ليونيد الستارتز القديس

الستارتز ليونيد القديس

الستارتز ليونيد القديسولد ليف ناكولكين Lev Nagolkine عام 1767 في عائلة تنتمي إلى الطبقة البورجوازية في مقاطعة اوريل OREL الروسية. عمل في حقل التجارة، فأصاب نجاحاً باهراً، لما حباه الله من مواهب طبيعية جمّة. كان كثير التنقل بسبب طبيعة عمله. فجال طول البلاد وعرضها، مما أتاح له فرصة اختبار الحياة الاجتماعية بملئها، فاكتسب معرفة عميقة لنفسيات البشر ونوعياتهم، فكانت تلك المعرفة خير معين له في عمله كمرشد روحي.

لا نعرف شيئاً عن حياته الروحية في تلك الفترة، إنما جلّ ما وصلنا أنه انضم إلى السلك الرهباني في التاسعة والعشرين من عمره، وأعطي اسم ليونيد. التقى بالشيخ ثاوذورس أحد تلاميذ القديس الكبير باييسيوس فيلتشوفسكي Paissios Veltshovsky فلازمه حتى آخر حياته. وحفاظا على التواضع والسكون، استقرّ الأب ليونيد في الاسقيط الكائن قرب دير اوبتينو Optino بعد موت معلّمه وصديقه الأب ثاوذورس. وكان لموته الاثر البليغ في نفس الأب ليونيد، فكتب يصف خبرته تلك بقوله: “إن موت من نحبه لمؤلم جدا، وهو يدفعنا إلى الصلاة الحارة من كل القلب والنفس.”

كان الاب ليونيد طويل القامة، منتصب الجسم، وبالرغم من بدانته المرضية، كان سريع الخطوات خفيفها. وهبه الله قوة بدنية خارقة، فقد كان بإمكانه أن يحمل وبكل سهولة مائتى كيلو غرام دفعة واحدة. أما عيناه فكانتا رماديتين ثاقبتي النظرات، ووجهه يطفح بشرا. إن مجرد الوجود في حضرته كان يكفي ليضفي على من حوله شعوراً بالسلام والفرح الداخلي. فتتبدد الأحزان، وتطرد الأفكار السيئة، أما القلوب فتنفتح نحو الله. لم يره أحد قط حزيناً أو غاضباً أو قليل الصبر. صلاته كانت قلبية لا تنقطع فهو القائل: “إني لأجل محبة القريب لمستعد أن أمضي يومين متتاليين أتكلم معه، إن كان ذلك ضرورياً، دون أن تتأثر صلاتي الداخلية.” كان الأب ليونيد يتناول القرابين المقدسة كل أسبوعين مرة في كنيسة الاسقيط. كان ينام ثلاث ساعات فقط في الليل، أما طعامه فكان وجبتين معتدلتين في اليوم. كانت أصابعه مشغولة دائما، حتى أثناء إرشاده لتلاميذه أو لقائه مع العلمانيين، بصنع زنانير صغيرة كثيراً ما كانت بركة لزائريه. كان يتمتم صلاة يسوع بلا انقطاع أو أحياناً تسمعه يرتل بعض التراتيل.

تغّيرت الحياة الرهبانية في اوتينو Optino لحظة سكنى الشيخ ليونيد الاسقيط، إذ تحولت قلايته إلى مركز روحي للدير. فكان الأب موسى رئيس الدير يأتيه ورهبانه كاشفين أفكارهم وطالبين إرشاده. وما هو إلا زمان قليل حتى تبعتهم جموع العلمانيين يأتون من كل جنب وصوب متدفقين لينهلوا من النبع هذا. في عام 1834 أتى الراهب الكاهن مكاريوس إلى اوبتينو، فأضحى المساعد الأمين للشيخ ليونيد، إذ كانا يستقبلان الزوار سوية ويستمعان الاعترافات ويجيبان على الرسائل. وكما أنه لا يمكن أن تخفى مدينة مبنية على جبل، هكذا اخذ شعاع أبوتهما الروحية ينتشر ويمتد، حتى أن أديرة عديدة أخضعت نفسها لارشاد شيوخ اوبتينو.

شدّد الشيخ ليونيد في تعليمه على التواضع الذي هو أعظم الفضائل. وعلّم تلاميذه الهرب من المجد الباطل بتفاديهم أعمال النسك الظاهرة وبممارستهم النسك الداخلي الخفي والقيام بالأعمال الجسدية الوضيعة. ففيما كان منشغلاً ذات يوم بمحادثة مع بعض الزوار، أتاه أحد تلاميذه طالباً كتاب الفيلولكاليا، ظاناً بأن الشيخ سيعطيه إياه دون أي استفسار، وذلك لئلا يقطع محادثته. لكن الشيخ أصرّ على معرفة دوافع الأخ لأخذ كتاب كهذا. ولما علم أن الأخ المبتدئ أراد دراسة موضوع الصلاة عند القديس كاليستوس، وبّخه بعنف قائلاً: “كيف تجرؤ على أن تنشغل بموضوع من هذا المستوى الرفيع؟ بدلاً من أن تدرس القديس كاليستوس، خير لك أن تنظف الأقذار من أمام الباب. تذكّر سيمون الساحر كيف بعد أن ارتفع في الهواء سقط على الأرض. احذر وكن متواضعاً لئلا تصادف مصيراً كهذا.” عندما سمع الأخ هذا انصرف منتفعا متعجبا من حكمة الشيخ.

