Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

الستارتس: كان عام قد مضى على آخر لقاء لي بالسائح، وإذا – أخيراً – قرع مكتوم على الباب وصوت متوسل يبشران بوصول هذا الأخ الممتلئ ورعاً.

– أدخل أيها الأخ العزيز، ولنشكر الله معاً إذ قد بارك مسيرك وأعادك إلينا.

السائح: المجد والحمد للآب العلي على صلاحه في كل شيء، فليأمر بما يشاء، وأمره دوماً لما فيه خيرنا نحن السائحين والغرباء في أرض غريبة. هاأنذا، أنا الخاطئ، الذي تركك العام الفائت والذي فكر مجدداً – بنعمة الله – أن من الخليق به لقاء ترحيبك الباش وسماعه. ولا شك في أنك تتوقع مني وصفاً كاملاً لمدينة الله المقدسة أورشليم، التي كانت نفسي بشوق إليها، وحيث كنت أنوي الذهاب بحزم. لكن رغائبنا لا تتحقق دائماً وهذه كانت حالي. وليس في الأمر من عجب: فكيف يمكن التفكير – وأنا خاطئ – بأني أستحق أن أطأ تلك الأرض المقدسة التي تركت قدما سيدنا يسوع المسيح أثرهما فيها؟

تذكُرُ – يا أبت – أني تركت هذا المكان، في العام الفائت بصحبة شيخ أصم، وأنه كان معي رسالة تاجر من أركوتسك إلى ابنه في مدينة أوديسا يسأله فيها أن يرسلني إلى القدس. ولقد بلغنا أوديسا من غير عثرات، في زمن قصير، وسرعان ما حجز رفيقي لسفره إلى القسطنطينية، ثم سافر. أما أنا، فأخذت أفتش عن ابن التاجر، على عنوان الرسالة. ولم يطل بي الوقت حتى وجدت بيته، غير أني فوجئت وحزنت إذ علمت أن من أحسن إلي لم يعد على قيد الحياة. فلقد توفي منذ ثلاثة أسابيع على إثر مرض لم يمهله. هبط هذا من عزمي إلا أني سلمت أمري لقدرة الله تعالى.

كان البيت كله غارقاً في الحزن، وكانت الأرملة، الباقية مع أولاد ثلاثة، على شيء من الأسى كثير بحيث كانت تبكي طوال الوقت، وكان يغمى عليها مراراً في اليوم الواحد لشدة الحزن. كان حزنها هذا شديداً بحيث بعث على الظن أنها هي الأخرى لن تعيش طويلاً. لكنها، في غمرة هذا كله أحسنت ضيافتي، غير أنها لم تستطع إرسالي إلى القدس بسبب ما آلت إليه أعمالها من حال. سألتني أن أمكث معها زهاء الأسبوعين حتى يجيء حموها إلى أوديسا، كما وعد، لكي ينظم الشؤون المالية للأسرة المنكوبة، فبقيت. ومضى أسبوع، ثم شهر، فشهر ثان، ولكن التاجر، بدلاً من أن يحضر أرسل بكتاب يقول فيه إن أعماله هو لم تكن لتسمح له بالتنقل ونصح الأرملة بأن تصرف مستخدميها وتذهب إليه حالاً إلى مدينة اركوتسك. فدبت في البيت الحركة والصخب. ولما لاحظت أني ما عدت أثير الاهتمام، شكرت لهم ضيافتهم واستأذنت بالانصراف، مرة جديدة، أجول عبر روسيا.

كنت أفكر وأعيد التفكير. إلى أين عساي أذهب بعد اليوم؟ قر رأيي، في النهاية، أنه يناسب أن أذهب أولاً إلى مدينة كييف التي لم أزرها لسنين عديدة. وعلى هذا انطلقت في السير. وبديهي أنه كان يزعجني، أول الأمر، عدم تمكني من وفاء نذر لي للحج إلى القدس. ولكني رأيت، بعد تفكير، أن هذا بالذات لم يحدث بدون عناية إلهية، فهدئت آملاً أن يقبل الله المحب البشر النية بدل العمل، وألا يترك رحلتي هذه المبتورة من غير فائدة روحية. ولقد كان الأمر كذلك، إذ التقيت أناساً علموني الكثير مما كنت أجهله، وأناروا جوانب نفسي المظلمة، لما فيه خلاصي. ولو لم تضطرني الضرورة إلى هذه الرحلة لما كنت التقيت هؤلاء المحسنين إلي روحياً.

كنت أسير نهاراً بمعية صلاة يسوع، وفي المساء، عندما أتوقف للمبيت، كنت أقرأ فيلوكاليتي لأوطد النفس وأحثها في صراعها ضد أعداء الخلاص غير المنظورين.

في أثناء المسير، وعلى نحو سبعين فرسخاً من أوديسا، تيسر لي مشاهدة أمر عجيب. كان ثمة قافلة طويلة من العربات المحملة بضائع، وكان عددها ثلاثين، على أقل تقدير. تجاوزتها. كان السائق الأول، رئيس القافلة، يسير بقرب حصانه، يتبعه الآخرون زرافات على مسافة قصيرة منه. كانت الطريق تحاذي مستنقعاً يتخلله تيار، فكان جليد الربيع الذائب يجيش ويتراكم على الضفة بصوت رهيب.

فجأة أوقف السائق الأمامي – وهو فتى يافع – حصانه، فتوقفت أيضاً بقية العربات كلها. وتراكض السائقون التابعون نحوه، ورأوا أنه أخذ يتجرد من ثيابه فسألوه ما السبب. فأجاب بأنه يشتهي السباحة في المستنقع. فجعل بعضهم – وقد دهشوا – يسخرون منه، والبعض الآخر يلومه وينعته بالجنون، فيما حاول أكبرهم سناً – وهو أخوه – أن يمنعه من السباحة، دافعاً إياه ليجعله يعود إلى السير. فامتنع الفتى ورفض الانصياع إلى ما طلب منه. وعمد كثيرون من السائقين الشبان إلى ملء الدلاء التي يغسلون بها الخيل من ماء المستنقع، ورشقوا بها الرجل الذي كان يريد السباحة، على رأسه تارة، والظهر طوراً قائلين: (إليك، سنقوم نحن بتغسيلك). وما إن لامس الماء جسمه حتى هتف: (آه ما أحسنه!) وجلس أرضاً، فيما استمروا هم في إلقاء الماء عليه. ثم استلقى بسرعة ومات. فأخذهم كلهم الخوف، وهم لا يعلمون سبب حصول ما حصل. بقيت معهم ما يقارب الساعة، ثم عدت إلى المسير. وبعد زهاء خمسة فراسخ، أبصرت بقرية يمر بها الطريق العام، وحين دخولي إليها التقيت كاهناً مسناً يسير في الشارع. ارتأيت أن من المناسب أن أقص عليه ما رأيت لتوي لأسأله رأيه فيه، فاصطحبني الكاهن إلى منزله، ورويت له الواقعة وسألته تعليل هذا الحدث.

قال: لا يسعني أيها الأخ العزيز، إلا أن أقول إن في الطبيعة أموراً كثيرة غريبة لا يمكننا فهمها. وأظن أن هذا من تدبير الله الذي يبرز قدرته وعنايته في الطبيعة بإحداثه أحياناً في نواميسها تغييرات مفاجئة تخرق العادة. ولقد وقع لي ذات مرة أن شهدت حالة مشابهة لما حدثتني به. بالقرب من قريتنا واد عميق شديد الانحدار، ليس بعريض لكن عمقه يبلغ زهاء السبعين قدماً، أو أكثر، والمرء يخاف النظر إلى قعره المظلم. بني عليه جسر خشبي يعبره الناس. ثارت في صدر فلاح، من أبناء رعيتي، وهو رب عائلة وقور محترم – رغبة لا تقاوَم في أن يلقي بنفسه من أعلى هذا الجسر الصغير إلى أعماق الهوة. فكافح هذه الفكرة وقاوم ما به من دافع طيلة أسبوع. لكنه لم يعد في إمكانه – آخر الأمر – أن يضبط نفسه. فنهض مبكراً، وخرج مندفعاً وقفز في الخلاء. وسرعان ما سُمعت أنّاته، وأخرج من الوادي بمشقة. كانت ساقاه مهشمتين. ولما سئل عن سبب سقوطه أجاب إنه بالرغم مما يقاسي من ألم شديد، فقد هدأ باله إذ نفذ الرغبة التي لا تقاوم والتي كانت هاجسه لمدة أسبوع، هاجساً خاطر من أجله بحياته.

أمضى هذا الرجل عاماً كاملاً في المستشفى قبل شفائه الناجز. ذهبت لأعوده، وكثيراً ما التقيت الأطباء يحيطون به. وكنت مثلك الآن راغباً في الوقوف على سبب الحادثة. أجاب الأطباء بالإجماع أنها نوع من (الهيجان). ولما سألتهم تفسيراً علمياً لهذا (الهيجان) وكيف ينتاب الإنسان، لم أستطع الحصول على أكثر من قولهم إن هذا من أسرار الطبيعة التي ليس تفسيرها في متناول العلم. أما أنا فقد رأيت أنه إذا ما أخذ المرء، المواجه لأحد غوامض الطبيعة المماثلة، يتضرع إلى الله ويطلب مشورة الروحانيين، فإن هذا (الهيجان) – على حد تعبير الأطباء – لن يتمكن في النهاية من الفوز. والحق إننا نجد في الحياة البشرية أموراً كثيرة لا يمكننا أن نفهمها بجلية ووضوح.

وفيما كنا نتكلم، حل الظلام وبت ليلتي عنده. وفي صبيحة اليوم التالي، أوفد المختار أمين سره ليطلب من الكاهن دفن الميت في المقبرة، وليقول إن الأطباء لم يجدوا، بعد تشريح الجثة، أياً من مظاهر (الهيجان) وأن الوفاة سببها نوبة قلبية مفاجئة.

فقال لي الكاهن: ها أنت ذا ترى أن علم الطب لا يمكنه أن يعلل هذا الدافع الذي لا يقاوم نحو الماء بأي تعليل دقيق.

وعلى هذا، ودعت الكاهن وعدت إلى سابق مسيري. وبعد سفر عدة أيام، بلغت – وقد شعرت بالتعب الشديد – مدينة تجارية هامة اسمها (بييلا تسيركوف). ولما كان المساء قد أتى، جعلت أسعى إلى وجدان مكان أبيت فيه ليلتي. والتقيت في السوق رجلاً بدا عليه أنه سائح أيضاً كان يستعلم أصحاب الدكاكين عن عنوان إنسان يقطن هذه المدينة. ولما رآني أتى إلي قائلاً: (يبدو أنك سائح أنت أيضاً. فلنسع معاً باحثين عن إنسان اسمه (افرينوف) يقيم في هذه المدينة. إنه مسيحي صالح، يدير نزلاً فخماً ويحسن ضيافة السائحين. أنظر، معي ههنا شيء مكتوب عنه). رحبت بالفكرة وسرعان ما وجدنا بيته. ومع أن رب البيت لم يكن شخصياً في منزله، فإن زوجته – وهي عجوز صالحة – استقبلتنا ببشاشة، وأنزلتنا مخدعاً منفرداً في الأهراء لنصيب فيها الراحة.

قال لي رفيقي أنه كان تاجراً في بلدة (موغيليف) وأنه قضى عامين في أحد أديرة (بيسارابيا) بصفة مبتدئ، لكن ذلك كان بجواز مؤقت. وهو الآن في طريق عودته للحصول على موافقة هيئة التجار على دخوله نهائياً حياة الرهبنة. وأضاف: (إن الأديرة، هناك، وقوانينها وطريقتها والحياة المتشددة للستارتس العديدين الأتقياء، كل ذلك يروق لي). وأكد لي أن أديرة (بيسارابيا) هي، بالقياس إلى أديرة روسيا، كالجنة مقارنة بالأرض. وألح علي لكي أحذو حذوه.

