Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

“وأنا فحسن لي القرب من الله وقد جعلت في الرب معتصمي ورجائي” (مز28:72).

قلت، وقد عدت إلى بيت أبي الروحي: إن المثل القائل (وتقدرون فتضحك الأقدار) لعلى حق. كنت أعتقد أنني سأبدأ رحلتي إلى مدينة أورشليم المقدسة، لكنني كان علي أن أغير رأيي. فقد أستجد أمر لم أكن أتوقعه يقتضي بقائي هنا يومين آخرين أو ثلاثة. ولم أطق البقاء دون المجيء إليك لأطلعك على الأمر وأسألك النصح بصدده. إليك ما جرى:

ودعت الجميع وعدت إلى السير مستعيناً بالله. وكنت على وشك الخروج من المدينة وإذا بي ألمح، واقفاً بباب أقصى بيوت البلد، سائحاً متقدماً لم أره منذ ثلاث سنين. فذهبت إليه وتبادلنا التحية وسألني أين أمضي فأجبته: إلى أورشليم المقدسة. إن شاء الله.

فقال: حسن! إني أقترح عليك رفيق درب لك ممتازاً. فقلت: شكراً جزيلاً! أفلا تعرف أني لا أتخذ رفيقاً أبداً، وأني أسير بمفردي دائماً؟

– أجل! لكن اسمع: أنا أعرف أن هذا الرفيق يناسبك ويلائمك. وسيكون كل شيء على ما يرام بالنسبة له معك وبالنسبة لك بصحبته. إن أبا صاحب هذا البيت – وأنا أعمل هنا كفاعل – قد نذر أن يحج إلى أورشليم، ولن يزعجك شيء برفقته. إنه أحد تجار البلد، وهو شيخ طيب، وهو، إلى ذلك، أصم لا يسمع حتى ولو صرخت بأعلى صوتك. وإن أراد منه أحد شيئاً، كتبه له على ورقة. إنه دائم السكوت، فلن يزعجك في رحلتك. هذا، إلى أن وجودك كرفيق له لا بد له منه. لقد أعطاه ابنه حصاناً وعربة سيبيعهما في أوديسا. والعجوز يريد الذهاب سيراً على قدميه، أما العربة فسيوضع فيها متاعه وبعض الهدايا لقبر المسيح. وسيكون بوسعك وضع كيسك فيها… الآن، فكر. أتظن أن من الممكن أن ندع هذا الشيخ الأصم يسافر وحده؟… بحثنا كثيراً عن سائق، ولكنهم يطلبون أجراً باهظاً. ثم إنه من الخطر أن نتركه يذهب مع شخص مجهول، فإن في حوزته مالاً وبعض الحاجات الثمينة. إلا أني سكون لك ضامناً وسيسر مني معلمي، إنهم أناس طيبون يحبونني كثيراً. لي سنتان في خدمتهم.

وبعد أن قال هذا ونحن بالباب، أدخلني على معلمه. ورأيت أن العائلة معتبرة، فقبلت عرضهم. ولقد قررنا أن نسافر بعد عيد الميلاد بيومين، إن شاء الله، بعد حضورنا القداس الإلهي.

هذه هي الأحداث غير المنتظرة التي تقع لنا على دروب الحياة! غير أن من يعمل بواسطة أفعالنا ونياتنا إنما هو دوماً الله تعالى وعنايته الإلهية، كما كتب: (فإن الله هو الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل…) (فيلبي 13:2).

قال لي أبي الروحي: سر قلبي أيها الأخ الحبيب، إذ سمح لي الله بأن أعود فأراك من جديد. وبما أن ليس لك ما يشغلك فسأبقيك بعض الوقت تروي لي فيه بعض ما لقيت خلال حياة التجوال التي عشتها، فلقد طاب لي أن أسمع قصصك السابقة.

فأجبته: بكل سرور وبدأت أتكلم.

جرى لي من خير الأمور ما جرى لي من شرها، ولا يستطيع المرء أن يروي كل شيء. فإن أموراً كثيرة قد نسيتها وأنا إنما سعيت إلى استذكار ما كان من شأنه أن يعيد نفسي الكسولة إلى الصلاة. وأما كل ما تبقى، فنادراً ما خطر ببالي، أو بالأحرى: حاولت نسيان الماضي، وفقاً لتعليم الرسول بولس وهو القائل: (… لكن أمراً واحداً أجتهد فيه وهو أن أنسى ما ورائي وأمتد إلى ما أمامي فأسعى نحو الهدف…) (فيلبي 13:3). وقد كان الستارتس المغبوط يقول لي إن ما يحول دون بلوغ الصلاة من عقبات قد يأتي من اليمين ومن اليسار (1) أي من المعاند. فإن لم يستطع أن يصرف النفس عن الصلاة بالأفكار الباطلة أو التصورات الآثمة، بعث فينا ذكريات صالحة أو أفكاراً جميلة لكيما يبعد الذهن عن الصلاة فهو لا يطيق سماعها. إن هذا يدعى التحويل من اليمين: تستخف النفس فيه بالحديث مع الله، وتبدأ بحديث مستعذب مع ذاتها أو مع المخلوقات. ولذا، فقد علمني ألا أترك في ذهني مجالاً، أثناء الصلاة، لأية فكرة مهما بلغ جمالها وسموها. وإن وجدنا، في آخر النهار، أننا أنفقنا في التأمل أو في الأحاديث الروحية من الوقت أكثر مما أنفقنا في الصلاة المجردة النقية، فينبغي اعتبار ذلك من قبيل عدم التبصر أو الجشع الروحي الإنساني، خاصة عند المبتدئين الذين يجب أن يفوق ما يمضون من وقت في الصلاة، الوقت لأوجه النشاط الروحي الأخرى.

لكن المرء لا يمكنه أن ينسى كل شيء. فبعض الذكريات ترسخ في أعماق الذاكرة حتى أنها تبقى حية دون أن تستدعى، كذكرى تلك العائلة البارة، مثلاً، التي قيض لي الله أن أمضي بضعة أيام بين أفرادها.

عائلة أرثوذكسية تقية

كنت أجتاز مقاطعة (توبولسك) فمررت ذات يوم ببلدة صغيرة. وكان قد انتهى زادي من الخبز تقريباً، فدخلت أحد البيوت لأطلب خبزاً. فقال لي رب البيت: جئت في الوقت المناسب، فإن زوجتي أخرجت الخبز من الفرن لتوها. إليك هذا الرغيف الساخن وصل لأجلنا.

وضعت الرغيف في كيسي وأنا أشكره، ورأتني ربة البيت فقالت: يا لكيسك المزري! إنه ممزق بال، دعني أعطيك كيساً غيره. وأعطتني كيساً مليحاً متيناً. وشكرتهما من أعماق قلبي وانصرفت. وطلبت عند طرف المدينة قليلاً من الملح من أحد التجار، فأعطاني كيساً كاملاً، فاغتبطت للأمر وشكرت الله الذي جعلني أتوجه بطلبي إلى أناس أبرار طيبين.

قلت في داخلي: ها قد توفر لي زاد أسبوع، فغدا بوسعي الآن أن أنام خالي البال. (باركي يا نفسي الرب!) (مز103 و1:104).

وما ابتعدت عن المدينة مسافة خمسة فراسخ حتى لمحت بلدة متوسطة الرقعة فيها كنيسة خشبية صغيرة، إلا أنها حسنة الدهان في الخارج ومزينة تزييناً أنيقاً. وكان الطريق يمر بالقرب منها، فاشتهيت أن أسجد أمام هيكل الرب. فصعدت درج الكنيسة الصغير وصليت. وكان في مرج يحاذي الكنيسة طفلان صغيران يلعبان، بين الخامسة والسادسة من العمر. ففكرت أنهما، بالرغم من مظاهر العناية البادية عليهما، لا شك أبناء الكاهن.

وأنهيت صلاتي، ومضيت، إلا أني ما كدت أخطو عشر خطوات حتى سمعت خلفي من يناديني: انتظر! انتظر أيها الشحاذ اللطيف!

كان هذا صوت الطفلين ينادياني وهما يركضان مقبلين إلي: صبي صغير وبنية، فتوقفت، فأسرعا إلي وأمسكا بيدي:

– تعال عند أمي، فهي تحب الشحاذين.

– ما أنا شحاذاً بل عابر سبيل.

– وما هذا الكيس؟

– إنه خبزي، زاد رحلتي.

– ما عليك، تعال معنا. ستعطيك ماما نقوداً لرحلتك.

– وأين هي أمكما؟

– هناك، خلف الكنيسة، وراء الأشجار.

أدخلاني حديقة رائعة، رأيت في وسطها بيتاً كبيراً من بيوت الأغنياء. ودخلنا الردهة. كان كل شيء في غاية النظافة! وفجأة أقبلت سيدة أسرعت نحونا قائلة: ما أسعدني! من أين أرسلك الله إلينا؟ أقعد، أقعد يا عزيزي!

وأراحتني من كيسي بنفسها ووضعته على طاولة وأقعدتني على كرسي وثير مريح.

– أتريد أن تأكل؟… أن تشرب الشاي؟… أما لك من حاجة أقضيها؟

فأجبتها: أشكرك شكراً جزيلاً. معي في كيسي ما آكله، وأما الشاي فلا بأس من أن أشرب شيئاً منه… إلا أني من الفلاحين ولست معتاداً عليه. إن لطفك وكرمك لأثمن عندي من الطعام والشراب. سوف أبتهل إلى الرب أن يباركك من أجل ضيافتك الإنجيلية هذه.

شعرت، وأنا أقول هذا، برغبة قوية في استجماع أفكاري وحواسي. كانت الصلاة تجيش في قلبي وكانت بي حاجة إلى الهدوء والسكينة حتى أدع هذا اللهب ينطلق دون قيد فلا أخفي معالم الصلاة الخارجية، من دموع وتنهدات وحركات الوجه أو الشفتين. ولذا نهضت وقلت:

أستميحك عذراً… يجب أن أذهب. فليكن الرب يسوع المسيح معك ومع ولديك الصغيرين الظريفين.

– آه… لا! الله يخليك: لا تذهب!… لن أدعك تنصرف. سوف يعود زوجي من المدينة في المساء، إنه قاض في محكمة المقاطعة. وسيسر غاية السرور برؤيتك! إنه يعتبر كل سائح مرسلاً من الله. ثم إن غداً يوم أحد، وستصلي معنا القداس الإلهي، وما يجود به تعالى سوف نأكله سوية. نحن نستقبل في بيتنا دائماً، أيام الأعياد، ما لا يقل عن ثلاثين فقيراً مسكيناً، فالفقير أخو المسيح. وبعد، إنك لم تخبرني عن نفسك، لا من أين أتيت ولا إلى أين تذهب. أحك لي ذلك، فإنه يطيب لي الاستماع إلى حديث الذين يحبون الرب… يا ولدي! خذا كيس السائح إلى غرفة الأيقونات، فسوف يمضي ليلته فيها.

