وُلد القدّيس لاون في منطقة توسكانة الإيطاليّة في أواخر القرن الرابع الميلاديّ، وانتقل إلى رومة مع أسرته في أوائل القرن الخامس حيث لعب دوراً في قضايا الكنيسة العقائديّة والتنظيميّة والسياسيّة أيضاً. رُسم أسقفاً على رومة في العام 440 وكانت أسقفيّته حافلة بالأحداث، فهو حارب البدعة المانويّة التي كانت تقول بثنائيّة الألوهة: إله الخير وإله الشرّ، وكان له اليد الطولى في المجمع المسكوني الرابع الذي انعقد في العام 451، كما أنّه أنقذ رومة من براثن أتيلا البربريّ. توفيّ قدّيسنا في العام 461، وتحيي الكنيسة تذكاره في الثامن عشر من شباط.
لا شكّ أنّ أهمّ عمل قام به القدّيس لاون هو دفاعه عن الإيمان الأرثوذكسيّ في وجه هرطقة أوطيخا وأصحابه من القائلين بالطبيعة الواحدة. ففي العام 431 أقرّ مجمع افسس (المسكونيّ الثالث) عقيدة اتّحاد الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة في المسيح اتّحاداً جوهريّاً في شخص واحد. غير أنّ أوطيخا، وهو رئيس دير في القسطنطينيّة، زعم أنّ الطبيعة البشريّة في المسيح انحلّت وذابت تقريباً في ألوهته، وهكذا لم يثبت في هذا الاتّحاد الجوهريّ إلاّ طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهيّة. فما كان من القدّيس فلابيانُس بطريرك القسطنطينيّة (عيده في السادس عشر من شباط) إلاّ أن أدان أوطيخا وسفّه تعليمه. ردّ مؤيّدو أوطيخا بعقد مجمع في أفسس عام 449، وألقي فلابيانس في السجن حيث استشهد، فأنكر لاون المجمع وأطلق عليه لقب “مجمع اللصوص”.
ثمّ كان للاون دور كبير في المجمع المسكوني الرابع الذي انعقد في مدينة خلقيدونية بالقرب من القسطنطينيّة سنة 451 ، وكانت قراراته مستوحاة من رسالة بعثها لاون إلى فلابيانس. وقد قرئت هذه الرسالة في المجمع وتبنّاها الآباء الخمسمائة المجتمعون صارخين: “هذا هو إيمان الرسل، هكذا كلّنا نؤمن، وهكذا يؤمن المستقيمو الرأي…”. أمّا أهمّ ما جاء في هذه الرسالة فهو تأكيده على كمال الألوهة وكمال البشريّة في شخص يسوع المسيح الواحد، فيقول: “إنّ (المسيح) الإله الحقّ هو نفسه إنسان حقّ. وليس في هذا الاتّحاد أيّ خداع. فاتّضاع الإنسان وسمو الله حاضران معاً في علاقة تبادل. وكما أنّ الإله لا يتغيّر عندما يتحنّن على الجموع، كذلك الإنسان لا يذوب في الكرامة الإلهيّة”. كما يشدّد لاون على الوحدة الشخصيّة في يسوع حين يقول في رسالته: “واحدٌ هو، وهو نفسه _ وهذا ما يجب ترداده مراراً _ حقّاً ابن الله وحقّاً ابن الإنسان”.
ويستند لاون في تأكيداته اللاهوتيّة على الكتاب المقدّس، فيذكّر قارئيه ومستمعيه بأنّ المسيح إله لأنّه “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وإلهاً كان الكلمة” (يوحنّا 1: 1)، وهو إنسان لأنّ “الكلمة صار جسداً وسكن في ما بيننا” (يوحنّا 1: 14). هو إله لأنّه “به كُوّن كلّ شيء، وبدونه لم يكن شيء واحد ممّا كُوّن” (يوحنّا 1 :3)، وهو إنسان لأنّه “مولود من امرأة، مولود تحت الناموس” (غلاطية٤:٤). ويستنتج لاون من هذه الاستدلالات الإنجيليّة أنّ “خصائص الطبيعتين الجوهريّتين لم تُمسّ، وكانت مجتمعة في شخص واحد… المسيح اتّخذ حال الخادم بدون لطخة الخطيئة، رافعاً شأن البشريّة بدون إلحاق نقص في الألوهة”. ويدين البابا لاون أوطيخا معتبراً أنّ رأيه فاسد، فيقول: “فإنّه من الكفر القول بأنّ ابن الله الوحيد كان مؤلّفاً قبل التجسّد من طبيعتين، ولا يقلّ عن ذلك كفراً القول الآخر بأنّه بعد التجسّد ليس فيه سوى طبيعة واحدة”.
