القدّاس طويل

حجّة بعض الذين يتخلّفون عن المشاركة في الخدمة الإلهية أنّ “القدّاس طويل”. ولو قبلنا فرضاً أن ندخل في لعبة الزمن وحسبنا وقت الخدمة كاملة بما فيها العظة، لوجدنا انها لا تتجاوز، عموماً، الساعة الواحدة، ويزيد على هذه الساعة ما تفترضه مناولة المؤمنين من وقت.

ولا يخفى أنّ خبرة مَن سقطوا تحت وطأة الوقت تقوم حصراً على مشاركتهم في خدم الأعياد المقدّسة، وهي طويلة عموماً، لأنها تضمّ صلوات التهيئة الجذّابة والغنيّة. أو انها (خبرتهم) تقوم على المقارنة بين الخدمة في كنيستنا وخدمة الكنائس الاخرى … والمؤمنون، عموماً، لا يعرفون أن قدّاس يوم الأحد، مثلا، تسبقة الصلاة السَحَرية التي تغنّي قيامة الرب كلّ مرّة بطرائق عدّة وألحان متنوّعة، أو تحمل معنى المناسبة، فيربطون بينها وبين القدّاس ليقوم استنتاجهم وحجّة غيابهم.

السؤال الذي يطرح ذاته هو: هل يجوز ربط الخدمة الإلهية بالزمن؟ هذا السؤال قد لا يبدو أساساً لمن يحيون تحت ضغط الوقت. ولكنّه سؤال جوهريّ، وفي الجواب عنه قد يفهم الذين يحبّون الفهم ما هو سبب الانحراف المتفشّي الذي يكاد يسحق الالتزام. ما يعرفه العارفون هو أنّ الله الذي أحنى السموات ونزل إلينا وافتدانا بدمه إنّما جاء من أجل أن ينقذنا من كثافة الزمن وحدود المدى ويهبنا الحياة الأبديّة. ليس سبب تدبير الله الآب أن ينقذنا من الخطيئة فحسب، وانّما أن يرفعنا إلى السماء حيث يبطل الزمان والمدى ويسود الحبّ وحده. والحبّ لا يقبل أن يحدّه وقت وكلّ ما يجعلنا مقيمين في هذا “الدهر الحاضر الخدّاع”. فلنأخذ، مثلا، شابّا وفتاةً متحابّين وهما معاً في لقاء مشترك، ولنطرح عليهما هذا السؤال: هل تقبلان ان ينتهي لقاؤكما؟ من المستحيل أن يجيب أحدهما: “نعم”. المحبّة في القلب ترفض الوقت لأنّه يهدّد اللقاء واستمراره. وفي الحياة الكنسيّة لقاء الجماعة بالرّب قوامه المحبّة وهدفه المحبّة، ولذلك كان عدوّه الأوّل هو أن يقبل الملتقون أن يُخضعوا لقاءهم لضغط الوقت، وأن يبحثوا في تحديد زمانه ونهايته.

صحيح أنّ لكلّ لقاء كنسيّ نهايته، ولكنّه يقوم أساساً على الاعتراف بأنّ الله ألغى الزمن وضمّنا اليه ضمّا أبديّاً. وما كانت نهاية الخدمة إلا وعداً بلقاء آخر، حتى يرفعنا الله إليه ونسكن “النهار” الذي لا يعروه مساء. هذه الصورة الأخيرة التي عرفها تراثنا ووصف بها الخدمة الإلهية خير برهان على أنّ الله في القدّاس يبطل الزمن. وهذا ما نعنيه في افتتاح الخدمة عندما نقول: “مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس…”، فإننا نبارك المُلك الأخير الذي يتنزّل علينا في أوان الرضاء والذي يحملنا، في هذا الزمن، إلى ما هو أبعد من الزمن، الى الله المثلث الأقانيم الذي يسكن النور ويريدنا فيه ومنه.

وما يؤكد، تالياً، أنّ الخدمة الإلهية لا تقبل، في جوهرها، أن يحصرها وقت، هو أنّ الكنيسة ترفض، في تعليمها، كلّ تفريق بين العبادة وحياة المؤمنين. وهذا يعني أنّ الذين يذهبون الى القدّاس في كلّ صبيحة أحد وعيد يأتون من طهر الى طهر مهيئين أنفسهم بمحبّة الله والإخوة وبذكر الحق دائماً. يجيئون من البرّ، من الصلاة المستمرّة والجوع المقدّس وقراءة الكلمة الإلهية وعيشها. ويرفضون الخطيئة التي تسبي الساقطين فيها والمستحلين ظلامها. ويحيون في انتباه كامل على أنفسهم، و”نباهة النفس” هي أوّل طلبة تطلبها الجماعة بعد استحالة القرابين. ويخرجون الى العالم بعد أن يكونوا قد سكنوا النور ليزرعوا السلام الذي سكنهم واصطفاهم، يزرعونه في أرض يحاول الشرير، بكلّ قوّته، أن يخرّبها ويشوّه جمالها، وأن يوحي اليهم بأنّها أبديّة. ويسلكون على رجاء لقاء الرب دائماً، ولسان حالهم ما قاله النبيّ: “وضعتَ أمامي مائدة”. ولا يرى المؤمن الكبير أمامه سوى مائدة الرب ممدودة ومهيأة، لا يرى سوى النور الذي يرجوه في لقاء الكنيسة، والذي يرجوه في اليوم الأخير، ولا ينقطع (أي يقطع نفسه عن اجتماعات الكنيسة) لئلا يقطعه الربّ من عضوية جماعته الأخيرة. ولذلك فإنّ المؤمن الحقيقي لا يحسب وقت لقائه بالربّ، وإنّما يطلب أن يعرفه في حياته كلّها.

القدّاس طويل، يقول المؤمنون: يا ليته أطول، ويا ليته لا ينتهي. المؤمنون الحقيقيون يلغون مواعيدهم ويلقون ساعاتهم في سلة المهملات قبل ان يدخلوا خدمة الأبد. ولا يقلقهم شيء، ولا يهتمّون سوى بفرح الله والاتحاد به، حتى يُبطل الله الزمان والمدى الحاضرين ويُسكنهم الفرح الأخير والحرّية الكبرى في سماء جديدة وأرض جديدة.

عن نشرة رعيتي
الأحد 17 حزيران 2001

arArabic
انتقل إلى أعلى