تعجبت، عند سماعي هذا، وقلت في داخلي: أهذه المرأة كائن بشري أم ملاك تراءى لي؟

وهكذا بقيت بانتظار رب البيت. وقصصت على السيدة شيئاً من أخبار رحلتي، وقلت لها إنني ذاهب إلى (اركوتسك).

فقالت: حسن! إن طريقك تمر (بتوبولسك)، حيث تقيم أمي في دير لتترهب. سنحملك رسالة لها، ولسوف تستقبلك. كثيرون يقصدونها ويسألونها توجيهات روحية. على كل حال، سنرسل لها معك كتاباً من تأليف القديس يوحنا السلمي (2) أوصينا لها عليه من موسكو. ها قد ترتب كل شيء، فما أحسن تدبير الرب!.

ولما حان موعد الغداء جلسنا للأكل. وكان هناك أربع سيدات أخر جلسن معنا. وبعد الفراغ من تناول الصنف الأول، نهضت إحداهن وانحنت أمام الأيقونة ثم أمامنا وذهبت لتأتي بالصنف الثاني. وعند الصنف الثالث، قامت سيدة غيرها وفعلت نفس الشيء. فقلت محدثاً ربة البيت، وقد رأيت هذا:

– هل لي أن أسألك إن كانت هؤلاء السيدات من أفراد عائلتك؟

– نعم! إنهن أخواتي: الطباخة، وزوجة العربجي، والخادمة وفراشتي. كلهن متزوجات ولا عزباء بينهن.

لما رأيت وسمعت كل هذا زادت دهشتي وشكرت الرب الذي قادني إلى بيت جماعة أتقياء ورعين. وكنت أشعر بالصلاة تتصاعد في قلبي بقوة، ولذا نهضت لكي أختلي وقلت للسيدة: لا شك أنكن ترتحن بعد الغداء، لكني شخصياً ألفت المشي واعتدته. أنا ذاهب إلى الحديقة أتمشى.

فقالت السيدة: كلا! أنا لا أرتاح بعد الغداء. سأرافقك إلى الحديقة فتقص علي ما فيه فائدة لي وعبرة. إن ذهبت وحدك، فلن يدعك ولداي ترتاح، بل سيلازمانك طوال الوقت لأنهما يحبان الفقراء إخوة المسيح والسائحين حباً جماً.

لم يعد لي في الأمر حيلة، فذهبنا إلى الحديقة معاً. ولما كنت أود أن ألزم الصمت بصورة لائقة، انحنيت للسيدة وقلت: أرجوك سيدتي أن تقولي لي إن كنت تمارسين حياة الورع هذه منذ زمان طويل. قصي علي كيف توصلت إلى هذه الدرجة من الصلاح.

فقالت: ليس الأمر بعسير: إن والدتي من أحفاد القديس يوشافاط (3) الذي تكرم بقاياه في مدينة (بلغورود). كان لنا في هذه المدينة بيت كبير أجرنا جناحاً منه لأحد النبلاء القليلي الثروة. وحدث أن توفي النبيل كما ماتت زوجته بعد أن أنجبت طفلاً أصبح، بموت والدته، يتيماً لا معيل له. فاحتضنته أمي. ثم ولدت في العام الذي تلا ذلك. وترعرعنا سوية، وكان لنا نفس المعلمين، وكان لي أخاً وكنت له أختاً. ولما توفي والدي نزحت والدتي عن المدينة وأتت إلى هذه القرية تقيم فيها معنا. ولما كبرنا، زوجتني أمي من فليونها (4) ووهبتنا هذه القرية وقررت دخول الدير. ثم باركتنا وأوصتنا بأن نعيش عيشة مسيحية، وأن نصلي من كل قلبنا ونحافظ أكثر ما نحافظ على الوصية الأولى: وصية محبة القريب، وذلك بمساعدتنا الفقراء إخوة المسيح، وتربية أولادنا بخوف الله ومعاملتنا فلاحينا كإخوة لنا. وها قد مضى علينا عشر سنين نعيش في عزلتنا هذه ساعين إلى العمل بنصائح والدتنا. وقد فتحنا مأوى للفقراء، فيه أكثر من عشرة منهم في الوقت الحاضر، بين مقعد ومريض. سنزورهم غداً، إن كنت تريد.

سألتها وقد فرغت من حديثها:

– وأين كتاب يوحنا السلمي الذي تريدين إرساله إلى والدتك؟

– دعنا نعود إلى البيت وسوف أريك إياه.

رجعنا إلى البيت، وما كدنا نبدأ بالقراءة حتى وصل زوجها، فتبادلنا القبل كأخوة في المسيح، ثم اصطحبني إلى غرفته قائلاً: تعال أيها الأخ إلى مكتبي وبارك حجرتي. أعتقد أنها أضجرتك (وكان يشير إلى زوجته). عندما ترى سائحاً أو مريضاً، يغمرها فرح عظيم بحيث لا تتركه لا ليلاً ولا نهاراً. إنها عادة قديمة توارثها أعضاء عائلتها كابراً عن كابر.

وصلنا مكتبه ودخلناه. ما أكثر ما فيه من كتب! وكان إلى جانب هذه أيقونات رائعة عظيمة وصليب بالحجم الطبيعي وضع أمامه الإنجيل. فرسمت علامة الصليب وقلت: عندك في البيت يا سيدي جنة الله: فها هوذا الرب يسوع المسيح، وها هي أمه الكلية الطهارة، وها خدامه القديسون الأبرار، وها هي ذي أقوالهم وتعاليمهم حية باقية. أظن أنك تكثر من تمتعك بالتحدث إليهم.

فقال: أجل! فإني أحب القراءة حباً جماً.

فسألته: وأي نوع من الكتب تقتني؟

– عندي الكثير من الكتب الدينية: فهذا هو الميناون وها مؤلفات يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير (5). ولدي من جهة أخرى، الكثير من الكتب الفلسفية واللاهوتية، والعديد من عظات الوعاظ المعاصرين. لقد كلفتني هذه المكتبة مبلغ خمسة آلاف روبل.

فسألته: أعنك يا ترى كتاب يبحث في الصلاة؟

– إني أحب الكتب التي تبحث في الصلاة حباً عظيماً. هذا كتيب جديد ألفه كاهن من (بطرسبرج).

وأخرج من بين الكتب شرحاً للصلاة الربانية وأخذنا نقرأه. وبعد قليل جاءت زوجته تحمل الشاي بينما حمل الصغيران سلة ملآى بنوع من الحلوى لم أذق مثله في حياتي.

أخذ السيد مني الكتاب وأعطاه لزوجته وقال: سوف تقرأ لنا، إنها تتقن القراءة وتجيدها، ونحن نتغدى أثناء ذلك.

وأخذت السيدة بالقراءة. كنت وأنا أستمع أحس بالصلاة تتصاعد في قلبي. وكلما أمعنت السيدة في القراءة نمت الصلاة فيّ وتزايدت وتعاظم سروري. وفجأة لاح لي خيال يجتاز الهواء بسرعة، خيال كأنه الستارتس المتوفي. فأتيت بحركة، غير أني قلت، بغية التمويه: (معذرة ، لقد أغفيت). وشعرت عندها أن روح الستارتس حلت في روحي وأنارتها، وأحسست أن في داخلي نوراً مشرقاً وأفكاراً متعددة عن الصلاة. ورسمت علامة الصليب محاولاً طرد هذه الأفكار فأنهت السيدة قراءتها وسألني السيد هل أعجبني ما قرأت. دار الحديث حول هذا الموضوع فقلت:

– إنه يعجبني كثيراً، إن صلاة (أبانا…) في كل حال أسمى وأفضل من كل ما عندنا من صلوات مكتوبة لأن السيد يسوع المسيح قد علمنا إياها بذاته. والشرح الذي قرأناه عنها حين جيد ولكنه يعنى بأكمله بحياة المسيحي العملية، بينما قد قرأت للآباء شرحاً يغلب عليه الطابع الصوفي، موجهاً ناحية التأمل.

– وعند مَن من الآباء وجدت ذلك؟

– عند مكسيموس المعترف (6) مثلاً، وفي الفيلوكاليا، عند بطرس الدمشقي (7).

– وهل تذكر ما قرأت؟ أعده على مسامعنا إن استطعت.

– بكل سرور. مطلع الصلاة:

(أبانا الذي في السموات)، جاء في الكتاب الذي قرأناه الآن أن هذه الكلمات تعني أنه ينبغي أن نحب قريبنا محبة أخ لأننا جميعاً أبناء أب واحد. هذا صحيح وحق، إلا أن الآباء يضيفون إليه شرحاً يتميز بروحانيته. يقولون: علينا ونحن نتلفظ بهذه الكلمات، أن نرفع الروح نحو الآب السماوي، ونتذكر أنه علينا أن نكون في كل آن في حضرة الله. وأما عبارة: ليتقدس اسمك، فيفسرها كتابكم بضرورة عدم ذكر اسم الله باطلاً، لكن الشراح الصوفيين يرون فيها طلب المصلي إلى الله أن يمنحه صلاة القلب الداخلية، يعني: لكي يتقدس اسم الله، يجب أن يكون راسخاً داخل القلب، وأن يقدس وينير، بالصلاة الدائمة، كل مشاعر النفس وكل قواها. وأما قولنا: (ليأت ملكوتك)، فيشرحه الآباء على هذه الصورة: فليحل في قلبنا السلام الداخلي والراحة والفرح الروحي. يقول كتابكم إن عبارة: (خبزنا الجوهري أعطنا اليوم) تتعلق باحتياجات حياتنا الجسدية وبما هو ضروري لمساعدة القريب. لكن مكسيموس المعترف يرى في الخبز الجوهري الخبز السماوي الذي يغذي الروح، أي كلمة الله، واتحاد النفس به تعالى بالتأمل وبالصلاة القلبية الدائمة.

فتعجب السيد قائلاً:

– آه! إن الصلاة الداخلية أمر صعب، وهي شبه مستحيلة على الذين يعيشون في العالم، فنحن لولا معونة الرب ومساعدته لما أتممنا حتى الصلاة العادية دون تكاسل.

– لا تتكلم هكذا يا سيدي. فلو كانت الصلاة الداخلية فوق طاقة البشر. لما أوصى الله بها الجميع. (قوتي في الضعف تكمل) (2كور9:12)، والآباء يعدون لنا من الوسائل ما يسهل الطريق الموصلة إلى الصلاة الداخلية.

