الواقعي، ولذا فهي تتناول أعراض الصلاة أكثر مما تبحث في جوهرها.

فيجيد بعض المؤلفين، مثلاً، في بيانه ضرورة الصلاة، ويتكلم آخر في قوة الصلاة وفي نتائجها الخيرة، ويحدثنا ثالث في الشروط المفروضة لإجادة الصلاة: في الغيرة والانتباه، في حرارة القلب ونقاوة الروح، في التواضع والندامة… أي في الصفات التي ينبغي توافرها فينا عند مباشرتنا الصلاة. أما: ما هي الصلاة؟ كيف نتوصل إليها؟ فسؤالان أساسيان جوهريان يندر أن نجد جواباً عنهما شافياً لدى وعاظ زمننا الحاضر، فهما أصعب من أن يستطيعوا شرحهما، فإنهما لا يتطلبان علماً مدرسياً بل معرفة صوفية. والمحزن في الأمر أن حكمتهم البدائية الباطلة تجعلهم ينظرون إلى الله بمقاييس بشرية. كثيرون يرتكبون خطأ فادحاً إذ يظنون أن استعداد المصلي وأعماله الصالحة تولد الصلاة، في حين أن الصلاة هي في الحقيقة منبع المآثر والفضائل. وخطأ يرون في ثمار الصلاة أو نتائجها السبل الموصلة إليها فيضعون تأثيرها بخطئهم هذا. وأنها، لعمري، وجهة نظر مناقضة لما جاء في الكتاب المقدس. قال بولس الرسول في الصلاة: (فأسألكم قبل كل شيء أن تصلوا) (1تي 1:2).

وهو بذا يجعل الصلاة فوق كل شيء. أجل، يطلب من المسيحي كثيراً من أعمال البر، لكن الصلاة أسمى من كل ما عداها. فبدونها لا يتم عمل صالح. لا يمكن بدون الصلاة أن نجد السبيل إلى الله أو نعرف الحق، أن نصلب جسدنا بأهوائه وشهواته أو أن يستنير قلبنا بنور المسيح وأن نتحد به للخلاص. قلت: المتواصلة، لأن كمال صلاتنا وصحتها لا يتعلقان بنا، كما قال بولس الرسول أيضاً: (… لا نعلم ماذا نصلي) (رو 26:8). فالاستمرار وحده تُرِك لنا شأنه كوسيلة لإدراك الصلاة النقية وهي أصل كل خير روحي. قال القديس اسحق السرياني (6): (من حصل على الأم فقد اقتنى ذرية) وإنما يعني بهذا أنه ينبغي، بادئ بدء، أن نحصل على الصلاة حتى نستطيع ممارسة كافة الفضائل. غير أن الذين لم يطلعوا على الخفي من عادات الآباء وتعاليمهم لا يحيطون علماً بهذه المسائل فلا يفيضون في الحديث عنها.

ووصلنا، ونحن نتحدث على هذا النحو، إلى المنسك دون أن نشعر، وسارعت أقول لمحدثي الحكيم، لئلا أفترق عنه ورغبة مني في إرواء شهوتي عاجلاً: أرجوك أيها الأب الوقور اشرح لي ما هي الصلاة الداخلية المستديمة وكيف يمكن تعلمها: أرى أن لك فيها خبرة عميقة متينة. فرحب الستارتس بطلبي ودعاني لزيارته قائلاً: تعال معي، وسأعطيك كتاباً من كتب الآباء سيعينك على فهم الصلاة فهماً واضحاً ويساعدك على تعلمها بعون الله تعالى.

ولما دخلنا حجرة الستارتس حدثني فقال: إن صلاة يسوع الداخلية المتواصلة هي ذكر اسم يسوع بصورة مستمرة وبلا توقف، بالشفتين والقلب والفكر، شاعرين بحضوره، في كل مكان وفي كل وقت، حتى أثناء النوم. صيغة هذه الصلاة: أيها الرب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ! والذي يعتادها يشعر بالتعزية وبالحاجة إلى تلاوتها دائماً، ولن يستطيع، بعد حين، أن يبقى بدونها فتسري فيه من تلقاء ذاتها. أفهمت الآن ما هي الصلاة الدائمة؟

فهتفت والسرور يملأ جوانحي: قد فهمت حق الفهم يا أبت! فعلمني، أرجوك، علمني كيف التوصل إليها.