وفيما كنا نتحدث في هذه الأمور، أحضر نزيل ثالث إلى غرفتنا. كان هذا النزيل ضابط صف عائداً إلى بيته في إجازة. رأينا أن سفره قد أنهك قواه. فتلونا صلواتنا معاً واستلقينا ننام. ونهضنا في فجر الغداة، وكنا نستعد للرحيل. وكنا على وشك الذهاب لشكر مضيفتنا عندما سمعنا قرع الأجراس لصلاة السحر، فتساءلنا – أنا والتاجر – عما عسانا نفعل. فكيف نرحل، بعد سماع الأجراس، من غير الذهاب إلى الكنيسة؟ كان من الأفضل أن نبقى لصلاة السحر، نتلو صلواتنا في الكنيسة، وبعدئذ يمكننا الرحيل بسرور أعظم. ولما عزمنا على هذا، دعونا ضابط الصف. لكنه قال لنا: (ما معنى الذهاب إلى الكنيسة عندما يكون المرء على سفر؟ ما أهمية هذا عند الله؟ فلنرحل، وسنتلو صلواتنا من ثم. اذهبا أنتما، إن شئتما، أما أنا فلست بذاهب. ففي الوقت الذي ستمضيانه في صلاة السحر، سأكون على بعد خمسة فراسخ من هنا، أو ما يقارب. أريد أن أصل إلى بيتي بأسرع ما يمكنني). فرد التاجر على ذلك: (يا أخي، لا تسرع بالعدو في مشاريعك من غير أن تعلم ما هي مقاصد الله!). فذهبنا إلى الكنيسة، وانطلق هو في رحلته.

وبقينا لصلاة السحر ولخدمة القداس الإلهي. ثم عدنا إلى مخدعنا لإعداد كيسينا والرحيل، ولكنه وجدنا مضيفتنا في الغرفة، وفي يدها سماور. قال: (إلى أين أنتما ذاهبان؟ إليكما أولاً بفنجان شاي. أجل، وعليكما أيضاً تناول الوجبة الصباحية معنا. لا يسعنا أن ندعكما الذهاب وأنتما جائعان). فبقينا. وما كان مضى على جلوسنا حول السماور نصف ساعة حتى وصل صاحبنا ضابط الصف راكضاً، لاهثاً، وقال: (إني أعود إليكم بائساً، وبسرور في آن معاً). فسألناه: (ما الخبر؟). إليكم ما قال:

عندما تركتكما وذهبت، خطر ببالي أن أقصد المقهى لأرى إذا كان بوسعي الحصول على (فراطة) ولكي أتناول أيضاً طعاماً يساعدني على السفر. فذهبت إليه. وحصلت على الفراطة، وتناولت بعض الطعام وانطلقت كالطير. وبعد اجتيازي قرابة الفراسخ الثلاثة، فكرت في عد النقود التي أعطانيها القهوجي. فجلست على حافة الطريق، وأخرجت محفظتي وفحصت محتواها بهدوء كلي. ثم اكتشفت فجأة أن جواز سفري ليس فيها. ولم أجد إلا بعض الأوراق. والنقود. فأصابني الهلع كأنني فقدت صوابي. وأدركت في مثل لمح البرق ما حصل: كان الجواز قد سقط بالتأكيد، عندما دفعت ما علي في المقهى. كان علي أن أسرع وأعود إلى المقهى. فركضت وركضت. وخطرت ببالي فكرة ثانية مرهبة: ماذا لو لم يكن الجواز في المقهى؟! سأكون أمام مأزق! واندفعت إلى الرجل الجالس وراء الصندوق في المقهى وطلبته منه. قال: إني لم أره! فانهرت انهياراً.

وأخذت أفتش حولي وأبحث في كل مكان: حيث جلست، وحيث تسكعت. أو تصدقون؟ كان لي من الحظ ما جعلني أجد جواز سفري. كان هناك ما يزال مطوياً، على الأرض بين القش والغبار وقد وطئته الأرجل في القذارة. الحمد لله! لقد كنت سعيداً. كنت وكأن جبلاً انزاح عن كتفي. بالتأكيد، كان الجواز متسخاً يغطيه الوحل. وسيجلب لي ذلك بعض المتاعب، لكن لا أهمية لهذا. مهما يكن، باستطاعتي أن أذهب إلى بيتي وأعود منه نظيف اليدين. لكني أتيت لأروي لكم الخبر. وأنكى ما في الأمر أن قدمي، لكثرة ما ركضت مرعوباً، كالنار حرارة، وأنا لم أعد قادراً على المشي. ولقد جئت أطلب شيئاً من المرهم لتضميد رجلي.

شرع التاجر يقول له: هكذا يا أخي. كان كل ذلك لأنك لم تشأ سماع كلامنا والمجيء معنا إلى الكنيسة. كنت تريد أن تسبقنا بمسافة كبيرة، وبالعكس ها أنت قد عدت (مخلعاً). لقد قلت لك ألا تتسرع في مشاريعك، والآن أنظر إلى ما أنت فيه. لم يكن عدم مجيئك إلى الكنيسة من العظائم، ولكن ألم تقل: (ماذا يهم الله أن نصلي؟). قولك هذا، يا أخي، كان شراً. من البديهي أن الله ليس بحاجة إلى صلواتنا نحن الخطأة، ولكنه على هذا، لحبه إيانا، يرغب في أن نصلي. وما يرضيه ليس الصلاة المقدسة التي يساعدنا الروح القدس ذاته على تقديمها، ويثيرها فينا، بل كل توثب فينا وكل فكرة نقدمها لمجده. وفي المقابل تجزينا رحمة الله اللامتناهية جزاء سخياً. محبة الله تهب النعمة ألف مرة أكثر مما تستحقه الأعمال البشرية. إن أنت أعطيته تعالى أدنى فلس فسيدفع لك بالمقابل ذهباً. إن أنت فكرت وحسب بالذهاب على الآب فسيأتي إلى لقائك. قل فقط كلمة صغيرة، وبلا قناعة: (تقبلني، ارحمني)، وسيندفع ويعانقك. هكذا يحبنا الآب السماوي، مهما نكن عديمي الاستحقاق. ولمجرد هذا الحب يغتبط بكل من خطواتنا، وإن كانت صغيرة، نخطوها نحو الخلاص.

أما أنت فتفكر هكذا: (أي مجد لله في هذا؟ وما الفائدة لنا، إن نحن صلينا قليلاً، ثم عادت أفكارنا إلى الضلال، أو إن نحن قمنا بعمل صالح، كأن نتلو صلاة ترافقها خمس سجدات أو ست، أو نتنهد مخلصين ذاكرين اسم يسوع، أو نعير اهتمامنا لفكرة صالحة، أو أن نباشر في قراءة روحية أو أن نصوم عن الطعام، أو أن نحتمل إهانة بصمت؟). كل ذلك لا يبدو لك كافياً لخلاصك، ويظهر لك بالتالي أن لا جدوى من ممارسته. كلا! إن أياً من هذه الأفعال الصغرى لا يفعل سدى، فإن الله الذي يرى كل شيء سيدخله في الحساب ويجزيك عليه مئة ضعف، لا في الحياة الثانية وحسب، بل في هذه الحياة. يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن (أي عمل صالح مهما كان نوعه ومهما كان صغيراً لن يرذله الديان الإلهي العادل. إن كانت الخطايا يبحث عنها بدقة كبرى إلى حد أننا نُسأل عن كل كلمة وكل رغبة وفكرة. فكم بالأحرى الأعمال الصالحة، مهما تكن صغرى، فستؤخذ بالاعتبار ويكون لها حساب أمام دياننا الممتلئ محبة!).

سأحكي لكم حادثة رأيتها بنفسي في العام الماضي: كان في دير بيسارابيا الذي كنت أعيش فيه ستارتس راهب يحيا حياة قداسة. في ذات يوم جابهته تجربة: اشتهى أكل السمك المجفف شهوة كبرى. ولما كان من المستحيل الحصول عليه في الدير، في تلك الفترة، خامرته فكرة الذهاب إلى السوق لشراء شيء منه. كافح هذه الفكرة طويلاً، وأعمل عقله مفكراً أن على الراهب أن يكون قانعاً بالطعام العادي المهيأ للإخوة، وأن عليه بكل الوسائل تجنب إرضاء شهواته. أضف أن التجول في السوق وسط جمهور من الناس قد يكون، لراهب، مصدر تجارب، وما هو أكثر: أمراً غير لائق.

وفي النهاية تغلبت أكاذيب الشيطان على اعتراضاته، فاستسلم لرغبته وذهب ليشتري سمكاً. وبعد أن غادر الدير، وفيما هو يسير في الشارع، لاحظ أن سبحته لم تكن في يده وأخذ يفكر: (أتراني أمضي كجندي من غير سيفه؟). وهم بالعودة لجلبها، وإذ بحث في جيبه وجدها فيه. فأخرجها، ورسم إشارة الصليب، ومضى بهدوء وسبحته في يده. وعند اقترابه من السوق رأى حصاناً أوقف قرب دكان مع عربة محملة براميل ضخمة. وفجأة أجفل هذا الحصان لسبب لا أدري ما هو، فانطلق على حين غرة وعدا متجهاً صوب الراهب، ملامساً كتفه بحيث ألقاه أرضاً دون أن يؤذيه كثيراً. ثم انقلب الحمل، على خطوتين منه، وتحطمت العربة قطعاً قطعاً. فنهض بخفة ونفض عنه جزعه متعجباً كيف أبقى الله على حياته، إذ لو أن الحمل وقع نصف ثانية قبل وقوعه لمزقه إرباً كالعربة. وبدون أن يطيل التفكير، اشترى السمك وعاد إلى الدير، وأكله، وتلا صلواته واستلقى لينام.

نام نوماً خفيفاً، وفي منامه هذا ظهر له ستارتس سمح المحيا لم يكن هو يعرفه، وقال له: أنا شفيع هذا الدير وبودي أن أعلمك لكيما تفهم وتذكر العبرة التي أعطيتها. إن عدم جهادك ضد فكرة المتعة، وتكاسلك في تمييزها وضبط نفسك أعطى الشيطان فرصته لمهاجمتك. لقد كان هيأ لك هذه الهزيمة. لكن ملاكك الحارس شعر بها وأوحى إليك بالصلاة وبتذكرك سبحتك. ولأنك استمعت لإيحائه وطبقته عملاً، فإن هذا خلصك من الموت. أرأيت حب الله للبشر، وجزاءه السخي لأدنى نظرة تلتفت إليه تعالى؟

وعلى هذه الكلمات، اختفى ستارتس الرؤيا بسرعة من الحجرة. وركع الراهب، وبركوعه استيقظ ليجد نفسه لا على فراشه بل على ركبتيه ساجداً على عتبة الباب. وروى قصة رؤياه لما فيه الفائدة الروحية للكثيرين غيره، وأنا منهم.

إن محبة الله لهي بلا حدود لنا نحن الخطأة. أو ليس من الرائع أن عملاً صغيراً كهذا – نعم، مجرد إخراج السبحة من جيبه وحملها في يده وذكر اسم الله مرة واحدة – قد يعيد الحياة لإنسان، وإن فترة قصيرة تقضى في ذكر اسم يسوع يكمن أن تكافئ، في ميزان الدينونة، ساعات عديدة من الكسل؟ الحق إن هذا هو الدفع بالذهب مقابل الفلس الحقير. أنظر، يا أخي، سلطان الصلاة، وسلطان اسم يسوع عندما نذكره. يقول يوحنا الكرباتي في الفيلوكاليا إن في صلاة يسوع، حينما نذكر الاسم المقدس قائلين: (ارحمني أنا الخاطئ)، على كل نداء يجيب صوت الله سراً: (يا بني مغفورة لك خطاياك). ويضيف: إننا حين نتلو صلاة يسوع، لا شيء يميزنا عن القديسين والمعترفين والشهداء. وذاك، على ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: (مهما كانت الخطايا تكسونا، فإننا، عندما ننطق بالصلاة، تطهرنا للحال. إن رحمة الله نحونا عظيمة، بالرغم من أننا، نحن الخطأة، لا مبالون، بالرغم من أننا لا نريد حتى منح الله ساعة واحدة للشكر، وأننا نستبدل بالمشاغل ومتاعب الحياة الصلاة وهي أهم من أي شيء آخر، ناسين الله وواجبنا. ولذا فكثيراً ما نصطدم بالمصائب والشدائد التي تستعملها المحبة اللامتناهية للعناية الإلهية، في أي حال، لإرشادنا ورفع قلوبنا نحو الله).

عندما انتهى التاجر من الكلام إلى ضابط الصف، قلت له: (يا للراحة التي جلبتها أيضاً إلى نفسي الخاطئة، سيدي. بإمكاني الانطراح بطيبة خاطر على قدميك). ولما سمع هذه الكلمات أخذ يحدثني. قال: يبدو أنك هاو كبير للنوادر الدينية. انتظر، سأقرأ لك نادرة ثانية كالتي رويتها لتوي. معي هنا كتاب يصحبني في سفري، عنوانه (أغابيا) أو (خلاص الخطأة). وهو يحوي العديد من الأمور المذهلة.