فقال السيد: لم أقرأ قط شيئاً محكماً عن هذا الموضوع.

– سأقرأ لك، إن كنت تريد، فقرات من الفيلوكاليا.

وأخذت الفيلوكاليا وبحثت عن مقطع لبطرس الدمشقي في الصفحة 48 من الجزء الثالث وقرأت ما يأتي:

(يجب التدرب على ذكر اسم الله بقدر ممارستنا التنفس، في كل حين وفي كل مكان وفي كل ظرف. قال الرسول: (صلوا بلا انقطاع). وهو يعلم بهذا أنه يجب تذكر الله في كل زمان وفي كل مكان وفي كل شيء. إن كنت تصنع شيئاً ما، فعليك التفكير بخالق كل الموجودات. إن رأيت النور تذكر ذاك الذي وهبك النور. وإن تأملت في السماء والأرض والبحر وكل ما فيها فاعجب بها وسبح بحمد ذاك الذي خلقها ومجده. إن اكتسيت برداء، ففكر بالذي منه أتاك واشكره هو الذي يتدارك وجودك. وصفوة القول: فلتكن كل حركة تأتيها دافعاً إلى تعظيم الرب، وهكذا تكون في صلاة لا تنقطع، وتكون روحك في فرح دائم).

أنظروا ما أبسط هذه الطريقة وأسهلها، كيف أنها في متناول أبسط الناس.

وأعجبوا بهذا النص كثيراً. وقبلني السيد بحرارة وشكرني ثم نظر إلى الفيلوكاليا وقال: لا بد لي من مشترى هذا الكتاب. سأوصي عليه في (بطرسبرج). ولكني سأنسخ فوراً المقطع الذي قرأته، لكي أتذكر الأمر فلا أنسى. أمل علي.

وسرعان ما كتبه بخط جميل. ثم هتف: يا الله! عندي – يا للصدفة – أيقونة الدمشقي (كانت، أغلب الظن، أيقونة القديس يوحنا الدمشقي) (8).

وفتح إطار الصورة وعلق الورقة التي كتبها لتوه تحت الأيقونة وهو يقول: إن كلمة حية لأحد عباد الله موضوعة تحت صورته، ستدفعني مراراً إلى العمل بهذه النصيحة الخلاصية. ثم ذهبنا نتعشى. عاد الجميع إلى المائدة معنا، نساء ورجالاً. ما أشد السكينة الخاشعة والهدوء الذي ساد أثناء الطعام! وبعد العشاء، صلينا جميعاً، بما فينا الأطفال وطلب إلي قراءة صلاة يسوع الحلو.

وذهب الخدم للنوم فبقينا نحن الثلاثة في القاعة. وعندها جلبت لي السيدة قميصاً بيضاء وجوارب، فانحنيت باحترام وقلت:

– سيدتي، لا أستطيع أن آخذ الجوارب، فما استعملتها في حياتي، فنحن إنما نستخدم لفائف حول الأرجل.

فعادت إلي بعد لحظة بقميص صفراء قديمة من الجوخ الثمين قطعته لفائف. وأعلن السيد أن حذائي لم يعد يصلح لشيء، فجلب لي زوجاً جديداً كان يحتذيه فوق جزمته وقال لي: أدخل هاتيك الغرفة، ليس فيها أحد، يمكنك أن تغير فيها ملابسك الداخلية.

فذهبت وغيرت ملابسي وعدت إليهما. فأقعداني على كرسي وأخذا في تلبيسي حذائي. وكان السيد يلف اللفائف حول ساقي بينما انهمكت السيدة بنعلي الحذاء. وما كنت أريد أول الأمر أن أدعهما يفعلان، غير أنهما أقعداني وقالا: أقعد وأسكت،المسيح غسل أرجل تلاميذه. وما استطعت مقاومتهما وأخذت أبكي، فبكيا هما أيضاً.

ذهبت السيدة إلى جانب طفليها لتنام بقربهما، وخرجت مع السيد إلى الحديقة نتجاذب أطراف الحديث في مقصورة فيها. وأطلنا السهر. استلقينا على الأرض وجعلنا نتحدث. واقترب مني فجأة وقال لي:

– أجبني بالذمة والحقيقة، من أنت؟ إنك لا شك من النبلاء تتظاهر بغير ذلك. أنت تتقن القراءة والكتابة إتقاناً تاماً، تفكيرك وكلامك كالمتعلمين، فأنت، بالتأكيد لم تنشأ نشأ الفلاحين.

– لقد حدثتك وزوجتك دون غش، وكشفت عن أصلي بكل صراحة ولم أفكر قط في الكذب أو بخداعكما. ولم أفعل ذلك؟ إن ما أقول ليس مني بل من الستارتس الحكيم ومن الآباء الذين قرأت ما أعلم في مؤلفاتهم. والصلات الداخلية التي تبدد جهلي وتنير ذهني لم أكتسبها بنفسي بل تولدت في قلبي برحمة الله وبفضل تعليم الستارتس. بوسع كل إنسان أن يفعل ما أفعل ويكفي أن يستغرق المرء في قلبه بهدوء وصمت وأن يلهج بذكر اسم يسوع المسيح. وسرعان ما يكتشف النور الداخلي، فيغدو كل شيء واضحاً وضوحاً تظهر معه بعض أسرار ملكوت الله. بل إنه لسر عظيم أن يكتشف الإنسان مقدرته على الغوص في أعماق ذاته ومعرفة نفسه حق المعرفة وأن يبكي متئداً على سقطته وعلى فساد إرادته. وليس من الصعب جداً أن يفكر الإنسان تفكيراً سليماً وأن يحادث الناس. إنه أمر ممكن، فإن الروح والقلب وجدا قبل أن توجد المعرفة البشرية والحكمة الإنسانية. ومهما تثقف الإنسان بالعلم أو بالخبرة فلن تفيده تربيته إن لم يكن لديه الذكاء. والقضية هي أننا بعيدون عن ذواتنا ولا نرغب قط في الاقتراب من أنفسنا، بل نفر دائماً لئلا نقابل ذاتنا وجهاً لوجه، فنفضل الترهات على الحقيقة ونفكر على هذا النحو: كان بودي أن أعتني بحياتي الروحية وأن أشغل نفسي بالصلاة، ولكن ليس لي من الوقت متسع، إذ تقف الأشغال والهموم حائلاً دون ذلك. لكن، ما الأهم وما الأشد ضرورة: الحياة الأبدية لنفس تقدست، أو حياة الجسد الفانية التي من أجلها نتعب ونشقى؟ وهكذا يبلغ الناس إما الحكمة وإما الجهالة والحماقة.

 – اعذرني أيها الأخ العزيز، لم يكن السبب في كلامي مجرد حب الإطلاع، بل المحبة المسيحية، ثم إنه عرض لي منذ عامين أمر في غاية الغرابة.

وفد علينا ذات يوم فقير مسن خائر القوى. كان معه تذكرة جندي سرح من الخدمة وكان فقره مدقعاً حتى أنه كان شبه عار. وكان قليل الكلام، وحديثه يشبه حديث الفلاحين. أنزلناه المأوى، وبعد خمسة أيام من مجيئه مرض فنقلناه إلى هذه المقصورة وأوليته أنا وزوجتي كل عناية. ولما لاح لنا بما لا يقبل الشك أنه سوف يتوفى، عرّفه الكاهن وزوده بالأسرار المقدسة. وعشية وفاته، نهض من الفراش وطلب مني ورقاً وريشة وألح كي يبقى الباب مغلقاً ولا يدخل أحد أثناء كتابته وصيته التي كلفني بإرسالها إلى ابنه في (بطرسبرج). وأخذني العجب والدهشة لما رأيت أنه يتقن الكتابة على أحسن ما يكون وأن كتابته صحيحة بل جميلة راقية ملآى بالعاطفة. غداً أريك هذه الوصية، فقد احتفظت بنسخة عنها. أثار كل ذلك عجبي وشديد فضولي فسألته أن يقص علي خبر نشأته وحياته. فجعلني أقسم بألا أبوح بشيء لكائن قبل وفاته، ثم قص علي ما يلي لمجد الله:

– كنت أميراً غنياً وكنت أحيا حياة طيش مرموقة فخمة. وكانت امرأتي قد توفيت فكنت أعيش مع ابني الذي كان حينذاك قائداً في الحرس الإمبراطوري. ثرت غاضباً ذات مساء وكنت أتهيأ للذهاب إلى حفلة راقصة كبرى، غضبت على وصيفي، وضربته على رأسه وقد نفد صبري وأمرت بطرده. حدث هذا في المساء، وفي الصباح التالي مات الخادم من التهاب أصابه في دماغه. ولم يعلق أحد أهمية تذكر على الحادث، ونسيت القضية نسياناً تاماً مع أسفي للجوئي إلى العنف. ولكن ما مضى ستة أسابيع حتى أخذ الوصيف يظهر لي في الحلم. كان يأتي لمضايقتي في كل ليلة ويؤنبني مردداً باستمرار: أيها الرجل الذي لا ضمير له، لقد قتلتني! ثم رأيته أيضاً أثناء يقظتي. وتكررت الرؤيا وزاد ظهورها، حتى كان الخادم آخر الأمر أمامي في كل حين. وأخيراً صرت أرى بنفس الوقت الذي يظهر لي فيه خادمي أمواتاً غيره: رجالاً أهنتهم بفظاظة أو نساء أغويت. وكانوا جميعاً يوجهون إلي اللوم فلم تبق لي من راحة، حتى أني أصبحت لا أستطيع النوم ولا الأكل ولا القيام بأي عمل. خارت قواي وتهدمت صحتي فلصق جلدي بعظمي. ذهبت جهود نطس الأطباء عبثاً، فرحلت استشفي في الخارج، ولكني لاحظت بعد ستة أشهر أن ليس من تحسن في حالتي، بل على العكس تزايدت الرؤى الرهيبة ظهوراً أمامي. فعادوا بي إلى منزلي ميتاً أكثر مني حياً. لقد عرفت روحي قبل انفصالها عن جسدي عذابات الجحيم كلها وآلامه، فصرت اعتباراً من ذلك الوقت أؤمن بالجحيم فقد عرفت ما هي.