فقال: أما كيف تتعلم الصلاة، فسنراه في هذا الكتاب. اسمه (الفيلوكاليا) وهو يحوي علم الصلاة الداخلية المستديمة مفصلاً حسبما تناولها بالشرح خمسة وعشرون من آباء الكنيسة. وهو مفيد قيم إلى حد يعتبر معه المرشد الأساسي إلى الحياة التأملية. وكما يقول المغبوط نيكفورس (7): (إنه يوصل إلى الخلاص بدون تعب ولا ألم).

فسألته: أهو أسمى مرتبة من الكتاب المقدس؟

– كلا! إنه ليس أسمى ولا أقدس، غير أن فيه شروحاً تنير كل ما يستعصي فهمه من غوامض الكتاب المقدس بسبب ضعف عقلنا الذي يعجز نظره عن التسامي إلى هذه القمم العالية. إليك تشبيهاً: الشمس كوكب مهيب الجلالة، مشع بهي. لكننا لا نستطيع التطلع إليه بالعين المجردة، فلكي يتيسر لنا التحديق في ملك الكواكب وتحمل أشعته الوهاجة، ينبغي أن نستعمل عدسة اصطناعية متناهية في الصغر، باهتة للغاية بالنسبة إلى الشمس. والكتاب المقدس بمثابة الشمس، والفيلوكاليا قطة الزجاج.

اسمع! سأقرأ لك كيف السبيل إلى التمرن على الصلاة الداخلية المستديمة. الداخلية المتديمة

وفتح كتاب الفيلوكاليا، واختار فقرة للقديس سمعان اللاهوتي الجديد (8) وشرع يقرأ:

(أقعد بصمت، منفرداً، واحن رأسك وأغمض عينيك. تنفس بهدوء وأنظر بعين المخيلة داخل قلبك، وأنقل عقلك، أعني فكرك، مركزاً إياه، من رأسك إلى قلبك، وقل مجارياً تنفسك: أيها الرب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ! بصوت خافت، أو بالفكر فقط. حاول جاهداً أن تطرد كل الأفكار وكن صبوراً. أعد هذا التمرين تكراراً).

ثم فسر لي الستارتس هذا كله مستعيناً بالأمثلة. وقرأنا في الفيلوكاليا أيضاً أقوال القديس غريغوريوس السينائي (9) والمغبوطين كاليستوس واغناطيوس (10). وكان الستارتس يفسر كل ما يقرأه بكلمات من عنده. وأصغيت بانتباه وحبور أجد في حفظ تلك الأقوال كافة في ذهني على أكبر وجه من الدقة ممكن. وقضينا الليلة كلها على هذا النحو ثم ذهبنا إلى صلاة السحر دون أن ننام.

لما حان موعد انصرافي، باركني الستارتس وأوصاني بأن آتي إليه أثناء دراستي الصلاة، للاعتراف بصراحة وببساطة قلب، فإنه من العبث أن نباشر عملاً روحياً دون مرشد يهدينا.

أحسست، في الكنيسة، بدافع شديد إلى اختبار الصلاة الداخلية المستديمة بعناية، وسألت الله عوناً من لدنه. ثم خطر ببالي أنه سوف يعسر علي الذهاب لرؤية الستارتس، للاعتراف لطلب النصح. فلن أتمكن من البقاء في الفندق أكثر من ثلاثة أيام، وليس من مسكن قرب المنسك… بيد أني علمت، لحسن الحظ، أن هناك قرية على بعد أربعة فراسخ، فسعيت إليها أبحث عن مسكن، ووفقني الله في ذلك. فقد تمكنت من العمل بالأجرة كحارس عند أحد المزارعين، على أن أمضي الصيف وحدي في كوخ في أقصى الحديقة، فوجدت بذا مكاناً هادئاً، والحمد لله.