اعتاد أخ الإلحاح ليسمح له الشيخ بلبس سلاسل حديدية، ولكن الشيخ كان دائم الرفض، إلى أن أتى يوم استدعى فيه الأخ الحداد وقال له: “إن أتاك الأخ الفلاني قائلاً: ببركة الرئيس اصنع لي سلاسل حديدية لألبسها، اصفعه على وجهه. وهكذا كان. فلما أتى الأخ طالبا من الشيخ البركة لتقلد السلاسل، أذن له أرسله إلى الأخ الحداد. فما كان من هذا إلا أن صفعه على وجهه صفعة قوية. فلم يحتمل الأخ الضربة وبادرها بضربة مماثلة. فاشتدّ الخلاف بينهما وأتيا الشيخ يشتكيان على بعضهما البعض. فتأملهما الشيخ برهة بحزن وأنّب الأخ المصفوع قائلاً: “كيف تزعم يا أخي انك تستطيع احتمال السلاسل بينما فشلت في احتمال صفعة بتواضع”.

كافأ الرب الشيخ على تواضعه بموهبة البصيرة الروحية، فكان يعرف أسماء زائريه واحتياجاتهم حتى قبل إن يسألوه. ففي إحدى المرات، زار لاهوتي شهير رئيس إحدى مدارس إعداد الكهنة دير اوبتينو. فسأله موسى رئيس الدير إن كان يود أن يزور الشيخ ليونيد. إلا إنه رفض باشمئزاز قائلا: “ولماذا أذهب أنا اللاهوتي لاتحدث مع هذا الفلاح ابن الفلاح.” بالطبع لم يخبر أحد الاب ليونيد ما جرى. وفي الغد عدل اللاهوتي عن رأيه، وذهب لزيارة الشيخ الذي بادره فور دخوله القلاية بقوله: “لماذا أتيت لتتحدث مع الفلاح ابن الفلاح؟” اضطرب الأستاذ وطلب السماح من الشيخ، وبقي بقربه ساعات طوالا، عاد بعدها يقول للأب موسى : “ماذا يجيدنا نفعا كل علمنا. إن معرفته العميقة إنما هي الحكمة الحقيقية المباركة من الله.”

كان يعيش بقرب اوبتينو إنسان نبيل غني اعتاد أن يقول بتهكم: “إني لو صادفت الشيخ ليونيد، لجعلته يعترف بكل ما في قلبه”. وحدث فعلا أن أتى هذا النبيل بنفسه إلى الشيخ، فلما دخل القلاية، فجاءه الشيخ بقوله: “انظروا إلى هذا الرجل الفظ. انه يدّعي بأنه سيجعلني أعترف بما في قلبي، رغم انه هو نفسه لم يعترف ولم ينل الشكر منذ سبعة عشر عاما.” انذهل النبي مما قيل، واخذ يعترف من تلقاء نفسه بأنه يحيا حياة غير لائقة، وانه فعلاً قد أهمل سري الاعتراف والشكر لمدة عشر عاماً كما قال الشيخ.

ورغم مواهبه الجمة، لم ينجُ من الاضطهاد، إذ كان نصيبه كنصيب سائر الأبرار القديسين الذين عانوا الكثير من آلام الاضطهادات. فالأعداء كانوا كثر. ولسوء الحظ كانوا من الرهبان أنفسهم ومن الاكليروس. فقد منع بعض الجهال منهم ممارسة “كشف الأفكار” بالهرطقة. واستهجن آخرون اللقاءات الودية بين راهب يرتدي الاسكيم الكبير وبين علمانيين من بينهم نساء. وقدم فريق ثالث تقريرا رفع إلى مجلس الأبرشية يتهم القديس تهما مختلفة. فما كان من مطران كالوغا Kaloga إلا أن أمر الشيخ ليونيد بترك الاسقيط والتوجه إلى الدير للعيش فيه كسائر الرهبان. كما حرّم عليه ارتداء الاسكيم الكبير. قبل الاب ذلك بتواضع وصبر، وخضع بدون تذمر لأوامر سلطة الأبرشية. غير أن كل هذه التشديدات لمنعه من استقبال الزوار العلمانيين، لم يقف حائلاً بينه وبينهم. فاستمروا يتهافتون عليه طارحين ثقل آلامهم بين يديه. وكيف لهم إن يبتعدوا عمن هو أبوهم وصديقه وشفيعهم في آن واحد. فقد روى أحد حراس القيصر، بأنه لدى عودته من منطقة قرب اوبتينو، استوقفه أهل القرى الصغيرة، ظانين انه عائد من اوبتينو وانهالوا عليه بالأسئلة عن الأب ليونيد. فأصابه الدهش لما سمع، ولما استفسر عن علاقتهم بهذا الأخير، فوجئ بردهم: “تسألنا أيها السيد من أين نعرف الأب ليونيد؟ هل يمكن أن لا نعرفه؟ وكيف نجهل من هو لنا أكثر من أب نحن الجهال البائسين؟ فمن دونه نحن أيتام قسى الدهر عليهم”.