وأخرج الكتاب من جيبه وبدأ بقراءة قصة رائعة حول (اغاثونيس) الذي كان والداه التقيان قد علماه منذ طفولته أن يتلو كل يوم أمام أيقونة والدة الإله الصلاة التي تبدأ هكذا (افرحي أيتها العذراء، يا من تلد الإله). وكان دوماً يفعل هذا. وفيما بعد، وقد كبر، استغرق في مشاغل الحياة واضطراباتها ولم يتل تلك الصلاة إلا نادراً، ثم تخلى عنها في نهاية الأمر.

وفي ذات يوم، آوى لليل سائحاً قال له أنه ناسك في صحراء مصر وأنه رأى رؤيا تلقى فيها أمراً بالذهاب إلى إنسان يدعى اغاثونيس لتأنيبه على تخليه عن صلاة والدة الإله. فاعتذر اغاثونيس أنه تلا الصلاة خلال سنوات كثيرة من غير أن يحصل على أية نتيجة، فقال له الناسك:

– أذكر أيها الأعمى ناكر الجميل كم مرة ساعدتك هذه الصلاة وأنقذتك من الكارثة. أذكر أنك في شبابك أنقذت بأعجوبة من الغرق. ألا تذكر أن وباء قضى على الكثيرين من أصدقائك فيما احتفظت بعافيتك؟ أتذكر أنك كنت توصل صديقاً فسقطتما من العربة وكسر هو ساقه أما أنت فبقيت سالماً؟ ألا تعرف أن شاباً من معارفك كان معافى قوياً هو الآن مستلق ضعيفاً مريضاً، فيما تنعم أنت بالصحة الجيدة بلا آلام؟

وذكّر اغاثونيس بكثير من الأمور غيرها، وقال له آخر الأمر: اعلم أن هذه الشدائد جميعاً قد صرفت عنك بحماية أم الله الكلية القداسة بسبب هذه الصلاة القصيرة التي كانت يومياً تصل قلبك بالله. فاحترس الآن، وعد إليها ولا تتخل عن مديح ملائكة السموات، خوفاً من أن تتخلى هي عنك.

لما انتهى من القراءة، نادونا للغداء، وبعده شكرنا مضيفنا، وقد استعدنا قوانا، وبدأنا المسير. وافترقنا، فذهب كل من ناحية، كما حلا له.

سرت خمسة أيام تقريباً وقد سدد عزيمتي ذكرى القصص التي سمعتها من تاجر بييلا تسيركوف الطيب، وصرت قريباً من مدينة (كييف). وفجأة، ومن غير سبب بدأت أشعر بالحزن والثقل، وامتلأت أفكاري عتمة وخوراً في العزيمة. وأتت الصلاة بصعوبة واستولى علي شبه نعاس. ورأيت غابة ملآى بأدغال العليق الكثيفة على حافة الطريق، فدخلتها لأصيب فيها شيئاً من الراحة باحثاً عن مكان منعزل يمكنني الجلوس فيه تحت علية وقراءة فيلوكاليتي وذلك لتشديد نفسي المستضعفة ومحاربة خوري. ووجدت مكاناً هادئاً وأخذت بقراءة كاسيانوس الروماني (1)، في الجزء الرابع من الفيلوكاليا حول الأفكار الثماني. كنت أقرأ بمتعة من زهاء نصف الساعة لما لاحظت بصورة غير منتظرة بالمرة طيف رجل على نحو مئة متر مني، في داخل الغابة، كان راكعاً، بلا حراك. أسعدتني رؤيته، إذ استنتجت أنه كان يصلي وعدت إلى القراءة. وبقيت أقرأ مدة ساعة أو أكثر، وعدت إلى إلقاء نظرة. كان الرجل ما يزال هناك راكعاً، ودون أدنى حركة. أثر هذا فيّ بالغ الأثر وفكرت: (ما أكثر عبيد الله الأوفياء!).

وفيما كنت أفكر في هذا، فجأة سقط الرجل على الأرض وظل مستلقياً بهدوء. فدهشت. وإذ كنت لم أر وجهه – لأنه كان يدير لي ظهره عندما كان راكعاً – شعرت بفضول يدفعني إلى الاقتراب منه لأرى من كان. لقد كان فتى من الريف، شاباً في حوالي الخامسة والعشرين. وكان صبيح الوجه، جميل الهيئة، غير أنه شاحب. وكان يلبس (غنباز) فلاح يشده في الوسط حبل من ألياف الزيزفون بمثابة الحزام. ولم يكن معه أي شيء آخر ذو طبيعة خاصة. ولم يكن يحمل جراباً ولا حتى عصا. نبهه صوت اقترابي فنهض. وسألته من هو، فقال لي أنه فلاح من فلاحي الدولة، من مقاطعة (سمولنسك)، وأنه آت من (كييف). فسألت: وإلى أين أنت الآن ذاهب؟

أجاب: لا أعرف هذا أنا نفسي، إلى حيث تسوقني يد الله.

– هل مضى زمن طويل على تركك بيتك؟

– نعم، أكثر من أربع سنين.

– وأين عشت خلال هذه الفترة الطويلة؟

– ذهبت من مزار إلى مزار في الأديرة والكنائس. ولم يكن من معنى لبقائي في بيتي. أنا يتيم ولا أقرباء لي. زد أن لي رجلاً شوهاء ولذا فأنا ماض أضرب في الأرض.

فقلت: يبدو أن إنساناً يخاف الله قد علمك ألا تتجول أينما اتفق، بل أن تزور أماكن مقدسة. أجاب: حسناً، ترى، بما أني بلا أب ولا أم، كنت أذهب، وأنا طفل مع رعاة القطعان، وكنت سعيداً حتى سن العاشرة. ثم، في ذات يوم، عدت بالقطيع إلى البيت، من غير أن ألاحظ أن أفضل خروف من خرفان المختار لم يعد معي. كان مختاراً فلاحاً قاسياً لا إنسانياً. عندما عاد إلى بيته في ذلك المساء ورأى أن خروفه قد ضاع، انهال علي شاتماً مهدداً، وأقسم أنه سيضربني حتى الموت إن أنا لم أجده وقال: (سأكسر لك يديك ورجليك). ولعلمي بمبلغ شراسته، انطلقت باحثاً عن الخروف، عائداً إلى الأمكنة التي رعى فيها أثناء النهار. وبحثت، وبحثت أكثر من نصف الليلة، ولكني لم أقع على أي أثر له في مكان.

وكانت الليلة حالكة السواد أيضاً، إذ كنا نشارف على الخريف. ولما توغلت في داخل الغابة – والغابات شاسعة في مقاطعتنا – هبت عاصفة على حين غرة. فكأن الأشجار لهب في مهب الريح، ومن بعيد، أخذت الذئاب تعوي. فأخذني الرعب بحيث وقف شعر رأسي. وكان كل شيء يتعاظم هولاً حتى بت على وشك الانهيار خوفا ورعباً.

وعندئذ خررت على ركبتي ورسمت إشارة الصليب وقلت من كل قلبي: (أيها الرب يسوع المسيح ارحمني). وما إن قلت هذا حتى شعرت بسلام تام، للحال، كما لو كنت لم أشعر بأدنى قنوط. وزال كل ما كان بي من رعب وشعرت بالسعادة في قلبي، كما لو رفعت إلى السماء. أو ترى: كان بي فرح كبير، ولم أتوقف لحظة عن ترداد هذه الصلاة. وحتى اليوم أنا لا أعرف إن كانت العاصفة قد دامت طويلاً، ولا كيف مضى الليل. رأيت نور النهار يرتفع، وكنت ما أزال هنا، راكعاً في المكان. ونهضت بهدوء، وفهمت أنني لن أجد الخروف أبداً، وعدت إلى البيت. ولكن كل شيء في قلبي كان على ما يرام، وكنت أتلو صلاة يسوع لما فيه مسرة قلبي.

ومذ بلغت القرية، رأى المختار أني لم أرجع الخروف، فضربني حتى أصبحت نصف ميت، وخلع هذه الرجل كما ترى. وبقيت في الفراش أكاد لا أستطيع الحراك مدة ستة أسابيع، بعد ذلك القصاص. وكل ما كنت أعرفه هو أني كنت أتلو صلاة يسوع وأنها كانت تشدد قواي. ولما شعرت بتحسن، أخذت أضرب في الأرض. ولما كنت لا أعنى بمصاحبة الجمهور بصورة مستمرة، وهي فرصة ارتكاب الكثير من الخطايا، عقدت النية على الرحلة من مكان مقدس إلى مكان، وفي الغابات. هكذا أمضيت مدة ستبلغ الخمس سنين قريباً.

عند سماعي هذه القصة، امتلأ قلبي فرحاً إذ اعتبرني الله مستحقاً للقاء رجل بهذا الصلاح، وسألته: وهل تستعمل صلاة يسوع الآن كثيراً؟ فأجاب: لن أستطيع العيش بدونها. ترى: إن أنا تذكرت كيف سقطت على ركبتي في تلك المرة الأولى، في الغابة، حسبت وكأن أحداً يدفعني مجدداً على ركبتي، وأباشر في الصلاة. وأنا لا أعرف إن كانت صلاتي الحقيرة ترضي الله أم لا. وذلك لأني أشعر أحياناً. إذ أصلي، بغبطة كبرى، كأنها خفة في الروح، شبه ملء فرح. ولكني، في أحيان أخرى، أحس بثقل حزين وضعف روحي. وفي أي حال أنا راغب في الاستمرار في الصلاة حتى الموت. فقلت له: لا تكتئب يا أخي العزيز. فكل شيء يرضي الله ويفيد لخلاصنا، كل شيء بلا استثناء مما يطرأ أثناء الصلاة. هذا ما يقوله الآباء القديسون. إن كانت خفة القلب أو تثاقله، فهذا حسن. وليس من صلاة، جيدة كانت أو سيئة، غير كافية في نظر المجهود، أما الثقل والظلمة والجفاف فتعني أن الله يطهر النفس ويقويها، وبهذه المحنة يفديها، مهيئاً إياها، في التواضع، لتقبل المسرات الآتية. إثباتاً لذلك، سأقرأ لك شيئاً كتبه القديس يوحنا السلمي.

ووجدت المقطع وقرأته، فاستمع إليه بانتباه وسر به. ثم شكرني عليه كثيراً. وعلى هذا افترقنا. فاتجه مباشرة نحو أعماق الغابة وعدت إلى الطريق. وتابعت المسير شاكراً الله اعتباره إياي، على كوني خاطئاً، مستحقاً لتلقي تعليم كهذا.

وفي اليوم التالي، وصلت إلى (كييف) بعون الله تعالى. وكان أول ما أردت فعله في هذه المدينة المقدسة وأهمه الصيام قليلاً، والاعتراف والمناولة. ونزلت على مقربة من القديسين (2) لأن ذلك كان أنسب للذهاب إلى الكنيسة. اصطحبني شيخ من الكوزاك، ولما كان يعيش وحيداً في كوخ، وجدت عنده الهدوء. وبعد أسبوع قضيته في الاستعداد للاعتراف، خطر ببالي أن أقوم باعتراف مفصل قدر المستطاع. فجعلت أتذكر كل ما ارتكبت من خطايا منذ صباي وأتفحصها، بدقة: ولكي لا يفوتني شيء منها دونت كل ما استطعت تذكره مع أدق التفاصيل، مما ملأ، ورقة كبيرة بكاملها.

وبلغني أن في (كيتاييفا بوستينا) على قرابة السبعة فراسخ من (كييف)، كاهناً متزهداً ذا تمييز وعمق نظر كبير. من ذهب يعترف إليه وجد لديه جواً من الرفق الرقيق، وعاد بتعليم مفيد لخلاص النفس وسلامها. كنت شديد السعادة لمعرفتي الأمر، وانطلقت حالاً نحوه. وطلبت منه مساعدته، وتجاذبنا الحديث فترة، ثم أعطيته ورقتي. قرأها بكاملها وقال لي:

يا صديقي العزيز، إن قسماً كبيراً مما كتبت لهو لغو. اسمع: أولاً، لا تعترف بخطايا سبق لك أن ندمت عليها وغفرت لك. لا تعد إليها، فإن هذا يعني التشكك في سر التوبة. وثانياً، لا تعد إلى ذاكرتك الأشخاص الآخرين الذين شاركوا في خطاياك، لا تدن إلا نفسك. وثالثاً، يحرم الآباء القديسون علينا ذكر كافة ظروف الخطايا وملابساتها، ويقولون لنا أن نقر بها بعبارات عامة بحيث نبعد التجربة عنا وعن الكاهن في آن معاً. ورابعاً، أتيت لتقوم بفعل الندامة وأنت لا تندم على عدم معرفتك الندم، أعني أن ندامتك فاترة مهملة. وخامساً، تبسطت في هذه التفاصيل كلها، ولكن الأهم لم تحفظه: لم تبح بأخطر خطاياك، لم تقر ولم تكتب أنك لا تحب الله، وأنك تمقت قريبك، وأنك مجبول بالتكبر والطمع. إن جذور الشر متأصلة في هذه الخطايا الأربع التي يكمن فيها انحلالنا الروحي كله. إنها الجذور الرئيسية، التي منها تنبع كل الخطايا التي نتردى فيها.