وفهمت، وأنا وسط تلك العذابات، ما أنا عليه من قباحة، فندمت واعترفت بخطاياي وأعتقت كل خدمي ونذرت بأن أمضي ما تبقى من عمري في أقسى الأعمال وأن أتنكر بثياب الفقراء لكي أكون أحقر خادم لأدنى الناس مرتبة. وما صممت على هذا وعزمت عليه حتى زالت الرؤى. وولدت فيّ مصالحتي مع الله فرحاً عظيماً وتعزية لا يعبر عنهما بالحقيقة. وفهمت عندئذ أيضاً بالاختبار ما هو النعيم وكيف أن ملكوت الله كامن في قلوبنا. وسرعان ما شفيت شفاء تاماً، فباشرت بتنفيذ خطتي. فتزودت ببطاقة هوية لجندي سابق وتركت مسقط رأسي سراً. وها قد مضى علي الآن خمسة عشر عاماً أطوف في أنحاء سيبيريا. وقد كريت نفسي أحياناً للفلاحين لأقوم ببعض الأعمال التي تسمح لي بها قواي، واستعطيت أحياناً باسم المسيح. ما أعظم السعادة التي عرفتها وأنا وسط الحرمان هذا! يا للغبطة ويا لراحة الضمير! ولن يفهم هذا إلا امرؤ انتشلته الرحمة الإلهية من جحيم من العذاب لتنقله إلى فردوس الله. وعندما قال هذا سلمني وصيته لإرسالها إلى ابنه، وفي غداة ذلك اليوم توفي.

– خذ، لدي نسخة من الوصية في الكتاب المقدس الذي أحمله في كيسي. سأريك إياها إن كنت تريد. ها هي!

فنشرت الورقة وقرأت:

( المجد للثالوث القدوس غير المنقسم كل حين. يا ولدي الأعز، ها قد مضى عليك خمسة عشر عاماً لم تر والدك خلالها، ولكنه كان أحياناً، في حياته المتخفية يتلقى شيئاً من أخبارك، ولكن لك في قلبه محبته الأبوية. وهذه المحبة هي التي تدفعه إلى كتابة هذه الكلمات الأخيرة، لعلها تكون لك عبرة في الحياة ودرساً.

أنت تعلم مقدار ما تعذبت في سبيل تكفيري عن حياتي الآثمة الطائشة، ولكنك لا تعلم مقدار ما جنيته من ثمار الندم، خلال حياتي المجهولة في الطواف، من سعادة وغبطة.

أنا أموت بسلام في بيت محسن إلي هو أيضاً محسن إليك، لأن الخيرات الممنوحة للأب ينبغي أن تبلغ الابن الحنون. فأظهر له امتنانك بكل ما في إمكانك من وسائل.

أترك لك بركتي الأبوية حاثاً إياك على تذكر الله والعمل بما يمليه عليك ضميرك. كن طيباً وحريصاً ومتعقلاً. عامل الأدنى منك بالحسنى، لا تزدر الفقراء أو السائحين متذكراً أن الفقر وحياة التشرد فقط هي التي سمحت لوالدك بأن يحظى بالسلام.

أسأل الله أن يهبك نعمته وأغلق جفني بسلام على رجاء الحياة الأبدية برحمة فادينا يسوع المسيح).

على هذا النحو دار الحديث بيني وبين ذاك السيد الطيب. قلت له فجأة: أعتقد، سيدي، أن المأوى يسبب لكم الكثير من المتاعب والعناء. فإن العديدين من إخوتنا لا يصبحون من السائحين إلا لتقاعسهم أو كسلهم، فيشردون في الطرقات على غير هدى، وقد رأيت الكثير من ذلك.

فأجاب السيد: كلا! قلة كان أمثال هؤلاء. فأغلب الذين نؤاويهم سائحون حقيقيون. ولكن، عندما لا يوحي مظهرهم بالثقة فنحن نعاملهم بلطف زائد ونستبقيهم بعض الوقت في المأوى. فإنهم، باحتكاكهم بفقرائنا إخوة المسيح، كثيراً ما يصطلحون ويستقيمون، فيرحلون عنا بقلب كله تواضع ورقة. عرض لي منذ مدة غير طويلة أمر أذكره لك على سبيل المثال: تدنى أحد تجار مدينتنا في سلم الرذيلة إلى حد أن الجميع كانوا يطردونه بالضرب والعصي، فما كان أحد يجود عليه بكسرة الخبز، وقد افتقر وراح يستعطي، وكان سكيراً ميالاً إلى العنف مشاغباً. يجمع إلى هذه القبائح كلها أنه كان يسرق. وفد علينا ذات يوم، وقد ساقه إلينا الجوع فطلب خبزاً وشيئاً من العرق، فقد كان يدمن الشرب أيضاً. رحبنا به ورفقنا وقلنا له:

– ابق عندنا، وسنعطيك ما تشاء، ولكن على شرط واحد: أن تذهب للنوم بعد الشرب مباشرة، وإن أنت أتيت أدنى منكر فلن نكتفي بطردك نهائياً بل سأطلب من حاكم المقاطعة أن يسجنك لتشردك. فقبل ذلك وبقي عندنا. فشرب، خلال أسبوع أو يزيد، ما طاب له الشراب ولكنه كان، برأ بالعهد الذي قطعناه عليه وربما خوفاً من أن يحرم العرق، يذهب فيستلقي في فراشه أو يتمدد بهدوء منزوياً في أحد أركان الحديقة. ولما كان يعود إلى رشده، كان إخوتنا الذين في المأوى يكلمونه ويحرضونه على الاعتدال في الشرب. وهكذا بدأ بالتقليل من الشرب، وبعد ثلاثة أشهر، أصبح لا يذوق للخمرة طعماً. وهو الآن يعمل لا أدري أين وما عاد يأكل خبز غيره. ولقد زارني أول أمس.

ففكرت في ذاتي: يا لحكمة هذا النظام تسيرها المحبة! وهتفت: مبارك الله، الذي تظهر رحمته بين جدران بيتك!

غفونا قليلاً، بعد كل هذه الأحاديث، واستيقظنا على صوت الجرس يدق لصلاة الصبح، فذهبنا إلى الكنيسة حيث وجدنا السيدة مع ولديها، وصلينا صلاة السحر ثم القداس الإلهي. كنت مع السيد وابنه الصغير في الهيكل وكانت السيدة مع ابنتها قرب الباب الملوكي لتشاهدا عن كثب رفع القربان المقدس. بالله! ما كان أجمل صلاتهم جميعاً، وكم ذرفوا من دموع الفرح! كانت وجوههم بهية مشرقة إشراقاً جعلني أبكي لجلاله.

وبعد الصلاة جلس السيدان والكاهن مع الخدم وكافة فقراء المأوى حول مائدة واحدة للطعام. كان عدد الفقراء أربعين أو يزيد، من مقعدين ومرضى وأطفال. ولكن السكون والصمت كانا عميقين حول المائدة. فاستجمعت شتات شجاعتي وقلت للسيد بصوت خافت: في الأديرة، تقرأ حياة القديسين أثناء الطعام، وبوسعكم أن تفعلوا هذا ما دام الميناون بكامله عندكم. فالتفت رب البيت إلى زوجته وقال: إنه ليجب أن نباشر بهذا، يا مريم. فهو شيء ممتاز لنا جميعاً. سأبدأ بالقراءة لأول مرة، وفي المرة الثانية تقرأين أنت، ثم أبونا الكاهن وإخوتنا، كل بدوره وبقدر معرفته.

فتوقف الكاهن عن الطعام وقال: أن أستمع، بكل سرور، أما أن أقرأ فحاشا! ليس في وقتي أدنى فراغ. فلا أكاد أدخل البيت حتى أحار من كثرة ما علي فعله فلا أجد سوى الأعمال والمتاعب: ينبغي أن أفعل هذا الأمر، ينبغي أن أفعل ذلك، جحفل من الأطفال والدواب في الحقول. ويمضي النهار على هذه الترهات لا أجد دقيقة فيها متسع لي للقراءة أو الدرس. وكل ما تعلمته في الدير، نسيته منذ زمان طويل.

وارتعشت لهذه الكلمات، إلا أن السيدة أمسكت بيدي وقالت لي: أبونا يتكلم على هذا النحو لتواضعه. إنه يغض من قيمته الشخصية، لكنه رجل فاضل تقي. ولقد ترمل منذ عشرين عاماً، وهو يقوم بتربية كل أحفاده. وهو، إلى جانب أعماله كلها، يكثر من خدمة الكنيسة وقداديسه.

ذكرتني هذه الكلمات بما قاله نيسيتاس ستيثانوس (9) في كتاب الفيلوكاليا من أن: (المرء إنما يقدر طبيعة الأشياء تبعاً لاستعداد نفسه الداخلي)، أي إن فكرة الإنسان عن الآخرين تأتي وفقاً لما يكون عليه هو. وقال أيضاً في موضع آخر: (إن من بلغ درجة الصلاة والمحبة الحقيقية لا يعود يفرق بين الأشياء، فلا يميز صالحها عن طالحها، بل يحب كل الناس محبة واحدة، ولا يدين إخوته، كما أن الآب السماوي يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين) (متى 45:5).

وساد الصمت من جديد. كان يجلس مقابلي أحد فقراء المأوى. أعمى لا يرى ولا يبصر. وكان السيد يطعمه وينتزع له الحسك من السمك، ويملأ كأسه ماء. وأمعنت النظر فيه، فلاحظت تحرك لسانه باستمرار داخل فمه المفتوح قليلاً بصورة دائمة، مما دعاني إلى التساؤل هل كان يتلو الصلاة، وزدت فيه إمعان النظر. وحدث أن امرأة مسنة توعكت حالها في نهاية العشاء، أصابها ضيق نفس وأخذت تئن. فحملها السيد وزوجته ووضعاها في غرفة نومهما ومدداها على لفراش، وبقيت السيدة بجانبها تعتني بها، بينما ذهب الكاهن يجلب القربان المقدس تحسباً. وأمر السيد بإعداد العربة ليذهب بسرعة إلى المدينة يستدعي الطبيب. وتفرق الجميع.

كنت وكأن بي جوعاً إلى الصلاة، شعرت بحاجة ماسة إلى تركها تنطلق، وقد مضى علي يومان لم أحظ فيهما بالصمت والسكينة. كنت أحس كأن في قلبي فيضاً يوشك أن يطفح فيسري في كل أعضائي، ولكني كبته فإذ بألم في قلبي شديد ولكنه ألم مفيد ما دام يدفعني إلى الصلاة والصمت. عند هذا فهمت لماذا كان معتنقو الصلاة المستديمة يهجرون العالم ويستخفون بعيداً عن أعين الناس، وفهمت أيضاً لماذا قال المغبوط ايزيخيوس أن أي حديث، مهما سما، ليس إلا ثرثرة، إن طال أكثر مما يلزم. وذكرت قول القديس أفرام السرياني: (10) (الكلام الجيد من فضة، ولكن السكوت من الذهب الصرف). وصلت وأنا أفكر بكل هذا إلى المأوى. وكان جميع من فيه نام بعد الطعام. صعدت إلى الهري وهدأت من اضطرابي وارتحت وصليت قليلاً. ولما استيقظ الفقراء قصدت الأعمى وقدته إلى الحديقة، وقعدنا في ركن منزو وأخذنا في التحدث.