وهكذا أخذت أعيش وأدرس الصلاة الداخلية بالوسائل التي أوصاني بها الستارتس، وكنت أتردد عليه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

تمرست، خلال أسبوع، في خلوة حديقتي، على الصلاة الداخلية، متبعاً تعاليم الستارتس بدقة. ولاح لي أول الأمر، أن كل شيء على ما يرام، ثم شعرت بثقل كبير، وبالكسل والضجر ونعاس لا يقاوم، وتلبدت الأفكار في ذهني متكاثرة كالسحب، فذهبت إلى الستارتس حزيناً. ولما شرحت له أمري أهل بي ثم قال:

– أيها الأخ الحبيب، إنها الحملة التي تشنها عليك قوات الظلام. فهي لا تخشى شيئاً كما تخاف صلاة القلب، فتحاول، لذلك، أن تضايقك وتبعث فيك النفور من الصلاة. إلا أن العدو لا يفعل شيئاً إلا بإذن من الله، وبمقدار ما يكون في ذلك من فائدة لنا. لا شك في أن تواضعك سوف يتعرض للامتحان، فلم يحن بعد لك أوان الوصول إلى عتبة القلب رغم اندفاعك الشديد. إن في التبكير في الوصول خطر انزلاقك إلى القحط الروحي. دعني الآن أسمعك ما جاء في الفيلوكاليا بهذا الصدد.

وقلب الستارتس صفحات من تعاليم الراهب نيكفورس، ثم قرأ: (أيها الأخ، إن لم تستطيع، رغم جهودك، أن تدخل منطقة القلب كما أوصيتك، فاصنع ما سأقوله لك وستجد، بعون الله، ما تسعى إليه.

أنت تعرف أن عقل كل إنسان متصل بقلبه… فجرد عقلك من كل فكرة (وأنت تستطيع ذلك إن تشأ) وردد: (أيها الرب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ). اسع جهدك أن تحل هذه الصلاة الداخلية محل كل فكرة سواها، ولا شك في أن هذا سيفتح لك، مع التكرار، باب القلب: هو أمر أثبته الاختبار).

وأضاف الستارتس: أنت ترى ما يقوله آباء الكنيسة في هذه الحال. ولذا كان عليك أن تقتبل هذه الوصية مطمئناً وتتلو ما استطعت صلاة يسوع. إليك بسبحة (11): بإمكانك الاستعانة بها لتلاوة الصلاة 3000 مرة يومياً، أول الأمر. وسواء كنت واقفاً أم قاعداً، مستلقياً أم ماشياً، قل دون انقطاع: أيها الرب… متأنياً دون إسراع. صل 3000 مرة يومياً بالضبط، دون أن تزيد عليها أو تنقص منها مرة واحدة، وستبلغ هكذا مرحلة الصلاة الداخلية الدائمة.

استمعت إلى كلمات الراهب هذه بفرح وعدت إلى كوخي وجعلت أطبق بدقة وأمانة ما لقنني من تعليم. وصعب علي الأمر بعض الشيء في اليومين الأولين، ثم أصبح من السهولة بحث صرت أحس وكأن في حاجة إلى تلاوة الصلاة، إذ أتوقف عنها فتسري بسهولة دون أدنى جهد، كالذي لقيته في البدء.

وأطلعت الستارتس على هذا فأوصاني بأن أتلو الصلاة 6000 مرة دون الاهتمام بأي شيء آخر، فلم أجابه أفكاراً تصدني بأمانة، بعدد المرات الذي أوصيك به، وسيرأف الله بك.

بقيت في كوخي وحيداً مدة أسبوع كامل، أردد ابتهالي كل يوم 6000 مرة دون الاهتمام بأي شيء آخر، فلم أجابه أفكاراً تصدفني عن الصلاة. وكان قصارى جهدي أن أفعل بحسب وصية الستارتس. أتدرون ماذا حدث؟ – لقد اعتدت على الصلاة إلى درجة أني ما كنت أتوقف عنها برهة قصيرة، حتى أشعر بفراغ، كما لو فقدت شيئاً لي – وما إن أرجع إلى صلاتي حتى يعاودني نشاطي وغبطتي. وكنت، إن صادفت أحداً، لا أرغب في الكلام، إذ كان كل مبتغاي أن أبقى منفرداً أصلي، وذلك لشدة ما ألفت الصلاة بعد ممارستها مدة أسبوع.

وأتى الستارتس يتنسم أخباري، وقد مضى عليه عشرة أيام لم يرني خلالها، فأخبرته بما حصل لي، فأصغى إلي ثم قال: ها إنك قد اعتدت على الصلاة. ينبغي الآن أن تحتفظ بهذه العادة وأن تقويها: فلا تتوان، بل استعن بالله وصمم على ترديد الابتهال 12000 مرة يومياً. ابق في عزلتك، وبكر بالنهوض من النوم بعض الشيء، وأخر موعد نومك قليلاً، وأحضر لزيارتي مرتين في الشهر.