وجد الأب موسى في الدير نفسه في وضع حرج، أيطيع تهديدات الأسقف أم يتبع صوت ضميره المسيحي؟ ففي أحد الأيام، بينما كان الأب موسى ماراً بقرب قلاية الشيخ، رأى جموعاً غفيرة تحتاط به أمام القلاية. فرأى الرئيس نفسه مجبراً أن يذّكر الأب ليونيد بإدارة الأسقف الصريحة. أما الشيخ فأشار بيده إلى إنسان مقعد مطروح قرب القلاية قائلا: “انظر إليه. إنه وهو حي بعد يقبع في عذاب جهنم، وإني أستطيع أن أساعده وأن أنقذه. لقد أرسله الله إلى هنا لكي يتوب ولأكشف له خطاياه”. ارتاع الأب موسى لدى سماعه ذلك، لكنه أصرّ قائلاً: “إن سيادته يهدد بتوفيقك”. فأجاب الشيخ: “وماذا سيؤثر هذا عليّ. باستطاعتكم أن ترسلوني إلى سيبيريا، أن تحرقوني حياً. لكني لن أتغيّر سوف أبقى ليونيد نفسه. أنا لا أدعو أحداً اليّ لكنّي لا أستطيع أيضاً إن أطرد الذين يأتون”.

أخيرا توقف الاضطهاد ضد الاب ليونيد عام 1837، عندما زار فيلاريت مطران موسكو وحامي الأبوة الروحية اوبتينو، بصحبة مطران كالوغا. سأل الحبر الشيخ لماذا لا يرتدي اسكيمه الكبير. صمت الشيخ ولم ينبس ببنت شفة. فأمره الأسقف بارتدائه من جديد.

ولكن ما إن مضت سنتان، حتى بدأت الصعاب من جديد. اذ نُقل الأب ليونيد إلى قلاية أخرى بعيدة عن مدخل الدير، وذلك ليُعزل تماما عن الاتصالات بالشعب. إلا إن الجموع كانت تنتظره كل يوم ساعة مجيئة إلى الكنيسة، فيزدحم الناس حوله ساجدين عند قدميه ومقبّلين أهداب ثيابه. كان من المنتظر أخذ تدابير جديدة في حقه، كأن ينفى إلى أحد الأديار النائية. ولكن تدخل فيلاريت موسكو وحده الذي حدّ من غيرة أسقف الأبرشية ونقمته العاصفة. فكفّت الاضطهادات ضد شيخ اوبتينو.

كثرت عجائب القديس جداً. فكان يشفي المرضى بصلاته، ويحل الخطايا، ويقوّم اعوجاج النفوس. استمر هكذا إلى آخر نسمة من حياته. فقبل رقاده بسنة، أخبر عن يوم وفاته قائلا: “بعد عام سأكون هناك”. مشيراً إلى القبر الذي كان مزمعاً أن يحوي رفاته المقدسة. في 28 من شهر أيلول 1841، طلب إلى الاخوة أن يصلّوا الخدمة الخاصة بالمحتضرين. فأخذ أولئك بالنوح والعويل على فقدانهم أبيهم، الذي عزّاهم بأنه سيكون معهم دائماً، وسيصلّي لأجلهم، لكي يكون المسيح سندهم، وأن يقودهم إلى طريق الخلاص المفرّحة. لم يعد بعد ذلك يتناول أيّ طعام، لكنه تناول القرابين المقدسة اثنتي عشرة مرة خلال أسبوعين. هذا رأى بعين الروح الشيخ يحتضر فأتى لوداعه ونيل بركته الأخيرة، وقد كان على علاقة معه منذ زمن بعيد. فقال للشيخ: “لقد حان وقت تبديل الثياب”. مشيراً إلى حلول ساعة الموت. فأجابه الأب ليونيد: “صلِّ لأجلي يا فاسيلي لكي ينجيني السيد من الموت الأبدي”. فطمأنه الزائر بقوله: “ثقْ، لا تخف سوف يخلّصك”.

وهكذا انتهى جهاد هذا القديس الذي أعلنت الكنيسة الروسية قداسته مع سائر شيوخ اوبتينو في الذكرى الألفية لمعمودية الروس. وكانت كلماته الأخيرة:” المجد لك يا الله، المجد لك”.

تُعيد له الكنيسة في 11 تشرين الأول، مع سائر قديسي دير أوبتينا/اوبتينو

فبشفاعات القديس ليونيد وكل شيوخ اوبتينو أيها الرب يسوع المسيح ارحمنا وخلصنا، آمين.

arArabic
انتقل إلى أعلى