– قل لي، بحق الله، لخير نفسي، هل تتلو صلاة يسوع؟

– أنا أصليها منذ زمان دون انقطاع.

– ما تتركه في نفسك من أثر؟

– إنني فقط لا أستطيع أن أستغني عنها لا ليلاً ولا نهاراً.

– كيف كشف لك الله عنها؟ احك لي ذلك بالتفصيل يا أخي العزيز.

– كنت من أصحاب المهن في هذه المنطقة وكنت أكسب قوتي بممارسة الخياطة، فكنت أذهب إلى المقاطعات الأخرى ماراً بالقرى أخيط ثياباً للفلاحين. وحدث أني بقيت طويلاً في إحدى القرى عند أحد الفلاحين لكي أصنع ثياباً لكل أفراد عائلته. وفي يوم من أيام الأعياد، وما كان لي ما أعمله، رأيت ثلاثة كتب عتيقة على اللوحة الموضوعة تحت الأيقونات فسألت: هل في بيتكم من يقرأ؟

فأجابوني: لا أحد. هذه الكتب كانت لعمنا الذي كان يحسن القراءة والكتابة.

تناولت أحد الكتب وفتحته على ما اتفق وقرأت الكلمات الآتية التي ما زلت أذكرها:

(إن الصلاة المستديمة هي أن نذكر اسم الرب دون انقطاع في حالة القعود أو القيام، أثناء الطعام أو العمل. ففي كل ظرف وفي كل مكان وزمان، ينبغي ذكر اسم الرب).

وفكرت في ما قرأت ووجدت أن هذا يناسبني ويلائمني، ولذا جعلت أردد الصلاة، وأنا أخيط، بصوت منخفض، مما سبب لي غبطة فائقة. ولاحظ ذلك الذين كانوا يعيشون معي في العزبة وهزئوا بي قائلين: أفأنت ساحر حتى تتمتم بلا توقف؟

فلم أعد أحرك شفتي، تستراً، وأخذت أتلو الصلاة بتحريك لساني وحده، حتى أني أعدت هذا بحيث صار لساني يتلوها نهاراً وليلاُ، مما أولاني خيراً عميقاً.

وواصلت العمل مدة طويلة، ثم أصبحت ذات يوم وإذا بي أعمى لا أرى شيئاً. جميعنا في العائلة مصابون بالماء الأزرق. ونظراً لفقري الشديد فقد وجدت لي بلديتنا مكاناً في مأوى توبولسك، وأنا ذاهب إليه، غير أن السيدين هنا أخراني لأنهما يرديان إعطائي عربة توصلني إلى (توبولسك).

– ما اسم الكتاب الذي قرأت؟ أليس الفيلوكاليا؟

– لعمري لست أدري. لم أنظر إلى العنوان.

فجئت بفيلوكاليتي، وفي الجزء الرابع فتحت أقوال البطريرك كاليستوس التي رددها لي محدثي عن ظهر قلب وبدأت بقراءتها. فهتف الأعمى: هذه هي بعينها: اقرأ، اقرأ يا أخي، فإنها جميلة جداً.

لما بلغت المقطع الذي فيه: ينبغي أن نصلي بالقلب، سألني ما معنى هذا وكيف نمارسه، فقلت له إن كل ما يتعلق بصلاة القلب من تعليم وارد بالتفصيل في هذا الكتاب – الفيلوكاليا – فطلب مني، بإلحاح، أن أقرأ له كل ما يتصل بهذا الموضوع. فقلت له: ذلك ما سوف نفعل، متى قررت الذهاب إلى (توبولسك)؟

فأجاب: للحال، إن كنت تريد.

– اسمع، بودي أن أرحل غداً. وما علينا إلا أن نذهب معاً. وسأقرأ لك أثناء المسير كل ما يتصل بصلاة القلب، وسوف أقول لك كيف يتسنى لك الوصول إلى قلبك وولوجه. فقال: والعربة؟

– دع عنك العربة! فالمسافة من هنا إلى توبولسك لا تزيد على المئة والخمسين فرسخاً، وسنسير على مهل، والسير اثنين على طريق مقفرة من أحسن ما يكون، كما أن المشي أنسب للقراءة والكلام عن الصلاة.

وعلى هذا اتفقنا. وفي المساء أتى السيد بنفسه يدعونا للعشاء فأخبرناه بعد الطعام أننا عزمنا الرحيل وأننا لسنا بحاجة على عربة، لأننا نرغب في قراءة الفيلوكاليا. فقال لنا السيد: لقد أعجبتني الفيلوكاليا أيما إعجاب، ولقد كتبت رسالة أطلبها فيها، وهيأت ثمنها، وسأرسل الرسالة والثمن إلى بطرسبرج وأنا في طريقي إلى المحكمة، حتى تأتيني الفيلوكاليا بأول بريد يجيء.

انطلقنا في الغداة صباحاً بعد أن أجزلنا الشكر للسيد وزوجته لمحبتهما ورقتهما المثالية معاً مسافة فرسخ، ثم ودعنا بعضنا بعضاً.

الفلاح الأعمى

كنا نتمهل أنا والأعمى بالسير، فلم نجتز أكثر من عشرة فراسخ أو خمسة عشر في اليوم الواحد، وفيما تبقى من الوقت، كنا نقعد في الأماكن المنعزلة ونقرأ الفيلوكاليا. قرأت له كل ما يتصل بصلاة القلب، متبعاً في ذلك الترتيب الذي عينه لي الستارتس، أي أني بدأت بقراءة كتب الراهب نيكفورس وغريغوريوس السينائي… وهلم جرا. ما كان أشد انتباهه وغيرته على سماع كل هذه الأقوال! وما كان أشد انتباهه وتأثره! وكان، وهو يستمع إلي بانتباه، يطرح علي أحياناً من الأسئلة حول الصلاة ما لم يستطع عقلي الإجابة عليه كله.

وبعد أن فرغت من القراءة، طلب مني الأعمى أن أعلمه طريقة عملية للوصول إلى قلبه بالروح، لإدخال اسم يسوع المسيح الإلهي فيه فيتيسر له بهذه الصورة أن يصلي صلاة داخلية. فقلت له: إنك لا ترى البتة، بالطبع، ولكنك تستطيع أن تتخيل بذهنك ما رأيت قبل أن تعمى: رجلاً مثلاً، أو حاجة ما أو عضواً من أعضائك كذراعك أو ساقك، فهل يمكنك تصوره بوضوح كما لو كنت تنظر إليه، وهل يمكنك، بالرغم من كونك أعمى، أن توجه بصرك نحوه؟

فأجاب الأعمى: يمكنني ذلك.

– إذن تخيل قلبك، وأدر عينيك كأنك تنظر إليه مخترقاً صدرك، واستمع بكل أذنيك كيف ينبض خفقة خفقة. وحينما تجد نفسك قد اعتدت ذلك، اجتهد على أن تطابق على كل خفقة من خفقات قلبك، وأنت ما تزال تنظر إليه، كلمات الصلاة. يعني: تقول مع أول خفقة وتفكر: أيها الرب، ومع ثاني نبضة: يسوع، ومع الثالثة: المسيح، ومع الرابعة: ارحمني، ومع الخامسة: أنا الخاطئ… ردد هذا التمرين ما استطعت، ولن يصعب عليك، لأن لديك استعداداً لتقبل صلاة القلب. وبعد أن تعتاد هذا، ابدأ بتلاوة صلاة يسوع من قلبك على وتيرة التنفس. أي قل أو فكر، أثناء استنشاقك الهواء: أيها الرب يسوع المسيح، وأثناء الزفير: ارحمني أنا الخاطئ! وإن رددت فعل هذا مدة كافية فستشعر، بسرعة، بألم خفيف في قلبك، ثم يتولد فيه، شيئاً فشيئاً، دفء منعش. وهكذا تتوصل بعون الله إلى أن تفعل الصلاة داخل قلبك بصورة مستديمة. ولكن حذار من كل تخيل ومن كل صورة قد تتكون في ذهنك وأنت تصلي. اطرح عنك كل التصورات فإن الآباء يوصونا بأن نحتفظ بعقلنا خالياً من كل تصور أثناء الصلاة، لئلا نسقط في الأوهام.

وتدرب الأعمى، وقد أصغى إلي بانتباه، بجد واندفاع على ما قلته له، وكان في الليل، أثناء توقفنا، يقضي ساعات طوالاً في ذلك. وشعر بعد خمسة أيام بدفء في قلبه عظيم وبغبطة لا توصف، ثم أنه كان به، بالإضافة إلى ذلك، رغبة شديدة في القيام دون انقطاع بالصلاة التي كشفت له ما كان يكن من حب ليسوع المسيح. وكان يرى فوراً في بعض الأحيان ولكن دون أن يظهر له شيء قط، ولما كان يلج قلبه كان يبدو له أنه يرى فيه نور شمعة كبيرة يشع، ويفيض خارجاً فينيره بكليته، حتى أن هذا النور جعله يرى أشياء بعيدة عنه، كما حدث ذات مرة.

كنا نجتاز غابة، وكان مستغرقاً في الصلاة بصمت، وفجأة قال لي: يا للمصيبة! إن الكنيسة تحترق ولقد تهدمت قبة الجرس! فقلت له: كفاك تفكير بهذه الصورة الفارغة، فإنها تجربة الشيطان. يجب أن تدفع عنك كل تخيل بأسرع ما يمكن فكيف لك أن ترى ما يحدث في المدينة؟ إنها لا تزال على بعد اثني عشر فرسخاً منا.

وعمل بنصيحتي، وصمت وقد عاد إلى الصلاة. وصلنا المدينة عند المساء، وبالفعل رأيت العديد من البيوت قد احترق، وقبة الجرس قد انهارت – وكانت مبنية على عمد خشبية – وكان الناس حولها يتحدثون ويعجبون من أن القبة لم تؤذ بسقوطها أحداً. وقد حدثت الكارثة، على ما فهمت، في الوقت الذي تكلم فيه الأعمى في الغابة. وإذا بي أسمعه يقول: كانت رؤياي، بحسب ريك، باطلة، ولكن الأمر صحيح. أفلا يليق بنا أن نشكر الرب يسوع المسيح ونحبه هو الذي يكشف نعمه للخطأة وللعميان والقليلي الفهم! شكراً لك أنت أيضاً، فقد علمتني الصلاة الداخلية!