تقيدت بأوامر الستارتس حرفياً. وفي اليوم الأول أنهيت الاثني عشر ألف مرة بجهد، فلم أفرغ منها إلا وقد تأخر الليل. وفي اليوم الثاني، قمت بالصلاة بصورة أسهل وأنا مبتهج. وشعرت بادئ الأمر بالتعب، فكأن لساني وفكي تصلبا، دون أن يرافق ذلك أدنى ألم، وبعد، شعرت بألم خفيف في سقف حلقي، ثم بإبهام يدي اليسرى، وكنت أعد به حبات السبحة، في حين بدأت أحس بالدفء في يدي حتى المرفق، مما ولد فيّ إحساساً لذيذاً: كل هذا كان من شأنه أن يشجعني على الصلاة بصورة أفضل. وهكذا، قمت بتلاوة الابتهال 12000 مرة، مقبلاً عليه برغبة ولذة، فاعتدت الصلاة وألفتها.

استيقظت ذات صباح، وكأن الصلاة أيقظتني، وبدأت أصلي الصلوات الصباحية، إلا أن لساني تلعثم بها، فلم يكن بي إلا رغبة واحدة: أن أتلو صلاة يسوع. وما إن باشرت بها حتى شعرت بالغبطة، كانت شفتاي تتحركان من تلقاء ذاتهما دون أي جهد. وقضيت يومي مبتهجاً. كنت وكأني اعتزلت كل شيء، خلت نفسي في عالم آخر. وفرغت بلا عناء مما علي من صلاة – 12000 مرة – قبل غروب الشمس. لكم وددت لو تابعت الصلاة! غير أني ما جرأت على تجاوز العدد الذي رسمه لي الستارتس. وفي ما تلا ذلك من الأيام، تابعت ذكر اسم يسوع بسهولة، دون أن ينتابني أي ملل.

قصدت الستارتس ورويت له كل ذلك مفصلاً فقال لي: إن الله قد وهبك شهوة الصلاة وإمكانية التسبيح دون مشقة: هذا نتيجة طبيعية للتمرين والجد المثابر الذي عانيت، كما يحدث لآلة تدفع عجلتها للدوران رويداً ريداً ثم تستمر على الدوران تلقائياً. ولكن يجب (تشحيم) الآلة ودفعها من جديد، من حين لآخر، لكيما تداوم حركتها. أفرأيت بأي الطاقات العجيبة قد سلح الله المحب البشر طبيعتنا الحسية ذاتها؟ لقد أتيح لك أيضاً أن تخبر ما يمكن أن يولد حتى في النفس الخاطئة من أحاسيس خارقة عجيبة، مهما تكن تلك النفس بعيدة عن إشراق النعمة. ولكن، يا لشدة الكمال والفرح والغبطة التي تصيب الإنسان عندما ينعم الله عليه بالصلاة الروحية التلقائية وبتطهير نفسه من الأهواء. إنها من الحالات التي لا يمكن التعبير عنها: واطلاع الله إيانا على هذا السر هو عربون تذوقنا لعذوبة ملكوت السموات. إنها هبة تعطى للذين يبحثون عن الرب ببساطة قلب بالحب مفعم.

لك، من الآن فصاعداً، أن تتلو صلاة يسوع ما شئت. اجتهد أن تكرس كل أوقات اليقظة للصلاة، وأذكر اسم يسوع دون تعداد، مستسلماً بتواضع لمشيئة الله، مؤملاً بعونه، وهو، تعالى، لن يترك، بل سوف يقود خطاك.

اتخذت كلام الستارتس قاعدة لحياتي، وأمضيت الصيف بكامله أتلو صلاة يسوع بلا انقطاع. وكنت مطمئناً ناعم البال. كنت أحلم أحياناً، أثناء نومي، بأني أردد الصلاة. ولما كنت ألتقي ببعض الناس، نهاراً، كنت آنس بهم كما لو كانوا من عائلتي. وهذا ثائر أفكاري، فما كنت أعيش إلا مع الصلاة، وأخذت أميل فؤادي للإصغاء إليها. وكان قلبي، في بعض الأحيان، يشعر تلقائياً بشيء كالدفء وبفرح كبير. كانت خدمة الصلاة الطويلة، في المنسك، إذا ما دخلت الكنيسة، تبدو قصيرة، لا أملها كسابق عهدي بها. كان كوخي المنعزل قصراً منيفاً بالنسبة لي، وما كنت أدري كيف أشكر الله الذي أرسل لي، أنا الخاطئ الحقير، سترتساً أفادني تعليمه خيراً عظيماً.