دهشت جداً لسماعي هذا وقلت: سامحني يا أبت، ولكن كيف يكون من الممكن عدم حب الله خالقنا ومخلصنا؟ وبأي شيء يمكن الإيمان ما لم يكن في كلمة الله، الذي فيه كل حقيقة وكل قداسة؟ إني أتمنى الخير لكل الناس فلماذا أكرههم؟ وليس لي ما يمكنني من التكبر. وعلى كل، ليس لي، وقد امتلأت بالعديد من الخطايا، ما يستحق المديح. وماذا عساي أشتهي مع حقارتي وصحتي الضعيفة؟ من المؤكد أنني لو كنت متعلماً وغنياً، لكنت – بلا شك – مذنباً بالخطايا التي حدثتني عنها. فقال: من المؤسف يا عزيزي أن تكون أسأت فهم ما قلت إلى هذا الحد. فلنر! ستتعلم بصورة أسرع فيما لو أعطيتك هذه الملحوظات. إنها كتابات أفيد منها دوماً لاعترافي الشخصي. أقرأها بكاملها، وسترى بوضوح الدليل على صحة ما قلته لك لتوي.

أعطاني الملحوظات وأخذت في قراءتها. ها هي ذي:

اعترافي يقود الإنسان الداخلي إلى التواضع

تحققت بالاختبار، وقد أدرت أنظاري بانتباه إلى ذاتي وتفحصت استعدادات ضميري، أني لا أحب الله، وأني لا أحب أقربائي، وأن ليس لي بالإيمان وأنني ممتلئ بالتكبر والطمع. كل هذا أجده حقاً في ذاتي، عقب امتحان مفصل لعواطفي وتصرفي. وهكذا:

1- أنا لا أحب الله

إذ لو كنت أحب الله، لفكرت باستمرار فيه بسرور عميق. وكانت كل فكرة بالله أعطتني لذة ورغائد. وعلى العكس، فأنا أفكر بصورة غالبة وبحرارة في أمور الدنيا، والتفكير بالله هو لي مجهود وجفاف. لو كنت أحب الله، لكان الكلام إليه، في الصلاة، غذائي وسروري، وكان جرني إلى شركة معه لا تنقطع. ولكني، بالضد، ليس فقط أني لا أجد في الصلاة أية متعة، بل أنا أجد أنها مجهود. وأنا أكافح بنفور، وقد أضعفني الكسل، وأنا مستعد لأن أسارع إلى أي أمر تافه، بلا أهمية، إن كان فيه تقصير لفترة الصلاة وصرف عنها. ويطير وقتي في مشاغل تافهة ولكني إذ أنشغل مع الله، إذ أضع نفسي في حضرته تبدو لي كل ساعة سنة. إن من يحب أحداً يفكر فيه طوال اليوم دون توقف، ويتخيل صورته، يعتني به، ولا يغيب المحبوب عن أفكاره في أي من الأحوال. أما أنا، فأني أكاد لا أخصص حتى ساعة لأستغرق في ذكر الله، لألهب قلبي لأجله، فيما أنا أُبقي باستعجال ثلاثاً وعشرين ساعة في قرابين حارة لأصنام أهوائي. ولا أطلب إلا الحديث في موضوعات باطلة وفي أمور تفسد النفس. إن هذا يسرني. ولكن إن كانت القضية التأمل في الله، فذلك هو القحط والضجر والكسل.

وحتى فيما لو جرني آخرون، بصورة لا إرادية، إلى موضوع روحاني، فإني أسعى بسرعة إلى تغيير مجرى الحديث بحيث يوافق رغائبي. إن بي فضولاً لا يشبع إزاء الطرائف والأحداث السياسية، وأسعى بحمية إلى إرواء حبي للمعرفة العلمية والفنية. لكن درس ناموس الله، ومعرفة الله والإيمان قليلة الجاذبية لي ولا توافق حاجة في نفسي. وليس أني أعتبرها كمشاغل غير جوهرية للمسيحي وحسب بل إني أعدها أيضاً أحياناً كأمر لا طائل فيه ربما عنيت به في أوقات فراغي الضائعة. وفي النهاية، إن كان نعرف حب الله من العمل بوصاياه (قال سيدنا يسوع المسيح: إن كنتم تحبوني، فاحفظوا وصاياي)، فإني لا أقتصر على عدم العمل بها، بل إني لا أسعى جاداً إلا قليلاً للأخذ بها. والحق أنه يظهر من هذا، بالنتيجة، أني لا أحب الله. هذا ما يقوله باسيليوس الكبير: (إن الدليل على أن إنساناً لا يحب الله ومسيحه يكمن في أنه لا يعمل بوصاياه).

2- إني لا أحب قريبي أيضاً

إذ ليس أني غير قادر على التضحية بحياتي من أجله فحسب (كما يطلب الإنجيل)، بل أني لا أتخلى حتى عن سعادتي وراحتي ورفاه حالي لما فيه خير قريبي. ولو كنت أحبه كنفسي، كما يأمر به الإنجيل، لأحزنتني مصائبه وأبهجتني سعادته. ولكني بالضد، أسمع عن قريبي أخباراً مدهشة محزنة ولست أحزن. لا أتكدر لها قط، أو أني – وهذا أسوأ – أجد فيها شيئاً من المتعة. وسوء تصرف أخي، بدلاً من أن أموهه بمحبة، أعلنه ناصباً نفسي رقيباً عليه. وراحته وأفراحه لا تسرني كما لو كانت لي ولا أشعر لها بأية لذة كما لو كانت غريبة عني كل الغربة. بل أكثر من هذا، إنها تثير فيّ الحسد أو الازدراء.

3- ليس لي أي إيمان ديني

لا بخلود النفس ولا بالإنجيل. لو كنت مقتنعاً قناعة راسخة لا شك فيها أن وراء القبر الحياة الأبدية والجزاء على أعمال هذه الدنيا لفكرت بذلك دون انقطاع. بل إن فكرة الأبدية كانت ملأتني خشية، وكنت أمضيت حياتي هذه كغريب يتهيأ للعودة إلى موطنه الأصلي. وبالعكس، فأنا لا أفكر في الأبدية مجرد تفكير وأعتبر نهاية حياتي هذه على الأرض كغاية وجودي. تولد فيّ هذه الفكرة سراً: من يدري ماذا يحصل ساعة الموت؟ وإن قلت أني أؤمن بالخلود فإن هذا مجرد توكيد ذهني، وقلبي بعيد جداً عن أن يكون مقتنعاً قناعة راسخة. يؤيد ذلك بوضوح تصرفي وهمي الدائب على إرضاء حياة الحواس. لو كان في قلبي إيمان بالإنجيل المقدس، ككلمة الله، لعناني هذا باستمرار، ولكنت درست الإنجيل ووجدت فيه ملذاتي، ولعلقت عليه انتباهي بورع عميق. إن الحكمة والنعمة والمحبة مخبوءة فيه، ولجعلت فرحي ليل نهار دراسة شريعة الله. وبه تعالى كان يكون غذائي، خبزي اليومي، ولحافظ قلبي تلقائياً على نواميسه. وأي شيء على الأرض ما كان له قدرة على صرفي عنه. والأمر بالضد: إن أنا قرأت أو سمعت كلمة الله من حين لآخر، فليس ذلك إلا لضرورة أو لما في النفس من حب للمعرفة. ومن جهة ثانية، أنا لا أوليها انتباهاً شديداً وأجدها كالحة لا تسترعي الاهتمام. وأبلغ نهاية قراءتي – عامة – من غير أية فائدة، وأنا على استعداد دائم لأن أبدلها بقراءة عالمية أجد فيها متعة أكبر وموضوعات جديدة شيقة.

4- كلي تكبر وأنانية حواس

إن رأيت فيّ شيئاً صالحاً رغبت في إبرازه أو جعلت منه موضوع تكبري أمام الآخرين أو في نفسي لكيما أنال الإعجاب على هذا الصلاح. ومع أني أظهر بمظهر التواضع، فإني أعزوه بالكلية إلى استحقاقي الخاص وأعتبر نفسي فوق الآخرين، أو، في الأقل، أني لست دونهم. إن لاحظت عيباً فيّ، أحاول معذرته وتمويهه قائلاً: (هكذا جبلت) أو (لست أنا من يلام في ذلك). وأغضب على الذين لا يعاملوني باحترام وأقرر أنهم غير أهل على تقدير الناس على حقيقة أمرهم. وأباهي بمواهبي، أما فشلي في عمل ما فأعتبره إهانة شخصية. أجد متعة في مصيبة أعدائي. وإن أنا جهدت في عمل صالح فإن ذلك يكون بغية مجد أناله، أو رضى روحي أو تعزية أرضية. وبعبارة موجزة، أجعل من نفسي صنماً أخدمه دون انقطاع، ساعياً في كل شيء إلى ما يذكي أهوائي ورغائبي.

عند امتحان هذا كله، أرى أني متكبر فاسد، قليل الإيمان وبلا محبة لله وأني أكره قريبي. فأي حال يمكن لها أن تكون مذنبة أكثر من هذه؟ إن وضع الأرواح الشريرة أفضل من حالي. فإنها، بالرغم من عدم محبتها لله وكرهها وعيشها المتكبر تؤمن وترتعد خوفاً. وأنا؟ أيمكن أن يكون ثمة مصير أرهب من المصير المعد لي، وأي قضاء تراه يكون أقسى من القضاء الذي سيدين الحياة اللامبالية العابثة التي أعرف أنها حياتي؟

عند قراءتي نموذج الاعتراف هذا الذي أعطاني إياه الكاهن، من أوله إلى آخره، شعرت بالهول وفكرت: (يا للسماء! أية خطايا قبيحة تكمن فيّ وأنا لم ألاحظها إلى الآن!). ودفعتني الرغبة في التطهر منها إلى أن أطلب من هذا الأب الروحي الحق أن يطلعني على أسباب هذه الآفات كلها وعلاجاتها. فأخذ في تعليمي. قال:

أو ترى، يا أخي العزيز، أن عدم محبة الله يأتي من قلة الإيمان، وسبب هذا النقص هو الامتناع عن دراسة العلم الحقيقي والمقدس وعدم الاهتمام بشؤون الروح. وبكلمة موجزة، لا يمكنك أن تحب إن لم يكن لك الإيمان. إن لم تكن مقتنعاً لا يمكنك أن تحب، ولكيما تصل إلى الاقتناع ينبغي لك معرفة تامة دقيقة بالمسألة. وعليك، بالتأمل وبدراسة كلمة الله وبملاحظتك لاختباراتك الخاصة، عليك أن تثير في نفسك الظمأ والشوق أو – كما يسميه البعض – (الدهشة) التي تولِّد رغبة لا تروى في معرفة الأشياء، عن كثب وبصورة أتم، وذلك للتوغل في طبيعتها توغلاً أعمق.

يتكلم كاتب روحاني عن هذا بقوله: (إن الحب ينمو، عامة، مع المعرفة، وكلما كان عمق المعرفة ورقعتها أكبر، كان الحب أكبر، وخضع القلب بسهولة أكبر وانفتح على حب الله، متأملاً بانتباه ملء عالم الله وجماله، وحب الله اللامتناهي للناس).