فأجبته: تريد أن تحب يسوع المسيح: هذا حق وواجب، ولكن إياك أن تعتبر الرؤى العادية كشفاً مباشراً للنعمة، فإن ذلك كثيراً ما يحدث بصورة طبيعية لا تخالف نواميس الكون المألوفة. وليست النفس البشرية مرتبطة بالجسد ارتباطاً كلياً، فبوسعها أن ترى في الظلام، وحتى الأشياء البعيدة، رؤيتها الأشياء القريبة. غير أننا لا نذكي مقدرة النفس هذه، بل نثقلها بوزن جسدنا الغليظ أو بتشويش أفكارنا المشتتة الطائشة. وأما إن ركزنا حواسنا وجمعناها منطوين على أنفسنا، وإن تجردنا وابتعدنا عن كل ما يحيط بنا وشحذنا ذهننا، فعندها تعود النفس بتمامها إلى ذاتها وتفعل بكل ما تطيق من قوة، ويكون فعلها هذا طبيعياً عادياً. قال لي الستارتس أن أهل الصلاة ليسوا وحدهم يرون، بل هنالك مرضى أو أناس ذوو إحساس خاص، يرون النور الصادر عن كل شيء عندما يكونون في غرفة مظلمة ويشعرون بوجود القرينة ويدركون ما يجول ببال الغير من خواطر. لكن المفاعيل المباشرة لنعمة الله أثناء صلاة القلب على حد كبير من العذوبة لا تستطيع معه أية لغة أن تفي بوصفها. فمن المستحيل تشبيهها بأي شيء مادي، وذلك لأن العالم الحسي يبدو دنيئاً إذا قيس بما تبعثه النعمة في القلب من أحاسيس.

استمع الأعمى بانتباه إلى هذه الأقوال وازداد تواضعاً وكانت الصلاة تتردد في قلبه دون انقطاع فتسبب له غبطة لا توصف. واغتبطت نفسي لذلك وشكرت الرب الذي جعلني ألمس هذه التقوى عند أحد خدامه الصالحين.

ووصلنا (توبولسك) آخر الأمر، فقدته إلى المأوى، وبعد أن ودعته وداع الصديق عدت إلى السير وحدي.

سرت مدة شهر دون تعجل وكنت أشعر بعظم فائدة الأمثلة الحية وخيرها. وكثيراً ما كنت أقرأ الفيلوكاليا أتحقق فيها من صحة ما قلته للأعمى. وقد كان لي عبرة ألهبتني غيرة وزادت من إخلاصي للرب ومن حبي له. وأسعدتني صلاة قلبي سعادة اعتقدت معها أن لا مزيد عليها على الأرض وتساءلت كيف لملاذ ملكوت السموات أن تفوقها. بل كان العالم الخارجي يبدو لي أيضاً بمظهر خلاب، يدعوني كل شيء فيه إلى محبة الله وتسبيحه. فكان الناس والأشجار والنباتات والحيوانات، كل شيء بدا وكأنه قريب إلي. وفي كل مكان وجدت صورة اسم يسوع المسيح. وكنت أحياناً أشعر بأني خفيف لدرجة اعتقدت معها أنه لم يعد لي من جسد وظننت أني أطير في لهواء. وكنت أحياناً أخرى أدخل إلى ذاتي دخولاً عميقاً، فكنت أرى داخلي بوضوح، وأعجب بذاك البنيان المدهش ألا وهو جسم الإنسان. وكنت مرات أخرى أشعر بفرح عظيم كما لو كنت صرت ملكاً. كنت أرجو الله وسط أسباب الهناء هذه كلها أن يسمح بموتي بأسرع ما يمكن لكي يتيسر حمدي له وشكراني بالانصباب على قدميه في عالم الروح.

وربما تلذذت أكثر مما ينبغي بهذه الأحاسيس، أو لعل الله شاء ذلك، فخالج قلبي بعد حين ما يشبه الخوف والرعشة. فتساءلت: أتراها مصيبة جديدة أو محنة كتلك التي قاسيت بسبب الفتاة التي علمتها صلاة يسوع في الكنيسة؟ وثقلت علي الهموم وكأنها السحب المتلبدة وذكرت ما قال المغبوط يوحنا أسقف جزيرة كرباتوس من أن من يعلم الصلاة يتعرض للإهانة والخزي، ويتحمل الشدائد والمحن من أجل الذين أعانهم روحياً. وبعد أن حاربت هذه الأفكار، استغرقت في الصلاة التي لاشتها وبددتها، وشعرت بأني أتقوى وأتشدد، فقلت في نفسي: فلتكن مشيئة الله! أنا على استعداد لأن أتحمل كل ما سوف يأتي من يسوع المسيح لأكفر عن كبريائي وقساوة قلبي. على كل حال، أنا ليس لي من فضل في ما فعلت، فقد كان كل الذين كشفت لهم مؤخراً عن خفايا الصلاة الداخلية ممن هيئوا قبلاً، هيأهم فعل الله العجيب قبل أن يجتمعوا بي. وهدأت هذه الفكرة من روعي، فجعلت أسير أسعد من ذي قبل تفيض في قلبي الصلاة ويتجلى الفرح. وبقي الطقس ممطراً مدة يومين، كانت الطريق خلالهما موحلة، حتى أنه كان يتعذر علي التخلص من ورطاتها وردغاتها. فسرت في البوادي المقفرة، لم أصدف مكاناً مأهولاً بعد مسيرة خمسة عشر فرسخاً. وأخيراً لمحت عند المساء فندقاً على الطريق، ففرحت: فسيمكنني الاستراحة فيه، على الأقل، وقضاء ليلتي. وأما الغد، فعلى الله!… ربما تحسن الطقس.

مركز البريد

رأيت، حين دنوت من المكان، رجلاً مسناً يرتدي معطف الجنود. كان جالساً على منحدر أمام الفندق، فلاح لي أنه سكران، فسلمت عليه قائلاً: هل يمكنني أن أطلب من أحد السماح لي بقضاء ليلتي هنا؟ فهتف الشيخ: ومن يمكنه السماح لك بالدخول غيري؟ أنا الآمر هنا والناهي. إني ناظر مركز البريد، فههنا محطة تبديل الخيل والاستراحة.

– اسمح لي إذن يا سيدي بالمبيت عندك.

– هل لديك جواز سفر على الأقل؟ أرني أوراقك! فناولته جواز سفري. وإذا به، وكان الجواز بيده، يأخذ بالصراخ: أين جواز سفرك؟

فأجبته: هو معك، في يدك.

– طيب! هيا بنا داخل البيت. ووضع نظارتيه وتأمل جواز سفري ثم قال: كل هذا، على ما أرى نظامي، يمكنك أن تبقى هنا. أرأيت؟ أنا إنسان طيب. اسمع، سأجلب لك كأس خمر. فأجبته: أنا لا أشرب أبداً!

– لا بأس! ولكن تعش معنا على الأقل! وجلس للطعام مع الطباخة. وكانت امرأة فتية، قد شربي من الخمر غير قليل أيضاً. وجلست معهما. وما توقفا أبداً، ونحن نأكل، عن التخاصم والعتاب، وتطور هذا، آخر الأمر، إلى شجار حقيقي. وذهب الناظر لينام في بيت المؤونة، وبقيت الطباخة تغسل الصحون والملاعق وهي تلعن رفيقها وتشتمه.

كنت ما أزال جالساً، وأدركت أنها لن تهدأ بوقت قصير فقلت لها: أين يمكنني النم يا أختي؟ قد نال مني التعب لطول ما سرت.

– لحظة! سأهيئ لك فراشاً يا عم.

ووضعت بنكاً إلى جانب البنك المثبت تحت النافذة الأمامية وفرشت عليهما حراماً من لباد مع وسادة. فاستلقيت وأغلقت عيني متظاهراً بالنوم. وطال بعد هذا غدو الطاهية ورواحها في القاعة، وأخيراً أنهت عملها فأطفأت الضوء واقتربت مني. وفجأة، انهارت كل النافذة الموجودة في زاوية الواجهة بصوت مرعب: إطارها والزجاج والأصداغ تناثرت حطاماً، وفي نفس اللحظة سمعنا في الخارج أنيناً وصراخاً وجلبة وعراكاً. فركضت المرأة إلى وسط الغرفة لشدة هلعها وهوت على الأرض. وأما أنا فقفزت من فراشي أحسب أن الأرض انشقت تحتي. وفجأة رأيت سائقي خيل يحملان إلى العربة رجلاً تلطخ بالدماء حتى أن وجهه ما كان يرى لغزارة ما سال عليه من دماء، مما زاد من شعوري بالقلق. كان الرجل حامل بريد الدولة الرسمي، وكان عليه تغيير خيله هنا. إلا أن سائق العربة لم يوجه الخيل كما يجب أن توجه للدخول إلى الاستراحة، فخرق جدار العربة النافذة، وكان هناك حفرة أمام العربة، فانقلبت المركبة وانجرح رأس الرسول على وتد مسنن في أسفل المنحدر. وطلب الرسول شيئاً من الماء والكحول لغسل جرحه، ثم بلله بالعرق وشرب كأساً منه ونادى: إلي بالأحصنة!

فاقتربت منه وقلت له: كيف يمكنك السفر وأنت على هذه الحال؟ فأجاب: ليس أمام رسول الملك متسع يكون فيه مريضاً. وانصرف.

جر السائقان المرأة إلى ركن من أركان الغرفة، قرب المدفأة وغطياها بحصيرة وقال أحدهما: إنه الخوف أفقدها الرشد.

أما ناظر المحطة، فصب شيئاً من الخمر في كأس شربه ثم عاد إلى نومه، وبقيت أنا وحدي.

نهضت المرأة بعد قليل وراحت تتمشى من طرف الغرفة إلى طرفها الآخر كمن يسير في أثناء نومه، ثم خرجت من مبني مركز البريد. فصليت وغفوت قبل الفجر بقليل وقد أحسست بالتعب.

وفي الصباح، ودعت ناظر المحطة وسرت على الطريق رافعاً صلاتي بإيمان ورجاء وشكران نحو أب المراحم والتعزية الذي نجاني من شر مستطير.

ومضت على هذا الحادث ست سنوات… مررت يوماً بعدها بدير للراهبات، فدخلت كنيسته للصلاة. واستقبلتني الرئيسة بلطف ومحبة، بعد الصلاة، وقدمت لي الشاي. وإذا بمن يخبرها بقدوم ضيوف عابرين، فاعتذرت وذهبت لملاقاتهم وتركتني مع الراهبات اللواتي كن مقيمات بالخدمة. وشاء فضولي أن أسأل إحداهن، وقد رأيتها تصب الشاي بتواضع: أأنت في هذا الدير منذ زمان يا أخت؟

فأجابت: خمس سنين. ولم أكن سليمة العقل عندما أتوا بي إلى هذا المكان، لكن الله ترأف بي. وقد جعلتني الأم الرئيسة بقربها، أعيش معها في حجرتها، وقدمت النذور على يديها. فسألتها: وكيف فقدت عقلك؟

– من شدة الخوف. كنت أعمل في أحد مراكز البريد وبينما كنت نائمة، في إحدى الليالي، حطمت أحصنة عربة البريد إحدى النوافذ، فجننت لما أصابني من رعب شديد. ولقد قادني أهلي طوال عام إلى كثير من الأماكن المقدسة، إلا أني لم أشف إلا هنا.