ليست هذه الرسالة وحيدة، ذلك أنّه وصلنا من لاون 173 رسالة تَناوَل فيها قضايا مختلفة منها مثلاً تاريخ عيد الفصح. ولهذه الرسائل أهمّيّة قصوى في تاريخ الكنيسة والعقائد والعلاقات بين الكنائس الشقيقة. كما وصلنا 96 من المواعظ الكثيرة التي كان يلقيها في الأعياد الكبرى كالميلاد والظهور والصعود والعنصرة، وبعض المناسبات الأخرى كالصوم الأربعينيّ ويومي الجمعة والسبت العظيمين و”صيام العنصرة”. وهو يعتبر أنّ الأعياد مناسبة مستمرّة لتقوية الإيمان، فيقول: “إنّ سلسلة الأعياد التي تتعاقب تَحُول دون فتور قوّة غبطتنا، ودون تدنّي حرارة إيماننا”.
لم ينسَ لاون أنّه يخاطب الشعب في مواعظه، فجاء كلامه مليئاً بالدروس الروحيّة والسلوكيّة والأخلاقيّة، بالإضافة إلى الأبعاد العقائديّة والتعليميّة. لقد قيل إنّ لاون أخلاقيّ، غير أنّ أخلاقيّاته قائمة دائماً على العقيدة، ونابعة من السرّ الفصحيّ، سرّ الخلاص. من هنا، لا ينفكّ لاون يردّد أنّ المسيح متّحد بجميع البشر بطبيعة مشتركة، وإذا كان على كلّ مسيحيّ أن يعرف قيمة نفسه فعليه أن يعرف قيمة أخيه. ذلك أنّ كلّ مسيحيّ هو بطبيعته كائن اجتماعيّ، وواجب التقشّف والصلاة والصوم والصدقة .والإحسان قائم على احترام الإنسان لأخيه الإنسان الشريك في الطبيعة الواحدة التي اتّخذها المسيح من أجل خلاصنا.
يوجز القدّيس لاون كلّ حدث التجسّد ونتائجه بقوله: “وحدة الألوهة مع الآب التي يملكها الابن، لم تُنتقص بصيرورته إنساناً؛ ولكنّ هذا التنازل من الخالق نحو الخليقة، هو ارتقاء المؤمنين نحو الخيرات الأزليّة”. لم يكن لاون، الذي نُعت في الغرب المسيحيّ بـ”الكبير”، لاهوتيّاً قديراً ولا مفكّراً فذّاً ولا منظّراً عميقاً، بل كان ساهراً دائم السهر على أن تكون رعيّته في الخطّ الأرثوذكسيّ عقيدةً وسلوكاً. لذلك يدوم ذكره إلى الأبد.
تُعيد له الكنيسة في 18 شباط.
طروبارية باللحن الرابع
لقد أظهرتْكَ أفعال الحق لرعيتك قانوناً للإيمان، وصورةً للوادعة، ومعلماً للإمساك، أيها الأب رئيس الكهنة لاون، فلذلك أحرزتَ بالتواضع الرفعة وبالمسكنة الغنى، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلّص نفوسنا.
قنداق باللحن الثالث
لما جلستَ أيها المجيد على كرسي الكهنوت، وأبكمتَ أفواه الأسود الناطقة، بعقائد الثالوث الموقر الملهم بها من الله، أَطلعتَ لرعيتك نور المعرفة الإلهية، فلذلكَ قد تمجدت، بما أنكَ مسارٌ إلهيٌ لنعمة الله.