إلا أني لم أمتع طويلاً بإرشاد الستارتس الحبيب الحكيم فقد توفي في آخر الصيف. وودعته الوداع الأخير باكياً. وسألته، شاكراً له تعليمه الأبوي، أن يترك لي للتبرك سبحته التي كانت تلازمه في صلواته. وهكذا أصبحت وحيداً. وانقضى الصيف، وقطفت ثمار الحديقة، فلم يبقى لي مكان آوي إليه. وأعطاني المزارع روبلين من فضة أجراً لي، وملأ كيسي خبزاً، زاد الطرق. فعاودت حياة التجوال لكني لم أكن معوزاً كما كنته قبلاً: كان ذكر اسم يسوع يبعث فيّ الفرح طوال المسير، وكان الناس كلهم يحسنون معاملتي كما لو كانوا جميعاً يحبونني.

تساءلت، ذات يوم، ماذا عساي أصنع بالروبلين اللذين أعطانيهما المزارع. فما الفائدة من حزنهما؟ نعم!.. لم يعد لي ستارتس يرشدني ولا أحد يهديني، فقررت أن أشتري نسخة من الفيلوكاليا أتعلم فيها الصلاة الداخلية. ووصلت حاضرة ولاية ورحت أبحث فيها مفتشاً في الدكاكين عن الفيلوكاليا، وقد وجدت نسخة منها، غير أن البائع طلب ثلاثة روبلات ثمناً لها، ولم يكن معي إلا روبلان. وعبثاً ساومته، فلم يحسم لي شيئاً من سعرها، وقال لي، آخر الأمر: اذهب إلى تلك الكنيسة واسأل القندلفت، فإن لديه كتاباً عتيقاً كهذا، ربما باعه لك بالروبلين.

فقصدت الكنيسة واشتريت، فعلاً. نسخة عتيقة جداً من الفيلوكاليا مهترئة، سعدت بها. وأصلحت من شأنها ما أمكن، بشيء من القماش، ووضعتها في كيسي إلى جانب الكتاب المقدس.

هكذا أمضي الآن في تجوالي، أصلي صلاة يسوع دون انقطاع، وهي أعز عندي وأعذب من كل ما عداها. وربما قطعت 70 فرسخاً في اليوم لا أشعر بالسير، بل أحس فقط بأني أتلو الصلاة. وأنا، إذا ما قرصني البرد، أتلو الصلاة بمزيد من الانتباه والتأني، وسرعان ما تدفأ أوصالي. وإذا ألح علي الجوع، أكثرت من ذكر اسم يسوع، فلا أعود أذكر أنني جعت. وإن شعرت بالمرض وبأن ظهري أو ساقي تؤلماني، ركزت اهتمامي في الصلاة، فلا أعود أشعر بالألم. عندما يهينني إنسان، لا أفكر إلا بالصلاة يسوع المنعشة فيزول الغضب للحال ويزول الألم وأنسى كل شيء. قد غدت روحي بسيطة كل البساطة لا أهتم ولا أعنى بشيء، ولا يستأثر بي شيء مما هو خارجي، فإني أفضل البقاء وحيداً، وليس لي، بحكم العادة، إلا حاجة واحدة: أن أصلي بلا انقطاع. وأنا عندما أفعل، أفرح وأتهلل. والله يعلم ماذا يتم في داخلي! وهذا، بالطبع، ما هو إلا انطباعات محسوسة أو بالأحرى، كما يقول الستارتس، فعل الطبيعة وأثر عادة مكتسبة، لكني لا أجرؤ بعد على مباشرة دراسة الصلاة الفكرية داخل القلب، فأنا غير مستحق لذلك، وأغبى من أن أفعل. ولذا فإني أنتظر أوان الله راجياً العون من صلاة فقيدي الستارتس. لم أصل بعد، إذن، إلى صلاة القلب الروحية تلقائية ومستديمة. بيد أني، والحمد لله، أفهم الآن تمام الفهم ما تعنيه كلمة الرسول التي سمعتها يوماً: (صلوا بلا انقطاع) (12).

 

 


(1) أو بعبارة أخرى (بوميشتشك): من صغار نبلاء الريف الروسي.