فاغتبطت داخلياً لسماعي هذه الكلمات ومجدت الله الذي يحول كل الأشياء إلى ما فيه خيرنا.

كاهن قروي

قلت، موجهاً حديثي إلى أبي الروحي: حدث لي أشياء أخرى كثيرة. وأنا، لو أردت سرد كل ما وقع لي متصلاً متسلسلاً لاقتضى مني ذلك أكثر من ثلاثة أيام. سأروي لك واقعة أخرى، إن كنت تريد.

لاح لي، في أحد أيام الصيف المشمسة، على مسافة من الطريق، مقبرة، أو بالحري مركز رعوي، أي كنيسة مع بيوت من يقوم بالخدمة فيها، ومقبرة. وكانت الأجراس تقرع للصلاة، فأسرعت الخطى نحو الكنيسة. وكان أهالي الجوار يقصدونها أيضاً. غير أن كثيرين منهم كانوا مستلقين على العشب، استلقوا قبل بلوغهم الكنيسة. ولما رأوني أحث الخطى قالوا لي: لا تستعجل! فأمامك من الوقت متسع. الصلاة هنا بطيئة جداً، فالكاهن مريض ثم إنه يتمهل بصلاته أي تمهل!

وبالفعل، لم يكن القداس يصلى بسرعة، فقد كان الكاهن – وهو شاب، إلا أنه نحيل الجسم، شاحب اللون – يخدم القداس ببطء شديد، بخشوع وتحسس. وفي نهاية الصلاة، ألقى عظة بليغة عن الوسائل التي تمكن الإنسان من الحصول على محبة الله.

دعاني الكاهن، بعد الصلاة، لتناول الطعام في بيته. قلت له أثناء الأكل: أنت، يا أبانا، تخدم القداس بورع عظيم ولكن ببطء شديد أيضاً.

فأجاب: صحيح! وهذا لا يرضي رعيتي قط، والمصلون يتذمرون أحياناً. ولكن لي من وراء ذلك مقصداً، فإني أحب أن أتأمل كل كلمة من كلمات القداس الإلهي وأن أزينها قبل ترتيلها، فلا قيمة للكمات إن تجردت من هذا الإحساس الداخلي لا بالنسبة لمرتلها ولا للمستمعين إليها. والمهم في الصلاة هو أن نحياها من داخل وأن نفهمها ونعيها. ثم أردف: ما أقل ما يعنى الناس بالحياة الداخلية! فهم، لأنهم لا يريدون ذلك، لا يهتمون بالاستنارة الروحية الداخلية.

سألته مجدداً: ولكن كيف السبيل إلى بلوغها؟… إن الوصول إليها أمر جد عسير!

– كلا! إطلاقاً! فلكي يحظى المرء بالاستنارة الروحية، ويصبح إنساناً داخلياً روحياً، ما عليه إلا أن يختار نصاً من الكتاب المقدس ويركز عليه انتباهه أطول وقت ممكن. بهذا يكشف المرء استنارة الذكاء. وأما لكي نصلي، فينبغي أن نفعل نفس الشيء أيضاً. إن أردت أن تكون صلاتك نقية مستقيمة ومفيدة، فعليك أن تختار صلاة مقتضبة، قوامها بضع كلمات قصيرة، على أن تكون جزلة، وأن ترددها طويلاً وفي أحيان كثيرة، فإنما يعتاد المرء الصلاة بهذه الصورة.

أعجبني تعليم الكاهن هذا كثيراً لأنه عملي بسيط وعميق حكيم في آن واحد. وشكرت الله في سري لأنه جعلني أتعرف على أحد رعاة كنيسته الحقيقيين.

قال لي الكاهن وقد انتهينا من الأكل: خذ لك قسطاً من الراحة، فعلي أن أقرأ كلام الله وأهيئ عظتي ليوم غد.

فذهبت إلى المطبخ. لم يكن فيه سوى طباخة مسنة تقوس ظهرها وانحنى، تسعل في إحدى الزوايا. فجلست تحت الطاقة وأخرجت الفيلوكاليا من كيسي، وأخذت أقرأ لنفسي بصوت منخفض. وتحققت بعد لحظات أن العجوز الجالسة في الزاوية كانت تتلو صلاة يسوع دون توقف، فاغتبطت لسماعي ذكر اسم الرب القدوس، وقلت لها: يجمل بك، يا خالتي، أن تتلي الصلاة هكذا! إنه أفضل الأعمال التي يمكن أن نقوم بها وأكثرها مطابقة لتعاليم المسيح!

فأجابت: نعم يا عم! إنها تعزيتي في آخرتي هذه. فليرحمني الله!

– وهل مضى عليك زمان طويل كنت فيه تصلين هكذا؟

– منذ حداثتي، يا عم. أنا لا أستطيع الحياة بدونها، فقد أنقذتني صلاة يسوع من المصائب والموت.

– وكيف ذلك؟… أرجوك أن تخبريني إكراماً لله ولصلاة يسوع القديرة.

أعدت الفيلوكاليا إلى مكانها في كيسي، وقعدت قرب المرأة، فبدأت قصتها. قالت:

(كنت شابة فتية جميلة. خطبني أهلي، وفي ليلة الزفاف كان خطيبي على وشك دخول بيتنا، وإذا به – ولم يكن باقياً له إلا عشر خطوات ليصل بيتنا – سقط فجأة على الأرض جثة هامدة.

وأخافني هذا كثيراً حتى أنني صممت على البقاء عذراء أقصد الأماكن المقدسة أصلي فيها. إلا أني كنت أخاف أن أسير في الدروب وحدي، فربما اعتدى علي بعض الأشرار بالنظر لصباي. وعلمتني امرأة طاعنة في السن، كانت تعيش منذ زمان طويل حياة التطواف، علمتني أنه ينبغي أن نتلو صلاة يسوع دون توقف، وطمأنتني مؤكدة لي مشددة على أن هذه الصلاة ستقيني كل غوائل الطريق. وصدقت ما قالت وعملت بما أوصتني به فلم يحدث لي أبداً أن صادفني أمر مكروه، حتى في الأصقاع النائية، وكان أهلي أثناء ذلك، يمدونني بالمال إذا ما احتجت إليه.

ثم إني مرضت عند شيخوختي، ولكن الكاهن هنا رجل الله محسن لحسن الحظ، وهو يوفر لي الغذاء ويعيلني).

استمعت إلى حديث المرأة بسرور ولم أدر كيف أشكر الرب على هذا النهار الذي تكشف عن نماذج سامية للحياة البناءة.

وبعد أن طلبت من ذاك الكاهن الورع القديس أن يباركني تابعت طريقي وقد غمرني الفرح والحبور.

على طريق كازان

أتيح لي، منذ مدة غير طويلة، وقد كنت أجتاز مقاطعة (كازان) للمجيء إلى هنا، معرفة آثار صلاة يسوع ومفاعيلها. فهي، حتى بالنسبة لمن يمارسها دون انتباه، أضمن الوسائل وأسرع ما يوصل إلى الخيرات الروحية.

اضطررت ذات مساء إلى التوقف في إحدى قرى التتار. ورأيت، وأنا أدخل شارع القرية الوحيد، عربة وسائقها الروسي، وكانت الجياد محلولة القيود طليقة ترتعي إلى جانب العربة. ففرحت وقررت أن أسأل هل يسمح لي بالمبيت في هذا المنزل، والذي أنا وجدت فيه على الأقل أناساً مسيحيين. فاقتربت وسألت السائق عمن كان يوصل في عربته. فأجاب بأن معلمه مسافر من كازان إلى القرم. وبينما أنا أتكلم مع السائق، أزاح السيد ستارة البوابة الجلدية وألقى إلي بنظرة وقال: سأمضي الليلة هنا، ولكني لن أدخل بيتاً للتتار لأن منازلهم قذرة وسخة، ولذا تراني مصمماً على النوم في العربة.

خرج السيد، بعد حين، ليتمشى قليلاً – وكانت الأمسية جميلة – وتبادلنا الحديث. تطرقنا إلى الكثير من المواضيع، أذكر منها ما قاله لي محدثي كما يلي على وجه التقريب:

(كنت حتى الخامسة والستين من عمري أخدم في الأسطول الإمبراطوري بصفتي قبطان مركب. ولكني أصبت في كبري بداء النقرس، وأنا الآن متقاعد في القرم، على أرزاق تملكها زوجتي. وكنت دائماً، تقريباً، مريضاً. كانت زوجتي مولعة بحفلات الاستقبال ومغرمة باللعب بالورق. وانتهى بها الأمر إلى أن سئمت العيش الطويل مع رجل عليل، فذهبت إلى كازان، عند ابنتنا المتزوجة هناك من أحد الموظفين. وأخذت امرأتي كل شيء معها، حتى الخدم، وتركت لي كخادم خاص صبياً عمره ثماني سنوات، وكان فليوني.

عشت هكذا وحيداً مدة ثلاث سنوات. وكان الصبي واسع الحيلة: فكان يرتب غرفتي ويشعل النار ويطبخ لي الجريشة ويسخن (الساموار). ولكنه كان في ذات الوقت عنيفاً ملآن حيوية. فكان يركض ويصرخ ويلعب ويخبط أينما اتفق، مما كان يزعجني أيما إزعاج. وأنا، بسبب مرضي وفراغي، أحب قراءة المؤلفات الروحية. كان لدي منها كتاب ممتاز لغريغوريوس بالاماس عن صلاة يسوع. كنت أقرأه باستمرار تقريباً، وأتلو الصلاة بعض الشيء. وكانت الجلبة التي يحدثها الصغير تنفرني وتزعجني. إلا أنه، مهما اتخذت من تدابير أو مهما عاقبته، لم يكف عن العبث وتعكير صفو بيتي. فكان لا بد لي من مخرج، وفقت إليه آخر الأمر: كانت الطريقة الوحيدة الناجحة في تلافي إزعاجي أن أجبره على الجلوس على مقعد صغير في غرفتي، آمره بأن يردد صلاة يسوع دون انقطاع. وساءه هذا، أول الأمر، إلى أبعد الحدود، فكان يلزم الصمت تهرباً منه.