ترى، إذن، أن سبب هذه الخطايا هو رفضنا الكسول للتأمل في الأمور الروحية، وهو كسل يخنق حتى الشعور بالحاجة إلى هذه التأملات. وإن كنت تريد أن تعرف كيف تتغلب على هذا الخطأ، فاسع إلى إنارة الروح بكل ما في يدك من وسائل، وتوصل إلى ذلك بالدراسة الدائبة لكلمة الله وآباء الكنيسة، وعن طريق التأمل والإرشادات الروحية وبأحاديث من هم حكماء في المسيح. أواه يا أخي العزيز، يا لعظم شقائنا بسبب تكاسلنا وحده عن البحث عن نور النفس في كلمة الحق. نحن لا ندرس شريعة الله ليل نهار، ولا نصلي باجتهاد ودون توقف لمعرفتها. ولذا كان إنساننا الداخلي جائعاً وبردان. إنه يعاني الحرمان إلى حد أنه لا يقوى على القيام بخطوة شجاعة في سبيل الفضيلة والخلاص! وهكذا، أيها الحبيب، فلنعقد النية على استخدام هذه السبل ولنشغل ذهننا، ما أمكننا ذلك، بالتفكير في الأشياء السماوية. وسيلتهب فينا الحب المنسكب في قلوبنا من عل. سنفعل هذا، إذن، وسنصلي ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، إذ إن الصلاة هي أولى الوسائل، وأهمها، من أجل تجددنا وصلاح حالنا. سنصلي بالعبارات التي تعلمنا إياها الكنيسة المقدسة: (يا الله، اجعلني قادراً على أن أحبك الآن كما أحببت الخطيئة في الماضي).

استمعت إلى هذا كله بانتباه. وطلبت إلى هذا الأب القديس، وقد تأثرت عميقاً، أن يستمع إلى اعترافي ويناولني القربان المقدس. وفي صبيحة الغداة، بعد أن حصلت على نعمة المناولة، عقدت النية على العودة إلى (كييف) بزادي المقدس هذا. لكن هذا الأب البار، الذي كان ذاهباً إلى دير الاكهاف لقضاء يومين، تكرم بضيافة صومعته ولكيما أتمكن من الانصراف بحرية، في سكينتها، إلى الصلاة. أمضيت هذين اليومين كما لو كنت في الفردوس. كنت أنعم، أنا غير المستحق، بالسلام الكامل بفضل صلوات الستارتس. كانت الصلاة تنبع في قلبي بيسر وسرور كبيرين إلى حد أني – في تلك الفترة – نسيت، على ما أظن، كل شيء، ونفسي. لم يكن في فكري إلا يسوع المسيح، وإلاه وحده.

عاد الكاهن، آخر الأمر، وسألته نصحه وإرشاده: (إلى أين أمضي الآن في مسيرتي كسائح؟)، فباركني قائلاً: اذهب إلى (بوشاياف) لتكرم هناك الأثر العجائبي لقدم والدة الله الكلية الطهارة، ولسوف ترشد خطاك في درب السلام.

فأخذت بنصيحته، وانطلقت بعد ثلاثة أيام نحو (بوشاياف). كانت الطريق على مسافة زهاء المئتي فرسخ، تقوم فيها بكثرة الفنادق والقرى اليهودية، ولم يقع لي إلا نادراً أن أجد بيتاً مسيحياً. ولاحظت، في إحدى الدساكر، وجود نزل مسيحي. فدخلته لمبيت ليلة، ولطلب زاد الطريق من الخبز، لأن مؤونتي شارفت على النفاد. ورأيت مضيفي، وهو شيخ وسيم الوجه، وعرفت أنه في الأصل من مقاطعتي، مقاطعة (أورلوف). دخلت الغرفة مباشرة، وكان أول أسئلته: ما ديانتك؟ فأجبت إني مسيحي أرثوذكسي. قال ضاحكاً: أرثوذكسي حقاً! أنتم لستم أرثوذكسيين إلا قولاً، أما فعلاً فلستم إلا وثنيين. أنا أعرف كل شيء عن دينك، يا أخ. أغراني كاهن مثقف، ذات مرة، وقد جربته. دخلت كنيستكم وبقيت أرثوذكسياً ستة أشهر، عدت بعدها إلى عادات طائفتي. إن دخول كنيستكم مجرد وهم يغر به. فالقراء يهمهمون الخدمة على هواهم، يحذفون أشياء، ويتلون أشياء لا تفهم. وليس الترتيل أفضل مما يسمع في مقهى. ويقف الناس رجالاً ونساء معاً، وهم يتكلمون أثناء الخدمة، ويتلفتون وينظرون حولهم، ويتمشون جيئة وذهاباً ولا يدعون لك هدوءاً أو سلاماً لتصلي. أي أنواع العبادة هذه؟ إنها خطيئة، هذه ما هي. أما عندنا، فلأن الخدمة ورعة فيمكنك سماع ما يقال، ولا يحذف شيء، والترتيل في غاية الروعة، فيما يبقى الشعب هادئاً: الرجال من جهة والنساء من جهة ثانية. وكل يعرف الانحناءات التي يجب القيام بها في الوقت المناسب وفقاً لتعاليم الكنيسة المقدسة. حقاً وصدقاً، يشعر المرء لدى دخوله إحدى كنائسنا أن الله يُعبد فيها، أما في كنيسة من كنائسكم، فلا يعرف الإنسان إن كان في الكنيسة أم في السوق.

فهمت من هذا كله أنه من أتباع (المؤمنين القدامى) المتشددين. لكن كلامه كان سديداً بحيث لم يكن في وسعي لا مناقشته ولا هدايته. غير أني قلت في نفسي أنه سيكون من المستحيل هداية المؤمنين القدامى إلى الإيمان الصحيح ما لم تنظم الطقوس لدينا تنظيماً حسناً، وما لم يضرب رجال الدين المثل الصالح. فإن المؤمنين القدامى لا يعرفوا شيئاً عن الحياة الروحية، وهم يعتمدون على الأشياء الخارجية، ونحن إنما نهمل هذه.

ولذا قررت الذهاب، وصرت فعلاً في مدخل المكان وإذا بي أرى، بدهشة كبرى، خلال باب غرفة خاصة، رجلاً تدل هيئته على أنه غير روسي، وكان يقرأ مستلقياً على سرير. أشار إليّ إشارة، وسألني من أكون، فقلت له. فأخذ يحدثني. قال: اسمع يا صاح. ألن تقبل العناية بمريض… فلنقل لأسبوع، إلى أن تتحسن حالي بعونه تعالى؟ أنا يوناني، راهب من جبل آثوس. وأنا في روسيا بغية جمع صدقات لديري. وأصابني المرض وأنا في طريق العودة. إن ساقيي تؤلماني إلى حد لا أستطيع السير معه. لا تقل لا يا عبد الله، سأدفع لك أجرك. فقلت: لا حاجة بك إلى أن تدفع لي شيئاً. سأقوم بالعناية بك على أفضل ما أستطيعه، لوجه الله.

فبقيت معه. وتعلمت منه أشياء كثيرة تتصل بخلاص نفوسنا. وحدثني عن آثوس، الجبل المقدس، وعن كبار الزهاد فيه وعن النساك المتوحدين الكثيرين. وكان معه نسخة يونانية من الفيلوكاليا وكتاب لاسحق السرياني. فقرأنا معاً وقارنا النص السلافوني الذي ترجمه (باييسي فيليتشكوفسكي) (3) بالنص اليوناني الأصلي. فأعلن أنه يستحيل تأدية الفيلوكاليا بدقة وأمانة أكبر مما نقلت فيه إلى السلافونية بقلم باييسي.

لاحظت أنه كان في حالة صلاة دائمة، وحاذقاً جداً في صلاة القلب الداخلية، ولما كان يتقن الروسية إتقاناً، سألته أسئلة في هذا الموضوع. فقال لي للحال الكثير فيه واستمعت إليه بانتباه. بل إني دونت ملحوظات كثيرة خطياً. وهكذا، مثلاً، أطلعني على امتياز صلاة يسوع وعظمتها بهذه الكلمات: (حتى شكل صلاة يسوع يظهر ما أعظم هذه الصلاة. وهي في قسمين، في القسم الأول، (أيها الرب يسوع المسيح، يا ابن الله) توجه أفكارنا نحو سر يسوع المسيح، وكما يقول الآباء القديسون، إنها خلاصة للإنجيل.

وفي القسم الثاني، (ارحمني، أنا الخاطئ) تضعنا الصلاة أمام واقع طبيعتنا الساقطة. ومن الملاحظ أن رغبة نفس مسكينة متواضعة والتماسها لا يمكنهما أن يعبر عنهما بعبارة أحكم وأوضح وأدق من هذه العبارة: (ارحمني). لن يمكن لأية صيغة غيرها أن تكون بكمالها وبقدرتها على بعث الرضى. لو كنا نقول، مثلاً: (سامحني، امنح خطاياي، طهرني من معاصي، تجاوز عن إهاناتي)، لكان هذا كله لا يعبر إلا عن التماس ليس هو إلا طلب العفو من العقاب، وخوف نفس ضعيفة لا حول لها. أما قولنا: (ارحمني) فلا يعبر عن الرغبة في العفو خوفاً وحسب، بل هو الصرخة الصادقة للمحبة البنوية التي جعلت أملها في رحمة الله وأقرت بتواضع بكونها في غاية الضعف لتحطيم إرادتها الذاتية والسهر على نفسها. إنه نداء رحمة – نداء نعمة إذن – سيتجلى بالقوة التي سيمنحنا الله ليجعلنا قادرين على مقاومة التجربة والانتصار على ميلنا إلى الخطيئة. كما لو كان مدين عاجز عن الدفع يطلب من دائنه – وهو صديقه – لا أن يؤجل له موعد الدفع وحسب، بل أن يشفق أيضاً على فقره المدقع ويتكرم عليه بما تجود يده. هذا ما تعبر عنه هذه الكلمة العميقة: (ارحمني). فكأنك تقول: (أيها السيد الرحيم اعف عن خطاياي وساعدني على تقويم نفسي، أيقظ في نفسي رغبة حارة في إتباع وصيتك. أنثر نعمتك بمسامحتك خطاياي الحاضرة، وبتوجيه أفكاري وإرادتي وقلبي اللامبالين نحوك وحدك).

وعلى هذا، عجبت لحكمة كلامه، وشكرته لتعليمه نفسي الخاطئة. وتابع يعلمني أشياء رائعة. قال:

– إن أردت (وفهمت أنه عالم، إذ كان درس في أكاديمية أثينا) حدثتك الآن عن اللهجة التي تقال بها صلاة يسوع. والواقع أني سمعت مسيحيين كثيرين يخافون الله يتلون هذه الصلاة شفهياً، كما أمر كلمة الله ووفقاً لتقليد الكنيسة المقدسة. وهم يلجأون إليها لا في صلواتهم الخاصة وحسب بل في الكنيسة. وإن أنت استمعت بانتباه وكصديق إلى التلاوة الهادئة لهذه الصلاة، للاحظت، لفائدتك الروحية، أن لهجة الصوت المصلي تختلف تبعاً للأشخاص. وهكذا نرى البعض يشددون النبرة على الكلمة الأولى ويقولون (أيها الرب يسوع المسيح) ثم ينهون بقية الجملة كلها بلهجة واحدة. ويبدأ البعض الآخر بلهجة واحدة، ويشددون النبرة، في منتصف الصلاة، على كلمة يسوع، كما في جملة تعجبية، وينهون الصلاة من ثم باللهجة ذاتها الموحدة، كما فعلوا في البداية. وآخرون غيرهم يبدأون الجملة ويستمرون فيها من غير نبرة حتى الكلمة الأخيرة – ارحمني – حيث يرفعون صوتهم بقوة. وأخيراً هنالك من يتلون الصلاة كلها (أيها الرب يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ) بنبرة شديدة على عبارة (ابن الله) وحدها.

اسمع الآن. ثمة صلاة واحدة فقط. وللمسيحيين الأرثوذكسيين عقيدة واحدة فقط، وكلهم يعلمون أن هذه الصلاة السامية أكثر من غيرها تحوي شيئين: الرب يسوع والنداء الموجه إليه. والجميع يقرون بهذا. فلماذا ترى لا يتلفظون بها بالطريقة ذاتها، باللهجة ذاتها؟ لماذا تصلي كل نفس بطريقتها الخاصة؟ لماذا تعبر النفس عن ذاتها بنبرة خاصة لا في الموضع بذاته للجميع، بل في مكان بعينه بالنسبة إلى كل شخص؟ يقول كثيرون إن هذا ربما كان وليد العادة أو المحاكاة، أو إن هذا رهن بتأويلات متباينة للكلمات تبعاً لوجهات نظر فردية، أو – أخيراً – إنها الطريقة التي تأتي بأكبر سهولة، بصورة طبيعية لكل واحد. لكن رأيي مختلف. بودي أن أجد سبباً أسمى، شيئاً يكون مجهولاً لا لدى سامع الصلاة وحسب بل لدى المصلي نفسه أيضاً. إلا يكون ثمة احتثاث خفي من الروح القدس الذي يتوسط من أجلنا بأنات لا يستطيع اختراعها الذين لا يعرفون لماذا ولا كيف يصلون؟ وإن كان كل امرئ يذكر اسم يسوع بالروح القدس، حسب قول الرسول، فإن الروح الفاعل في الخفاء، والمعطي الصلاة لمن يصلي، يهب هذا المرء عطية خاصة، بالرغم من تخاذل قوته.