(2) 1067 متراً

(3) إنه السؤال التقليدي الذي يوجهه التلميذ إلى معلمه في أديرة الشرق وخلواته

(4) رسالة صغيرة في فاعلية الصلاة كتبها القديس ديمتري أسقف روستوف (1651- 1709). كان ديمتري ابن أحد ضباط الكوزاك، ترهب عام 1668. وقد عينه بطرس الكبير أسقفاً على روستوف (قرب موسكو) عام 1701. كافح تساهل الكهنة وتراخي المؤمنين في أبرشيته بشدة وحزم حتى أعاد إليها النظام والانضباط. وقد ألف ديمتري مواعظ ورسائل عديدة ودراسة قيمة للمذاهب والشيع وكرس جل وقته لكتابة (الميناون) الروسي، وهو التقويم الليتورجي المحتوي على الصلوات المتعلقة بالقديسين حسب ترتيب أعيادهم

(5) الستارتس أو الشيخ أو المتقدم هو راهب أو متوحد اكتسب نعمة التمييز والأبوة الروحية، يختاره الرهبان الفتيان والعلمانيون كمرشد ومعلم روحي وذلك دون أن يكون له في الدير أية رتبة خاصة. وتشكل المحبة من جهة المعلم، والاتضاع من ناحية التلميذ، الفضيلتين اللتين تقوم عليهما علاقة روحية أعمق وأوثق بمضمونها مما يسمى عند الغربيين (بالإرشاد الروحي). في (الأخوان كرامازوف) وصف واف لستارتس (الستارتس زوسيموس)، كما أن هناك عدة مؤلفات خاصة تبحث بتفصيل في حياة الستارتس

(6) راهب عاش في نينوى في أواخر القرن السابع وأصبح أسقفاً عليها. كتب العديد من المؤلفات الروحية باللغة السريانية

(7) راهب عاش في جبل آثوس في القرن الثالث عشر (توفي عام 1280). وألف رسالة مهمة في (المحافظة على القلب)

(8) سمعان اللاهوتي الجديد (917- 1022) هو أحد كبار آباء الكنيسة اليونانيين. أدخل البلاط الإمبراطوري في التاسعة عشرة من عمره، إلا أنه سرعان ما هجره ليدخل دير ستوديون ثم دير القديس ماماس بعد ست سنين من ذلك، وبقي رئيساً عليه مدة خمسة وعشرين عاماً. وقد اضطر إلى مغادرة القسطنطينية بعد خلاف قم بينه وبين وكيل البطريرك، إلا أنه أعيد إلى مكانته قبل وفاته بمدة. وقد أنعم الله عليه بالرؤى السماوية منذ بلوغه الرابعة عشرة من عمره فنظم (الأناشيد الإلهية المحببة)

(9) أحد رهبان جبل آثوس (1255- 1346). أصله من آسية الصغرى. وقد قدم إلى جبل آثوس من جبل سيناء فأحيا التقليد الإزيخي وأرجع ممارسة (الصلاة المستديمة) إلى سابق عهدها

(10) كاليستوس كزانثوبولس هو بطريرك القسطنطينية لبضعة أشهر من عام 1397، وكان قد تدرب على الزهد في جبل آثوس كراهب. وقد ألف مع صديقه اغناطيوس كزانثوبولس رسالة في حياة الزهد

(11) سبحات الرهبان الشرقيين – وهم يحملونها بصورة دائمة ملفوفة حول يدهم – مصنوعة من سلك من الحرير أو الصوف طويل، تقوم عليه العقد مقام (الحبات) أو الكرات الصغيرة في سبحات الغربيين. وتتلى (صلاة يسوع) واحدة لكل (عقدة)

(12) لا يعرف السائح هكذا إلا المرحلة الأولى للصلاة وسيعرض في القصص التالية مراحل تقدمه واكتشافه التدريجي (لصلاة القلب التلقائية). إن هذا يرجح إما أن القصة الأولى لم تكن في اركوتسك، بل في فترة لاحقة من حياة السائح، أو أنها كتبت بطريقة تعليمية مع مراعاة أصول الإنشاء وذلك بتصنيف كل التفاصيل التي أعطاها السائح عند ابتدائه تعلم الصلاة. وهذه حجة أخرى تجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن هذه القصص إنما أنشأها أحد الرهبان من أصدقاء السائح

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
انتقل إلى أعلى