ولكني وضعت بعض القضبان في غرفتي لكي ألزمه على تنفيذ أمري. فلما كان يتلو الصلاة، كنت أقرأ بهدوء أو استمع إلى ما يقول. ولكن، ما إن يسكب حتى أريه العصي فيعود إلى الصلاة وقد تملكه الخوف من أن يضرب. وكان في هذا خير لي كبير، فإن السكينة استتبت آخر الأمر في بيتي. ولاحظت، بعد مضي وقت قصير، أنه لم يعد هناك من حاجة إلى العصي، فقد صار الصبي يعمل بأوامري بمزيد من الفرح والغيرة. بل إن طبعه تغير بعد ذلك تغيراً كلياً، فغدا دمث الخلق هادئاً، وأخذ يتمم أعمال المنزل أحسن بكثير من ذي قبل. فبعث فيّ هذا الأمر الرضى والانشراح وأطلقت للغلام حرية كبرى في تصرفه. أتدري ما كانت النتيجة؟ لقد اعتاد الفتى على الصلاة وألفها حتى أنه كان يرددها دون توقف بلا أدنى إرغام من قبلي. ولما حدثته في الأمر أجابني أن به رغبة في تلاوة الصلاة لا تقاوم.

– وبماذا تشعر؟

– ليس من إحساس خاص… ولكني أشعر بالانشراح أثناء ترديدي الصلاة.

– ماذا تعني بالانشراح؟

– لا أدري كيف أشرح لك يا سيدي…

– هل تشعر بالمرح؟

– نعم… بالمرح.

وكان في الثانية عشر عندما اندلعت حرب القرم. فرحلت إلى (كازان) وأخذته معي عند ابنتي حيث أنزلناه المطبخ مع باقي الخدم. فكان تعساً حزيناً لأنهم كانوا يمضون وقتهم بالتسلية واللعب بعضهم مع بعض وبالهزء به أيضاً، مما كان يعوقه عن الاهتمام بالصلاة. ومضى عليه ثلاثة أشهر على هذه الحال… ثم جاء إلي في أحد الأيام وقال:

– أنا راجع إلى البيت، فلست أطيق الحياة هنا تحيط بي هذه الضجة الكبرى.

– كيف لك أن تقطع كل هذه المسافة وحدك وفي قسوة الشتاء؟… انتظر حتى أعود وسوف ترافقني.

إلا أن الطفل اختفى في اليوم التالي. أرسلنا الخدم يبحثون عنه في كل الجهات، ولكن دون جدوى. وفي أحد الأيام، جاءني كتاب من القرم: كان حراس البيت هناك يخبروني أنهم، في الرابع من نيسان -وكان اثنين الباعوث (11)– قد وجدوا الغلام ميتاً في البيت وقد خلا من سكانه. كان ممدداً على الأرض في غرفتي وقد تصالبت يداه فوق صدره. وكانت قبعته الصغيرة تحت رأسه، لا رداء له يدفئ أوصاله إلا تلك القميص التي كانت دوماً على بدنه لاتقاء غائلة البرد، وقد فر بها. ودفن في الثياب التي وجد فيها في حديقة منزلي.

لما جاءني هذا الخبر، دهشت للسرعة التي وصل بها الطفل إلى هناك. فلقد ذهب في الرابع والعشرين من شهر شباط ووجد في الرابع من نيسان. أي أنه قطع مسافة ثلاثة آلاف فرسخ في مدة شهر واحد! هذه المسافة لا يكاد الخيال يجتازها بمثل هذا الزمن القصير: مئة فرسخ في اليوم! يزيد في صعوبة السير أن الغلام كان يلبس ثياباً خفيفة، وليس معه أوراق هوية، ولا قرش في جيبه. فلنفرض أنه وجد عربة للسفر: فلن يكون هذا إلا بمشيئة الله.

قال السيد مختتماً كلامه: هكذا تذوق خادمي الصغير ثمار الصلاة، أما أنا، حتى في آخر حياتي، فلم أبلغ منن العلو والسمو ما بلغ هو.

قلت للسيد عندها: إنني أعرف كتاب غريغوريوس بالاماس الممتاز الذي قرأته. ولكن البحث فيه يدور حول الصلاة الشفهية خاصة. عليك بقراءة ذلك الكتاب المسمى (فيلوكاليا)، ففيه تجد كل ما يتعلق بصلاة يسوع في الروح والقلب ودروساً وتعاليم.

وأريته في نفس الوقت كتاب الفيلوكاليا خاصتي. فاقتبل نصيحتي بفرح ظهر على محياه وقال لي أنه سوف يبتاع الكتاب.

فقلت في نفسي: الله! ما أعجب مظاهر القدرة الإلهية التي تتكشف عنها هذه الصلاة! ما أعمق ما رواه لي هذا الرجل وما أحفله بالعبرة: فقد تعلم الغلام الصلاة خوفاً من العصي، فقادته رغم ذلك إلى السعادة. أو ليست المصائب والأحزان التي نصادفها في درب الصلاة، أليست عصي الله؟ وعليه ففيم الخوف حين ترينا يد الله العصي؟ إنه تعالى مليء نحونا بمحبة لا متناهية، وهذه القضبان إنما تعلمنا الصلاة بمزيد من النشاط فتقودنا إلى الأفراح التي لا توصف.

لما فرغت من أحاديثي هذه ومن أقاصيصي قلت لأبي الروحي: سامحني بحق الله، فلقد أطلت الثرثرة. ويقول آباء الكنيسة إن الحديث – وإن يكن روحياً – ليس إلا باطلاً إن استطال أكثر مما ينبغي. وقد آن لي أن أمضي إلى من سيرافقني في طريقي إلى أورشليم. صل لأجلي أنا الخاطئ الحقير لكي يوفق الله برحمته طريقي ويسهل خطواتي.

فأجاب: أرجو لك ذلك من صميم الفؤاد، أيها الأخ الحبيب بالرب. ألا فلتنر نعمة الله العزيزة أمامك السبيل، ولترافقك في سيرك كما سار الملاك روفائيل مع طوبيا!

 

 


(1) أنظر: ايفاغريوس البنطي (توفي 399): (رسالة في الصلاة). (حينما يتوصل العقل إلى الصلاة الصافية الحقيقية، لا يعود الشياطين يقربونه من اليسار بل من اليمين. فيصورون له رؤيا وهمية لله، أو مرأى مستحباً للحواس، بصورة تجعله يظن أنه أصاب الغاية من الصلاة بالتمام…)

(2) يوحنا السلمي (579- 648) المدعو أيضاً يوحنا السينائي، هو أحد كبار الآباء الروحيين. قضى كل أيام حياته في القفر على سفح الجبل المقدس، ما عدا السنين القليلة التي أشرف خلالها على إدارة دير القديسة كاترينا في سيناء. أشهر مؤلفاته هو (سلم الفردوس) (أو سلم الفضائل) وهو مؤلف جزيل البيان في مراحل الحياة الروحية. وفي (سلم الفردوس) هذا نجد أول إشارة إلى (صلاة يسوع): (فلتكن صلاة يسوع وتنفسك أمراً واحداً وستعرف ثمرة السكوت والعزلة). وقد نشر هذا الكتاب بترجمة عربية جديدة لرهبنة دير مار جرجس الحرف عن منشورات النور (1980)

(3) اسمه كعلماني يواكيم كورلينكو. ولد عام 1705 وتوفي سنة 1754. ترهب منذ الثامنة عشرة من عمره وترك عدة مؤلفات منها (معركة الخطايا السبع من الفضائل السبع) المنشور في كييف عام 1892

(4) الشخص الذي حمل من جرن المعمودية بالنسبة للعراب أو العرابة

(5) رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك، أحد (الأقمار الثلاثة) ومن كبار الآباء. ترك مؤلفات عديدة في اللاهوت والحياة الرهبانية وشروحات الكتاب المقدس(330- 379)

(6) مكسيموس المعترف (حوالي 580- 662)، أكبر لاهوتيي بيزنطية في القرن السابع. كان أول الأمر كاتم سر الإمبراطور هيراقليوس، ثم ترهب في دير خريزوبولس (قرب القسطنطينية) ثم صار رئيساً لهذا الدير. حارب الهرطقات ثم اضطر إلى الاعتزال في إفريقيا الشمالية ورومية. ألقي القبض عليه عام 653 وأعيد إلى بيزنطية وعذب من أجل إيمانه. أنهى حياته منفياً منسياً في أحد الأديرة. شرح رسالة ديونيسيوس الأريوباغي فجرد تعاليمه من كل أثر للأفلاطونية الحديثة

(7) يدعى أيضاً بطرس منصور يختلف العلماء على تحديد تاريخ حياته. وقد يذهب البعض إلى القول أنه كان أسقف دمشق حوالي عام 775 وقد استشهد في العربية. ويقول البعض الآخر أنه عاش في القرن الحادي عشر

(8) ولد في دمشق حوالي 672 من عائلة من أشراف المدينة المقربين إلى الخليفة يزيد وقد تولى رئاسة ديوان الشورى. ولكن هذا لم يمنعه من المساهمة في الدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية ضد الهراطقة. ثم ترك العالم وترهب في دير القديس سابا في فلسطين حيث توفاه الله حوالي سنة 749. ولقد كتب العديد من المؤلفات اللاهوتية التي تركت أثراً عميقاً على الأجيال اللاحقة

(9) هو راهب بيزنطي من دير السوتديون عاش في عهد البطريرك القسطنطيني ميخائيل كرولاريوس وساهم في الجدال اللاهوتي الذي دار بين الشرق والغرب إبان الانشقاق الكبير في أوائل القرن الحادي عشر

(10) القديس أفرام السرياني (306 ؟- 373) هو أحد معلمي الكنيسة ومن أقدم الكتبة السريان. ولد في نينوى (نصيبين) من والدين وثنيين واعتمد على يد الأسقف يعقوب، فنظم قصائده العديدة وألف شروحاً للكتاب المقدس. اعتزل في الرها حيث توفي في التاسع من حزيران عام 373. كان واسع الأثر كما تشهد به ترجمات مؤلفاته العديدة إلى اليونانية والعربية والأرمنية. وقد عرف غريغوريوس النيصصي هذه المؤلفات وكتب مرثية في صاحبها. إنه على الأخص، شارح للكتاب المقدس، ونادراً ما يصول في التأملات اللاهوتية. ومن مواضيع عظاته المفضلة الدينونة

(11) اثنين الفصح. يعيننا هذا على تحديد تاريخ الواقعة: فليس في التقويم الشرقي بين سنة 1850 و 1870 سنة وقع فيها الفصح في الثالث من نيسان إلا عام 1860

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
PDF
arArabic
انتقل إلى أعلى