وهكذا فقد يمنح الروح القدس إنساناً خوفاً لله موقراً، ويمنح آخر المحبة، ويمنح ثالثاً رسوخ الإيمان، وآخر التواضع المشع نعمة، وهكذا…

وإن كان الأمر كذلك، فإن الذي تقلى نعمة توقير قدرة الضابط الكل ومديحها سيسعد بصورة خاصة بلفظ كلمة رب التي يشعر فيها بعظمة خالق العالم وقدرته. والذي أعطي سيل الحب الخفي في قلبه يغتبط ويمتلئ سروراً إذ يتعجب قائلاً: يسوع المسيح، تماماً كذلك الستارتس الذي ما كان يستطيع أن يسمع اسم يسوع، حتى في حديث عادي، من غير أن يشعر بدفق خاص من المحبة والفرح. والذي يؤمن إيماناً لا يتزعزع في ألوهة يسوع المسيح، المساوي للآب في الجوهر، يوهب إيماناً أحر لدى تلفظه بكلمتي ابن الله. ومن وُهب هبة التواضع، وكان يعي ضعفه الخاص وعياً عميقاً يشعر بالتواضع والندامة عند قوله ارحمني، وهو يفتح قلبه في خاتمة صلاة يسوع هذه. وهو يحب الأمل الذي يعقده على رحمة الله المحب للبشر ويمقت سقوطه الشخصي في الخطيئة.

ورأيي أنه ينبغي، في هذا، البحث عن أسباب اللهجات المتباينة التي تنطق بها صلاة اسم يسوع. ويمكنك أن تتعرف فيها، لدى الاستماع إليها، لما فيه مجد الله وعبرتك الخاصة، إلى أي انفعال ينفعل به هذا أو ذاك من المصلين، وأية موهبة روحية أعطيت له. قال لي كثيرون، بهذا الصدد: لماذا لا تظهر علامات هذه المواهب الروحية الخفية، لماذا لا تظهر معاً، مجتمعة؟ عندئذ ستكون لا بعض كلمات الصلاة… بل كلها مشبعة بانجذاب روح واحدة. أجبت بهذه الصورة: ما دامت نعمة الله تنثر مواهبها بحكمة على كل حسب قوته، كما نرى في الكتاب المقدس، من تراه يستطيع أن يسعى، مع عقله المحدود، إلى الدخول في حالات النعمة جميعاً؟ أليس الفخار في يد الخزاف بالكلية، أولا يمكنه أن يصنع منه أي شيء يريد حسب مشتهاه؟

قضيت خمسة أيام مع هذا الستارتس، وبدأ يشعر بتحسن كبير. ولقد كان هذا الزمن مفيداً لي كثيراً حتى أني لم أحس بالسرعة التي انقضى فيها. إذ أننا في تلك الغرفة الصغيرة، في عزلتنا الساكنة لم يكن لنا من هم سوى ذكر اسم يسوع بصمت، أو الحديث في موضوع واحد هو الصلاة الداخلية.

وفي ذات يوم أتى سائح يزورنا. كان يشكو بمرارة من اليهود ويشتمهم. فلقد مر في قراهم وعانى، لا شك، من عداوتهم وحيلهم. وكانت مرارته كبيرة منهم إلى حد أنه كان يلعنهم، حتى أنه قال إنهم لا يستحقون الحياة بسبب عنادهم وقلة إيمانهم. وأعلن، أخيراً، أن كرهه لهم كبير بحيث لم يعد قادراً على السيطرة عليه.

فقال الستارتس: لا يحق لك، يا صاح، أن تشتم اليهود وتلعنهم بهذه الصورة. فقد خلقهم الله كما خلقنا نحن، ويجب عليك أن تكن لهم الاحترام وأن تصلي من أجلهم لا أن تلعنهم. صدقني، إن الاشمئزاز الذي تشعر به نحوهم يأتي من كونك غير متأصل في حب الله، وأن ليس عندك الصلاة الداخلية. سأقرأ لك مقطعاً من كتابات آباء الكنيسة حول هذا الموضوع. اسمع، هذا ما كتبه مرقس الزاهد: (إن النفس المتحدة داخلياً بالله تصبح، بسبب فرحها الكبير، كطفل بسيط طيب، لا يدين أحداً لا يونانياً ولا وثنياً ولا يهودياً ولا خاطئاً، لكنه يعتبرهم جميعاً بنظرة واحدة مطهرة. ويجد فرحاً في العالم كله، ويشتهي أن يمجد الجميع الله – يونانيين ويهوداً ووثنيين). ويول مكاريوس الكبير المصري إن المتأمل يحترق بحب كبير إلى حد أنه، لو كان من الممكن، لجعل من نفسه مسكناً للجميع، من غير تمييز بين الأخيار والأشرار.

هذا، يا أخي العزيز، ما يفكر به الآباء بهذا الصدد. أوصيك إذن أن تتخلى عن عنفك وأن تنظر إلى كل شيء تحت سمة العناية الإلهية العليمة بكل شيء، وعندما تشعر بالانزعاج أدن نفسك بنفاد الصبر وبقلة التواضع.

أخيراً مضى أسبوع، وشفي صاحبي الستارتس، فشكرته من صميم القلب على كل التعاليم المباركة التي لقنني، ثم ودع كل منا الآخر. انطلق هو في المسير بغية العودة إلى بلده وتابعت أنا خط السير الذي كنت قد رسمته، فكنت أقترب من (بوشاياف). ولم أكن قد اجتزت أكثر من المئة فرسخ حين لحق بي جندي. فسألته إلى أين هو ذاهب. فقال لي أنه عائد إلى مسقط رأسه (كامينتسك بودولسك). وسرنا زهاء العشرة فراسخ من غير أن نتبادل كلمة واحدة، ولاحظت أنه يتنهد تنهداً عميقاً، كما لو أن شيئاً يثقل صدره، وكانت ملامح وجهه قاتمة. فسألته عما يحزنه إلى هذا الحد. قال: يا صاح ما دمت قد لاحظت حزني، فإن أنت حلفت بأقدس ما عندك أنك لن تبوح به لأحد، فسأروي لك حكايتي كاملة. فإني على وشك الموت، ولا أحد لدي أحدثه.

فطمأنته أني، كمسيحي، لم يكن بي أدنى حاجة إلى كشف الأمر لأي كان، وأني، بفعل المحبة الأخوية، سيسعدني أن أسدي إليه أية نصيحة يمكنني إسداؤها.

فشرع يحكي قائلاً: إليك قصتي: جندت كجندي من بين فلاحي الدولة. وبعد زهاء الخمس سنين باتت الخدمة لا تطاق، وبالفعل جلدت مراراً عديدة بسبب إهمالي والسكر. وصممت على الفرار، وفررت، وقد عشت هذه السنين الأخيرة الخمس عشرة فاراً. خلال ست سنين، اختبأت حيثما استطعت. وكنت أسرق من المزارع والعنابر والمستودعات. كنت أسرق الخيل. وكنت أسطو على دكاكين. وتابعت هذا النوع من الأعمال على حسابي الخاص. وكنت أتخلص من المسروقات بطرق مختلفة. وكنت أعاقر الخمرة بثمن المبيعات، وأعيش حياة منحلة وأرتكب ما أمكن من الخطايا. لكن روحي وحدها لم تهلك. وكنت أتدبر أمري على خير ما يرم. لكن الأمر انتهى بي إلى أن ألقيت في السجن بسبب التشرد من غير جواز سفر، غير أني هنا أيضاً وجدت فرصة للهرب. ثم اجتمعت، من غير سابق موعد، بجندي مسرح من الخدمة، كان عائداً إلى بيته في مقاطعة نائية. ولما كان مريضاً لا يمشي إلا بشق النفس، طلب مني أن أوصله إلى أقرب قرية يمكنه أن يجد فيها مأوى. فأوصلته.

وسمحت لنا الشرطة أن نبيت ليلتنا في أهراء، فوق القش، واستلقينا هناك. وعند استيقاظي، في صبيحة الغداة، ألقيت نظرة إلى صاحبي الجندي، فكان هذا جثة هامدة. فبحثت بسرعة عن جواز سفره – أو بالأحرى عن وثيقة تسريحه – وبعد أن وجدتها مع مبلغ محترم من المال، وفيما كان الجميع ما يزالون نياماً، غادرت الأهراء بأسرع ما أمكنني، ودخلت الغابة وهربت. وعند قراءتي جواز السفر وجدت أنه في ذات سني تقريباً، والعلامات الفارقة عينها. فاستبشرت بهذا وقصدت بقدم ثابتة مقاطعة (استراخان). هنا، أخذت في التعقل قليلاً، وحصلت على عمل. كنت مع شخص مسن يملك بيتاً ويتعاطى تجارة الماشية. وكان يعيش لوحده مع ابنته المترملة. بعد عام أمضيته عنده، تزوجت ابنته. ثم توفي الشيخ. ولم يكن بوسعنا الاستمرار في أعماله. وعدت إلى معاقرة الخمرة، وزوجتي كذلك، وبعد عام كنا قد بذرنا كل ما تركه الشيخ من مال. ثم مرضت زوجتي وتوفيت. وعندئذ بعت كل ما تبقى مع البيت. وسرعان ما وجدت نفسي وقد نفد كل مالي. لم يكن لي شيء أعتاش به، لا شيء آكله. فعدت إلى تجارتي القديمة: بيع المسروقات، بجرأة أكبر ما دمت الآن أمتلك جواز سفر.

وهكذا عدت إلى حياتي السابقة مدة عام تقريباً. ثم جاءت فترة طويلة لم يكن فيها النجاح قط حليفي. سرقت فرساً عجوزاً حقيراً لفلاح بلا أرض، وبعته إلى الحطاب بثمن لقمة خبز. أخذت المال إلى المقهى وجعلت أشرب الخمر. كان في نيتي الذهاب إلى قرية يحتفلون فيها بعرس، يحدوني الأمل بسرقة كل ما استطعت إليه سبيلاً، بعد أن ينام الجميع عقب الاحتفال. ولما كانت الشمس لم تغب بعد، ذهبت إلى الغابة في انتظار الليل. واستلقيت ونمت نوماً عميقاً.

فرأيت حلماً، رأيت فيه نفسي واقفاً في مرج كبير وجميل. وفجأة ارتفعت في السماء سحابة مخيفة، ثم قصفة رعد رهيب إلى حد أن الأرض زلزلت تحت قدمي، وشعرت وكأن أحداً يدفعني بضربة إلى كتفي في باطن الأرض التي كانت تحيط بي ضاغطة من كل الجهات. وكان رأسي وحده مع يدي خارج التراب. وعندئذ رأيت وكأن تلك السحابة الرهيبة حطت على الأرض، وخرج منها جدي المتوفي منذ عشرين سنة. لقد كان رجلاً مستقيماً جداً، وكان وكيل الكنيسة طوال ثلاثين سنة في ضيعتنا. أتى إلي والغضب والوعيد يبدوان على سيمائه، مما جعلني أرتعد. ورأيت حولي، في كوم متعددة، الأشياء التي سرقتها في فترات مختلفة. فتضاعف رعبي. أتى جدي إلي، وأشار بإصبعه إلى الكومة الأولى قائلاً: ما هذا؟ هلم! فأخذت الأرض من حولي تضيق علي بشدة كبيرة بحيث لم أكن أستطيع تحمل الألم، ولا أصابني الإغماء، رغم شدته. فأننت وهتفت: (ارحمني)، لكن عذابي استمر. وعندئذ أشار جدي إلى كومة ثانية وقال أيضاً: وما هذا؟ اسحقيه سحقاً أقوى! فشعرت بألم وقل عنيفين من الشدة بحيث لا يمكن أن يقارن بهما أي تعذيب على وجه الأرض. وأخيراً، ساق جدي قريباً مني الحصان الذي سرقته في العشية وصرخ: وما هذا؟ هلم بأقوى ما تستطيعين. كان ألمي شديداً في جسدي كله إلى حد لا يمكن وصفه. كان ألماً قاسياً مريعاً مدمراً! بدا لي وكأن عضلاتي كلا تسحق سحقاً، وكان هذا الألم الفظيع يخنقني. وشعرت أن هذا العذاب لو دام وقتاً أطول لفقدت الوعي. لكن الحصان رفسني وجرح خدي. وعند تلقي هذه الضربة، استيقظت.

كنت في غاية الرعب وكانت الرعدة تنتاب جسدي كله. ورأيت أن النهار طلع وأن الشمس كانت تشرق. وإذ رفعت يدي إلى خدي أحسست بالدم يسيل متدفقاً، وأجزاء بدني التي كانت في الحلم مدفونة، كانت، ماذا أقول؟ … متخدرة، موجوعة وبها دبيب النمل. وكان رعبي شديداً بحيث صعب علي النهوض والعودة إلى منزلي. وآلمني خدي زمناً طويلاً. أنظر! بوسعك أن ترى الندبة. لم تكن هنا من قبل. ومنذ ذلك اليوم، يستولي علي الخوف والذعر في أحيان كثيرة لمجرد ذكرى ما قاسيت في ذلك الحلم، وهما من القوة بحيث لا أدري ما أصنع بنفسي. وأنكى ما في الأمر أن هذه الفترات تزايدت، وصرت آخر الأمر أخاف الناس وأشعر بالعار كما لو كان الجميع يعرفون ماضيّ المعيب. فقدت حب الشراب والأكل والنوم بسبب هذا العذاب. وغدوت خرقة بالية. ولقد فكرت في العودة إلى كتيبتي في الجيش وفي الاعتراف بكل ما في قلبي مخففاً. فلربما عفا الله عن خطاياي إن أنا تقبلت قصاصي. لكن الخوف أصابني، والتفكير في إمكانية جلدي ثبطت عزيمتي. فنفذ صبري وأردت أن أشنق نفسي. لكنه خطر ببالي أنني، في كل حال، لم يبق لي الكثير أعيشه، وسأموت عما قريب لأني فقدت قواي كلها. ولذا أردت العودة إلى بلدتي لأودع الوداع الأخير وأموت. مازال لي ابن أخ، وقد مضى علي إلى الآن ستة أشهر وأنا أسير. وفي كل حين أنوء بعبء العذاب والخوف بصورة بائسة. ما قولك يا صاح؟ ماذا علي أن أفعل؟ حقاً أكاد أكون منتهياً.

عند سماعي هذا كله عرتني دهشة كبرى وحمدت حكمة الله وصلاحه إذ رأيت بأي السبل يتلفان خاطئاً. وقلت له: يا أخي العزيز، كان عليك خلال هذا الخوف وهذا القلق أن تصلي إلى الله. إنه العلاج الأعظم لكل مشقاتنا. فقال لي: أبداً! كان يبدو لي أني لو أخذت في الصلاة، لحطمني الله فوراً. فقلت: لا معنى لقولك هذا، يا أخي، إن إبليس هو الذي يدخل في رأسك أفكاراً كهذه. لا حد لرحمة الله، إنه يتحنن على الخاطئ ويسامح بسرعة كل الذين يتندمون. ربما كنت تجهل صلاة يسوع: (أيها الرب يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ)، هذه الصلاة التي يكررها المرء بلا انقطاع.

– أنا طبعاً أعرف هذه الصلاة! وكنت أتلوها أحياناً لأحافظ على شجاعتي إذ كنت على وشك ارتكاب سرقة.

– اسمع إذن. لم يهلكك الله عندما كنت في سبيل عمل شرير إذ تلوت الصلاة. أتراه يفعل إن جعلت تصلي وأنت في سبيل الندامة؟ إنك ترى تماماً أن أفكارك من الشيطان تأتي. صدقني، يا أخي العزيز، إن أردت تلاوة الصلاة من غير أن تشغل بالك أبداً بالأفكار التي تخطر لك أيما كانت، فستشفى بسرعة كبرى. سيزول كل خوف وكل قلق، وفي النهاية ستعيش بسلام تام. وستصبح إنساناً تقياً، وستزول عنك كل الأهواء الآثمة. أؤكد لك ذلك لأني رأيت أمثلة كثيرة عنه في حياتي. ثم حدثته عن عدة حالات تجلى فيها أثر صلاة يسوع في الخطأة. وأخيراً أقنعته بمرافقتي إلى دير والدة الإله في (بوشاياف)، ملجأ الخطأة، وبالاعتراف هناك وتناول القربان المقدس قبل العودة على بلده.

استمع الجندي إلى هذا كله بانتباه وفرح، على ما استطعت ملاحظته، وقبل كل ما عرضته عليه. وذهبنا معاً إلى (بوشاياف)، بشرط ألا يوجه أحدنا الكلام إلى صاحبه وأن نتلو صلاة يسوع طوال الوقت. مشينا بصمت نهاراً بكامله. وقال لي في الغداة أنه يشعر بتحسن كبير، وكان من الواضح أن نفسه أهدأ من ذي قبل. وبلغنا (بوشاياف) في اليوم الثالث، وحثثته أيضاً على عدم قطع الصلاة نهاراً وليلاً، مادام مستيقظاً، مؤكداً له أن اسم يسوع الكلي القداسة، الذي لا يطيق أعداؤنا الروحيون سماعه سيكون له سلطان تخليصه. وقرأت له في الفيلوكاليا أنه، بالرغم من أن علينا تلاوة الصلاة كل حين، فإنه من الضروري، بصورة أخص، تلاوتها بأكبر ما يمكن من عناية حين نتهيأ للمناولة.

وهذا ما فعل، ثم اعترف وتناول. وبالرغم من أن أفكاره القديمة عادت إليه تعذبه بين الحين والحين، فإنه لم يصعب عليه تبديدها بصلاة يسوع. ومساء الأحد نام أبكر من عادته وهو يتابع تلاوة صلاة يسوع، وذلك حتى يستطيع النهوض بسهولة أكبر لصلاة السحر. وبقيت جالساً في ركني، أقرأ فيلوكاليتي على ضوء شمعة. وانقضت ساعة. نام صاحبي، وأخذت في تلاوة الصلاة. بعد عشرين دقيقة تقريباً، وفجأة أجفل وأفاق، وقفز بسرعة من سريره، وأتى راكضاً إلي، دامعاً، وقال وهو في غاية السعادة: آه يا أخي، ليتك تعلم ما رأيت لتوي! يا للسلام، يا للفرح! أعتقد أن الله رحيم للخطأة، وهو لا يعذبهم. المجد لك يا رب، المجد لك!

فدهشت، وسعدت ورجوته أن يقص علي بدقة ما حدث له. فقال: إليك قصتي: ما كدت أنام حتى وجدت نفسي مجدداً في ذلك المرج الذي عذبت فيه. وأصابني الرعب أول الأمر، ولكني رأيت أن الشمس مشعة، بدل السحابة، وكانت تشرق، وأن نوراً رائعاً يتألق على المرج كله. ورأيت أزهاراً جميلة وعشباً. وفجأة أتى إلي جدي، وهو أجمل ما يكون، وحياني بلطف وقال لي: (اذهب إلى (جيتومير)، إلى كنيسة القديس جاورجيوس. وستأخذك الكنيسة تحت حمايتها. امض فيها بقية عمرك وصل بلا انقطاع. وسيكون الله لك كثير الأفضال). وعلى هذا رسم علي إشارة الصليب واختفى. لا يمكنني أن أعبر لك عن السعادة التي شعرت بها: لكأن عبئاً أزيح عن كتفي، وكأني طرت محلقاً في السماء. وهنا أفقت، وقد حل السلام في نفسي وقلبي، وامتلأت فرحاً إلى حد أني ما كنت أدري ما أنا فاعل. ماذا يجب أن أفعل الآن؟ سأنطلق حالاً إلى (جيتومير)، كما قال لي جدي. وسيكون هذا سهلاً، برفقة صلاة يسوع.

– لحظة، يا أخي، كيف يمكنك الذهاب في منتصف الليل؟ ابق حتى صلاة السحر، قل صلواتك ثم اذهب يصحبك الله.

لم ننم بعد هذه المحادثة. ذهبنا إلى الكنيسة، فبقي لصلاة السحر بأكملها وصلى صادقاً باكياً، وقال إنه يشعر بالسلام، وأنه سيتابع بفرح تلاوته لصلاة يسوع. وفي القداس، تناول القربان، وعندما أفطر رافقته حتى طريق (جيتومير) حيث افترقنا وفي عينينا دموع الفرح.

أخذت أفكر عندئذ في شؤوني الخاصة. إلى أين أذهب الآن؟ قررت آخر الأمر أن أرجع إلى (كييف). جذبتني إليها تعاليم كاهني الحكيمة. أضف أنني لو بقيت معه فقد يجد صديقاً للمسيح وللبشر يجعلني على طريق أورشليم أو على الأقل، جبل آثوس. وبقيت أسبوعاً آخر في (بوشاياف)، أقضي وقتي في تذكر كل التعاليم التي تلقيتها في رحلتي هذه، وفي تدوين ملحوظات حول عدد معين من الأشياء. ثم تهيأت للسفر، وأخذت جرابي وذهبت إلى الكنيسة لأضع نفسي في رعاية والدة الإله. وبعد القداس تلوت صلواتي وبت مستعداً للانطلاق. كنت أقف في أقصى الكنيسة عندما دخل رجل ذو ثياب وإن لم تكن ثمينة جداً على أنها تدل على كونه من النبلاء، وسألني أين تباع الشموع. فأريته المكان. وبعد نهاية القداس، بقيت أصلي أمام المذبح. وعند فراغي من صلواتي أخذت في المسير.

وبعد فترة رأيت، محاذياً الشارع، نافذة بيت مفتوحة ورجلاً يقرأ كتاباً. وكانت الدرب تمر بالضبط بالقرب من هذه النافذة ورأيت أن الرجل كان ذاك الذي سألني عن الشموع في الكنيسة. فرفعت قبعتي، إذ جزت به، وعندما رآني أشار إلي أن أذهب إليه وقال: أظن أنك سائح. أجبت: نعم. فرجاني في الدخول وأراد أن يعرف من أنا وإلى أين أذهب. فقلت له كل ما يتصل بي من غير أن أخفي شيئاً. وقدم لي الشاي وجعل يخاطبني، قال: اسمع، يا عزيزي الصغير. أنصحك الذهاب إلى دير (سولوفيتسكي) الواقع في إحدى جزر (سولوفيتس) في البحر الأبيض. فهناك منسك يخيم عليه الهدوء وشديد العزلة اسمه (آنزرسكي). إنه أشبه بآثوس ثان، ويرحبون فيه بكل إنسان يذهب إليهم. وللمبتدئ فقط أن يقوم بهذا: أن يقرأ في دوره كتاب المزامير في الكنيسة أربع ساعات من الأربع والعشرين ساعة. وأنا بنفسي أذهب إلى هناك، ولقد نذرت أن أذهب مشياً على قدمي. وبوسعنا أن نذهب معاً. سيكون الأمر آمن معك، إذ يقال أن الطريق خالية من المسافرين. وأنا، من جهة ثانية، أملك المال، وبإمكاني تأمين معيشتك أثناء الرحلة. إني أعرض عليك هذه الشروط: سيسير واحدنا على بعد عشرين خطوة من الآخر، وهكذا لن نضايق بعضنا بعضاً وسنتمكن من القراءة أو التأمل طوال الطريق. فكر في الأمر، يا أخي، واقبل، أرجوك: فهو جدير بالاهتمام والقبول.

اعتبرت هذه الدعوة غير المتوقعة كعلامة أرسلتها والدة الإله التي طلبت منها أن ترشدني إلى طريق الغبطة. ومن غير أن أطيل التفكير قبلت. وانطلقنا في اليوم التالي. وخلال أيام ثلاثة، سرنا كما اتفقنا: واحدنا وراء الآخر. كان يقرأ كتاباً طوال الوقت، كتاباً ما فارق يده لا ليلاً ولا نهاراً. وكان حيناً ينصرف إلى التأمل. ووصلنا أخيراً إلى مكان توقفنا فيه للعشاء. فتناول طعامه وكتابه مفتوح أمامه، ومن غير أن تفارقه عيناه. ورأيت أن هذا الكتاب كان نسخة من الأناجيل فقلت له: أتسمح لي، يا سيدي، بأن أسألك لماذا تحتفظ ليل نهار بالأناجيل في يدك؟ لماذا تأخذها وتحملها معك دائماً؟

فأجاب: ذاك لأني أتعلم دون انقطاع منها، ومنها وحدها. فأضفت: وماذا تتعلم؟ فقال: الحياة المسيحية التي تتلخص في الصلاة. إني أرى أن الصلاة أهم وسائل الخلاص وألحها، وأنها الواجب الأول لكل مسيحي. والصلاة هي الخطوة الأولى في الحياة الروحية، وهي أيضاً غايتها التي تتوجها، ولذا أمرنا الإنجيل بممارسة الصلاة الدائمة. وقد خصص وقت معين لباقي أعمال التقوى، أما الصلاة فلا وقت إلا وهو مناسب لها. ويستحيل، من غير صلاة، أن تفعل أي عمل صالح، كما يستحيل، من غير الأناجيل، تعلم كيف يحسن أن نصلي. ولذا فإن جميع الذين نالوا الخلاص عن طريق الحياة الروحية: القديسون الذين بشروا بكلمة الله والنساك والمتوحدون، وفي الحقيقة كل المسيحيين المتقين الله، كلهم قد تلقوا تعليمهم من انشغالهم الدائب الذي لا يمل في أعماق كلام الله، ومن قراءة الإنجيل. وكان الكثيرون دائمي الحمل للأناجيل في يدهم، وفي تعليمهم عن الخلاص يسدون هذه النصيحة: (اجلس في سكينة حجرتك واقرأ الإنجيل، وأعد قراءته). هذا هو السبب الذي من أجله تراني متعلقاً بالإنجيل دون سواه.

فأعجبني تفكيره هذا كثيراً، كما أعجبتني حميته في الصلاة. ثم سألته في أي إنجيل، على وجه التخصيص يجد تعاليم حول الصلاة. فأجاب: في الأربعة، من غير تمييز، في العهد الجديد بأكمله، بقراءته على الترتيب. وأنا أقرأه منذ أمد مديد متشرباً معناه، وقد دلني هذا أن ثمة تدرجاً وتسلسلاً منتظماً من التعاليم حول الصلاة في الإنجيل المقدس، بدءاً بأول إنجيل، وبانتظام حتى الأخير، حسب منهج معين. ففي أولها، مثلاً، تهيئة وتوطئة لدراسة الصلاة، ثم شكلها أو التعبير الخارجي عنها بكلمات. وفيما بعد، نجد الشروط اللازمة لرفع الصلاة، والوسائل الكفيلة بتعلم هذا مع أمثلة. وأخيراً نقع على العبرة الخفية للصلاة الداخلية والروحية الدائمة لاسم يسوع المسيح، وهي مبينة كصلاة أسمى وأجدى للخلاص من الصلاة الخارجية. ثم يأتي بيان ضرورة تلاوتها وثمرها المبارك، وهكذا… وبعبارة وجيزة، يجد المرء في الإنجيل معلومات وافية مفصلة عن ممارسة الصلاة في نظام أو في تسلسل نهجي من بداية الإنجيل إلى نهايته.

دفعني هذا الجواب إلى أن أطلب منه إيضاح ذلك تفصيلاً، فقلت له: لما كنت أحب سماع الحديث حول الصلاة أكثر من أي شيء آخر، فسيسعدني جداً أن ألمس سلسلة التعاليم هذه الخفية حول الصلاة في كافة تفاصيلها. كرمى لله أرني ذلك كله في الإنجيل ذاته. فقبل بطيب خاطر قائلاً: افتح إنجيلك، وأنظر فيه، ودون ما أقوله لك. وأعطاني قلماً.

قال: تجمل وأنظر هذه الملحوظات التي دونتها. والآن أنظر أولاً في إنجيل القديس متى، الإصحاح السادس، واقرأ الآيات من الآية الخامسة إلى التاسعة. سترى أن لدينا هنا الإعداد أو التوطئة التي تعلم أنه ينبغي علينا أن نباشر بالصلاة لا حباً بالظهور، وبصورة صاخبة بل في مكان منعزل، وفي السكينة. وأنه إنما ينبغي لنا الصلاة طلباً لمغفرة الخطايا وللاتحاد بالله وحسب، من غير أن نضيف عدداً من الطلبات بلا جدوى حول أمور دنيوية مختلفة، كما يفعل الوثنيون. ثم تابع قراءة الإصحاح ذاته، واقرأ من الآية التاسعة إلى الآية الرابعة عشرة. تجد هنا شكل الصلاة، بأي كلمات يجب أن نعبر عنها، تجد هنا، مجموعة بغزير الحكمة، كل العناصر اللازمة والمرغوب فيها لحياتنا. وبعد هذا، تابع قراءة الآيتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من الإصحاح ذاته، وستجد الشروط اللازمة لكيما تكون الصلاة فعالة. إذ إننا لو كنا لا نغفر لمن أساء إلينا، فلن يغفر الله لنا خطايانا. انتقل الآن إلى الإصحاح السابع، وستجد في الآيتين السابعة والتاسعة كيفية الحصول على ثمرة الصلاة، كيفية الرجاء الشجاع: اطلب، ابحث، اقرع. إن هذه العبارات القوية تصف تواتر الصلاة وضرورة ممارستها، بحيث لا نكتفي بملازمة الصلاة لأعمالنا كلها، فتسبقها أيضاً. إنها الخاصة الأساسية للصلاة.

وأنت واجد تمثيلاً لذلك في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل القديس مرقس، من الآية الثانية والثلاثين إلى الآية الأربعين، حيث نرى يسوع نفسه يردد تكراراً عبارات بعينها للصلاة.

والقديس لوقا، في الإصحاح الحادي عشر، من الآية الخامسة إلى الآية الرابعة عشرة، يعطي مثلاً مشابهاً للصلاة المكررة في مثل صديق نصف الليل، وفي الطلب المتكرر والملحاح للأرملة (لوقا 1:18- 8)، موضحاً بهذا وصية يسوع المسيح بأن علينا أن نصلي دائماً، في كل زمان وكل مكان، وألا ننصرف إلى التقاعس أي الكسل.

وبعد هذا التعليم المفصل، نجد في إنجيل القديس يوحنا التعليم الأساسي حول صلاة القلب السرية الداخلية. وفي المقام الأول، نجد هذا التعليم في الخبر العميق الذي ينقل إلينا حديث المسيح مع السامرية، حيث يكشف لنا أمر العبادة الداخلية بالروح والحق، تلك العبادة التي يريدها الله، والتي هي الصلاة الدائمة الحقيقية، كالماء الحي النابع في الحياة الأبدية (يوحنا 5:4- 25). وبعد هذا، في الإصحاح الخامس عشر، في الآيات من الرابعة إلى الثامنة، نقرأ وصفاً أكثر دقة لقدرة الصلاة الداخلية وإمكانياتها ولزومها أي انتباه الروح الموجه إلى المسيح، وإلى ذكر الله الذي لا ينقطع. واقرأ أخيراً الآيات من الثالثة والعشرين إلى الخامسة والعشرين، في الإصحاح السادس عشر من الإنجيل ذاته. وأنظر أي سر هنا يكشف لنا عنه. ستلاحظ أن صلاة اسم يسوع المسيح، المعروفة باسم صلاة يسوع أي (أيها الرب يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ) إذا ما رددت مراراً هي ذات السلطان الأكبر، وتفتح القلب بسهولة وتقدسه.

يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح كبير بصدد الرسل الذين كانوا تلاميذ يسوع خلال سنة بكاملها، وقد كانوا تلقنوا منه الصلاة الربانية أي (أبانا الذي في السموات). وإننا نعرف هذه الصلاة منهم. وعلى هذا، فإن يسوع المسيح، في نهاية حياته الأرضية، كشف لهم السر الذي كان ما يزال ناقصاً من صلاتهم. فحتى تخطو الصلاة خطوة حاسمة إلى أمام، قال لهم: (إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي… الحق الحق أقول لكم إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم). وهذا ما حدث لهم. وعندما تعلم الرسل الصلاة باسم يسوع، ما أكثر العجائب التي اجترحوها، وما أغزر النور الذي وُهبوا! الآن، هل ترى تسلسل التعليم وملأه عن الصلاة مرتباً بالكثير من الحكمة في الإنجيل المقدس؟ وإن أنت تابعت بقراءة الرسائل، فستجد أيضاً ذات التعليم المتدرج.

وحتى تكتمل الملحوظات التي سبق أن أعطيتك، سوف أدلك على مقاطع عديدة تتمثل فيها صفات الصلاة. وهكذا تجد في أعمال الرسل وصفاً لممارستها، أي التمرس الجاد الدائب للمسيحيين الأوائل الذين استناروا في إيمانهم بيسوع المسيح (الأعمال 31:4). وكذلك ثمار الصلاة ونتائج الصلاة الدائمة مبينة وهي دفق الروح القدس ومواهبه للذين يصلون. وسترى شيئاً مشابهاً في الإصحاح السادس عشر، في الآيتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين. ثم تتبع الرسائل على الترتيب وستجد:

  1. شدة الحاجة إلى الصلاة في كل الظروف (يعقوب 13:5- 16).
  2. كيف يساعدنا الروح القدس على الصلاة (يهوذا 20- 21 والرومانيين 26:8).
  3. كيف أن علينا جميعاً أن نصلي بالروح (أفسس 18:6).
  4. شدة الحاجة، مع الصلاة، إلى السكينة والسلام الداخلي (فيلبي 6:4- 7).
  5. كم هو من الضروري أن نصلي بلا انقطاع (1 تسالونيكي 17:5).
  6. ونلاحظ أخيراً أن على المرء ألا يصلي لذاته وحسب، بل لجميع الناس أيضاً (1تيموثاوس 1:2- 5).

وهكذا، إن نحن خصصنا الكثير من الوقت، والعناية الكبرى، لاكتشاف معاني الآيات، لأمكننا وجدان الكثير من الإيضاحات غير هذه للعلم السري الكامن في كلام الله، هذا العلم الذي يفوتنا إن نحن لم نقرأه إلا نادراً أو متسرعين.

أتلاحظ، بعد ما أريتك لتوي، بأية حكمة وأية طريقة يبين العهد الجديد تعليم سيدنا يسوع المسيح حول المسألة التي درسناها للتو؟ وبأي تسلسل رائع يعرض الإنجيليون الأربعة لهذه المسألة؟ إن الأمر هكذا: في إنجيل القديس متى نجد التهيئة، المدخل إلى الصلاة، وقوتها الحقيقية، وشروطها وما إليه. وبعد هذا، نجد في إنجيل القديس مرقس أمثلة، وفي إنجيل لوقا أمثالاً، وفي إنجيل يوحنا الممارسة الخفية للصلاة الداخلية، بالرغم من أن ثمة كلاماً عن هذه الممارسة في الأناجيل الأربعة، مع تفاصيل تكثر أو تقل. وتصف لنا أعمال الرسل ممارسة الصلاة ونتائجها، وأما في الرسائل وحتى في الرؤيا، فنجد مظاهر عديدة لممارسة الصلاة. ولهذا السبب كانت الأناجيل وحدها دليلاً كافياً على دروب الخلاص كلها.

كنت، طوال الوقت الذي شرح لي فيه هذا وعلمني، أؤشر في الأناجيل، في كتابي المقدس كل المواضيع التي عاينها لي. وبدا لي ما قال خليقاً بالملاحظة، وغزير الفائدة العلمية، وشكرته كثيراً. ثم تابعنا طريقنا بصمت خلال زهاء الخمسة أيام. وبدأ رفيق سفري تؤلمه رجلاه ألماً شديداً، وكان ذلك – لا شك – لعدم اعتياده السير المتواصل. ولذا استأجر عربة وجوادين وأركبني معه. وهكذا وصلنا إلى الجوار، حيث بقينا أياماً ثلاثة، لكيما نستطيع، بعد أن نستريح، أن ننطلق فوراً إلى (آنزرسكي)، وكان يرغب بحرارة أن يذهب إليها.

الستارتس: إن صديقك رائع. وإن نحن نظرنا إلى تقواه، رأينا غزارة علمه. حبذا لو تيسر لي لقاؤه.

السائح: نحن معاً. سأصطحبه إليك غداً. لقد تأخرت. وداعاً.

 

 


(1) القديس يوحنا كاسيانوس هو راهب روماني عاش في الشرق وتتلمذ على أيدي رهبانه الكبار ونقل تعاليمهم إلى الغرب (أواخر القرن الرابع – أوائل القرن الخامس)

(2) أي في دير الكهوف حيث يدفن الرهبان القديسون

(3) راهب روماني (1772- 1794) عاش في جبل آثوس حيث تدرب على حياة الصلاة المستديمة. وبرجوعه إلى رومانيا ترجم الفيلوكاليا إلى السلافونية. راجع المقدمة

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى